الفصل السادس

كان المملوكان، فائق وجوهر، من الجنس السلافي، يحكمان على ألف مملوك آخر في القصر ومتصفان بالظلم والغدر والعمل لما فيه نكاية أهل الأندلس، وكانا يحقدان على المصحفي وهو أيضًا يحقد عليهما، ويعلمان بأن نفوذهما سيذهب أدراج الرياح منذ اليوم الذي يستولي فيه هشام على تاج الخلافة، وعندما علما بموت الحَكَم خطر ببالهما أمر تآمرا عليه سرًّا وعقدا النية على تنفيذه في الحال، فاستدعيا الحاجب بدون علم أبي عامر وأفضيا إليه بواقعة الأمر وأعلماه بأنهما غير راغبين في خلافة هشام وطلبا إليه مساعدتهما في ذلك.

أسقط في يد الحاجب وعلم بأن أقل معارضة تورده حتفه في مكانه فلم يرَ بدًّا من التظاهر بالانحياز إليهما وأنه راضٍ عن خطتهما، ثم أفهمهما أنه من صالح العمل تركه في مكانه كحارس بينما هما يذهبان لإخراج الفكرة من حيز القول إلى دائرة العمل.

كان المصحفي يعلم بأن الأندلسيين الذين لم يذوقوا طعمًا لحكم الأوصياء بعد، يصعب عليهم قبول مثل هذه السُّنَّة الآن، إن صغر سن هشام حجة قوية في يد الخصوم لرفض خلافته، فلا يبعد إذن أن تروح فكرة تنصيب المغيرة للعرش، اضطرب المصحفي لهذا الأمر وأخذ يقلب الأمر على وجوهه ليتبين وجهًا للخلاص، فعوَّل على أن يستدعي ابن أبي عامر إلى تلك البقعة سرًّا ليتشاور معه في هذه الكارثة المقبلة، ثم التحقت بهما صبيحة عندما علمت بوجودهما هناك وشاركتهما في التدبير والتفكير، لم تكن هناك إلا طريقة واحدة لحل هذه المعضلة، هو إزالة المغيرة من الطريق، حقًّا إنها الطريقة المثلى ولكن مَن يقدر على تنفيذها؟ اتجهت الأنظار إلى أبي عامر؛ لأنه أقدر الثلاثة على إتيان هذا العمل.

إذا قبل ابن أبي عامر تنفيذ ذلك فإنه ينقذ صبيحة من أشد الأزمات وأحرج المسالك في حياتها، بل هناك ما هو أهم من ذلك أنه ينتشل ولي العهد من وهدة السقوط وبالأحرى ينتشل الأندلس من أحضان الفوضى والانحلال، إنها لفرصة سانحة تجرب بها الأميرة صداقة محسوبها وربيب نعمتها.

أمام هذه الظروف وإصرار المصحفي لم يسَعِ ابن أبي عامر إلا الإذعان، فشمر عن ساعد الجد وذهب توًّا إلى قصر المغيرة يصحبه العدد اللازم من الجنود الأشداء للقضاء على حياة المغيرة.

كان المغيرة شابًّا في السابعة والعشرين من عمره، إلا أنه جبان رعديد، فما كاد يرى وجه أبي عامر ويده على قبضة السيف حتى قال له ونبرات صوته تدل على الخوف والاستسلام: «إنني طوع إرادتكم فافعلوا بي ما شئتم.» فأخبره ابن أبي عامر بوفاة أخيه الحكم وبتنصيب هشام ابن أخيه للخلافة فأجاب: «إنني أقسمت سابقًا على مبايعته أطال الله بقاءه.»

حركت هذه الحالة عاطفة الشفقة في نفس أبي عامر وجعلتْه يمسك عن قتله، حتى إنه خرج إلى ناحية من القصر وكتب إلى المصحفي رسالة يخبره فيها بعدم موافقته على الأمر المتفق، وأرسل الرسالة مع رسول خاص، فلما قرأ المصحفي رسالته اضطرب؛ لأن المجال كان لا يتسع لإظهار مثل هذا التألم والإشفاق، فكتب إليه في الحال يقول: «إنك بمثل هذا التردد توقعنا في ورطة أشد مما نتحملها الآن، فهل أنت عازم على خيانتنا أيضًا؟»

وصل الكتاب إلى أبي عامر مع الرسول نفسه فأنعم نظره في الأمر وقد جاشت عواطفه ولم يتمكن من إسكات ثائرة الشفقة القائمة بين جوانحه إلا أنه مع ذلك لم يرَ بُدًّا من إصدار الأمر إلى جنوده بالإجهاز عليه، فانقضوا عليه وكتموا أنفاسه ثم وارَوْا جثته في إحدى زوايا القصر.

•••

علم المصحفي بتنفيذ المشروع فسُرَّ في نفسه وأبدى ارتياحه، أما الأميرة فكان سرورها أشد وكان يلوح عليها مظاهر الامتنان والشكر لهذا العمل الذي كان سببًا في زيادة تعلقها به.

أذيع بعد ذلك خبر موت الخليفة وتقلد هشام منصب الخلافة مكان أبيه في اليوم الثاني كما كان مقررًا وبايعه الناس في حفلة عظيمة سمي فيها بلقب «المؤيَّد بالله»، وهو إذ ذاك لم يتم الحادية عشرة من عمره، وقدم كذلك المملوكان، فائق وجوهر، طاعتهما للخليفة ومِن ثَمَّ اختفى هشام عن العيان في إحدى زوايا القصر مع مربيه الذي عُهِد إليه في أمر تربيته.

تم الأمر كما أرادت صبيحة وكما شاء ابن أبي عامر والمصحفي وظهرت الأميرة على مسرح الحكم علنًا؛١ إذ كانت الآن تحكم باسم الخليفة ابنها؛ لأنها أصبحت الوصية عليه فكان اليوم يومها والزمان زمانها، كانت الحاكمة المدبرة لكل أمر منذ عشر سنوات إلا أنها كانت تحكم من وراء ستار، وكان لها نفوذ واسع ولكنه نفوذ عارٍ عن الصبغة الشرعية، أما الآن فقد استكملت نفوذها وظهرت بمظهر الوصية، صاحبة الأمر والنهي.
أخذت في دورها العملي تنظر في قرارات المجلس الأعلى وتبحث عن الوسائل المؤدية لاستتباب الأمن في ربوع الأندلس، وكان من أول أعمالها تخفيض الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهل الأهالي مما جعلها محبوبة لدى الشعب مرعية الجانب لدى الخواص؛ لأن رجال الدولة لم يقع اختيارهم عليها كوصية عبثًا؛ بل لأنها كانت مشهورة بينهم بذكائها، معروفة لديهم بحسن درايتها في سياسة البلاد.٢

كُتُب التاريخ المصوِّرة لتلك الأيام مشحونة بذكر سجاياها وسرد فضائلها ومزاياها، أما شعراء عهدها فقد نظموا لها عقود مدح سارت بذكرها الركبان، وشبهوها بالنجوم وأعلَوْا قدرها إلى السِّماكَيْن حتى طبَّقتْ شهرتها كل ربوع الأندلس.

كل شيء في تاريخ حياتها جميل ظريف، سوى أمر واحد يؤسَف له جد الأسف، هو عدم كتابة خواطرها في مذكرات تعبر عما كان يخالجها من المشاعر والإحساسات في الظروف المختلفة التي تقلبت أثناءها، لو كتبت مثل هذه الخواطر فمن يدري أي الأساليب الشعرية الخالدة وأي المعاني السامية الخلابة كنا نجده فيها، كنا نجد لذة في تصفح حياة تلك الأميرة، وهي تروض النفس في حدائق قصر الزهراء وتفكر في ماضيها، هل كانت تتأثر الآن بذكر لياليها الغرامية التي قضتْها مع الحكم في نفس ذلك المكان؟

هل تذكر الآن أيام شبابها وتلك السويعات السعيدة التي كانت تشعر فيها بمحبة الحكم لها؟ وهل لتلك الأويقات أثر في نفسها أو هي نسيَتْ حتى الأيام التي كانت فيها تتغنى بين تلك الخمائل والأفنان؟

لو كانت لها مذكرات لكنا علمنا في أي مركز إحساسها الآن، أو كنا علمنا فيما تفكر وهي تمر في طرقات تلك الحدائق.

هل كانت أفكارها معطوفة إلى المستقبل أو أنها تحترم الماضي أيضًا فتلتفت إليه من حين لآخر؟ من يمكنه إدراك ما في خفايا هذه المرأة المتعلمة القادرة ومن يعلم وجهة أفكارها الآن؟ ربما كانت تحسب ضحاياها، وربما كانت تتأمل في حسن طالعها، وربما كانت الآن تقلب صفحات حياتها الصفحة بعد الأخرى بلا قيد ولا روية.

يحفظ لنا التاريخ أنها بعد الفراغ من أعمالها السياسة كانت تجلس على مقربة من بركة مزخرفة وسط الحديقة لاستنشاق نسيم المساء المعطر بروائح الزهور والرياحين، في ذلك الوقت الذي يطير فيه المرء سابحًا في عالم الخيالات، في عالم أثيري بعيد عن ماديات هذا العالم الأرضي.

كم يشتاق الإنسان إلى معرفة تصوراتها وما يدور بخلدها في تلك اللحظات اللذيذة القصيرة! هل كانت أفكارها موجهة إلى ابنها وأمر تربيته؟ أو أنها كانت تفكر في أمر الحياة لتعرف حقيقتها فتقول في نفسها: إن هي إلا رؤيا نرى فيها الحقيقة في ثوب الخيال والخيال في لباس الحقيقة، أو أن تصوراتها تنحدر بها في تلك اللحظة إلى مظاهر الوجاهة وآثار النعيم والترف التي تقلبت في أحضانها منذ الساعة التي كانت تغنت فيها بين خمائل الحديقة؟ أو أنها تحصي الحوادث والصدمات التي تحملتها منذ ستة عشر عامًا؟ كلَّا كلَّا، إنها في تلك الجلسات بجانب البركة كانت تنظر إلى النجوم اللامعة في صفحة السماء لتقارن بينها وبين القصائد التي نُظمت في مدحها، والتشبيهات التي قيلت من أجلها، وربما كانت لا تفكر إلَّا في شيء واحد ولا يشغل ذهنها إلا أمر واحد هو غرامها وهيامها بأبي عامر.

آه، من يدري ذلك، كل هذه أسئلة لا يمكن الإجابة عنها وستبقى سرًّا غامضًا إلى الأبد.

لم أجد في أي كتاب حبًّا يشابه حب صبيحة ولا نفسية كنفسيتها.

وقد علمتُ بالبحث والتنقيب أن ابن أبي عامر كان روحها وحياتها، ولكنني بكل أسف عجزتُ عن وصف تصوراتها وأفكارها في تلك الساعات القصيرة التي كانت تتنزه فيها في حدائق بيت الزهراء.

١  قاموس الأعلام.
٢  تاريخ الأندلس لضيا باشا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤