هذا الكتاب – ولماذا؟

في سنة ٢٠٠٧م صدر لي عن «دار أزمنة» العامرة، كتاب بعنوان: «عمل الكاتب؛ الكاتب وهو يعمل»، اختص بالنظر في طرائق اشتغال الكُتَّاب على نصوصهم، وأدوات، وكيفيات اشتغالهم، وما يحتاجون إليه من عدة لتنفيذ مشاريعهم الكتابية، حسب الأجناس الأدبية التي ينصرفون إليها، وتُلائم مواهبهم أو استعداداتهم. يتصدَّر هذه الأجناس فَنُّ السَّرد الذي يَتطلَّب بحُكم سعته النَّصية وكثرة فاعِليه وتشابُك علائقه؛ إعدادًا مُتنوِّع المصادر، كثيف المواد، وضبطًا بدِقة متناهية. ليس وحده، بل الفنون كلها تستوجب — إلى جانب موهبة قولها وتجسيدها، وثقافة تَعلُّمها ومِراسها — خبرة شمولية أوسع، تُستَمد من تجربة الحياة المباشرة، كما تحصل بالمران المتواصل الذي يدأب عليه الكاتب أو الشاعر، الفنان عمومًا وهو ينجز عمله.

لقد عمدْنا في الكتاب المذكور إلى تَتبُّع عدد محدَّد من الكُتَّاب، بالإنصات إلى تجاربهم، واقتفاء أثرهم عَبْر مخطوطاتهم، وإصداراتهم المتوالية، ومنها مذكِّرات وسَيرٌ لهم، وأقوال مخصوصة أفرَدُوها بالضبط للحديث عن أطوار، وشروط، وظروف الكتابة لديهم، عمومًا ما نُسمِّيه مختبر الكاتب. هذا المختبر إنما يُصنع، وتتشكَّل موادُّه ولوازمه بالتدريج؛ أي بعد أن يكون مؤلِّفٌ ما قد أمضى زمنًا مُحتسبًا بعناية وهو يتعاطى الإنتاج الإبداعي والثقافي، مُكرِّسًا له حياته، ومنصرفًا له بكل ما يُؤتى من إمكانات وقُدرة بِناء وموهبة عطاء، وحِسِّ اكتشاف.

لا يتأتَّى ذلك على الأغلب إلا للمنتِجين الثقافيين المحترفِين، الناهضين بحرفتهم على وجْه الاختصاص، والمُقبِلين عليها دائمًا إقبال الحِرفي والصانع، زيادة عن انتظامهما في الشغل، حرصهما على الإجادة، بتطويع المادة الخام؛ أي بالإحساس والمخبور، بالنِّسبة للكاتب، وصَوْغها على الوجه الأمثل، بما يُرضي الذوق، وينسجم مع دقائق الصنعة، ويُلبِّي حاجة، حاجات، في نفس القارئ.

وقد كنا تعامَلنا في الكتاب نفسه مع النموذج الغربي وحْده؛ لأنه بمفرده ما لبَّى مطلبنا؛ إذ وفَّر لنا إمكانات تأليف متن البحث، وتحديد حقله، وتشخيص معالمه، وفي هذا كله الانفتاح على ورش واسع تجتمع وتلتقي فيه تجارب مختلفة، وصناديق عدة من مزوِّدات وعيارات تتعدَّد بكثرة الأقلام والنصوص المُنضِّدة لطبقاته، الصانعة لوظائفه. وانطلاقًا من هذا النموذج وضعْنا كِتابنا الذي هو أول تأليف بالعربية، على ما نعلم، في موضوعه، ولَقِي قبولًا واستحسانًا شجَّعَنا على المُضي في هذا الطريق، لِيتَّسع ويمتد نحو آفاق أخرى بالضبط إلى محيط ثقافتنا وإبداعنا العربيين. وقد كنا ألمَعْنا في مؤلَّفنا ذاك إلى «افتقار مكتبتنا الأدبية إلى مصنَّفات تُتابِع مسالك الكُتاب، وتتحدث عن منظوراتهم فيما يُنجِزون.» خلا ما هو متفرِّق من حوارات صحفية سريعة وعرَضية، نفَّذها صحفيون متعجِّلون مِن أمرهم، ومتصيِّدون لأقوال التهويل والتحريض، والإثارة على الأغلب، مما لا نفْع فيه لتاريخ الأدب، ولرسم الصورة المنظمة للكاتب. وذكَرْنا ﺑ «أننا عاقدون العزْم في المستقبل لوضع كتاب في الموضوع ذاته، نخصصه للكاتب وحده، مع ابتغاء الشمول ما أمكن، ونسعى فيه كذلك إلى استقصاء ما يسهم في إفادة ناشئة الأدب من خبرة السلف، إذا كان للخلف استعدادُ صبرٍ ونبْذ خِفَّة، كي يعلموا، كما قال كلوفسكي، ويَستحضروا في أذهانهم الجهد الجبار لعباقرة الزمن الماضي.»

وها نحن ننجز اليوم ما التزمنا به أمام القُراء، ومع «أزمنة» المُثابرة، أو بالأحرى سنقدِّم بعض ما أمكن لعزيمتنا أن تبلغه، وإيماننا في هذا الصدد أن يناله، فما كل ما يتمنَّى المرء يدركه، حتى ولو جرت الرياح بما تشتهي السُّفن؛ لأن الخَطْب هنا صَعْب، ووسائل تحقيقه قليلة، مُتعذِّر الحصول عليها، وفيها ما ليس متناوَلًا، كما سنفصل لاحقًا، إلا بالنَّزر اليسير.

إن مفهوم عمل الكاتب حديث النشأة، غير مطروق في ثقافتنا العربية الكلاسيكية بالصورة التي يجري بها الكلام عنه اليوم، وفي المجال الغربي بصفة خاصة. ولا مفهوم الكاتب جاء بالصورة التي يتبلور عليها راهنًا، أو هو في الطريق ليتشكل فيها، ليأخذ وضعًا مستقِلًّا، متميِّز الخصائص، وبالتالي ممتلكًا لجملة حيازات، كحقل مُنتِج لمفاهيم صغرى ومساطر و«بروتوكولات» تنتظم داخله، تُسهم في توليده، لتساعد على مزيد فَهْم منتوجه النصي. لذلك، فإن ما نقوم به هنا هو مجهود تكييف وملاءمة، فلا نسقط مقولات ومعطيات الحاضر، وهي في صيرورة، على ماضٍ اكتمل بعد أن انتظمَت مَعرِفته في سِجل تراثي. فالإيمان بتطور المَعرفة يستلزم من كل باحث أن يأخذها في تاريخيتها، من غير أن يتعسَّف، لا بتمطيط قامَتها، ولا تقليصها، وإنما الإفادة منها وإنصافها حسب ما جاءت وتكوَّنت في زمنها، وإلا فَانظُر معي دارسِين يَسعَون بشِقِّ الأنفس إلى إلحاق الأخبار والمَحكيات القديمة بفن السَّرد القصصي والروائي الحديث، وجعل العربي المستحدَث منه امتدادًا لهذا الأخير، بِاسم ترسيم أبدي لأصالة سديمية، وهُوية مطلَقة، تُعبِّران عن سلفية تعمى عن الجِدَّة والتطور.

لقد اقتضت عملية التكييف، إذن، أن نُخضِع التسميات إلى معناها في السياق الثقافي التاريخي، أولًا، وأن نُؤوِّلها بعد ذلك إجرائيًّا كمفهوم؛ أي إنه حتى وإن حمل الاسم الحديث ممتلئ بالمحتوى الكلاسيكي. ثم بأن نعمد، ثانيًا، إلى تشغيلها وفق الصيغ والإواليات والشروط التي انتظمت فيها، ما سيضمن مجدَّدًا تحقيق الملاءمة، وجعل المفهوم منسجمًا مع الثقافة والمحيط التاريخيين اللذين أنجباه. بهذه المنهجية، أمكننا أن نصنع مَتنًا، وأن نهيِّئ تربة كنا نحسب أننا نعدمها، وأن نفتح وِرشًا. محاولتنا هذه جزء من أعماله، نَأمُل أن يواصلها غيرنا.

لقد نظمنا مفهوم الكاتب حسب دوره الوظيفي الذي رُصد له، وبمراتبه المختلفة، المجتمعة كلها في إطار الديوان. إن العمل هنا فعليٌّ، مرتبط بأمير أو وزير أو والٍ، أو بخدمات هي وظائف، قلَم الكاتب فيها مُسخَّر لتنفيذها، حصرٌ على طاعة أصحابها، وتبليغ مَرامٍ ومَقاصد لا تخصه بتاتًا كفرد، مِن ثَم لا وجود هنا للذات، ولا ينبغي أن نتوقَّع حضورها على أي شكل، ما سيُخل بالوظيفة. كما يقتضي أداء الوظيفة على الوجه الأكمل اتباع دليل سير تحريري، والتزام بنود توثيقية، لغوية، نحوية، أسلوبية-بلاغية، هي بمثابة نموذج ينبغي أن يَمهَر الكاتب في صَوغه، وإن لزمه من شروط الإجادة والبروز في نهجه نبذ الاتباع، والإتيان بالإبداع من خالِص قوله، ومستحدَث يَراعه، فتصبح له مكانته، لا كفرد نابغة، وإنما بالتميُّز عن أقرانه في الدواوين. وطريقه للقبض على ناصية البيان، وبلوغ ذروة التفوق شاقٌّ وطويل سُلَّمُه؛ إذ حَدَّد له بُلغاءُ زمانه، ومن قبلهم، كما سنعرض لذلك بتفصيل، قائمة المعارف والخبرات المحتاج تحصيلها، تشمل في الحقيقة ثقافة عصره المتاحة كلها؛ أي عملية الثقافة الموسوعية، وبهذا تميز الأقدَمون جميعًا، غربًا ومشرقًا ومغربًا، وتجلَّت في مصنفاتهم التي استطردت في كل المعارف، وهو لَمِمَّا يُرعِب كُتَّاب هذا الزمان، فيهم من «ينتحر» نحوًا وإملاءً، فكيف بالبيان؟!

لقد استقَيْنا أمثلتنا من أمهات الكتب التي درَست النثر العربي، وتُعَد عمدة في صِناعَتَي النَّظْم والنَّثر. قُمنا بعد جرْد عامٍّ للضوابط والمعايير الموضوعة للكتابة الفنية، المُلزِمة للكُتاب في مراتبهم ووظائفهم المختلفة، باستخلاص أهمها وأقواها تطلُّبًا وأوجب للاعتماد بما يُمثِّل شبه قواعد لا بد من مراعاتها في مضمار النثر على الخصوص، منه فن التَّرسُّل، وما يتصل ببحثنا أوثق صلة، وإلا فهو بحر لا ساحل له؛ لأن غايتنا ليست الخوض في اللغة والبيان، إلا بقدر ما يُستفاد منها في تعيين أسس اشتغال الكُتاب، وثوابت وضْعهم الحِرفي والثقافي والسلوكي. بينما هناك مَن شذُّوا عنها أو ابْتُلوا بنزوات تَشُق عصا الطاعة عن الإطار المرسوم لهم، كأبي حيان التوحيدي، ولسان الدين بن الخطيب، هؤلاء لم يَجنُوا إلا الخيبة من دهرهم، رغم توكيدهم لتلك الثوابت، ومنافحتهم عنها بعبقريته الخاصة، أظهرتهم، من حسن الحظ، مُتفرِّدِين، ما يدعونا إلى تنسيب القواعد، والنظر إلى ما نَعُده وضعًا مؤسَّسيًّا للكاتب القديم، ولنمط وضوابط اشتغاله، بمثابة صورة تعكس الملامح العامة النمطية للثقافة العربية الكلاسيكية، تختفي خلفها سمات وخطوط رفيعة لمن كسَّروا الإطار راسمين وضْعهم الاستثنائي؛ هؤلاء ينبغي أن يُؤخَذوا بالحسبان.

ننتقل في القسم الثاني من بحثنا لما نعتبره المرحلة الحديثة في التماس وضْع الكاتب العربي وكيف عمله، عليها المعوَّل في تحديد المفهوم وشغل معناه، ليصبح منتسِبًا للصفة، مندرجًا أكثر فأكثر في إطار جديد، غير مسبوق، ومتلائم مع عصر تثبت فيه ريادة الكاتب بمواقف إصلاحية وتبشيرية، وإن تحت مظلة السياسي وهيمنته. هنا، أيضًا، نعمد إلى التكييف والملاءمة؛ فالكاتب في العالم العربي — كما سنحدِّد أشواط بداياته ونموها اللاحق — مذ وُجِد وهو يبحث عن وضع متميِّز لم يتحدَّد إلا نسبيًّا، والمجتمع بأُطره ومكوناته المختلفة، ينازعه هذا البحث، ويكاد لا يعبأ به إلا من زاوية الوظيفة الإصلاحية المنوطة به، على غرار سلفه الفقيه والمُصلح الديني. لا غرابة أن يبدو الاهتمام بمختبرية الكتابة بالمعنى الذي شرحْنا، سواء عند المجتمع المعني، أو صاحب القلم نفسه، ضربًا من التَّرف يزكيه هذا بِخفوت حِسِّه، وقبوله الخضوع لتواضع وعِفة قَسريين تَكبِتان فَردِيَّته، التي حين انبجست وُسِمتْ بالرومانسية، وهو تصنيف أقرب إلى القَدْح منه إلى الإلحاق بالمدرسة الأدبية؛ كل من تغنَّى بالذات والجمال ما زال يتلقَّى على رأسه هذه التسمية كضربة، ويُنعَت بالهروب من الواقع (كذا). لا يخفى علينا كذلك أن الكتابة الحديثة بدورها كانت في طور التأسيس على نسق الأجناس الأدبية الحديثة، وثقافة النهضة برُمتها تقوم على أُسس إعادة النظر، والانتقال من الجمود الذي طبع مراحل سابقة إلى تجديد مرغوب لم يكن واضح السمات، ولا محدَّد القَسمات، بمعنى أن العامِلين في الحقل الثقافي الأدبي كانوا آنئذٍ يخضعون لتربية فنية تأسيسية مغايرة، مع انصرافهم في وقت واحد إلى الاشتراك في نشر رسالة الإصلاح وبعث الأمة، والالتحاق بركب التقدم العصري.

نعني أن المَطلب صعب، وبُنيان أدبنا وثقافتنا الحديثتين لم يَمضِ على الشروع في إقامة صرحه أكثر من قرن، فلا نَستهوِلَن الأمور، ولنتأَمَّلها في صورتها المعطاة، لوجوه كُتاب بدأ همُّهم بالتعلُّم، فنُشدان النُّضج الفني، ثم محاولة الاستقرار في وضع يضمن لهم الاعتراف بهم، وبمنتوجهم كقيمة فعلية إضافية، وكمكوِّن مُعتبَر من مكونات الخيرات الرمزية. حين تُطوى هذه المراحل، وتُجنى ثمارها، سيصبح مقبولًا الحديث عن المؤسَّسة الأدبية؛ إذ في إطارها وباعتماد شروط تناميها، تتولَّد عناصر بنيتها، وبالطبع فإن مُنتِج القول هو مِدْماكها، حوْل مادَّته (نصه) تَلتَف، هو جذع الشجرة، وأغصانها الدرسُ الأدبي، والنقدُ الأدبي، وسيرةُ الكاتب مُنشئًا وإنسانًا وفاعلًا اجتماعيًّا، وعاملًا، طبعًا، إذا جاز الاعتبار وفق هذا المنظور. من اللافت للنظر أن الكُتاب العرب، من الجيل الرائد، والمرسخ بعده، لنضعه بين الأربعينيات والثمانينيات الماضية لم يُولوا عناية خاصَّة لكتابة سِيَرهم وتنظيم المعلومات عن مراحل تطوُّرهم الفني، ولا تَركوا ما يُتيح التَّعرُّف عن كَثب على مخفياتها، دَعْك من دقائق صنعتها. إن عَلمًا روائيًّا شامخًا مثل نجيب محفوظ لا تُعرف سيرته الأدبية إلا مِن نُتَف متفرِّقة، تُستخرَج من حوارات صحفية أو جلسات صحبة، أو ما شابَه، نَصُّه السردي وحْده المرشِد إلى فنه، ونمط حياته، شأن طراز عمله، ومقوِّماتٍ تمُتُّ إليه بِصلة، فهي على لسان الرواة، ومنهم روائي مهم ثقة هو جمال الغيطاني، بين مُخلِصين قِلة يُسمُّون شيخ روايتنا «عمُّو نجيب». وكم كان عبد الرحمن منيف، الذي عاشرتُ بعض الوقت في إقامته الباريسية يَتعفَّف عن إثارة موضوع حياته الشخصية فيما يخص انتقاله إلى الكتابة الروائية وثم شغفه بها إلى أن أصبح أحد كبار أعلامها. كلَّما حاولتُ استدراجه لأستفيد من تجربته ميدانيًّا، وأستقطر فائدة من عُصارة تجربته الثَّرَّة، غلَبه تواضعه، ونفخ دخانًا كثيفًا من غليونه المَحشو دومًا، مكتفيًا بالقول، وكأنما يغلبه الموضوع، يزدحم الكلام في صدره كما كان يزدحم على قلم ابن المُقفَّع؛ فيتوقف غصبًا، ليقول لي بنبرة خشوع، فيما أذكر ونحن نحتسي قهوة مُزَّة راوُوقها خَضِل بمقهى «لودوم» بشارع مونبرناس: «الرواية يا أحمد، غابة كثيفة، وتحتاج إلى بحث وعمل دائم. هذا العمل «تَجسَّست» على فضائه أحيانًا، في بيت «أبي عوف» في بولوني بيانكور، الضاحية الملاصقة لباريس؛ هنا في صالون الشقة حيث كانت له منضدة صغيرة، وكراسة كبيرة، ووعاء يحوي عددًا كبيرًا من أقلام المِداد، وأقلام رصاص مبرية جيدًا، وهو جالسٌ يكتب ساعات، إلى أن يهبط الليل، وعندئذٍ يعتذِر مُؤقَّتًا للرواية.» فيما لا يفتأ يؤكد لي كلما التقينا وبشغف وتَهجُّد: «اعلم يا أحمد أن الرواية هي الحياة.» كأنه يقول إن حياتي كلها فيها، وفي أذني صدى جملة لا تفارقني لأرغون: «إن الرواية ضرورية للإنسان، مثل السلم تمامًا.» أما المَرَّة الوحيدة والقوية في حياتي، وذكرياتي الأدبية معه، فهي حين أشركني مباشرة في كيمياء إحدى روايته، بالأحْرى العمل المشترَك الذي جمعه مع جبرا إبراهيم جبرا «عالم بلا خرائط» (١٩٨٢م). طلب مني أن أسعى للتعرُّف، والمشروع أنجز للتو، وتمييز مقاطعه هو مما دبَّج جبرا، فوقفتُ عند أكثرها تميُّزًا، وكانت مناسِبة لاختراق مختبَر كتابته، الذي اتَّفَقْنا أن نعمل سويًّا على وَصْفه، لكن انتقاله إلى دمشق، ثم القَدَر فيما بَعدُ، لم يُمهلانَا لتنفيذ هذا المشروع الجميل.

في السنوات الأخيرة بدأْنَا نقف على كُتيِّبات وتدوينات، فضلًا عمَّا تنشره الصحف مما تسميه «مقابَلات»، في بلدان عربية شتى، يتناول فيها أدباء ومَن في ضربهم، أجزم أنهم على الأغلب شعراء، ما يسمونه، وبدون احتراز أو تحفُّظ، تجاربهم الشعرية، خاصَّة وقد كثُرت المنتديات لجمْع هؤلاء وللتصريح بقدراتهم وطاقتهم الشعرية، وما إلى ذلك. إنه بصرف النظر عن درجة المَزاعم وما يُرشَّح من انتفاخ أنَوات في المكتوب لهذا الغرَض حدَّ العُصاب، لِمَن هم في طور التكوين، لا يصح لأحد أن يتجرَّأ لتقديم حصاد التجربة إلا بعد اكتمال الدورة الإبداعية، وبلوغها ذروة ملحوظة؛ يبقى أن ما نعثر عليه يدور حول أمور عامة، وكلام من ناشئين أو محدودي المَلكات، عن مفهومهم للشعر، للقصة، للوجود، للمرأة، وكلام فضفاض عمَّا شئتَ وهلُم جرًّا، قلَّ أن يفيد مَن يريد الوقوف بجِدٍّ على كيفية تَشكُّل المتون الأدبية، وعناصر الصناعة، بتسمية القدماء، وفهْم الأدوات المعتمَدة، اللغوية والبلاغية، والمُحصِّلة المعرفية المختزَنة، كيف تُسوَّغ داخِل النص، والنظر عميقًا في الجنس الأدبي كيف يتفاعل بالحياة، وتستعمل الكلمات، وصور اليومي، أو كما قال الشاعر الفرنسي شارل جوليي (١٩٣٤م): «أنْ تكتب يَتطلَّب الإجابة على عِدَّة إلزامات تخص بنية الجملة، إيقاعها، وترابطاتها.» أو على غرار ما دوَّنه الروائي الأمريكي ستيفن كينغ (١٩٤٧م) في: «مذكرات مهنة»، وما يسميه ببراعة «قواعد الصياغة»، و«علبة الأدوات».

هذا الصحيح، والمُتوخَّى يَعسُر العثور عليه، ويحتاج إلى استخلاصه، أيضًا، من شتات. ولا يمكن الاعتداد به، وتبعًا لذلك اتخاذه مادة للدرس وتقرير النتائج، إلا باعتماد مَن كتبوا النصوص الكبرى، أو ما يذهب في نهجها، لكُتاب نصوصهم مُقيدة في الدرس الأدبي، ولا مُماحكة في معالجتها وبعد تقويمها، لاندراجها في تاريخ الأدب الحديث بقدرتها التوليدية، بعد امتصاصها للنصوص المؤسِّسة، واستشفاف هذه من خلالها؛ ذا ما يُعتَمد، أو هو لغو. نحسب أن من اخترنا لبناء الصرح الحديث في هذا البحث ووفق حاجاته واستقصاءاته — ثمة طبعًا غيرهم، إنما لكل باحث منهجية اختياره، وبحثُنا لا يَدَّعي الشمول، وإن رام الاختصاص، فوجب التنبيه — يَنضَوون في هذا الاعتبار النقدي الكبير؛ تؤهلهم نصوصهم وثقافتهم، وأعمارهم، وخبرتهم بالحياة، وحظوة الاعتراف بهم، أيضًا، لكي نُقدِّم تجربتهم ومنها نستقي على الخصوص. ما يسمح لنا بالقول ونحن في خاتمة مطاف هذا التقديم بأن الكاتب العربي، وهو يواصل التأسيس، والترسيخ، والتجديد، بات يمتلك الوعي بمسألة عمله الأدبي، يعكف عليه، بعد أن كان مَعنيًّا أساسًا، بالموقف، والمضمون، والواقع الخام، ومُثُله. وهو ينتزع تدريجيًّا موقعه كفنان، كحرفي، نَعتبِر هذا المسلك دليل نُضج لا مراء فيه، وبرهانًا على أن الإبداع الثقافي في مجتمعاتنا، ورغم تشابُك المُعوِّقات والإكراهات، نَزَّاع لأخْذ حقه المستقل في الوجود والتأثير. وإذا كانت المؤسَّسات هي الأقدر فعلًا في هذا المضمار، فإن الأفراد في النهاية هم المبدعون والمفكِّرون، بذواتهم، وأفق تفكيرهم المتفتح، وانعتاقهم من كل عبودية، ومناهضتهم للاستبداد؛ لأن الأدب هو الحرية في الشكل والمضمون، في الوجدان الخلَّاق لهما معًا. وإذا ما عِيب على هذا التصور نُخبوِيَّته، فإننا نقول بأنها نخبوية الاستنارة لا الظلامية والاستعباد، نخبوية تُؤمِن بالجمال قيمة لا تَقِل عن المنافع المادية، عزيزة أو مبذولة، إن لم تَفُقها، وهي تَفُوق. ومن أسف أن فسحة الأمل تَضِيق، ومُثُل تاريخنا، نحن العرب، تسقط أو تَتهافت، والكاتب الذي اعتبر نفسه طويلًا في قلب نخبة التحديث والتقدُّم، يتقلَّص ظله، بين سكون وولاء واستجداء وابتذال واستبدال قيم، بعض ما نعالجه في الفصل الأخير والمركزي من هذا الكتاب. لكن الإيمان بالكتابة، التي قُدَّت من الحق ولأجل الحرية والمعرفة، منذ بدء الخليقة، ثم جُبلت بالإخلاص للإنسان على مدى التاريخ، تضع الكاتب في صدارة مَن يدافعون بعملهم الخلَّاق، الجامع، عن عودة الأمل في هذه الأمة وإليها ومن ثَمَّ يكون الاهتمام بعمله، بالصيغة المقرَّرة هنا، جزءًا من رد الاعتبار له، والرهان على أحقيته، مثلما هو على ضرورة الأدب.

باريس، في ٠١ /٠٤ /٢٠١٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤