الفصل التاسع

ضرر اللغة أيضًا

اللغة الحسنة هي التي حين نعبر بها نُحس السيادة المنطقية على كلماتها. فلا نشعر أنه كان يجب أن نزيد هنا أو ننقص هناك، أو أن معنى الكلمة التي استعملناها قد يحمل القارئ على أن يفهم ما قصدناه، وبكلمة أخرى نقول: إن اللغة الحسنة هي تلك التي تُتيح لنا التفكير المنطقي كما لو كانت كلماتُها أرقامًا تؤدي لنا الحساب الذي لا يحمل حاصل الجمع أو الطرح فيه معنى الشك، أو على الأقل يجب أن نقارب هذه الحال من الدقة على قدر الإمكان.

والواقعُ أن العلوم لا تنضج إلا حين تُقاس بالأرقام وتعبر الأعدادُ عن حقائقها، ولا يزال كثيرٌ من علمي السيكلوجية والاجتماع بعيدًا عن إمكان التعبير عنه بالأرقام؛ ولذلك تنقص قيمتها بقدر هذا العجز عن استخدام الأرقام في شرحها وفهمها، ونحن في مصر نسيءُ إلى اللغة العربية وإلى شبابنا أيضًا، حين نتخذُ معهم طرقًا عتيقةً في معالجتها يمكن تلخيصُها فيما يلي:
  • (١)

    أننا نعلمهم مبادئ البلاغة العاطفية بالمجاز، والاستعارة، والتشبيه إلخ كي يصلوا منها إلى التعبير الفني أو الرفاهية الذهنية بدلًا من مبادئ البلاغة العقلية المقيدة بقواعد المنطق؛ حتى يصلوا إلى دقة التعبير وتوقِّي الالتباس. والنتيجة من هذه البلاغة العاطفية هي الضرر؛ لأنها تُحدث لهم اتجاهًا نحو التزاويق، والبهارج فإذا طُلب إليهم التفكير عجزوا.

  • (٢)

    هذه البلاغةُ العاطفيةُ قد حملت المعلمين على الإكبار من شأن الاقتباس حتى إننا كثيرًا ما نرى في كُتُب الإنشاء التي يتداولها التلاميذ عنايةَ المؤلفين بما يسمونه «الجمل المختارة»، وهي عباراتٌ تحتوي كلماتٍ لها بريق أو رنين أو ضجيج، والتلميذ الذي يكلَّف استظهارها إنما يفعل ذلك على حساب تفكيره. فكأننا نقول له لا تنظر إلى هذه الدنيا بروح الباحث المتفهم المفكر، وإنما استظهر العبارات المزخرفة وتكلف التزاويق؛ لأنها أحسن ما يمكنك أن تعبر به في الإنشاء.

    ونحن في هذا التوجيه نحمله على العناية بالقشور، بل بما هو أتفهُ منها وترك اللباب؛ أي التفكير السديد.

  • (٣)

    وضرر ثالث هو أيضًا نتيجة ما ذكرناه، نعني به: العناية بالأُسلوب ومحاولة التلميذ أو الطالب أن يتعلم أساليبَ المتقدمين ويحاكيَ أحسنها وكأنها غاية الإنشاء، ونحن في كل هذا نكادُ نَجحد الذهن وعندما يشب هؤلاء الشبان يتجهون إذا ألفوا كتابًا أو كتبوا في صحيفة وجهة الاقتباس والتزويق دون التفكير والبحث، وهذا ما نراه شائعًا في كتبنا ومجلاتنا بل أحيانًا نجدُ المصري المتعلم الذي درس في أوروبا واصطنع المنطق العلمي في تفكيره عاجزًا عن التأليف في اللغة العربية؛ لأنه يجهل الاقتباس والتزويق ولذلك يحجم عن التأليف، فنحرم ثقافته مع حاجتنا العظيمة إليها.

فكيف نعالج هذه الحال؟
  • (١)

    نعالجها أولًا وقبل كل شيء بأن نجعل قواعد المنطق تقوم مقام قواعد البلاغة القديمة؛ أي دقة التعبير بدلًا من تزويق التعبير، ومخاطبة العقل بدلًا من مخاطبة العواطف.

  • (٢)

    ونعالجها ثانيًا بأن نقاطع الاقتباس في الإنشاء في المدارس الابتدائية والثانوية، ونجعل التفكير يقوم مقام الاقتباس، فيجب ألا تكون هناك «جملة مختارة»، تحفظ عن ظهر قلب، بل يجب أن يُعَوَّدَ الصبي أو الشاب كيف يفكر ويبحث ويطلع.

  • (٣)

    يجب أن نعرف أن الأسلوب هو الناحية الأخلاقية للكاتب؛ فإذا كان الكاتب فنانًا يعيش الحياة الفنية وينظر إلى الدنيا من خلال العدسة الفنية؛ فأسلوبه فني، وإذا كان عالمًا؛ فأسلوبه علمي، وإذا كان اجتماعيا الخ.

وأسلوب الكتابة هو بعض أسلوب الحياة، فالرجل المستقيم الصريح في معاملاته يكتب في عبارةٍ صريحةٍ وفي كلمات لا تقبل الالتواء، فإذا طالبنا الصبي أو الشاب بأن يحسن الأسلوب في كتابته؛ فإنما نُطالبه في الحقيقة بأن يتخذ أسلوبًا حسنًا في معيشته، وأن يرقي شخصيته، وإذ استقرت هذه القواعد في مدارسنا وتعلمها صبياننا وشبابنا فإننا سنجد عندئذٍ المؤلفين المفكرين والصحافة النيرة المرشدة، صحافة الشخصيات الكبيرة، والتفكير العلمي الدقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤