العودة إلى مصر

١٩٧٤–١٩٧٨م

رحلتُ عن إسبانيا رحيل أبي عبد الله، آخر ملوك غرناطة، عنها. كان ذلك يرجع في أكثره لفراقي آن ماري. ظنَنتُ أنها مجرد علاقةٍ عابرة، ولكن الأيام أثبتَت غير ذلك. وددتُ لو مكثتُ أكثر في ذلك البلد الجميل، ولكن كان هناك واحدٌ من ذوي الاتصالات المهمة يسعى للحصول على ذلك المكان، ونجح في ذلك. وقد حضر هو والمدير الجديد، الرجل الفاضل الدكتور أحمد هيكل، الذي سَعِدتُ بالتعرُّف عليه.

وتلوَّنَت أسابيعي الأخيرة في مدريد بفاجعةٍ إسبانية؛ إذ نجح مناهضو فرانكو في اغتيال كاريرو بلانكو، رئيس وزرائه، الذي كان يعتمد عليه اعتمادًا كبيرًا. وكان حادثًا مأساويًّا؛ فقد وضعوا كميةً كبيرة من الديناميت في الطريق الذي تعبُره سيارته كل صباح، وفجَّروها حين مرَّت السيارة على مكان المتفجِّرات، فكان أن انقذفَت السيارة عاليًا، وتعدَّت المبنى المقابل ذا الأدوار الستة، لتسقط في الشارع المجاور.

وفي أواخر ديسمبر أخليتُ طرَفي من المعهد ومن الشقة، وفي ٣٠ منه توجَّهتُ إلى مطار باراخاس لأخذ الطائرة إلى روما. لم تكُن البواخر قد استأنفَت سيرها بعدُ، كما أن الحجز من روما إلى القاهرة على مصر للطيران لم يتأكَّد، نتيجة عدم ردِّ مكتب روما على طلباتنا للحجز. وكان في وداعي الدكتور العبادي وزميلي ظافر. وفي مطار روما، كان مكتب مصر للطيران خاليًا، وكان موعد الطائرة المصرية بعد ساعاتٍ عديدة. فكَّرتُ في الاتصال بأخي في القاهرة لأخبره أن وصولي غير مؤكَّد، وكنتُ قد كتبتُ إليهم بالموعد. وغرِقتُ في حَيرةٍ بالغة ويأسٍ قاتل. وهداني تفكيري أن أتصل بزميلي في المكتب الثقافي بروما، علَّه يمكن أن يفعل شيئًا، وبدَّلتُ بعض الدولارات بعُملاتٍ إيطالية، وبحثتُ عن رقم أكاديمية روما وأدَرتُ الرقم. وسأَلتُ مَن ردَّ عن زميلي، فأجاب أنه في إجازة، وأن المتكلم هو الدكتور يوسف كامل، المستشار الثقافي، مدير الأكاديمية، وسأل عما أريد، ولمَّا شرحتُ له مشكلتي قال إنه سيبعث لي من يخرجني من المطار بفيزا لدخول إيطاليا، وإنه يُسعِده استضافتي بالأكاديمية لزيارة روما. وشكرتُ الدكتور كامل على كرمه، وقلتُ إن ذلك صعبٌ حيث أسرتي في انتظاري، وإن عليَّ أن ألتحق بعملي بوزارة التعليم العالي في أول يناير. وعندها قال المستشار: لا تقلق، إذن ستسافر على طائرة اليوم. وكنتُ أسمع عن مدى الصداقات التي يتمتَّع بها الدكتور كامل في إيطاليا بأَسْرها؛ ولذلك استبشرتُ خيرًا بما قال. ولم أنسَ أبدًا عَونَ الدكتور كامل لي في ذلك الأمر.

وبعد ساعات، حضَر موظَّف إلى مكتب مصر للطيران، فتوجَّهتُ إليه وشرحتُ له موقفي، فأجابني بأنه مكلَّف بحجز مقعدٍ لي في الطائرة. وقام بالإجراءات المطلوبة، وتسلَّمتُ بطاقة الركوب. وعندما حان موعد التحميل، عرفنا أن الشركة تلقَّت مكالمةً بوجود قنبلة في الطائرة، فبدأ تفتيشٌ دقيق لها استغرق وقتًا طويلًا. وحين تأكَّد كذب البلاغ، بدَءوا ينادون على الركَّاب، وتقدَّمتُ ببطاقتي، ولكن الموظف المصري الذي كان موجودًا أخذ البطاقة، وأعطاني واحدةً أخرى قائلًا إن تذكرتي قد تحوَّلَت إلى الدرجة الأولى. وكانت سفرةً ممتعة بجانب أحد سفرائنا بالخارج، مع الخدمة الممتازة لراكبي الدرجة الأولى. وحين وصلنا مطار القاهرة الدولي، عشنا الواقع مع رؤيتنا الجنودَ بالمدافع الرشَّاشة يحيطون الطائرة. وخفَّف من قلقي أن وجدتُ أخي الأكبر عند سُلَّم الطائرة، واصطحبني إلى داخل المطار حيث وجدتُ أخي الأصغر أيضًا، وكان يقضي فترة تجنيده. وسرعان ما أنهيا إجراءاتي وأوراقي، وخرجنا بأمتعتي وأنا فيما يشبه الذهول من تلك النقلة الهائلة من أوروبا إلى مصر، والوجوه الأليفة تُحيط بي من كل مكان.

وركبنا عربةً إلى شقتنا بالعجوزة، وكنا في الفجر والصباح الباكر، ورأيت عربات الطعام الشعبي تقف على النواصي، ففرحتُ أن الحياة تسير في القاهرة على النحو العادي، وأن هناك طعامًا للشراء والأكل ما يزال. ووصلنا إلى المنزل المألوف، وصَعِدت إلى غرفتي، وكان أول إحساس دخل إلى ذهني أنني انتقلتُ في هذه الحجرة إلى القرن التاسع عشر. كانت الحجرة مرتَّبة، ورغم ذلك أحسَستُ بالغرابة فيها من النقلة الكبيرة عَبْر يومٍ واحد. وغِرقتُ في بحر الترحيب بي مما أنساني غرابة ما حولي. ولمَّا كنتُ قد قضيت أيامًا دون نوم، حاولتُ الإغفاء وقتًا ما حتى دخل الليل.

وفي الصباح التالي خرجتُ لأداء مهمةٍ عاجلة. كان كل ما حملتُه معي من نقود هو مرتَّب الشهر الذي قبضتُه قبل عودتي مباشرة؛ فلم أكن قد ادَّخرتُ شيئًا كما هو المتَّبَع عند من يعمل بالخارج، وكنت حريصًا على سرعة تبديل الدولارات إلى جنيهاتٍ مصرية من البنك الذي لي حساب فيه، وهو البنك الأهلي، فرع ثروت. وحين نزلتُ إلى الشارع، ومشيتُ إلى محطة الترولِّي باص، أدركتُ أن تغييرًا هائلًا قد حدث في كل شيء؛ رأيتُ شبابًا من الجنسَين يمزحون بطريقةٍ فجَّة وكلامٍ قبيح لم نكن نشهده علنًا من قبلُ. وكان وسط البلد كعهدي به، وإن أقلَّ مرحًا ونظافةً. أما البنك فقد قضيتُ ساعاتٍ كيما أنجِز ما جئتُ لأجله؛ فلم يكن صديقي حلمي موجودًا يومها كي يُسهِّل لي الأمر.

وبرغم أننا قد عبَرنا القناة، وأصبحنا على أعتاب حقبةٍ جديدة، فإني قد أدركتُ أن آثار هزيمة ٦٧ قد بدأَت تظهر في سلوك الناس ومظهر المجتمع؛ فكل حربٍ مدمِّرة، وكل هزيمة تخلِّف ردودَ فعلٍ رهيبة في الناس والأوطان، ولكنها لا تظهر بالضرورة على الفور، بل تتجلى ببطءٍ وتدريجٍ لا يلحظهُ أحدٌ إلا بعد أن تستفحل الكارثة. وقد صاحبَت الهزيمة تغييراتٌ ديموغرافية كان لها عواقبها أيضًا على الأسرة والأخلاق والأعراف. أما الطبقة المتوسِّطة فقد حملَت آلامها داخلها وجاهدَت أن تُكمِل مسارها كما كانت سابقًا، حتى لو داست في سبيل ذلك على القيم والمثاليات.

عُدتُ إلى البيت كأنما هربًا من الواقع الذي شاهدتُه. وبدأتُ أستمع إلى الأغاني التي اشتقتُ إليها، وتُقتُ إلى مشاهدة الأفلام والمسرحيات التي أحبها. وفي اليوم التالي، أول عام ٧٤ توجَّهتُ لاستلام عملي بالوزارة، وقابلتُ المديرة التي رحَّبَت بي كثيرًا، وقدَّمَتني إلى عددٍ من الشبان الموظَّفين الجُدُد، معظمهم من خرِّيجي كلية الألسن في لغاتٍ متعددة، يُشكِّلون القسم الذي سأرأسُه. وأعجبَتني الفكرة؛ فقد كنا سنطَّلع على الأنشطة التعليمية والثقافية في مختلف الدول للنظر في كيفية التعاون مع تلك الدول، والاستفادة من خبراتها. وقد لزمَني وقتٌ ما حتى أتعوَّد على العمل في إدارتنا، فكنتُ أبقى قليلًا، ثم أخرج عائدًا إلى المنزل. ويبدو أن مديرتنا تعرف ذلك عمَّن يعودون من الخارج؛ فقد صبَرَت عليَّ حتى عُدتُ كما كنتُ في الماضي.

وكان الكثير من الأصدقاء ليسوا في مصر عندما عُدتُ أنا؛ فعناني ما زال في إنجلترا، وماهر الثاني في إنجلترا كذلك، وعلي ذهب منتدبًا في إذاعة طوكيو … وهكذا. ولكني سرعان ما ائتلَفتُ مع من بقي، فتناوبتُ اللقاء مع أحمد وعبد الفتاح ومصطفى وعاطف. ونجح عبد الفتاح في إشراكي في النادي الأهلي، فكنتُ أرتاح فيه قليلًا عند عودتي من العمل سائرًا على القدمَين. غير أن النادي الأهلي لم يفِ بما أريد من جلساتٍ مريحة وخدمةٍ سابغة ووجوهٍ حسان، مما أدى بعد ذلك إلى انضمامي إلى نادي الجزيرة بمساعدة أحمد، وسرعان ما لحق بي عبد الفتاح إلى هناك.

بدأتُ ألتقي بأحمد ومصطفى، في كافيتيريا فندق ماريوت، وفي جزيرة الشاي بحديقة الحيوانات. واستمتعتُ بشمس القاهرة في يناير، وبالنقاش مع أصدقاء العمر، والاستماع إلى القصص القصيرة التي يكتبها مصطفى، وظل الأمر هكذا على الحافة حتى يوم ذهبتُ إلى نادي السينما الذي جدَّدتُ عضويتي فيه. وخرجنا من الفيلم ليلًا وكانت الدنيا تُمطِر فأحالت الطرق أوحالًا، وكان من المستحيل ركوب الباصات أو العثور على تاكسي. واضطُرِرتُ إلى المشي أحيانًا، وركبتُ باصًا نزلتُ منه في شارع الجبلاية، ومشيتُ منه وأنا وحدي ألهث حتى وصلتُ إلى البيت. وكانت تلك الليلة الحد الفاصل بيني وبين هدوء الإقامة في مصر؛ فقد وجدتُ أنني لن أستطيع التأقلم ثانيةً مع وضعي السابق، وزاد في ذلك أيضًا وضوح مشاعري تجاه آن ماري؛ فبعد رحيلي من مدريد وإقامتي في القاهرة، أدركتُ مدى تعلُّقي بها، وأن الأمر ليس مجرد علاقةٍ عابرة، وإنما هي موضوعُ حياةٍ أو موت. وقد وضعتُ حياتي مع آن ماري في إسبانيا أو في أي بلدٍ آخر في مواجهةٍ مع ما شعَرتُ به بعد عودتي إلى مصر، وصارت هي رمزًا لكل ما فقدتُه وما آمل أن أحوزَه مرةً أخرى. وقد كتبتُ لها أول خطاب من مصر في ٥ يناير، وتلقَّيتُ أول خطاباتها في منتصف الشهر، وكانت بداية مراسلة لم تنقطع حتى لقائنا في نيويورك.

وقد وجدتُ أن أفضل حلٍّ للغربة التي أستشعرها في وطني هو العودة إلى «مشروعي القومي» وهو الكتابة والنشر والتحصيل الأدبي والفني، مع التركيز على اللغة الإسبانية التي تحصَّلتُ عليها، والتي لم يكن هناك الكثير ممن يكتبون عنها (حتى ذلك الوقت). وبدأتُ ذلك بترجمة قصيدة بابلو نيرودا عن لوركا، وأرسلتُها إلى مجلة الآداب اللبنانية التي نشرَتْها في أحد أعدادها. وقد تركَت هذه القصيدة المترجمة أثرًا بالغًا في نفس مَن قرَءوها، حتى إنني قرأتُ عنها بعد ذلك في الإنترنت تقريظاتٍ عدة. وقد أُعجِب القراء بفقراتٍ معيَّنة منها ما يلي:

لو أمكنَني أن أبكي من الخوف في بيتٍ مهجور،
لو أمكنني أن أنزع عينيَّ وآكلهما،
لفعلتُ ذلك؛
حزنًا على صوتك البرتقالي المتشح بالسواد،
وحزنًا على أشعارك التي تهُب صارخة.

•••

ما فائدة الأشعار لو لم تكن لليلةٍ مثل تلك الليلة
حين يطاردنا خنجرٌ مرير؟!
لمثل ذلك اليوم،
لذلك الشفَق؟!
ما فائدة الأشعار لو لم تكن من أجل الندى؟!
لذلك الركن المحطوم؛
حيث يتهيأ للموت،
فؤادُ الإنسان الكسير.

وسُرِرتُ باستعادة الكتابة والنشر، وذهبتُ إلى الإسكندرية مرتَين لتخليص أمتعتي المشحونة من مدريد. وكان وقتًا عصيبًا نظرًا لتعقيدات الجمارك، رغم أن معي مخلصًا جمركيًّا ولدينا إعفاء. وشاهدتُ كيف يقدِّم المخلِّص الأوراق والاستمارات للموظَّفين ومع كل واحدةٍ ورقة بخمسة وعشرين قرشًا. وأشار لي مرةً إلى موظَّفٍ معيَّن، وقال لي إن هذا الرجل لا يقبل أبدًا أي نقودٍ أو رشاوٍ. عندها أيقنتُ أن الناس تختلف، وأن المرجع هو الضمير. وبعد طول عذاب بين المكاتب، دفعتُ أربعين جنيهًا جمركًا على السخَّان؛ حيث إنه جديد «بالضرورة». وتم شحن الحاجيات إلى منزلي بالقاهرة. وسعدتُ طبعًا بوجود كتبي ومجلاتي وأسطواناتي وشرائطي، وبدأتُ أنغمس في القراءة والاستماع، وكان ممن وجدتُ في الإدارة من الموظفين الجُدُد أنور، الذي يهيم بالموسيقى الكلاسيكية، ومنه عرفتُ لأول مرة مقطوعات «كارمينا بورانا» التي عشقتُها بعد ذلك، وترجمتُ كلماتها إلى اللغة العربية. وبدأتُ شيئًا فشيئًا أرتب أموري وأتعوَّد على حياتي الجديدة، مع بقاء مركزها في معاودة اللقاء مع آن ماري بأي طريقة وفي أي مكان. كانت رسائلها لي تفيض شجنًا وحزنًا وأملًا في عودة اللقاء، بينما أنا أعرف مدى صعوبة ذلك في الظروف التي نحيا وسطها.

وعكفتُ على القراءة المكثَّفة أغرِق فيها همومي، وكان تركيزي على ما صدَر باللغة العربية في أثناء غيابي عن مصر، بالإضافة إلى ما جلبتُه معي من كتبٍ إسبانية وفرنسية، فقرأتُ ما أصدَر نجيب محفوظ وأنا غائب؛ حكاية بلا بداية ولا المدرس بعد فوات فرصة التحاقي بها كطالب. وهذا فضلٌ لا أنساه أبدًا للدكتور الطاهر. وقد ضَمِن لي هذان العملان الإضافيان دخلًا جيدًا، كما أنهما أطلَعاني من وجهٍ مباشر على تدهور الوضع التعليمي للطلاب إلى حدٍّ لم أكن أتصوَّره.

وعاد محمد عناني من إنجلترا أخيرًا في صيف عام ٧٥ بعد حصوله على الدكتوراه، واستقبلناه جميعًا بشوقٍ وترحاب، واستعَدنا لقاءاتِنا، وزُرناه في شقته الجديدة مع زوجته نهاد وابنته سارة. وشهدَت لقاءاتُنا معه مناقشاتٍ جادَّة حول المستقبل، وهل الأجدى شد الرحال إلى الغرب أم البقاء في مصر. وكان عناني مُصِرًّا على خوض معركة الفكر والأدب وهو في مصر. أما أنا فرغم موافقتي على ذلك لم يكن بوسعي سوى العمل على العيش في الغرب بسبب آن ماري، التي أصبح الوجود معها مسألة حياة أو موت، كما قلتُ قبل ذلك. كما كنا نُناقِش أيضًا مشروعاتنا الأدبية والفنية، فكان عناني مشغولًا بترجمة «الفردوس المفقود» لجون ملتون، علاوةً على المقالات التي ينشُرها في المجلات. أما أنا فكنتُ أركِّز على الترجمة من الإسبانية، وهو حقلٌ بكرٌ قبل أن يغزُوَه بعد ذلك خرِّيجو كلية الألسن والمبعوثون العائدون من إسبانيا.

وقد بقي عناني في مصر، وبنى مجدًا أدبيًّا تليدًا؛ إذ ألَّف عدة مسرحياتٍ تم تقديم معظمها بنجاح على المسرح، ثم أصدر عدة كتبٍ في اللغة والترجمة، وباشر على مدى أعوامٍ طويلة مشروع ترجمة شكسبير إلى العربية ترجمةً سليمة تُضاهي الأصل شعرًا أم نثرًا. وهو لم يترك دربًا أدبيًّا إلا وطرقه؛ فقد كتب دواوين شعر ومقالات نقد، وأصدر روايةً جميلة هي «الجزيرة الخضراء». كل هذا بالإضافة إلى تكوينه مدرسةً من تلاميذه الأوفياء الذين يسيرون على خُطاه في الأمانة والإخلاص لفنهم.

وكان عام ٧٦ مثمرًا بالنسبة لقراءاتي وكتاباتي، وأيضًا للرحلة الطويلة التي قمتُ بها لزيارة آن ماري. عكَفتُ على إعداد ترجمةٍ لأجمل دواوين بابلو نيرودا، والذي جمع بين قلبي وقلب آن ماري؛ «عشرون قصيدة حب وأغنية يأس». وبرغم عدم رضائي عن الترجمة بالنسبة لبعض القصائد، فقد أرسلتُه إلى دار الآداب باقتراح نشره في كُتيِّب صغير. بيد أن سهيل إدريس نشَر القصائد كلها في مجلة الآداب. ولم يكن أمامي مفَر من نَشْر الديوان في القاهرة سريعًا؛ فقد كانت الأنباء تُوحي بقرب توقيع مصر على اتفاقية برن لحقوق النشر، مما سيقف عقبةً في سبيل نَشْر أي ترجمةٍ أجنبية إلى العربية. وهكذا نشرتُ الديوان كاملًا وعليه صورةٌ لآن ماري، مع مقدمةٍ قصيرة في مطبعة العاصمة بالقاهرة من ألف نسخة، وقامت مؤسسة أخبار اليوم بطرحه لمدة أسبوعَين عند باعة الصحف فباع حوالي ۳۰۰ نسخة، ثم أعادت لي ما تبقَّى من النسخ. وقد أعطيتُ مكتبة مدبولي عددًا من النسخ باعتها كلها، وسلَّمت نسخًا منه لعددٍ من المكتبات، وأودعتُ الباقي لدى دار نشر باعته كله تدريجيًّا. وقد فوجئتُ يومًا بالأهرام ينشُر خبرًا مصوَّرًا عن صدور الكتاب مع مقتطفات منه، وأعتقد أن الدكتور لويس عوض هو من كان وراء ذلك؛ فقد كنتُ قد أرسلتُ له نسخةً من الكتاب بالبريد. وكان في ذهني دومًا أن أعود إلى تنقيح بعض القصائد التي لم أكن راضيًا عن تَرجمتِها، حين فاجأني الدكتور عناني (وكان لديه النسخة التي أهديتُها له) بإصدار الهيئة العامة للكتاب — عام ١٩٩٤م — طبعةً ثانية من الديوان دون أن أقوم بالتنقيح المطلوب. وما زلتُ آمُل بإعداد ترجمةٍ جديدة تمامًا للديوان. ومن قصائده التي نالت استحسان القُراء من أصدقائي القصيدة التالية:

ها أنتِ تلهين طَوال الأيام مع أضواء الكون،
أيتها الزائرة الشفافة،
تجيئين مع الزهور ومع المياه.
إن بكِ ما هو أكثر من هذا الشعاع الأبيض،
الذي يتفتح كالورود بين ذراعي كل يوم.

•••

دعيني أهدهدكِ وسطَ أكاليل الزهور الصفراء.
مَنْ هذا الذي يسطِّر اسمك بحروفٍ من دخان،
وسط نجوم الجنوب؟
دعيني أتذكَّركِ كما كنتِ آنذاك،
حين لم تكوني بعدُ موجودة.
وتُزمجِر الريح فجأة،
وتضرب نافذتي المغلَقة،
والمساء شبكةٌ تزينها الأسماك المكتئبة.
لقد اجتمعَت الرياح كلها في هذا المكان،
كلها،
وأسقط المطر غِلالاتِه.

•••

وتمرُق الطيور هاربةً،
الرياح، الرياح.
أنا وحدي أستطيع أن أنازِل عزيمة الرجال.
وتلفح العاصفة أوراق الشجر السوداء،
وتفك إسار السفائن،
التي أرسَت بليلٍ حبالَها في مرفأ السماء.

•••

وأنتِ هنا، لم تبتعدي،
تتجاوبين معي حتى الصيحة الأخيرة،
وتلتصقين بي كأنما بكِ خوف الدنيا،
وأحيانًا يا حبيبتي،
يمرُق ظلٌّ غريب على عينَيك الجميلتَين.

•••

والآن،
الآن أيضًا يا صغيرتي،
تُحضِرين لي أزهار العسل،
ويفوح العطر من ثنايا نهدَيك الثائرَين.
وبينما يخبُّ الريح الحزين،
ويقتُل الفراشات،
أحبكِ أنا،
وأسعَد بالتهام شفتَيك البرقوقيتَين.

•••

لكَم كلَّفكِ أن تتعوَّدي على حبي،
على روحي المنعزلة المتوحشة،
على اسمي الذي يهرب منه الجميع.
لطالما شهدنا نجم السماء يتلألأ،
ويمطر عيوننا بالقبلات.
وطالما انبسَط الشفَق فوق رأسَينا،
كأنه مروحةٌ دوَّارة.

•••

كلماتي تسقط رذاذًا عليك،
وتُهدهدكِ بين حباتها.
لكم أحببتُ جسدك اللؤلؤي المضيء،
فاعتبرتكِ سيدة هذا الكون.
سأهديكِ ورودًا فرحة،
من وراء الجبال،
وزنابقَ فضية،
وبندقًا مسحورًا،
وسِلالًا برية من القبلات.
آه …!
أشتهي أن أفعل بكِ
ما يفعل الربيع بشجرات الكَرز.

وكان نيرودا حاضرًا دومًا في قراءاتي وترجماتي ونفسي، فنشرتُ ترجماتٍ للعديد من قصائده، وخطاب نوبل، ومقابلة معه، وديوان «أشعار القبطان» كاملًا. وهو من أقرب الشعراء إلى قلبي حتى الآن.

ثم كتبتُ في أوائل العام بحثًا مستفيضًا عن خوان رامون خيمينيث؛ الأديب الإسباني الحائز على جائزة نوبل، ونشَرَته «الكاتب» في عدد يوليو ٧٦. وكنتُ أعِد العُدة للسفر إلى برشلونة حيث ألتقي مع آن ماري. وحجزتُ في الباخرة التركية مرةً أخرى، ولكن في الدرجة الأولى هذه المرة؛ فهي أرخص من الطائرة، وتُقلُّني حتى برشلونة. وكنتُ في غاية القلق من هذه الرحلة؛ فقد كانت رحلةً شخصية لا تأمين عليها من أي جانب، ولكن رغبتي في لقاء آن تغلَّبَت على كل قلق. وكنتُ قد تقدَّمتُ لامتحانٍ جرى الإعلان عنه لطلب مترجمٍ عربي لمنظمة الأغذية والزراعة في روما، وتحدَّد الامتحان في أواخر يوليو، ولكني لم أتمكَّن من حضوره لسفري في تلك الإجازة البرشلونية. ومن يدري لو كنتُ قد بقيتُ واجتزتُ ذلك الامتحان وعشنا في روما، لكنتُ قد ترجمتُ فيما بعدُ عن لويجي بيرانديلُّو وأونجاريتي ويوجين منونتالي بدلًا من نيرودا وخيمينيث وماتشادو!

وعليه، فقد حصَلتُ على إجازة لمدة ثلاثة أشهر من العمل للسفر إلى الخارج، وأخذتُ معي ما أحتاجه طوال شهرَين ونصف الشهر، وذهبتُ بالطريق الصحراوي إلى الإسكندرية، فالميناء، لأستقل الباخرة بعد الظهر.

كانت عودتي إلى إسبانيا حدثًا مهمًّا في حياتي؛ فبالإضافة إلى اجتماعي بآن ماري، هناك رغبتي في رؤية المجتمع الإسباني بعد هذه الفترة. كان الجنرال فرانكو قد تُوفي في نوفمبر ٧٥، وتولى العرش الملك خوان كارلوس، وكانت ثمَّة تغييراتٌ في نظام الحكم تبعًا لذلك، وحريةٌ أكثر مما كان عليه الحال أيام فرانكو. وكان في ذهني أيضًا إعادة الاتصال بالجديد في الثقافتَين الإسبانية والعالمية؛ فلم يكن يصلنا في مصر من ذاك إلا أقل القليل.

وفي ميناء الإسكندرية رأيتُ العجب. كان الجنود الذين يقفون على البوابات يتمهَّلون في عملهم حتى يفهَم المرء ويُعطيَ البقشيش، والغريب أنهم بعد ذلك يصيحون بعضهم ببعض للذهاب إلى الصلاة. وطبعًا كنتُ أقدِّر ظروفهم ومعاناتهم، ولكن ذلك أمرٌ غيرُ لائق عمومًا، وإن كان الذنب لا يقع عليهم وحدهم. وحين فتحوا الباب للمسافرين، حدث ما يقع دائمًا في مصر من هرولة البعض جريًا ليكونوا في أوائل الصاعدين إلى السفينة، رغم أن الأماكن محجوزة، ولا يُجدي الجري شيئًا. ووجدتُني في قمرة مع أحد اللبنانيين كان يدرس للدكتوراه في بلغاريا، وقال لي إنه متوجهٌ إلى روما ومعه سيارته على السفينة، وسيقودها من روما إلى بلغاريا لزيارة البلاد التي سيمُر عليها. وكانت الرحلة مريحةً هذه المرة، مع بعض تقلُّبات الباخرة ما بين الإسكندرية ونابولي. وكان معنا جميع المدرِّسين الإسبان الذين يعملون بالقاهرة، عائدين في إجازتهم للوطن، ومنهم من كان يعرفني. ولفت نظري واحدٌ منهم يبدو أنه تزوَّج حديثًا من مصريةٍ سمراء، كانت ترتدي فستانًا مكشوف الصدر بشكلٍ مبالَغ فيه. وكان هو كأنما يعرضها مباهيًا بها، وهي تتباهى بنفسها.

ومرَرنا بمضيق مسينا الرائع، ثم وصلنا نابولي حيث تجوَّلتُ فيها طَوال اليوم، وكذلك في جنوة. أما في مرسيليا فقد وقَعتُ في تجوالي هناك على «سكس شوب» شاهدتُ فيه بعض العروض القصيرة في كابيناتٍ مفردة تعمل بالفرنكات، ولكني وجدتُ دارًا للسينما البورنو تعرض فيلمًا اسمه Hurlements de Plaisir، فقطعتُ تذكرةً فيها، ودخَلتُ خلسة خوفًا أن يراني أحدٌ من أصدقاء الباخرة. وبدأ العرض بإعلاناتٍ ومقدمات، وبعدها استراحة. وحين أضيئَت الأنوار، فوجئ الجميع أن معظم راكبي الباخرة موجودون بالصالة، وكان ذلك إحراجًا كبيرًا، ضحك منه الكل. ولم أعلم كيف جاءوا؛ فأنا عثَرتُ على الدار بمحض المصادفة. وحين عُرض الفيلم، فوجئتُ بأن الرقابة قد رُفعَت تمامًا عن هذه الأفلام؛ فقد كانت «هاردكور» خالصًا، عرَض كل شيءٍ بلا مواربة، وبكل الطرق المتاحة لمثل هذا النوع من الأفلام الإباحية. وعرفتُ لماذا يُقبِل الإسبان عليها في فرنسا؛ فلم يكن الحظر قد رُفِع بعدُ في إيطاليا وإسبانيا.

ومن مرسيليا إلى برشلونة ليلةٌ واحدة، قضيتُها في شوق وتطلُّع إلى لقاء آن ماري وإسبانيا. ودخلَت الباخرة ميناء برشلونة في الصباح الباكر، وحين رسَت شاهدتُ آن تندفع إلى مكان الانتظار. وهاجني الشوقُ فغمَرني تجلٍّ وبُحران أغرقاني في وجدٍ صوفي. وهتفتُ بآن من على سطح الباخرة أحيِّيها وردَّت عليَّ، وأسرعتُ إلى إنهاء إجراءات الجوازات ثم الجمارك، وهُرعتُ إلى الخارج حيث تلقَّتني آن في أحضانها. وسرعان ما حملَنا التاكسي إلى الفندق الذي حجَزَت فيه آن لنا شقةً صغيرة، وكان الفندق يعمل بنظام «الشقق السياحية» المعروفة في إسبانيا، والشقة عبارة عن حجرةٍ كبيرة بسريرٍ يدخل في الحائط عند عدم الاستعمال، مع حمَّام ومطبخٍ صغير.

إجازةٌ أسطورية في برشلونة

وبدأَت الإجازة الجميلة في برشلونة، التي امتدَّت من ١٠ يوليو حتى أواخر سبتمبر. ووجدتُ شقتَنا الصغيرة رائعة، بمثابة عُشٍّ حقيقي لنا، نستكِنُّ فيه حين نعود من جولاتنا في المدينة. وبرشلونة مدينةٌ ساحرة، تجمع بين صفات مدريد وباريس، وفيها الأحياء العتيقة التي نشمُّ فيها رائحة التاريخ، كما أنها تزخر بالمتنزهات والمتاحف ودور السينما، وبها طريق «لاس رامبلاس» المليء بباعة الزهور والطيور والحيوانات الأليفة، وميدان «قطلونية» وهو قلب المدينة. وبرشلونة هي عاصمة إقليم قطلونية، وأهلها يتكلَّمون القطلونية إلى جانب الإسبانية القشتالية؛ ولذلك طالب الإقليم دائمًا بالاستقلال الذاتي، وحصَل عليه أيام الجمهورية الثانية، ولكن حكم فرانكو ألغى كل تلك الترتيبات (وبعد إقرار الديمقراطية في البلاد، حصلَت قطلونية على الاستقلال الذاتي مرةً أخرى، ولكن بعد سنواتٍ من زيارتي هذه).

وكانت آن قد أعدَّت لي بعض الهدايا التي تعرف أني أحبُّها، كما حمَلتُ لها بعض الهدايا الفِرعَونية من الحلي وخلافه، وتبادلنا الهدايا بعد وصولنا. وكنتُ أحمل معي عدة نُسخ من ترجمَتي لديوان «عشرون قصيدة حب» وكان على غِلافه صورةٌ لآن ماري، فأسعدَنا صدور الديوان بهذا الشكل، وقمتُ بإرسال نُسخٍ إلى أقسام الدراسات العربية ببعض جامعات إسبانيا، ونسخةٍ إلى الدكتور أحمد هيكل، المستشار الثقافي ومدير المعهد المصري، الذي تكرَّم وردَّ عليَّ شاكرًا.

وقضَيتُ وآن ماري أسعد أيامنا، كأنها كانت شهر عسلٍ لنا. وبدأتُ بأهم شيء وهو تأكيد العودة على الباخرة، ولم أجد مكانًا ليوم ٢ سبتمبر، فحجَزتُ ليوم ١٦ سبتمبر. ولا أدري ما يكون عليه الحال لو لم أجد أمكنةً طوال تلك الفترة! ولكن الله سلَّم.

وتواتَرَت الأيام ما بين زيارة المعالم التي تُشتهَر بها المدينة؛ كنيسة العائلة المقدسة، التي بدأ تشييدَها المعماري البرشلوني الأشهر «جاودي»، وهو الذي صمَّم العديد من المباني المتميزة بالمدينة، و«متنزَّه جوي». وتردَّدنا يوميًّا على ميدان قطلونية؛ حيث كنت أجلس لأقرأ جريدة «آ بي ثي» وأقوم بإطعام الحمَام هناك. وزرنا متحف بيكاسو وإن لم يكن به الكثير مما يُشاهَد، والحي القوطي، والحي الصيني. وهناك «القرية الإسبانية» التي تجمع نماذجَ مصغَّرة من كل مدن إسبانيا المهمة، والنافورة الضخمة التي تندفع منها المياه بأشكالٍ مختلفة تحفُّها ألوانٌ بديعة الشكل، وحديقة الحيوانات الزاخرة. وذلك علاوةُ على المطاعم والكافيتيريات المشهورة، والمحلات المتعدِّدة البضائع؛ حيث اشتريتُ هدايا وتذكارات. أما المكتباتُ فكنتُ أزورها يوميًّا تقريبًا، ووجدتُ الكثير مما ألهمَني قراءته أو الكتابة عنه.

ولم أنسَ العمل الأدبي؛ فقد حمَلتُ معي نسخةً من أشعار أدولفو بكِر وأخرى من «شاعر في نيويورك» لغرسيه لوركا، وكنتُ أترجم أجزاءً منهما يوميًّا، وأتناقش في المعاني الغامضة — وما أكثَرها في كتاب لوركا السريالي — مع آن ماري، مما جعلني أخرُج بمعانٍ جديدة لم تخطُر لي من قبلُ. وكانت تجربةً ممتعة، أن أحملَ تلك الأشعار إلى المتنزَّهات الجميلة، وأحاول نقلها إلى العربية. وكان عملي فيها حثيثًا حتى إني انتهيتُ من ترجمة الكتابَين — في صورةٍ أولية — قبل رحيلي من برشلونة. وقد سحرَتْنا قصائد بكِر، ومنها تلك القصيدة:

تسألينني ما الشعر،
وترشُقين عينيكِ الزرقاوين في مقلتيَّ.
ما الشعر؟ وأنتِ التي تسألين؟
ما الشعر إلا أنتِ.

وقد بلغ إعجابُنا بها أن خطَطنا على خاتمَي زواجنا المرتقب السطر الأخير من القصيدة.

وقد عُدتُ إلى تلك الترجمتَين مراتٍ ومراتٍ أنقِّح وأصحِّح وأجمِّل، إلى أن نُشرَتا آخر الأمر بعد سنواتٍ طويلة. وقد قُدِّر لديوان لوركا أن يُنشَر — دون قصدٍ مني — في ثلاث طبعاتٍ مختلفة؛ عن الهيئة العامة للكتاب، وعن المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة، ثم عن مكتبة الأسرة. أما ترجمتي لأشعار بكِر فقد فازت بجائزة نجيب محفوظ والخارجية الإسبانية للترجمة من الإسبانية إلى العربية في دورتها الأولى، وقيمتها المادية عشرة آلاف جنيهٍ مصري، وصدَرَت في حُلةٍ قشيبة عن المشروع القومي للترجمة عام ٢٠٠٣م.

وقد أسعدَني انفتاح العهد الإسباني الجديد على المحرَّمات الفرنكوية (نسبةً إلى عهد الجنرال فرانكو) مثل الشعراء لوركا وإرناندث وألبرتي، فكتبتُ رسالةً سريعة عن إعادة الاعتبار للوركا، وأرسلتُها من برشلونة إلى مجلة الكاتب في القاهرة، التي نشرَتْها في عدد سبتمبر ٧٦. وكنتُ قبل سفري قد أرسلتُ إلى مجلة الطليعة ترجمةً لثلاثِ قصائدَ عن لوركا، فنشرَتْها إلى جانب قصيدتَين عربيتَين عنه، إحداهما لصلاح عبد الصبور.

وكنتُ أقرأ مع آن ماري كذلك، فقرأنا رواية عائلة باسكوال دوارتي لخوسيه ثيلا وقدَّاس لفلاحٍ إسباني لرامون سندر. وقد سحرَتْني رواية سندر على قِصَرها، فترجمتُها بعد ذلك ونشرتُها. وشاهدنا العديد من الأفلام العالية الجودة الفنية في الصالات المسمَّاة Arte Y Ensayo، وكانت آن تكتب تعليقاتٍ عليها. وكنا معجَبين بالمخرج الإسباني «كارلوس ساورا» فشاهدنا له عدة أفلام؛ آنَّا والذئاب، تربية الغربان، ابنة العم أنخليكا، رحلة صيد. واشتريتُ كتابًا عن ساورا بنيَّة الكتابة عنه وتقديمه إلى المشاهدين العرب. ورأينا أيضًا الفيلم الذي كان ممنوعًا في عهد فرانكو «الدكتاتور العظيم»، لشارلي شابلن، وأعجَبَنا كثيرًا، ولكن الفيلم الذي تَرَك أكبر الأثر فينا هو «مونبارناس ١٩»، وهو فيلمٌ فرنسي من تمثيل «جيرار فيليب» ذي الصوت الساحر والتمثيل الأخاذ. ويدور الفيلم حول حياة الرسام الإيطالي «أماديو موديلياني» الذي عاش في فرنسا، وأحداثه عام ١٩١٩م، ومن هنا عنوان الفيلم. ويقوم جيرار فيليب بأحد أبدع أدواره، حين يُحب موديلياني إحدى الفتيات وتعيش معه ضد رغبة والدَيها. ورغم شهرة الفنان فإنه لا يبيع شيئًا من لوحاته، ويرفض بيعها لمليونيرٍ أمريكي؛ لأن ذلك المليونير لا يفهم في الفن ولا يقدِّره. ويُصاب الرسام بمرض الفنانين في ذلك الوقت؛ السل، نتيجة فقره وحرمانه، وتنتهي حياته وهو يمُر على المقاهي يعرض رسم الزبائن مقابل خمسة فرنكات، وتنتحر حبيبته حزنًا عليه. وبعد موته، يتهافت أحد متعهِّدي اللوحات على شراء لوحاته علمًا منه بارتفاع قيمتها بعد موت الفنان، وتُباع لوحات موديلياني الآن بملايين الدولارات. وترك هذا الفيلم أثَره عندي، فلما كتبتُ بعد ذلك عن عدد من الأفلام ذات القيمة الفنية، كان فيلم مونبارناس ۱۹ واحدًا منها.

واقتربَت الرحلة من نهايتها. وصَعِدنا إلى تل مونجويج، ورأيتُ على البعد الباخرة التركية التي سأعود عليها إلى مصر، ورتَّبنا الأمور بحيث سافرَت آن ماري إلى مدريد عشية سفري بالباخرة، على أن أتصل بها في حالة احتياجي إلى أي شيء، ومع الاتفاق بأن تزورني هي في القاهرة في الصيف القادم.

ويوم ركوب الباخرة كان هادئًا، برغم وجود المُشاحَنات بين بعض الركاب من الإسبان والحمَّالين، خاصة ذلك المدرِّس الحديث الزواج من مصرية، الذي اصطحَب معه ما يبدو أنه أثاثٌ كامل لبيتٍ عصريٍّ إسباني. وفي الرحلة، كنتُ في كابينةٍ مع أحد الأساتذة الجامعيين المصريين، وركَّزتُ على التفكير في مشروعاتي الأدبية، وكنتُ أشتري الكرَّاسات والأقلام الجميلة من جنوة ونابولي، في حين أرى الكثير من المصريين يعودون من مدن تلك الموانئ بالأدوات الكهربائية والتليفزيونات الضخمة، بينما اشترت أستاذةٌ في كلية البنات ثلاجةً كبيرة الحجم من نابولي. وفي ميناء الإسكندرية كانت الفوضى عارمة، وتحوَّلَت الباخرة إلى ميدان صراعٍ بين الجميع للتسابُق على ختم جواز السفر من اللجنة التي صَعدَت إلى السفينة لتسهيل الإجراءات، والاتفاق مع الحمَّالين على إنزال الحقائب والأجهزة إلى رصيف الميناء. وقد اعتصَمتُ بالصبر في كل هذا؛ فلم يكن معي غير حقيبتَين فيهما كتبٌ وأدواتٌ كتابية، فخرجتُ بعد وقتٍ لأجد رشدي ابن صديقة والدتي في انتظاري، وسهَّل لي الحصول على تاكسي إلى حيث وجدتُ والدتي في انتظاري، لنستقل الأوتوبيس الصحراوي إلى القاهرة.

وعادت حياتي في القاهرة من جديد، بزيادة تلك الذكريات العامرة، وأملِ العملِ في الخارج مرةً أخرى كي يلتئم الشمل مع آن ماري. وشجَّعَني نشرُ ما أرسلتُه لمجلتَي الكاتب والطليعة على مواصلة الكتابة. وعدتُ إلى من أحبهم من الكُتَّاب، فترجمتُ مجموعةً من قصائد جيمس جويس ونشرَتْها مجلة الشعر القاهرية، وكان الغرض هو تعريف القارئ العربي بإبداعات هذا الروائي العظيم في مجال الشعر، الذي اتَّبع فيه المدرسة «الإيماجية»، ولكن جاء شعره جافًّا صعب التقبُّل إلى حدٍّ ما، ثم نشرتُ في مجلة الكاتب ترجمةً لقصيدة بابلو نيرودا «وداعًا باريس»، وقد تلقَّيتُ إعجاب أصدقائي بهذه الترجمة، ومنهم أحد أساتذة الإسبانية المعروفين بتشدُّدهم في الحكم على ما يُنشر ويُترجَم عن تلك اللغة. وفيما يلي نص تلك القصيدة:

كم جميل هو «السين»،
النهر الوفير،
بأشجاره الرمادية،
وأبراجه ومِسَلَّاته.
وأنا،
ماذا أتيتُ أفعل هنا؟
كل شيء أكثر جمالًا من الزهور،
الزهور الجنوبية،
الزهور الخائرة.
هذه الأرض شفقية،
والغروب والشروق
هما محورا النهر،
يمران، ويتقاطعان،
دونما تحية،
بغير مبالاة؛
فقد تعارَفا وتحابَّا،
آلاف المرات منذ آلاف السنين،
منذ غابر الزمان.
لقد تغضَّنَت الأحجار،
وتكاثرت الكاتدرائيات الصفراء،
والمصانع الغريبة،
والآن يلتهم الخريف السماء،
ويتغذَّى على السحب والدخان،
ويقوم ملكًا أسود،
على ساحلٍ يتضمخ بالبخار.
ليس هناك أصيلٌ أحلى من هذا،
والكل يعود إلى بيته في موعده،
هذا اللون الجاف،
وهذه الصيحة الغامضة،
ويبقى الضباب وحيدًا.
والضوء الملتف حول الأشجار،
يرتدي غِلالاته الخضراء.
عندي مشاغلُ كثيرةٌ في «شيلي»،
ينتظرني «ساليناس» و«لاورا» هناك،
في وطني،
مدين أنا للجميع بأشياءَ كثيرة.
وفي هذه الساعة،
يمتد السِّماط في كل منزل،
في انتظاري،
وينتظرني آخرون ليُثخِنوني بالجراح.
وفوق ذلك،
فتلك الأشجار ذاتُ الأوراق الحديدية،
هي من تعرف أحزاني،
وسعادتي وأشجاني.
تلك الأجنحة هي أجنحتي،
وتلك هي المياه التي أحبها.
البحر ثقيلٌ ثقلَ الأحجار،
عالٍ كهذه البنايات،
جامدٌ وأزرق،
كنجمة من نجوم السماء.
وأنا،
ماذا أتيتُ أفعل هنا؟
كيف جئتُ إلى هذه النواحي؟
عليَّ أن أعود إلى حيث يحتاجونني،
كي أغمُر الأسس بمياه العماد،
كي أمزُج الرمال بالرجال،
وأتلمس المجارف والأرض؛
لأن علينا أن نفعل كل شيء،
هناك.
في الأرض التي أنجبتنا،
علينا أن نقيم أساس الوطن،
الأنشودة،
الخبز والفرحة،
علينا أن ننظِّف الشُّرَف
كأنما ننظِّف أظافر مَلِكة،
وبهذا تخفقُ في الهواء،
الراياتُ الطاهرة،
فوق الأبراج البللورية.
وداعًا يا خريف باريس،
أيتها السفينة الزرقاء،
يا بحر المحبة،
وداعًا أيتها الأنهار،
أيتها الجسور وداعًا،
وداعًا أيها الخبز المقدَّد العاطر،
أيها النبيذ المعتَّق الحلو وداعًا،
ووداعًا أيها الأصدقاء،
يا مَن أحببتموني.
إنني أرحل منشدًا في البحار،
أعود لاستنشاق الجذور،
غامضٌ هو عنواني،
أعيش في أعالي البحار،
وفي مرتفعات الأرض،
مدينتي هي الجغرافيا،
شارعي هو «أنا ذاهب»،
ورقمه «إلى حيثُ لا عَودة».

وواصلتُ ترجماتي النيرودية، فأعدَدتُ ترجمةً لرائعته المعروفة «إسبانيا في القلب»، التي كتبَها إبَّان الحرب الأهلية الإسبانية، ونشرَتْها مجلة الآداب البيروتية في يناير ۷۷. وقد تأثَّر شعراءُ عربٌ بهذه القصيدة وعنوانها، حتى إن هناك ديوانًا شعريًّا بعنوان «فلسطين في القلب». وقد تناوَل نيرودا في قصيدته جميع أحوال إسبانيا في ذلك الوقت، ووصَف قادة التمرُّد العسكري بمن فيهم الجنرال فرانكو بأقذع الألفاظ، ولكن أكثر ما يبقى في ذهن القارئ هي تلك السطور المهيبة التي ذكرتُها سابقًا:

لسوف تتساءلون،
لماذا لا تحدِّثنا أشعاره،
عن الأحلام،
عن أوراق الشجر،
عن البراكين الفخيمة في أرض موطنه؟
تعالَوا لتَروا الدماءَ تغَطي الطرقات،
تعالوا لتَروا الدماء،
تغَطي الطرقات!

وقد لفَت نظري في تلك القصيدة الطويلة أن بدأَها الشاعر بندائه الأمر «قف على»، مما ذكَّرني بالشاعر أحمد شوقي، الذي استخدم ذلك الفعل في بداية الكثير من قصائده.

وكان عام ٧٧ مزدحمًا بالأحداث الثقافية والعاطفية والعملية في حياتي والسياسية في حياة الوطن. كانت مديرتنا قد انتُدبَت مستشارةً ثقافية بالخارج، ورغم أن المسئولين الكبار بالوزارة يعرفونني، فقد تضاءل الأمل بأن أُنتدَب مرةً أخرى بالخارج، كما كنتُ أتعشم، بعد قضائي أربع سنواتٍ بمصر؛ ولذلك ركَّزتُ جهودي في سبيل العثور على عمل بالخارج؛ حيث يمكن أن أعيش مع آن ماري. وقد أعلنَت الأمم المتحدة في أواخر ٧٦ عن إجراء امتحان لاختيار مترجمين للعمل في مكاتبها، وخاصة في نيويورك. وصدَر إعلان آخر يطلب مصحِّحي تجاربَ طباعيةٍ عربية في الأمانة العامة للأمم المتحدة بنيويورك. وقدَّمتُ في الإعلانَين، وقُبلتُ للدخول فيهما. وقد ساعد على قَبول طلبي لامتحان المصحِّحين عملي في ذلك التخصُّص في مدريد، حين كنتُ أراجع تجاربَ مطبوعات المعهد، وقدَّمتُ شهادةً بذلك، وكان مطلوبًا خبرةٌ سابقة بذلك العمل. وتوالت أفضال الله؛ فقد أعلن اليونسكو أيضًا عن طلب مترجمين عرب، وتقدَّمتُ لامتحانه الصعب، ثم أرسل لي صديقي عبد الفتاح، الذي يعمل في الرياض بالمملكة العربية السعودية، عقدًا جاهزًا للعمل هناك مترجمًا. وفي نفس الوقت، تقدَّمتُ لمسابقةٍ عقدَتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة لاختيار دارسين لتحضير رسالة ماجستير، فدكتوراه، في مجال تدريس اللغة العربية للأجانب. وثانيةً نفعَني عملي في مدريد لتدريس العربية للأجانب هناك في التقدُّم لتلك المسابقة، التي تضمَّنَت العديد من الاختبارات المضنية في اللغتَين العربية والإنجليزية، وانتهت — أخيرًا — بنجاحي فيها، وتقديم عرضٍ لي للدراسة والعمل بالجامعة في نفس الوقت، ولكني كنتُ مُضطرًّا لانتظار نتيجة امتحانَي الأمم المتحدة، وقد أنجزتُ الامتحانَين اللذَين تقدِّم لكلٍّ منهما — وخاصة الترجمة — آلاف المتقدمين. وأدَّيتُ كل الامتحانات التحريرية قبل حضور آن ماري للقاهرة في يوليو ٧٧. وكانت نتيجة المترجمين قد ظهَرَت ونجحتُ فيها، وأديت الامتحان الشفوي، وكنتُ أنتظر النتيجة النهائية.

ومن ناحية الكتابة والنشر، فقد كتبتُ مقالًا قصيرًا عن اكتشاف حجر رشيد، أرفقتُ به صورة الحجر كما صوَّرتُه في المتحف البريطاني، وأرسلتُه إلى مجلة الهلال. وقد أسعدَني نشرُ المجلة له في يناير ٧٧، وحين ذهبتُ بعد ذلك لصرف المكافأة عنه وجدتُ أنها ١٥ جنيهًا وليست الخمسة جنيهات المعهودة. وكان ذلك نتيجة سياسة رئيس تحريرها في ذلك الوقت؛ رجاء النقاش. وفي فبراير أو مارس فوجئتُ بمساعدٍ للأستاذ النقاش يسكن قريبًا مني يحضُر إلى منزلي ليُخبرَني أن النقاش يريدني أن أذهب لمقابلته في دار الهلال. وذهبتُ بالفعل، واستقبلَني الأستاذ رجاء بالترحاب، وذكَر لي أنه يريد مني مقالًا بالهلال كل شهر طَوال فترة رئاسته لتحريره؛ فقد كان مقرَّرًا أن يتركه في يوليو ٧٧. كما طلب مني مقالاتٍ وترجماتٍ أخرى لمجلاتٍ ثقافيةٍ عربية. وسَعِدتُ بذلك واعدًا أن أبذل كل جهدي لتقديم مقالات الهلال في موعدها. وهكذا كان الأستاذ رجاء النقاش دائمًا؛ يرعى الكُتَّاب ويشجِّعهم، ويُعطي المؤلفين حقوقًا مجزية، وكثير من الكُتَّاب العرب المشهورين الآن خرجوا من عباءة رجاء النقاش، والبعض — للأسف — لا يذكر ذلك أو يتناساه، ولكن الأستاذ رجاء قد كوَّن مدرسةً من مريديه وتلاميذه، وهو الأمرُ الذي نادرًا ما يفعلُه كبار المثقَّفين اليوم.

وقد كتبتُ في هلال الأستاذ النقاش منذ أبريل حتى يونيو ثلاثة مقالات؛ لورد بايرون في الأندلس، شاعر إشبيلية العاشق، إسبانيا في حياة همنجواي وأدبه، كما أعطيتُه بعد ذلك بحثًا عن «المصادر العربية في القصص الأوروبي»، الذي نشَره في مجلة «قضايا عربية» البيروتية، وتقاضيتُ عنه خمسين جنيهًا كاملة! وأعطَيتُ للأستاذ رجاء أيضًا في أواخر عام ٧٧ بعد أن ترك الهلال ترجمتي لروايتَين قصيرتَين عن الإسبانية: «لا أحد يكتُب للكولونيل»، تأليف غرسيه ماركيز، و«صلاة على رُوح فلَّاحٍ إسباني» لرامون سندر. وقد غيَّرتُ عنوان رواية ماركيز لغرابته وجعلتُه «الخطاب المنتظَر»، وهو تقليدٌ متَّبع في أمريكا مع الروايات المترجمة وإن كان البعض يرفضه. وحين اشتُهر ماركيز بعد حصوله على جائزة نوبل وتهافَت المترجمون العرب على مؤلفاته، صدَرَت تلك الرواية بعنوان «ليس لدى الكولونيل مَنْ يُكاتِبه»، والترجمة غير دقيقة؛ فالعنوان العربي يحتمل أن يقوم الكولونيل بالكتابة أو أن يتلقى الرسائل، بينما العنوان الإسباني يعني أن يتلقى الخطاب الذي ينتظره من سنواتٍ بتسوية معاشه باعتباره من قُدامى المحاربين. وقد نشر الأستاذ رجاء الروايتَين مترجمتَين في الملحق الأدبي لجريدة «الراية» القطرية عام ٧٨. ولما كنتُ قد نشرتُ قصةً قصيرة لماركيز في مجلة الكاتب القاهرية في عدد أغسطس ٧٧ عنوانها «ليلة الكروان»، فإني أزعُم أنني أول من ترجم ونشر بالعربية للكاتب الكولومبي العظيم، الذي اكتشفتُه في برشلونة عام ٧٦.

ولذلك حين أتت آن ماري لزيارتي في يوليو ٧٧ كنتُ مرهقًا من كثرة العمل وضغط المواعيد، وقلقًا من احتمال السفَر واقترابه مع سعيي له، ولكن الزيارة كانت ناجحة، وقضَيناها على خير وجه، خاصةً بعد أن علمَت آن باحتمالات سفَري القريب. وزُرنا مرةً ثانية المُتحَف المصري، وتردَّدنا على نادي الجزيرة؛ حيث أحبَّت آن «شفشق الليمون» الذي يقدِّمونه هناك.

وفي سبتمبر ۷۷ تلقَّيتُ برقيةً من الأمم المتحدة بنجاحي النهائي وترشيحي لوظيفة مترجم، حسبَ ما يشغُر من أماكن. وبعد ذلك ذهبتُ لأداء الامتحان الشفوي لوظيفة مصحِّح التجارب. وفي أكتوبر تلقَّيتُ خطابًا من اليونسكو بنجاحي في امتحان الترجمة، ويسألون عن إمكان وجودي للاستعانة بي في المؤتمرات التي يعقدها اليونسكو بصفة مترجمٍ مؤقَّت. وقد أخطأتُ عند ذاك بأن أرسلتُ لهم بأني قد عُيِّنتُ بالأمم المتحدة، ولكني أفضِّل وظيفةً باليونسكو بباريس حين تُوجَد. وبطبيعة الحال، لم أسمع منهم بعد ذلك أي خبر.

وفي وسط كل هذا، واصلتُ الكتابة، فأرسلتُ مقالًا عن الشاعر القروي الإسباني ميجيل إرناندث إلى مجلة الأقلام العراقية، وآخر عن الشاعر أنطونيو ماتشادو إلى مجلة آفاق عربية العراقية أيضًا. وقد رأيتُ مقال مجلة الأقلام منشورًا وأنا في القاهرة، أما مقال ماتشادو فقد أعطانيه منشورًا أحدُ الزملاء العراقيين العاملين في نيويورك بالأمم المتحدة بعد ذهابي إلى هناك.

وفي فبراير ۷۸ تلقَّيتُ عرضًا بالتعيين في نيويورك بقسم الترجمة العربية، مع بيان جميع المعاملات والظروف لهذه الوظيفة، وهي بعقدٍ محدَّد المدة، لسنتَين. وقد فكَّرتُ في الكتابة إليهم طلبًا للتعيين في القسم التابع لهم في جنيف بسويسرا بدلًا من نيويورك، ولكن الجميع حذَّروني من ذلك بأنه قد ينتهي بإلغاء العقد المعروض. وأبرقتُ لآن ماري على الفور، وتلقَّيتُ تهنئتها. وكانت الأمانة العامة قد طلبَت مني الاتصال بمكتب الأمم المتحدة بالقاهرة، لترتيب الفيزات المطلوبة وتسلُّم تذكرة السفر، على أن أخطِرهم بموعد وصولي. وعليه، فقد حجزتُ السفر بحيثُ أمُرُّ على مدريد وأقضي فيها أربعة أيام، ثم أصل إلى نيويورك في ١٩ مارس ۱۹۷۸م.

وفي مدريد، كانت آن ماري في استقبالي، ونزلنا في شقةٍ سياحية مثل التي كانت في برشلونة. وكانت عودتي إلى زيارة مدريد حدثًا فريدًا، مكَّنَني من إدراك التغييرات التي طرأَت على الناس والمدينة بعد زوال حكم الجنرال فرانكو. وتردَّدتُ مع آن على الأماكن التي شَهدَت لقاءاتنا الأولى، وزرتُ مكان إقامتي السابقة في شارع رافاييلا بونيَّا. ولمَّا كانت آن ماري مرتبطةً بعقدٍ للعمل في مدرستها حتى نهاية العام الدراسي، فقد اتفقنا على أن تسافر إلى نيويورك في يونيو؛ حيث نتزوج رسميًّا في القنصلية المصرية هناك، وفي الجامع الإسلامي في نيويورك.

وأكَّدتُ الحجز على شركة خطوط TWA وعرفتُ هناك لأول مرة أن المسافر عَبْر المحيط له حقيبتان بالعدد وليس بالوزن، وقد أسعدَني ذلك لأن معظم ما أحمل هو الكتب التي تزن كثيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤