الفصل الثاني عشر

الكاتب العربي بين وعي النخبة وسقوط المثال

فذلكة

يمثل هذا الفصل أرضية تكميلية لقراءة وفحص موضوع علاقة الكاتب العربي بعمله، وتَمفصل هذا بشروط موضوعية ومتعاليات أكبر منه، فيما يظن أنه محور العلاقة، ويطمح لتجسيدها ما أمكن بمقدراته، ومن ثَمَّ لا بد من تشخيص وضع وصيرورة مُنتج الأدب، في ضوء مسار تاريخي وسوسيو-ثقافي، جعلنا المغرب الحديث مجاله؛ لأنه المكان الذي نعرف أفضل في العالم العربي، ويمكن تعميم صورته بتفاوت على باقي الأقطار العربية. المهم، أن الفعل الأدبي، بوسائطه وأدواته الخاصة (المعروض فيما سلف)، سيجد سنده في هذه القراءة، بمقاربتها من منظور علم اجتماع الأدب خاصة، كرَحِم لِتكوُّن النصوص وأفق لامتدادها.١

•••

تثير قضية النخبة وارتباطاتها وامتدادات المجال الذي تشتغل فيه من الصعوبات والإشكاليات أكثر مما يسمح برؤية متبصرة ويقود إلى فهم مُيسَّر واستخلاصات مُمكِنة. وهناك أكثر مِن سبب في هذه الصعوبة، خاصة حين يعالج الموضوع في النِّطاق العربي: أولها جِدته بحكم اتصاله بحقول ومباحث ما تزال في طَور التجريب، أو على كلٍّ فهي مُنسجِمة مع نماذج خارجة عن البيئة العربية بالدرجة الأولى، وعمومًا البلدان السائرة في طريق النمو، أكثر من توافقها مع هذه والأنماط الاجتماعية والطبقية المختلفة التي سادَت فيها عبْر العصور، وصولًا إلى العصر الحديث بِمستجَداته الهائلة. ثانيها انتماؤه إلى إطار أوسع، قد يكون الطبقة الاجتماعية، تارة، والعشيرة والقبيلة، تارة أخرى، أو تنضيدات فِئوية أخرى طَورًا، مما يجعل كل محاولة للتحديد وتوطيد المفهوم في علاقاته المتشابكة مع امتداداته وتأثيراته عُرضة للابتسار والاضطراب المفاهيمي والمنهجي. ثالثها، وليس آخرها، كون هذا المفهوم وُجِد وما يزال في نقطة تَقاطُع بين تيمات ومَدارات مُتعدِّدة، محكوم مرة بالنظرة والتحليل التاريخي، ومرة بالتوصيف الاجتماعي والتَّمركُز الاقتصادي، وبالوضع الاعتباري الثقافي، وهي جميعها مناسبة وضرورية، لكنها تتضمن في الوقت نفسه دلالة أيديولوجية، بالمعنى القدحي، بحكم إحالتها على الطبقية والفئوية المُستغِلَّة أو المتحكِّمة في القرار والثَّروة.

بيد أن أكبر صعوبة في مُعالجة موضوع كهذا، علاوة على تَذبذبه المستمر، هي المُتمثِّلة في انسيابيته إن لم نَقُل انزلاقه المستمر في الوقت الذي يشهد فيه العالم تَحوُّلات مثيرة على المستويات كافَّة، في قلبها الصِّيَغ والمفاهيم التي استتبَّتْ في العقود الأخيرة من القرن الماضي أدوات لفهم هذه الخانة الملتبسة ومعْيَرَة وضعها بين الهياكل والبنيات الرائدة في المجتمع. هكذا لا يمكن للمفهوم أن يُؤخَذ بداهة إلا عند الذين جَمدت عندهم أدوات التحليل، أو يَرتدُّون إلى حِقَب خالية؛ أي أصبحت في حُكم الماضي، أو هم بطريقةٍ ما يَتشبَّثون بمنظومات فكرية وأيديولوجية بات الواقع خِصمًا لها، وانتمَت إلى مرحلة حَكمَتها إواليات وسادت فيها تراتبيات اجتماعية هي أقرب إلى أمسِ منها إلى حاضر متسارعِ التغيُّر، وهو الأغلب على ما نرى. من هنا يحتاج كل محلِّل لهذه الظاهرة إخضاعها بأكبر قدر إلى التنسيب، من جهة، وإلى الأخذ بعين الاعتبار تاريخيتها، أو ما كان قد استقر منها ويسمح، بالتالي، بفهمه وتأويله من نواحٍ عدة.

نحن نميل إلى هذا، ونزيد قائلين إنَّنا نحب أن نختار من الموضوع واحدًا من تمثيلاته المختلفة، لا نَدَّعي بتاتًا أنها تَنوب عن غيرها، فكل عنصر ينفرد بخصوصيته لا محالة، وفي الآن عينه يتعذَّر فصله عن شجرة أنسابه المُؤصِّلة له، الموطِّدة لشرعيته أو لا يكون. نختار الكاتب، أو الكُتَّاب بوصفهم يُمثِّلون إحدى الشرائح المتميِّزة والقديرة والتي شَغلَت في مختلف المجتمعات مواقع متقدمة، وعبَّرَت في مراحل حاسمة من تاريخ الإنسانية عن مواقف مؤثِّرة، سواء بإبداعاتها، أو بما نادت ودافعت عنه من قِيم دَفعت عنها الثمن الباهظ. مما يُعزِّز هذا الاختيار عندنا ارتباط هذه الفئة شِبه الدائم بموقع الريادة التي تروم التغيير أو الإصلاح، وتنشد التجديد في مجالها الخصوصي، بانسجام مع أُفق فكري وحياتي يريده للمجتمع، أيضًا.

إن وضع النخبة — من المناسب أن نُنبِّه إلى أننا نعني في الحقيقة نُخبًا عِدة لا واحدة، وأن الحديث عنها بصيغة المفرَد لا يفيد ضرورة الإفراد، فكل طبقة تملك نخبتها، وضمنها اختياراتها التي تطرحها وسيلة لعلاج أَوصَاب المجتمع، وتحقيق نهضته عدَا الصراعات بينها، إلخ … (وجُملَتها حصَره عبد الله العروي في مُصنَّفه المعلوم «الأيديولوجية العربية المعاصرة») — نقول: إن وضع النُّخبة في أقطار العالم العربي قاطبة ارتبط تاريخيًّا، وأساسًا، بمبدأ الإصلاح، نفسه الذي سمح لها بأن تتبلور وترسم استراتيجيتها وتَصوغ دعاواها، وباختصار فإن الخطاب الإصلاحي الذي انطلق منذ القرن التاسع عشر في المشرق العربي، لينتقل لاحقًا إلى مشرقه، تأهَّل به رعيل من المُفكِّرين والدعاة السياسيين والفقهاء ليشغلوا دور النخبة ويرتادوا مُجتمعات كانت تتردَّى في التَّخلُّف، بعد أن خرجت من التَّطوُّر التاريخي وأصبحتْ نهبًا للانحطاط وتَضييع السيادة.

ويُمثِّل الكُتَّاب نواة مركزية وسط النخبة العامة للمثقفين، بتباين الاسم الذي أخذته هذه الفئة الواسعة بين الماضي والحاضر، ولدى هذه الأمة وتلك. ففي فرنسا، مثلًا، ومنذ ما عُرف بقضية الضابط دريفوس الشهيرة (١٨٩٨م)،٢ والتي نجم عنها أول موقف كان الروائي والمُساجِل الكبير ميل زولا (E. Zola ١٩٠٢–١٩٤٠م) قد فَجَّره بمقاله التاريخي: J’accuse (إني أتهم) (جريدة L’aurore ١٣ يناير١٨٩٨م)٣ ضد الذين أدانوا الضابط اليهودي، من دولة ومجلس حرب، وغيرهم، ومعه أصبح لفظ أو تسمية «المُثقَّفين» مرتبطًا بالبيانات والإدانات واتِّخاذ مَواقف مُحدَّدة من العصر وأحداثه. كان فردناند برونتيير مدير La revue des deux mondes وردًّا على بيان إدانة صادر من المجموعة النصيرة الداعية لتبرئة دريفوس في وَجه مُعادي السامية، قد اتجه في مقال له بالمجلة المذكورة إلى نحت اسم les Intellectuels لتعيين مَن يعتبرهم نوعًا من النبلاء: «الأشخاص الذين يعيشون في المختبَرات والخزانات، وهذا في حد ذاته يفضح مسلكًا منحرفًا من غرائب عصرنا، أقصد المَزعم الذي يرفع الكُتَّاب والعلماء والأساتذة والفلاسفة إلى مَصافِّ رجال خارقين.»٤ انطلاقًا من هذه القضية لن يظل الشأن العام حكرًا على الحُكام ورجال السياسة، بل يتعداهم إلى أولئك الذين يُفترَض أنهم مُعتكِفون على مخطوطاتهم، أو مُعلَّقون في أبراجهم العالية، فئة الكُتَّاب والمفكرين، حمَلة القلم عمومًا. ما جعل فرنسا طيلة القرن الماضي مسرحًا لمواقف المثقَّفين في قضايا تُعَد اليوم تاريخية، أثارت ضجة في وقتها، مرتبطة بكبار أعلام الأدب والفكر، وتَبلوَرت من خلالها تيارات أيديولوجية وفَنية وفلسفية، تقع في صدارة تراث الحَداثة المتوارَثة، لنتذكر أندري جيد، والثورة السوريالية، ومُؤتمر كُتَّاب ١٩٣٥م، سارتر، وريمون آرون وقضية الأدب الملتزم، وتداعيات حرب الجزائر على الساحة الثقافية الفرنسية، ولا نَنسى أخلاقيات ألبير كامي، ثم الامتدادات الملتهبة والانقلابية التي أعقبت حركة ماي ١٩٦٨م، وكان لها ما بعدها في إطلاق تيار فلاسفة وعلماء اجتماع جُدُد (ألتوسير، فوكو، بورديو، بموازاة كُتَّاب ونُقَّاد الحداثة الأدبية، بارت وسوليرس على الخصوص) وصولًا إلى ما بات البعض يُطلِق عليه «عهد نهاية المثقفين».٥ أسماء وتيارات وعلامات اتَّسعَت وترسَّخَت بها رُقعة التأثير الفكري في مجتمعها، وأبْعَد منه حيث وجدت أصداءها القوية في الخارج العربي والأمريكي اللاتيني، في بلدان كانت نُخبُها الوليدة والجديدة تُصارِع أوضاعًا مُحنَّطة ويسعى فيها كُتَّاب مُحدَثون لانتزاع مكان تحت الشمس، بقول خطابهم في وجه السُّلطة المُكرَّسة.

لقد ارتبط وعي النُّخبة في العالم العربي بِخطَّين مُتتاليين تاريخيًّا، ومُتفاعِلَين فكريًّا وأيديولوجيًّا، واتخذ الكاتب تدريجيَّا موقعًا موجِّهًا ومؤثِّرًا بينهما، أمكنه أن يَتعزَّز مع تزايد انتقال الثقافة الغربية وتعبيراتها الحداثية المختلفة، هذه التي أسهم الكُتاب بقسط وافر في إنجازها. تَجسَّد الخط الأول في حركة التفكير لإصلاح أحوال العباد والبلاد بما يعيد للأمة فلاحها، وُيقوِّم اعوجاجها، وينقلها إلى فلك التقدُّم، أو ما سُمِّي عمومًا بمطلب النَّهضة والتجديد، وهذا بالاستناد إلى مرجعية دينية ودنيوية، سَلفية أصولية وغربية مُستحدَثة، وناهضة على إعلاء قيم الحرية والمساواة ومفهوم العقل والتجربة الحِسية والعقلانية المادية وبناء مؤسَّسات الحق والقانون. واتخذ الخط الثاني هذا المذهب مرجعًا له من نواحٍ عِدَّة عندما انطلق في حركة المطالَبة بالكفاح الوطني من أجل استرجاع السيادة من المستعمر، أولًا، وفي مرحلة ثانية لدى الشروع في وضع لَبِنات الدولة الوطنية. ولا يهمنا بالدرجة الأولى، هنا، استقصاء محتوى الحركتين بِقدْر ما يَعنِينا وضعهما بمثابة المثال والنموذج للنخبة التي أوكلت لنفسها ريادة الإصلاح، ثُمَّ في مرحلة لاحقة التَّخلُّص من رِبقة السيطرة الأجنبية، مع الاستفادة في الآن عينه من ثِمار التَّقدُّم الحاصل بها، ماديًّا وثقافيًّا. وسوف تصبح درجة القرب أو البُعد من هذا المنال جزءًا مما يُحدِّد هوية النُّخبة، هنا وهناك، في العالم العربي والإسلامي، ويطبع اختياراتها من نواحٍ شَتَّى. بل علينا أن نعتبر أن مسألة العلاقة مع مُنجَزات الغرب المادي ومنظومته الفكرية الوضعية، شَكَّلَت فيصلًا في كسر الانسجام الشكلي لدى النخبة الواحدة فقادت إلى تَعدُّديتها، وبالتالي تنوُّع آفاق التأويل والحلول لدحر التَّخلُّف والاستبداد وصياغة المستقبل. أضِف إليه أن خروج الثانية من رَحِم الأولى هو خطوة في طريق تجدُّد النُّخب، وتَعدُّد برامجها، وعلى الخصوص تحقيق تطوُّر أكيد في نوعية الريادة وثقافتها التي لم تَبقَ محصورة في المجال التقليدي، بل صار انتسابها إلى الأفق التجديدي أكبر وأنسب.

في هذا المناخ، وفي ظل شروطه ومُقوِّماته، ووفق مسار أصحابه، وبحساب برامجهم وتَطلُّعاتهم، كانت فئة الكُتَّاب تتوالد خارجة عمومًا من عباءة الفقهاء، تارة، ومُنبثقة من الرَّغبة في التعبير عن ذات خَفِيَّة تهمس أكثر من أن تجهر، وهي تعرف حدود عالَمها وإكراهات محيطها، تارة أخرى. إن مفهوم الكاتب، شأن المُثقَّف حديث في المجال الثقافي العربي، وإلى وقتنا ما زال يفتقد إلى وضع مُتميِّز (Statut) يمكن الإحالة إلى ضوابطه، اللهم الالتزامات التي ستصبح معلومة له، وفي السياق الذي وُلِد منتسبًا إليه منذ البداية، نعني الخَطَّين الأوَّلَين اللذين سيحكمان مَساره وهُويَّته، من غير أن يكون هناك احتفال شديد الخصوصية كما ينبغي بأدوات عَملِه ومراميه الذاتية. لقد ظهر الكاتب وهو يَنتمي إلى المجتمع العام، أولًا، الذي رأى فيه شذوذًا، ولم يرسم نهجه ولا مرماه، وبالتالي لم يعترف به إلا كفقيه إضافي بهندام حديث، بينما كادت النُّخبة النافذة تَصدُّه، وهي لم تَقبَله شريكًا في سياسة إصلاح الرعية إلا من ناحية الولاء لها، والترويج للقيم والأهداف الموكول إليها هي أولًا شَرْحُها وتوطيد أسبابها.

نحن هنا إزاء مُفارَقة فاضحة؛ إذ من حيث تَتطلَّع النُّخبة الإصلاحية الوطنية، الفقهية والسياسية لِلتدَثُّر بِلبوس العصر الحديث، مُسايَرة والتماس أسباب تحديث وتطوُّر، بدَت وهي تعرقل أشكالًا وهياكل تنتمي حقًّا إلى هذا العصر. نعتقد أن مرجع المُفارَقة كامِن في تكوين الهيمنة الغالب عليها، والذي باسمه تُعتَبر أنها المالك الأجدَر بالريادة وقول الخطاب، ولا تَقبل بسواها شريكًا، وفي أحسن الأحوال رديفًا وسندًا تابعًا، لا أكثر. إن محمد عبده، ورفاعة الطهطاوي، وطه حسين، وسلامة موسى، وأضرابهم، لم يُنظر إليهم كمُنتِجي قول خصوصي ولكن كأصحاب قضية ودعاة إصلاح، ولو عُدنَا إلى أثر أدبي شهير لمن لُقِّب «عميد الأدب العربي»، نَعنِي كتاب «الأيام» لوَجدْنا أنه اعتُبِر من زاوية دلالته على السيرة العصامية والتعليمية لصاحبه وليس لخاصيته التعبيرية الأدبية كَسِيرَة ذاتية، وقول فني مخصوص من أدب حديث كان يَتأسَّس. وقبله كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» للطهطاوي، الذي وإن جال بنا في باريز وكشف عن طباع ومَدنِيَّة أهلها، كان هدفُه تربويًّا خاصًّا، وسكت فيه صاحبه عن لسان حاله الشخصي، فهو ما أُرسِل مرافقًا لبعثة محمد علي، ولا دَبَّج مُصنَّفه لذات، وإنما لجماعة. الجماعة هي النخبة الحاكمة، أولًا، والنخبة الأزهرية المُتنوِّرة، وبعدهما النخبة المراد تكوينها لتنفيذ مَهام الإصلاح والتقدُّم.

كذلك الشأن لو نَظرْنَا إلى كُتَّابنا المغاربة الأوائل، وهم قِلَّة في النهاية، قياسًا بجمهرة الفقهاء، لنا أن نقتصر على أبرزهم، عبدالله إبراهيم، محمد بناني، عبدالرحمن الفاسي، من الرعيل المؤسِّس. إن هؤلاء، ومن حَذا حَذْوَهم، وهم خِرِّيجو المؤسَّسة العلمية التقليدية، وتَربَّوا بعد ذلك في حضن الحركة الوطنية، وكانوا فيها رادَة، لم يَفطِن وَسطُهم إلى كتاباتهم، تحديدًا إلى قصصهم، وهم مِن رُوَّادها في أدبنا المغربي، ولا أوْلى لها اعتبارًا كخطاب أدبي ذي توصيفات فنية محدَّدة، وما نحسب أنهم، هم بدورهم، رغم مبالَغات سابقة لنا في مباحث أكاديمية نَتحمَّل وِزْرها اليوم، وهذه مناسَبة سانحة لِنقْدِها؛ ما نحسب أنهم ذهبوا إلى القصة ليصبحوا في عِداد المنشئين البارزين لها، المُوطِّدين لصرحها، بالأشكال والمَضامين المرصودة لها، ولو كان الأمر كذلك، كما نجد عند محمود تيمور في مصر، مثلًا، لما انقطعوا عنها، لا شك اتخذوها، (كما سبق أن أكَّدْنَا في أبحاثنا السابقة)،٦ مطية لإبلاغ الرسالة المنوطة بجيلهم، بوصفهم أفرادًا يَعدُّون أنفسهم من النخبة الإصلاحية والتنويرية، ثم الوطنية، ولا نشك، أيضًا، أنهم وقد قَضَوا منها وطرًا تركوها، رُبَّما، لِما رأوه أنفع، أرادوها أن تُبوِّئهم الصدارة مع النخبة، وهي ذاتها طَوَّعتْهم على منوالها، قد ضربوا عُصفورَين بحجر واحد، ولو وهمًا. ورُبَّ قائل إنهم وَجدوا طريقة مُتفرِّدة ليخرجوا من ظل الاسم الغُفل وعمومية الانتساب إلى رعيل السلفيين والوطنيين، وبالتالي لِيتميَّزوا وسط هذا الرعيل، فنقول: إنهم ما غفلوا لحظة واحدة أن ما يمكن أن يحقق خَطْبهم هو اعتناق رسالة الإصلاح، قلبًا وقَالبًا، بالشكل القصصي ومادته ومضمونه، فكانوا دُعاة بدورهم، وقبل كل شيء، لا كُتابًا، وهل كان بمقدورهم حقًّا، بل وبمقدور مَن تلاهم من أبناء جيل الاستقلال أن يفعل غير ذلك؟!

يمكن استخلاص مُحصِّلَتين؛ أولاهما: أن نشأة النُّخبة الحديثة في المجال المغربي ارتبط بفكرة الإصلاح، وأن أي فصيل يطمح الانتساب إليها، والتميُّز في وضْعِها، وضمنه مسئوليتها لا بد أن يقبل بأخلاقها، وينطق بخطابها، أو مضمونه إلى حدِّ التماهي، أحيانًا، وثانيهما: أن يَدين لها بالتبعية؛ أي لا يستطيع أن يكون بذاته، وإنما محتميًا بهيبتها، ووضعها المتميز، تُسبِغه عليه، ويَرُد الجميل، لنقل بالعبارة الحديثة يُسدِّد الاشتراك بالعمل سكرتيرًا أدبيًّا لديها، وهذا واحد من الجُدارن الصَّمَّاء التي اصطدم بها الكاتب في المغرب، أحسب أنه ما زال يصارعها في الوقت الحاضر، رغم كل ما حصل من تغييرات حقيقية أو مزعومة في البنية السياسية، ومن اهتزاز في التراتبيات المعهودة. الحقيقة أن الكاتب أو مَن في حكمه استطاب وقتًا الإقامة تحت ظل هذه التبعية، الوحيدة التي أهَّلتْه للرِّفْعة الاجتماعية. فمن جهة، كانت شخصية الفقيه ما تزال لها حظوتها وتأثيرها النافذ غير القابل للمنافَسة في البنية الذهنية لمجتمع مُحافِظ، وهم ينتمون إلى الجذع المشترك للسلفية والوطنية، فأي سطوة لديهم؟ انظر إلى مثال الشيخ العربي العلوي، وعلَّال الفاسي، إلى الأخير بالذات، رغم إلمامه بالثقافة العصرية، كان مَهيب الجانب أكثر، بحكم وطنيته، لا شك في ذلك، ولكنه في نظر أتباعه، هو كذلك بالفعل؛ لأنه عالِم فَذ من علماء جامعة القرويين العريقة.

ومن جهة ثانية، لم يكن المجتمع المغربي، لا في مَطالع الأربعينيات، حين انبجست المحاوَلات الواعدة الأولى للنصوص الأدبية الحديثة، ولا غداة استقلال البلاد بعد منتصف الخمسينيات وما أعقبها مباشرة، قد أصبح متوفِّرًا على محيط مختص للتلقي الثقافي تنتعش فيه الأعمال الإبداعية ويتهيأ معها لأصحابها وضْع اعتباري مُعيَّن، كما نقول بلغة اليوم. لا يُخفِّف مِن قسوة هذا الواقع إلا وجود بعض المنابر المحدودة في صورة مجلات وصفحات متفرِّقة تُعْنى بالشأن الفكري الأدبي، وعُدَّت حاضنة للتجارب الوليدة في الفنون الأدبية والتيارات الوافدة. بيد أن هذا الوضع لم يكن ليسمح لأصحاب القلم الجُدُد بانتزاع اعتراف كامل ضمن النخبة الوطنية المهيمنة، ولا التَّوفُّر على جمهور مُتلَقٍّ بالشكل الكافي بل والممكن. فعلاوة على أن الفقيه يستمد هيبته من العِلم اللَّدُني، فالمستوى التعليمي لعامة الناس لم يساعد على خلق شروط استقبال وتمكين للكاتب تحيطه بنظرة رمزية، وتدمج الكُتَّاب في الزُّمرة العالمة، إحدى مكوِّنات النسيج العام للنخبة الوطنية خلال الاستعمار وغداة الاستقلال.

خلال السنوات الموالية لاستقلال البلاد، وبدءًا من منتصَف الستينيات تحديدًا، بات بالإمكان الحديث عن فئة الكُتَّاب التي تبحث لها عن مكان في مساحة الحضور والتعبير الفَوقِيَّين والرمزيين، وهذا من حيث العدد والعطاء. لم يحدث هذا، طبعًا، خارج منظومة التَّراتُبِية والهيمنة شِبه التامَّة للرُّقعَة السياسية وخطاباتها «مُحكمة التنزيل». وقد فَرضت هذه الأخيرة تقسيمًا ثنائيًّا بدَا أنه لا رجعة فيه، وغير قابل للاستئناف، قضى، بحكم الصراع القائم وقتئذٍ مع السُّلطة الحاكمة، وأيديولوجية شَعبوية وتَقدُّمية فضفاضة بشطر المجتمع، ووضعية البلاد عامة، إلى طبقتين لا توسُّط بينهما، ولا إمكانية لأي حوار أو تَصالُح: المستغِلُّون؛ أي القصر الحاكم وحاشيته (المسمَّى تعميمًا بالمخزن) والقوة السياسية والبورجوازية (كذا) المناصِرة له، تَعيَّنَت بعد انفصال جناح المهدي بن بركة عن باقي فصائل حزب الاستقلال، أبي الحركة الوطنية؛ يقابلهم، بالطبع، المُستغَلُّون، يَقودهم مؤسِّسو الجناح الذي حَمل اسم «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» مع مؤتمر الدار البيضاء (نوفمبر ١٩٥٩م)، وشهد أكبر تَحالُف بين سياسيين ونِقابِيِّين وممثِّلين للمقاوَمة وجيش التحرير، بوصفهم جميعًا كتلة أرادت أن تَظهر مُتجانِسة، لتواجه ما نَعتَته إذْ ذاك ﺑ «الحكم المُطلَق»، رافعة شعارات مناهَضة الاستبداد والتلويح بمَطالِب دستورية واقتصادية واجتماعية، ذات طبيعة جذرية، وهو ما أطلق منذئذٍ مسلسل صِدام عنيف بين السُّلطة والمُعارَضة استمر عقودًا، ولا حاجة لتكرار عرض مآسيه ولا مآله الأخير. نرجو أن لا نُؤاخَذ على الاختزال، من هذه الناحية، ولا على تكثيف الصورة، فقبل هذه المحطة بوقت طويل؛ أي مع مطلع القرن الماضي، ثم في منتصَف الأربعينيات، انبرت النخبة المَغربية للمطالَبة بإصلاحات دستورية، وكذلك فَعَل محمد بن الحسن الوزاني في مَطالبه المتقدمة بالمناداة بالديمقراطية، وإلى جانبهما، حركات صغيرة صَبَّ نشاطها في اتجاه إرجاع السيادة مع تحقيق شروط عَيش كريم، جمعتها أدبيات حزب القوات الشعبية.

إن المبتغى من رسم هذه الصورة هو تَبيُّن «التخندق» الذي تمَّ للكُتَّاب والمثقَّفين عامة وراء التقسيم الموصوف، والذي إنما استنسخ موقف الصراع والمواجَهة بين قُوَّتين، بين الحكام والمحكومين المقهورين، وتحوَّل لاحقًا إلى صراع شامل يجمعه الزوج يمين/يسار. اليمين تُمثِّله السُّلطة بتركيبها المتنوع، والقُوى المحافِظة المتحالِفة معها، ذات المصلحة المشتركة، نفسها التي ستُوصَم طويلًا بالرجعية، في مُقابِل اليسار، حامل مشعل التقدمية والقِيم النِّضالية والثورية (كذا) قبل أن تنقسم نُخبَته الكبرى إلى «نُخَيْبات» مُتناحِرة، قاذفة بعضها البعض بأقذع التُّهم، مُوجِّهة السهم القاتل إلى نحر من سَتُسميه اليسار التقليدي، ليس عندها أكثر من مدافع عن البورجوازية الصغيرة، فيما راحت تَترنَّح فيما سمَّاه لينين ﺑ «مرض الطفولية اليساري» (كذا)!

قد تبدو هذه الصورة اليوم مُركَّبة من عناصر ميكانيكية، وشِبه «كاريكاتورية»، لكن الجيل الذي عاش هذه المرحلة، وخاض مَعاركها، واكتوى، أيضًا، بأزماتها، يعلم أنها حقيقية حتى العظم. أمَّا ما حدث في العقود الخمسة الأخيرة ففيه ضرْب كبير من العجب والضَّنى لمن صاروا كُتَّابًا فعلًا. اقتضى الأمر أن يكون الكاتب في الطليعة، في صف المستغِلِّين، ولا ينطق إلا باسمهم، وفي الغالب جهارًا، وبأيسر السُّبل. اقتضى أن يغمس قلبه وقَلمه في هموم الجماهير والطبقة العاملة، لا موقع له خارج وعيه، ولا وعي إلا بنصرة الكادحين (كذا). بعبارة أخرى، فإن وضْعَه ككاتب ضمن عائلة النُّخبة اليسارية الكبرى رهنٌ باعتناق دليل سير الالتزام، وهو في الحقيقة مُدوَّنة غير مكتوبة، ولا تتحدث عنها إلا أدبيات عامة، شأنها شأن النخبة التي يطمح الكاتب أن ينضوي في صَفِّها، موجودة وهلامية في آنٍ، ضد الاستبداد ولا تَقبَل أن يُؤتَمر بغير قولها. لنعلم بأن هذا الوضع لم يكن قسرًا دائمًا، وأن الكُتَّاب أنفسهم هم سَليلُو الطبقة الوسطى، قيد التكوُّن بمعناها الحديث، وهم إنما تَجاوبوا مع ظرف حياتهم، ومشاعرهم المتنازِعة بين واقع غُبن وحلم مُشوَّش، تضطرم فيه الذات ويَتباعَد أمامها مُناها؛ لذا تنتفض القصص والقصائد ضِد القهر والحرمان، وتَرشَح بغضب صارخ يَتطابَق إلى حدٍّ بعيد مع شعارات أهل النُّخبة الناطقة باسم المستغِلِّين، ويُمثِّل رخصة مُرور إلى حِياضها المحروسة بإحكام. لا عجب إذا كانت هي مَن يمنح الشرعية للكاتب، وليس بالضرورة نبوغه أو موهبته الأصلية. وإذا كان التزام الكاتب هو التَّعاقد الأخلاقي والأيديولوجي بينه ومجتمعه فهو كذلك تَعاقُد مضمَرٌ مع الثقافة السياسية المُهيمِنة، ثقافة وأيديولوجية اليسار، ما هَمَّت الآن مضامينها وتفريعاتها، فيما الأهم تمثيلها لوعي المرحلة بمستلزماتها النِّضالية لمواجَهة قوى الاستبداد والمُحافَظة والرَّجعية. إن مؤتمر اتحاد كُتَّاب المغرب الذي انعقد بمدارس محمد الخامس (ربيع ١٩٧٣م) جسَّد بأوضح صورة، وأقطع دليل، التَّقاطُب بين معسكرين ونُخبتَين، لم يكن الكاتب في الحقيقة إلا جَبهَتها الأمامية في حُمَّى معركة يُخطِّط لها مَن يعتبرون نفسهم دهاقنة السياسة، وتُشحَذ فيها جميع الأسلحة إلا سلاح الأدب، نَصَّ الكاتب الذي ظل مُغيَّبًا عقودًا ليس في هذه المنظمة وحدها، بل وفي تمثيلات عديدة نَصَّبت نفسها لسان المثقَّفِين والثقافة وما فعلَت إلا توسيع مجال الهيمنة والإلحاق، مع استعمال ما يُناسِب مِن خطابات وصِيَغ توطيدًا لهذه النخبة بالذات، الكاتب منها وتابع، في آنٍ، إلى أن طفح الكيل …!

في مجتمع تغلب عليه الأُمِّية، وتضيق فيه فرص الحركية الاجتماعية المشدودة إلى تقاطبات اليسار واليمين، وقليلًا بينهما، لم يكن الاختيار متاحًا دائمًا للكاتب، اللهم إلا لفئة قَرَّرت أن تُسخِّر قلَمها من البداية للسُّلطة، مُنفصلة على نقيض مَوجَة الرفض والإدانة مُمثَّلة في مضمون الكتابات الملتزِمة والمناهِضة لكل منبر ومَوقِف رَسمِيَّين. في مجتمع بخاصِّيَّتيه تَينك بدأ الكاتب، سواء بالانتماء المباشر إلى هيئة تُمثِّله، أو غير المباشر؛ أي بالتعاطف، وهو كثير، أو بما يَبثُّه في نصوصه، يَتطلَّع إلى وضع امتيازي كان يرى أنه جدير به. لقد دفعته مجموعة حيازات ثقافية وقيمية، وأحيانًا شخصية إلى الاقتناع بالوجود مع رعيل النخبة، هذه التي لم يكن لها من تعريف إلا هوية المُعارَضة والرفض والإدانة، وما شَاكَل، مما هو مُناوِئ للسُّلطة الحاكمة، وكل انزياح عن هذه المواقف يُهمِّش صاحبه إن لم يُصنِّفه في موقع الخائن لها؛ أي يطرده من «جَنَّتها». وفي الوقت نفسه كان يُساوره الشك، لكن من غير أن يقطع بأي يقين، مُفضِّلًا الاحتفاظ بالوهم، خير من مواجهة حقيقة كون النخبوية بعيدة المنال، وعليه أن يبحث عنها في مظانها؛ أي في الأدب الذي يَدَّعي به وصلًا، وإلا أي معنى أنه كاتب؟

إن طرح هذا السؤال يُحيل إلى مستوًى آخَر من معالَجة وضْع النخبة بالنسبة للكاتب، بوصفه عضوًا متميزًا، أو يطمح للتميُّز في مجتمعه. هو المستوى الذي كان يَتطلَّب أن يُتاح للأدب، للثقافة أن تَتوفَّر على وضع مستقلٍّ بها تتحكم في بنائه بكيفية فاعلة، لا ذيلية أو شكلية. وبالطبع، يكون الكُتَّاب فيه هم أصحاب القرار والمعيار، لا أي سلطة من خارج النص ووصية عليه وعليهم. في هذا السبيل اتَّجَه الكاتب يلاحق وهمًا آخر، أنسب له من غيره، عندما شرَع يُولِي اهتمامًا جديًّا بصياغة عمله، ويُعوِّل عليه أكثر، شكلًا فَنيًّا ودلاليًّا، لنقل صوته الخاص، بالطرائق والرؤية الملائمة لإبداعه. من المُلفِت حقًّا أن يتوازى هذا النزوع مع مرحلة سادَ فيها قمْع رهيب على المستوى السياسي، كُمِّمَت فيها الأفواه، وتقلَّص مجال التعبير؛ أي أصبحت نخبة المعارَضة الوصية خارج التأثير والتأطير المباشِرَين، فاضطر الكاتب، الفنان، إلى العكوف على عمله، وخاصة إلى تأمُّل وجوده وتجربته وفق ظروفه ورؤيته الخصوصية. وإذا كان هذا العامل في الحقل الثقافي لم ينقطع بتاتًا عن المحيط وملابساته من كل نوع، فإنه، وبالمقابل، راح يشق لنفسه بدأَب طريقًا مُستقلَّة من شأنها صنع كيانيته، وتَفرُّده، بغية الاعتراف به بين النخبتين المُتواجِهَتين، اللتين توهَّم بعض الوقت أنه عضو بارز فيهما.

الواقع أن هذا التَّغيُّر يتوازى مع تَحوُّل عام انقلب إليه مشهد القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهيمنة، والمتصارعة؛ حيث أخذت الحركة تَدبُّ في أوصال تركيب نخبوي طال جمودُه، لتنضم إليه وتُزاحِم فئات جديدة ذات تكوين مُغاير للجيل السابق عليها، ولا تتسلسل بالضرورة لا من الأوليغارشية الحاكمة، ولا من المعارَضة التاريخية، إنما من مَصدرَين أساسين؛ أولهما: محيط تقنوقراطية المكاتب والدواوين الحكومية، لا تَستعمل مُطلقًا خطاب النُّخب التقليدية، وغير مَعنِيَّة بثقافتها، اللهم إلَّا في الجزء الجمعي المشترَك، وتدين للغة الأرقام والمؤسَّسات الدولية، فضلًا عن سلطان الدولة التي تتشخصن تدريجيًّا فيها وتسيِّرها. ثانيهما: فئة مَن يُسمَّون بأبناء ثقافة المقاوَلة وتدبير المُقاوَلة، ولا شيء غير فكر المُقاوَلة، ولهذه قامُوسُها التِّقَني الصِّرف، المتعالي عن الصراع الاجتماعي، وهي بطريقة اشتغالها، وتحكُّمها في دواليب التسيير الاقتصادي، الخاص، أولًا، والعمومي، ثانيًا، تسعى لفرض ذاتها نخبة، قُلِ النخبة المؤهَّلة دون غيرها البالية في زمن يُغرغِر الكل مُحذِّرًا أنه «زمن العولمة»!

وإذا كانت النُّخب التقليدية، المعترَف بها، قد أخذتْ تُعاني نفسُها من حركية في التراتبيات والقِيم المتوارَثة، وهي ترى فئات جديدة أو بديلة، هجينة، أصولًا وثقافة ومنظورًا، تقفز إلى الواجهة والتحكُّم بدلها، فماذا يمكن القول، والحالة هذه، عن فئة الكُتَّاب الذين لا يَتوفَّرون بشكل جَدِّي لا على اعتراف النخبة السياسية المستقرة، المُمتهِنة لخبرتهم، ولا على ما يحتاجون إليه مِن تبجيل اجتماعي وإقرار بدورهم كمُنتِجين لخيرات رمزية جمالية، في مجتمع يبدو وكأنه مُصمَّم على مناصبة القراءة أشدَّ العداء، ونسبة الأمية فيه ما تزال مُتفشِّية بالمقاييس الدولية؟ ولم يَبْدُ أن النُّخب الجديدة تُولِي بدورها حرصًا على إدراج الشأن الثقافي والإبداعي في «دفتر تَحمُّلاتها» ما عدا للتزيين أو بطرق فولكلورية ومهرجاناتية، مطبوعة بالإسفاف والفجاجة، دَعْكَ من التعالي، إن لم نَقُل الازدراء بالمثقَّفِين، ذوي التكوين والأرومة العربيتين أساسًا، ما دام القائمون على «الماركتينغ» الثقافي الفني الحديث بالمغرب كلهم فرانكفونيون قلبًا وقالبًا، منسلخون تقريبًا عن محيطهم، وهذا نوع جديد لتعريف النخبة، يقتضي هُجْنَتها وتغرُّبها التام.

هكذا، ازدادت غربة الكاتب المغربي وعجزه عن تحقيق الوضع الاعتباري المَحلوم به، وضع نخبة مُعترَف بها وقادرة على التأثير بأي شكل في محيطها. لم يَبقَ له إلا مجاله الأصلي، كتابته يُغذِّيها ويتغذَّى روحيًّا. لا شك أن هذا — من باب المفارقة — ساعَد على اغتناء الأدب المغربي وخريطة الثقافة المغربية عمومًا، غدا معه النص المجال الوحيد تقريبًا للتفوق ومطمح النخبوية، وانصرف إليه الأديب والفنان وهو واعٍ بأن المسافة بين التخييل والوهم والواقع تكاد تَنمحي وهو ينتقل فيها، أيضًا، بلا أوهام وبها معًا، سيان. في الآن عَينِه ووجَد نفسه، في الآن عينه، ينفصل تدريجيًّا بدوره عن الجذر الاجتماعي الأول لمَنتُوجه، قد تَخفَّف كثيرًا من «عبء» الالتزام، إن لم نَقُل إنه فسخ العقد الضمني، المبدئي والأخلاقي المُبرَم مع هذا الدستور العرفي، إما لأن مَن هم أكبر منه تَخلَّوا قبله عن وِزْر «المسئولية التاريخية» من أجل (كذا)، أو بسبب انقشاع الوهم من وراء التغيير المنشود، والأثر الذي يمكن للكتابة أن تفعله من أجل (كذا). في الحالتين لقد حصلت «خيانة» مشتركة، هنا وهناك، وعلى الأصعدة كافة. غيَّرت النخب القديمة جِلدَها، والجديدة تربَّت على أنها حِرباء، ولها قِيمٌ وأخلاق مختلفة. مَهلًا، تبدو كلمة خيانة مثيرة ولا شك، تَحمِل نبرة تخوينية واضحة، وشائعة على الألسنة، لكنها في هذا السياق لا تعني أكثر ولا أقوى من الدلالة على تَغيُّر وضع، وآخر استجَدَّ مكانه فبدَّل رسالته وسُننه، معها قدوم جيل يريد أن يُقنِّن الأشياء وفق مقتضيات زمن حديث يَدَّعي امتلاك مفاتيحه، ويرغب في الإجهاز على أسلافه. والنخبة/النخب الجديدة لن تُخِلَّ بأي التزامات ما دامت أنها لم تتعهد بشيء. السابقون استمدَّوا امتيازهم، نُخبَويَّتهم من سُلطة أخلاقية ووطنية، غيرهم إدارية، غيرهم علمية وثقافية نوعًا ما، وهم الجُدد، يُعَوِّلون بدل منهج الديموقراطية والتغييرات الثورية على الاستحقا-قوقراطية (La méritocratie) التي ليست في الحقيقة سوى باروديا للديموقراطية — هذه التي تتناقض لدى البعض مع فكرة الديموقراطية أصلًا، التي تعني المساواة العامَّة في أوضاع البشر، في حين أن النُّخبة مرادف للتفوُّق والامتياز، للصفوة، للثروة، ومثله — استحقاق يفتح عندها فرص الترقية الاجتماعية؛٧ أليس هدف الحركات الاجتماعية الجديدة في النهاية هو الاندماج في البنيات المُسيطرة على مقاليد الحكم والاقتصاد٨ حتى ولوظهرت نُخبة السُّخرة (Classe valet de l’Oligarchie)٩ ما هَمَّ عندها أن تكون طفيلية، وحتى مرتهنة للأجنبي، ومستعِدَّة «لأن تنقلب من النقيض إلى النقيض.» لأن تتماهى «مع أجهزة القمع المادي والقانوني والسياسي والفكري.»١٠

لِنَقُل، برسم الختام، وبدون أن نُمعِن في استنتاجات بعيدة، بأن الوضع الممكن للكاتب، حسب تطلُّع الانتساب إلى نخبة رائدة، ومؤثِّرة في المجتمع، ووفق مبادئ التنوير والإصلاح القديمة، ثم على قاعدة التغيير الاجتماعي المأمولة منذ حقبة الستينيات وما تلاها، كل هذا قد ولَّى تقريبًا، أو خفَّت موازينه، وهذا ليس بالضرورة لأن الكُتَّاب تَنكَّروا لما اعتبروه في السابق مُهمَّتهم التاريخية (كذا) بل لأن الشروط الموضوعية التي كانوا يُغذُّون فيها معتقداتهم قد تبدَّلَت تقريبًا رأسًا على عقب، على الأقل من حيث الشَّكل، في الداخل والمُحيطَين القومي والدولي، فالعدالة الاجتماعية، والديموقراطية، ودولة الحق والقانون والمؤسَّسات، الموضوعة على جدول أعمال الهيئات السياسية المناضلة ومعادلاتها من المجتمع المدني، والكُتاب جزء من تنظيم هذه الأخيرة، حتى ولو نَشدوا التَّفرُّد دائمًا، وحَلَا لهم التغريد خارج السرب؛ تلك المطالَبات وغيرها «ابْتُذِلَت» نوعًا ما إما باستجابات صورية لها، أو بترْضيات وصفَقات سياسية مع النُّخب المعارِضة أمس (ما سُمِّي بحكومة التَّراضي التوافُقي، جزء منها) ولأن نُخَبًا جديدة نزلَت إلى سوق البحث عن النخبوية لا تَستعِمل قاموس الأسلاف، وجدول أعمالها تِقْنَوي براغماتي، خالٍ من الأيديولوجيا، في الظاهر على الأقل. ما لنا لا نضيف بأن نُخَب الأمس شاخَت، ولم تَعرِف كيف تصنع بدائل مناسبة تَقوُد تَركِتَها نحو مستقبل مشرق!

وسط خريطة التحوُّلات هذه ينتقل الكاتب في المَغرب مِن براديغم «الالتزام» إلى براديغم «الاغتراب» وليس بالمعنى الفلسفي بالضرورة، وهو يحس أن الجميع تَخلَّى عنه، ولا أحد مُستِعد للتعاطِي معه بجد، أوَّلُهم مُجتَمع عَزوفٌ عن القراءة، وطبقة حاكمة وسياسية إن اعترفَت بالكُتَّاب والمثقَّفِين فَلتسخِيرهم وتدجينهم، خاصة وقِسم كبير منهم إما رفعوا راية الاستسلام، أو انكفَئُوا على كتابتهم يَرون فيها الملاذ والبديل عن كل شيء. وإذا كان مُهمًّا جدًّا للكاتب أن يُمَأسِس وضْعه، ويتعامل بكل الجد مع إنتاجه بوصفه مجاله الحيوي حرفته، فإن هذا المجال يُلزمه دائمًا بموقف ملتزم، للمقاوَمة والدفاع عن القيم النبيلة للإنسان والوجود. بذا يُوجَد في صف النخبة، ونخبويته، حتى ولو ظَلَّت بين مَد وجَزر، مَطلوبة مجتمعيًّا وإنسانيًّا؛ لأنها ضرورية وتُجسِّد بعض المثال، بهاء الحلم الذي لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدونه. إن نخبة الكاتب في أي مكان هي أخلاقية مُحدَّدة لا تقبل التنازل، بها يكون أو هو اللاجدوى. ذاك ما نَبَّه إليه منذ نصف قرن مَضى الكاتب الأخلاقي المجيد ألبير كامو، Camus حين قال: «لو كان للكُتَّاب أقل تقدير لمهنتهم، فسيرفضون أن يكتبوا أينما كان. إنما يبدُو أن المطلوب هو أن نَحْظى بالإعجاب، ولنُعجِب ينبغي أن ننبطح؛ [أليس كذلك؟!]».١١
١  يمكن الرجوع إلى كتابنا «عزلة النص» حيث عناصر الطرح الأول لهذه المسألة، (يقرأ الفصل المعنون: صفة الكاتب، ص ص١٨٣–٢٢٧).
٢  Winock, Michel, Le siècle des intellectuels, Ed du Sueil, points, paris, 1999, p. 20.
٣  المصدر السابق، ص٣٢.
٤  المصدر السابق، ص٣٢.
٥  ن، ص٧٥٧.
٦  الكتابة السردية، مصدر سابق.
٧  Lasch Cristopher, La révolte des élites et la trahison de la démocratie. Traduit de l’anglais par Christien Fournier, Flammarion, Paris 2007, p. 39.
٨  المصدر السابق.
٩  نفسه، ص١٥٣.
١٠  غليون، برهان، العرب وتحوُّلات العالَم، من سقوط جدار برلين إلى سقوط بغداد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص٢٠٦.
١١  انظر: ألبير كامي، خطاب السويد، أو الفنان وزمانه، تقديم وترجمة أحمد المديني، دار أزمنة، عَمَّان، ٢٠١٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤