الفصل الثامن

بعد انتهاء الحادثة بتلك الخاتمة الحسنة، يظهر اسم زبيدة مرة ثانية في صفحات التاريخ، يسطع بإشراقه السابق وروائه السالف، وقد ظل هذا الطابع مظهرًا لحياتها الباقية الممتدة حتى عام ٢١٠ من الهجرة.

وكما أن الجماعات التي تمر أوقاتها في سعادة ورفاهة، قل أن توجد في سلسلة وقوعاتها حادثة مكدرة أو واقعة تحرك كوامن الألم، كذلك الأفراد الذين تتوالى سلسلة أيامهم بالسرور والصفاء لا يجد الرائي خلالها من الحوادث المؤلمة والوقائع المكدرة ما نسجلها عليهم، وهكذا الحال مع زبيدة، ظلت هنيئة مغتبطة بعيشها بعد خلاصها من شر طاهر بن الحسين وأذاه، فقد تعاقبتْ عليها الأيام بصفاء غير ممزوج بأكدار الحياة، وهذه حالة طبيعية في حياة امرأة عظيمة تعيش في كنف خليفة عالي الهمة، رقيق الحس، جميل الشيم، كالمأمون.

من الحوادث التاريخية البارزة في تلك الفترة من حياة زبيدة، عقد قران المأمون على بوران بنت وزيره الحسن بن سهل، فقد كانت زبيدة من أكابر الرءوس التي حضرت تلك الوليمة وظهرت فيها بمظاهر الأبهة والجلال، ولم تكتف بهدية الجهاز التي قدمتها للعروسين مما كلفها ٣٥ مليونًا من الدراهم، وإنما تبرعت كذلك لبوران بإحدى ضياعها الكبيرة في ولاية «البلخ».

لقد كانت وليمة الزفاف في مدينة «مرو» في شهر رمضان المبارك من العام العاشر بعد المائتين للهجرة وانتهت بأبهة فخمة لا مثيل لها في حوادث التاريخ، حتى لقد قيل: إن أيام العرس دامت سبعة عشر يومًا تجلَّى فيها الشرق واستفحاله في الأبهة والفخامة مما لا يقع تحت وصف أو حصر، ولقد كانت كبريات السيدات من نساء بغداد وغيرها من عواصم الإسلام وأمصاره يَخْتَلْنَ في الحفلة بالثياب الفخمة والحلى الثمينة التي يأخذ بريقها بالأبصار، ومَن لنا بتصوير حالة زبيدة ونفسيتها في ذلك الموقف، وهي تشاهد تلك الحفلة، لقد تذكرت بلا ريب بشيء من اللوعة والمرارة المعنوية حفلة زفافها في قصر الخلد منذ خمس وأربعين سنة مضت، ومَن يدري إلى أي حد ذهبت بها ذكريات تلك الأيام الذهبية الماضية، لقد كانت إذ ذاك واحدة بغداد في الحسن والجمال وقرة عين جدها المنصور عميد آل بني العباس، ولقد خُيل إليها وهي في تلك الحال من الرفاهة وما يحيط بها من أنواع الحفاوة والدلال أن الحال سيدوم معها على ذلك المنوال وأن حسن الطالع سيلازمها طول الوقت ومدى العمر.

لقد كانت صبية حسناء في السابعة عشرة من عمرها، ولقد كانت محبوبة معززة من عريسها الرشيد الذي يبسم له حسن المستقبل فكان اليوم يومها، ومن البديهي أنه لم يكن في تلك الحفلة امرأة أشد ذهابًا مع الذكريات وأكثر استعراضًا للحوادث منها، تلك الحوادث التي تمر في المخيلة تباعًا كما تمر الوقائع في شريط السينما.

أما عروس اليوم فهي بوران محبوبة المأمون أكبر رأس تنحني له الرءوس، والشعراء الذين تهافتوا على وصف جمالها وتدبيج القصائد في ذكر كمالها، يتهافتون اليوم على وصف بوران وقدح زناد الفكر في ترصيع آيات التمجيد والإعظام لها.

لقد كان اليوم يوم بوران، فزبيدة في تلك الحفلة تمثال الماضي وبوران صورة الحاضر، ووجود هاتين المرأتين معًا جنبًا إلى جنب في الحفلة لوحة بديعة ذات معانٍ سامية تصور منظرًا من أغرب مناظر الحياة.

كان المأمون يحب بوران إلى درجة بعيدة المدى، فأراد أن يظهر له حبه متجليًا في إعزازها وتكريمها بتلك الحفلة، فتم له ما أراد وظهرت حفلة زفافها عظيمة بليغة بقدْر حبه العظيم.

لقد كانت حفلة مشرقة باهرة، سطعت فيها القلائد على النحور، والأقراط في الآذان والحليُّ على المعاصم ببهاء ورواء، ولكن شخصية بوران كانت أكثر إشراقًا من أي شيء آخر، وجمالها الساطع فاق روعة تلك المجوهرات والنفائس: ولقد قيل: إنه عندما أخذ المأمون بيدها إلى الغرفة المخصصة لها نثرت جدة العروس قطعًا من اللآلئ الكبيرة من على صينية من الذهب فوق رأسيهما، وقد جُمعت فيما بعد فصارت عِقْدًا بديعًا زينوا به جِيدَ بوران الناصع، وقد قيل كذلك: إن جدتها أوقدت في غرفتها شمعة عنبر تزن أربعين منًا، وكتب الحسن بن سهل أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد، فمن وقعتْ له رقعة أخذ الضيعة المسماة فيها، هذا خلاف الذهب والجواهر الذي نثره على عامة الناس في ذلك اليوم مما بلغت تكاليفه خمسين مليونًا من الدراهم، ولقد هال ذاك المأمون وأراد أن يعوض على وزيره ما أتلفه في سبيل إعظامه، فوهبه إيراد سنة واحدة من دخل إحدى ضياعه الخاصة.

على هذا النسق البديع من الفخامة والعظمة انتهت حفلة زفاف بوران، وبهذه الصورة البديعة بدأت حياة الزوجين السعيدين، وبعد هذه الحادثة بست سنوات ارتحلت زبيدة إلى دار البقاء في التاسعة والستين من عمرها.

هذه الفاضلة الممتازة من بنات بني العباس، من أجلِّ نساء الإسلام ذكرًا، وحياتها التي دامت تسعة وستين عامًا، صفحة ممتازة من صفحات التاريخ الإسلامي.

كانت ذات شخصية بارزة وصفات سامية ونفس جذابة، ولقد سار ذكر جَمالها مسار الأمثال ببغداد، وتغنى الناس بذكائها وفطنتها في سائر الأمصار، أما حديث غناها فمما أدهش أهل التوحيد وذكر خيراتها مما وقع موقع القبول والشكر في قلوب جميع المسلمين.

لقد أتت من عظائم الخيرات ما لا يدخل تحت حصر أو قياس، فأصبح اسمها مرادفًا لمعاني البر والمعونة والإحسان، فهي لهذا السبب من الأميرات الجليلات اللواتي يفتخر الإسلام بهن على الدوام.

لقد أحبها الخلق لجمالها ولصفاتها المعنوية ولعرفانها وسمو أدبها، ولكن شهرتها الخالدة جاءتها من طريق خيراتها العديدة وببركة الدعوات الصالحة الصادرة من القلوب المكلومة التي عملت على تخفيف ويلاتها، ظل اسمها خالدًا عظيمًا وسوف يظل كذلك تلهج به الألسنة بالمحمدة والتمجيد إلى ما شاء الله.

أما أثرها في عصرها فظاهر جلي؛ فقد كانت قطب رحى الظرف، والمبتدعة لأنواع كثيرة من ضروب الزينة، حتى لقد يمكن وضعها في صفوف كبار أهل الفن العاملين على إحيائه وإنمائه في ذلك العصر.

في سيرتها شيء من الزلل وجانب من الخطأ، ولكن لو وضعت حسناتها إلى جانب تلك الهفوات لرجحت كفة خيراتها رجحانًا كبيرًا، وأي امرئ من أبناء البشر مبرأ من العيب، معصوم من الخطأ؟

فزبيدة هذه من مَلِكات الشرق ذات الأثر الباهر، ومن مخدرات الإسلام التي كانت عونًا على رفع كلمة الشرق، فإذا ما ذُكر اسمها وجب أن يُذكر مقرونًا برفاهة الشرق وفخامته، وما كان له من علو شأن وارتفاع في العصر الثاني للهجرة.

ولهذا الاسم أثر كبير من الإعجاز، فإن له سحرًا خاصًّا يجذبنا إليه ويجبرنا على الانحناء بإعظام أمام شخصيته لنقول من صميم أفئدتنا: «لقد كانت امرأة عظيمة.»

بهذا الخشوع والإعظام فحسب نطوي سجل هذه الحياة الصالحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤