الفصل الرابع

الزحلاوي على السُّفود

مثل الأستاذ الزحلاوي في نقده، الذي لا نعتقد أنه ليس أقل من تسافه، رمى به صاحب العصور ومحرر العصور، إلا كمثل القائل:

خذي الدف يا هذه واضربي
وبثي فضائل هذا النبي
تولى نبي بني هاشم
وجاء نبي بني يعرب

وما هي الفضائل:

فلا تبتغي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب
إذا القوم صلوا فلا تنهضي
وإن صوموا فكلي واشربي
ولا تحرمي نفسك المؤمنيـ
ـن من أقربين ومن أجنبي
فكيف حللت لذاك الغريب
وصرت محرمة للأب؟
أليس الغراس لمن ربه
ورواه في عامه المجدب
وما الخمر إلا كماء السحا
ب طلق فقدست من مذهب

فقد حمل بيده الدف، الذي يدعي أن كاتب السفافيد يضرب عليه وضرب عليه، وبث فضائله في النقد، ولم يتورع عن شيء نهى عنه في مقاله، ولم يتعفف عن أن يناقض مذهب النقد، الذي يعتقد أنه أرقى المذاهب، وهو مناقشة الآراء في لين وهوادة، ابتغاء الوصول إلى الحقيقة، وانتحل لنفسه ما أراد أن يحرمه على صاحب العصور، وقدس المذهب بالفعل وأيده بالواقع.

كل هذا من غير أن يعرف من كاتب هذه السفافيد، ولكنه ساق الكلام، ظلمًا إلى صاحب العصور، ومحرر العصور، وإني لن أبرئ نفسي من مسؤولية النشر لا أكثر ولا أقل إن كان هناك مسؤولية أدبية، وأظن فوق ذلك أن من حقي أن أنشر رأي أديب في أديب مهما بلغ ذلك الرأي من شدة، ومهما بلغ القالب الذي صب فيه من عنف، ذلك لأني حر الفكر، لا تؤثر علي صداقة بأحد ولا إعجاب بآخر، وإني لأفضل أن أغلق باب العصور وأنبذها سلعة فانية لا قيمة لها في نظري، على ما لها عندي من قيمة وعزة، على أن أحاول إخفاء فكرة عنت لي، أو أن أصد نفسي عن التعبير عن جائشة تجيش بصدري أو خاطرة تخطر بذهني؛ ذلك لأني أعيش بوجداني، لا بمشاعري، ولا بميولي الشخصية، ولا بعلاقاتي مع أصدقائي حتى ولا بأهلي.

والعصور، يا سيدي، ميدان تجري فيه كل الأفراس، أصيلة وغير أصيلة، وحلبة يتسابق فيها كل الجياد، وكان من حق الأستاذ الزحلاوي، أن يأسف وأن يرمينا بأكثر مما رمانا به، لو أننا منعنا الأستاذ العقاد من الدفاع عن نفسه على صفحات العصور، كما تفعل كل الجرائد والمجلات إطلاقًا لا تخصيصًا.

إننا يا سيدي ندعو إلى حرية الفكر، وندعو إليها عن عقيدة وعن يقين ثابت، لا ندعو إليها دعاية ولا جريًا وراء الجماهير ولا استهواء لفئة من القراء، فالعصور يستوي عندها عشرة آلاف قارئ وقارئ واحد، ويستوي عندها مليون من الجنيهات، وجنيه واحد، ويستوي عندها ألف عقاد وعقاد واحد، لا فرق عندها بين الكميات، بل الفرق كل الفرق عندها في الكيف. فإذا فرض وكان العقاد لصًّا، فلماذا لا يعرف الناس أنه لص كبير؟! وإذا كان عاميًّا، فلماذا لا يعرف الناس أنه عامي؟! وعلى أية قاعدة من قواعد الحرية يا سيدي الأستاذ تحاول أن تمنع كاتبًا من أفذاذ كتاب العصر أن يقول رأيه في العقاد؟ فلا يجد إلا صفحات العصور، ولا يجد إلا صاحب العصور يتحمل هذا الأذى الذي رميتنا ببعضه، ألست ترى أن هذه تضحية نقدمها قربانًا على مذبح حرية الفكر التي نقدسها أكثر من تقديسنا كل شيء في هذا الوجود، من ماديات ومعنويات.

وإذا كان العقاد، غير لص، وكان كاتبًا بليغًا، فمن ذا الذي منعه من الدفاع عن نفسه، ومن ذا الذي يدعي بأن له الحق في حرمانه من هذا الحق …

على أني لا أبرئ نفسي، ومن حقي أيضًا أن لا أبرئ العقاد، بل أني أتهم نفسي وأريد أن أحاسبها، وأشعر بلذة عميقة إذ أخلو إليها وأطلب منها تقديم الحساب، عما جنت، وعما سفهت به. أفلا ترى معي يا سيدي الأستاذ أن من حقي أيضًا أن أتهم العقاد، وأن أحاسبه، على ما يجرم، إذا كان هو لا يحاسب نفسه، بل يزكيها إثمًا وغرورًا، على جوانب الطرق وفي المقاهي العامة …

سيدي الأستاذ: إن عقادك كتلة من التكلف، يحاول به أن يكون من أشباه الرجال، الذين يقرأ لهم، ولكن هيهات أن يصبح القزم جبارًا إذا لبس جلد جبار، واسمح لي يا سيدي، أن أقول لك، إنك لا ترى في هذا الهيكل إلا جلد الجبار، أما جبارك وعبقريك، فليس أكثر من قزم مُنْزَوٍ في بنصر القدم اليسرى من رجل جبار.

سيدي الأستاذ، لقد جنيت على العقاد، فإنك بمقالك هذا أجبرتني على أن أقول فيه رأيي هذا علنًا، وعلى صفحات العصور، على أني لا أغمطه بجانب هذا حقه، فهو أديب من أدباء العصر له ميزاته الخاصة به، وله نواحيه، كما لكل أديب ميزاته ونواحيه.

سيدي الأستاذ: إنما يجني على المرء أدبه، وإذا انحط أدبه لم يفده علمه، فقل بحقك مَن مِن أفذاذ مصر والعراق وتونس والجزائر والشام ولبنان وفلسطين سلم من سفاهة عقادك هذا؟ فلماذا تغضب ويغضب العقاد إذا ردت إليه العصور على يد أديب نعتقد أن العقاد العبقري الجبار الذهن ليس أكثر من تلميذ إذا قيس به، بعض الدين الذي أقرض الناس، أو إذا كالت له بنفس الكيل الذي يكيل به للأدباء والعلماء والتراجمة أمثالي؟

وافرض يا سيدي أني لست أكثر من مترجم، فهل في هذا منقصة تعدها علي؟ ليس في هذا منقصة، بل المنقصة يا سيدي، أن أدعي أكثر من هذا، ولو كنته، وهي في نابغتك العقاد ولا جدال.

على أني أشكرك كل الشكر، لأنك أفدتني بنقدك، هذا إذ عرفت في نفسي رأي فئة من الناس، وإن كان لا يعنيني رأيهم، بقدر ما يعنيني أن أرضي ضميري، أولًا وقبل كل شيء.

قيل إن أرسطو طاليس، كان لا يغضب، فتراهن البعض مع سفيه على إغضابه، وإخراجه عن وقاره، إن فعل ربح الرهان، وإن أخفق خسره. فتربص به في بعض الطرق، وأخذ يعد في فمه بصقة كبيرة قذفها إلى وجه أرسطو طاليس، فلم يغضب، بل قال «أوَ يكون في فم الإنسان كل هذا اللعاب؟!» ذلك لأن البحث العلمي صرفه إلى النظر في الأمر نظرة بعيدة عن سفاهة الرجل.

وأشهد الله يا سيدي الأستاذ أني ما فكرت في نفسي أبدًا عندما انتهيت من تلاوة كلمتك، بل انصرف ذهني توًّا إلى التفكير في: هل يبلغ إنكار الإنسان شخصيته الحد الذي بلغت من إنكار نفسك بجانب هذا العقاد؟! ولكني وقعت على ضالتي؛ فعلمت أن من الأدباء ومن الذين يدعون الأدب من هم في حكم الظلال المتنقلة حول الأجسام المادية.

وعلمت فوق هذا، وأقولها مكرهًا، أنك لا شيء بجانب قزم منزوٍ في بنصر القدم اليسرى من رجل جبار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤