الفصل السابع عشر

مَع الهلال «حول مقال»

مُلوك العَالم من سُلالة الفراعنة١
في المثل الذي ضربه الكاتب تمهيدًا للكلام في هذا المقال خطآن؛ أولهما قوله:

فقد قضى داروين على الرأي القائل بأن الأحياء قد خلقت مستقلة، وأقام البرهان على أن المخلوقات جميعها متصلة النسب ترجع في النهاية إلى أصل واحد، قد تفرع إلى الأنواع العديدة التي نراها الآن بحكم التطور.

وفي هذا القول أشياء قد لا تتفق حقيقتها مع الأمانة العلمية؛ ذلك لأن داروين إن كان قد أقام البرهان على أن المخلوقات جميعها متصلة النسب، فإنه لم يرجعها في النهاية إلى أصل واحد بصورة قاطعة، بل قال في آخر الفصل الخامس عشر من كتابه أصل الأنواع:

إن في النظر إلى الحياة بما يحوطها من مختلف المؤثرات والقوى، نظرة الاعتقاد بأن الله قد نفخها في بضعة صور، أو صورة واحدة بداءة ذي بدء لعظمة وجلالًا. وإن هذا السيار إذ ظل مدفوعًا بالجاذبية دائرًا حول فلكه المرسوم، قد هيئ بقوى أنشأت ولا تزال مجدة في إنشاء تلك الصور غير المتناهية بما فيها من مواضع الجمال وبواعث الروعة والإعجاب.

ثم يقول في ص٦٦٨ ف١٥ من أصل الأنواع:

هناك مؤلفون من ذوي الشهرة وبُعد الصيت مقتنعون بالرأي القائل بأن الأنواع قد خلقت مستقلة. أما عقليتي فأكثر التئامًا والمضي مع ما نعرف من القوانين والسنن التي بثها الخالق في المادة والاعتقاد بأن نشوء سكان هذه الأرض وانقراضهم في الحاضر والماضي، راجع إلى نواميس جزئية، مثل النواميس التي تحكم في توليد الأفراد وموتهم. وإني كلما نظرت في الأحياء نظرة القانع بأنها أعقاب متسلسلة عن بضعة عضويات عاشت قبل ترسب أول طبقة من الطبقات الكمبرية، شعرت بأن نظرتي هذه أكثر إجلالًا، وأبعث على التأمل، وأدل على العظمة.

هذا كل ما قال داروين في كتابه أصل الأنواع، فهو إذن لم يبرهن على أن الأحياء أصلها واحد، بل قال بأنه يجوز أن يكون أصلها واحدًا أو عدة أصول عاشت قبل ترسب أول طبقة من الطبقات الكمبرية. وملاحظة مثل هذه الدقائق العلمية ذات شأن كبير جدًّا عند العلماء.

وأما الخطأ الثاني، فقوله:

وقد كانت هذه النظرية محركًا قويًّا دفع بالبيولوجية إلى الأمام.

وهذا القول خطأ محض من الوجهتين التاريخية والاستنتاجية، فالتاريخ يدلنا على أن ارتقاء علم البيولوجيا وتقدمه على يد الألمان، وعلى الأخص من طريق علم الانقلاب الجنيني — الإمبريولوجيا — كان أكبر الخطى التي مهدت السبيل لنشوء الفكرة العلمية في أصل الأنواع. فالمعروف أن الرأي العلمي في الإمبريولوجيا كان قائمًا في القرن الثامن عشر على نظرية «التكوين».

Performation Theory وينحصر الرأي فيها في أمرين:
  • أولًا: أن البويضة الأولى لا يحدث فيها أي تطور جديد، كنشوء أعضاء لم تكن حائزة لها من قبل. وبذلك تكون كل بويضة حائزة لكل أعضاء الصورة البالغة حيوانًا كانت أم نباتًا.
  • ثانيًا: أن النماء هو الظاهرة الوحيدة التي تتميز بها أعضاء الجنين خلال نشوئه وانقلابه، وأن السبب في اختفاء هذه الأعضاء التي يظهرها النماء راجع إلى ضؤولة البويضة وصغر حجمها.

وبذلك ذاع الرأي بأن كل جرثومة حية لا بد من أن تكون حائزة لكل الأعضاء والصفات التي تمتاز بها الصورة حال بلوغها، وبالأحرى لا بد من أن تكون حائزة لكل صفات نوعها، مستقلة عن بقية أنواع الأحياء.

وظل العلماء يأخذون بهذا الرأي الذي كان يعتبر أساسًا لعلم البيولوجيا، حتى قام العلامة الكبير كسبار فردريك وولف، ونشر رسالته المعروفة بنظرية التولد Theorea Cenerationis سنة ١٧٥٩، فقضى بها على مذهب التكوين، ومهد السبيل للقول بنشوة بعض الأنواع من بعض؛ إذ أبان أن البويضة لا تكون حائزة لأية صفة من صفات الفرد البالغ، بل تنشأ فيها الصفات وتتولد بالتتابع من طريق الدور في عدة انقلابات طبيعية لا يمكن تعليل سببها بأية طريقة كيمائية أو طبيعية. وتتالت من بعد ذلك المستكشفات العلمية بظهور سلسلة طويلة من عظماء الألمان، وعلى رأسهم العلامة الكبير «كارل ارنست فون باير»، فكان من نتيجة أبحاثهم أن مهدت السبيل لظهور الرأي في أصل الأنواع بالنشوء.

وعلى هذا يتضح أن عكس ما ذهب إليه الكاتب هو الصحيح؛ لأن تقدم علم البيولوجيا كان سببًا في تطور الفكرة في أصل الأنواع، وأن عكس هذا غير صحيح على إطلاق القول.

•••

أما النظرية الأصلية التي دار حولها المقال، وهي القول بأن ملوك العالم من سلالة الفراعنة؛ لأن الفراعنة كانوا أول من أسس الملوكية في الأرض، فمثابة القول بأن هذا النظام — على فرض أن المصريين كانوا أول من وضع قواعده — لم ينتحله قوم غير المصريين. فظل المصريون ملوكًا وبقية شعوب الدنيا القديمة عبيدًا إلى ما شاء الله. على أننا نجد أن نظام القبيلة في إحدى صلاتها كان قائمًا على نظام أشبه بنظام الملوكية منه بأي نظام آخر. وطبيعة التسلط والسيطرة ليست بفكرة ولا نظام، بل هي في أصلها نظرة تقتضيها طبيعة الأشياء الإنسانية من غير احتياج إلى لقاح. فقطيع الغنم الذي يستقوي فيه كبش على بقية الكباش ويستأثر من ثَم بالعدد الأكبر من النعاج، هو ملك القطيع غير المتوج بالفطرة لا باللقاح. وهذه الظاهرة تكون أشد ظهورًا في الحيوانات التي تعيش في قطعان منها في الحيوانات التي تتزاوج وتعيش على انفراد.

وإذا فرضنا أن المصريين كانوا أول من اخترع فكرة الملوكية، فهل يعقل أنهم ظلوا ملوكًا حتى وزعوا على الأرض كل ملوكها، ولم يستقو على أحدهم فرد واحد من أفراد الأمم القديمة، واتخذ الملوكية صناعة كما كانوا يتخذونها، وبذلك تكون قد ظهرت ملوك من غير سلالة الفراعنة؟

نحن نجل الأستاذين سميث وبري عن أن يكون هذا الرأي وفساده ظاهر رأيهما، وهو بعيد عن كل الحقائق الإثنولوجية والإنثربولوجية المعروفة. بل نظن أن كاتب المقال قد أساء الفهم وقلب الفكرة، ليظهر على صفحات الهلال برأي غريب يستلفت نظر العوام، من غير أن يأبه لشيء من الحقائق التي تقوم عليها العلوم. وهي كما يعرف أغلب الناس الآن شبكة متصلة الأطراف يجب أن توافق النظرية المقول بها أكبر عدد ممكن من حلقاتها قبل أن يصح القول بأنها نظرية يصح أن تبحث على القواعد العلمية.

١  الهلال: عدد نوفمبر سنة ١٩٢٨، من مقال بهذا العنوان ممضي بحرفي س. م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤