رحلاتٌ أدبية وفنية

باريس

في خلال الفترة التي سبقَت عام ١٩٦٩م، لم أكن قد غادرتُ مصر، أو فكَّرتُ في مغادرتها، ولم أزُر إلا المحافظات التي ذكرتُها في سياق هذه الأوراق. وفي إسبانيا زُرتُ جميع المقاطعات الإسبانية تقريبًا، بما تحوي من آثارٍ قيمة ومتاحفَ شهيرة، بما فيها الجنوب الذي يضُم أعظم الآثار العربية، وذلك خلال السنوات التي تُقارِب الخمس التي قضيتُها في عملي بإسبانيا. وبعد انتقالي للعمل في نيويورك وزواجي هناك، كنا نذهب لزيارة الوطن كل عامَين. ولمَّا كانت زوجتي فرنسية من مقاطعة نورماندي في شمال البلاد، كانت الرحلة تشمل مصر وفرنسا. وفي مصر، زُرنا جميع الآثار في القاهرة مرات، ثم قمنا أخيرًا عام ١٩٩١م، بالرحلة النيلية من الأقصر إلى أسوان، فذهبنا إلى أسوان في قطار عربات النوم ليلًا، فلم نشاهد إلا القليل من مناظر الطريق، وما زلتُ أذكر الصحراء المترامية على الجانبَين بعد شريطٍ صغير جدًّا من الأرض المزروعة في بعض بلدان الصعيد، بينما تتناثر هنا وهناك بيوتٌ صغيرة كالأكواخ يعيش فيها الفلاحون. وفي أسوان، أخذنا الباخرة السياحية التي تُقِل مجموعةَ سياحٍ إسبان ومعهم مرشدٌ مصري يُتقِن الإسبانية. وكانت قمرتنا رائعة، والبوفيه متنوعًا، والصحبة جميلة. وفي أسوان أخذنا قاربًا نوبيًّا إلى معبد فيلة، وطفنا بالجزيرة، ثم شاهدنا عرض الصوت والضوء، وكان رائعًا. وفي اليوم التالي طرنا إلى معبد أبي سمبل، وشاهدنا التمثالَين الهائلَين والمعبد الذي وراءهما. ثم تحرَّكَت الباخرة في طريقها إلى الأقصر. وزرنا في الطريق إدفو وآثارها، وإسنا حيث عبَرت الباخرة السد الذي هناك. وفي الأقصر، مكثنا عدة أيام، زُرنا في صباحٍ باكرٍ معبد الكرنك، وجُلنا في أبهائه الفخيمة، واستمَعنا إلى شرح «هشام» المستفيض بالإسبانية، وعُدنا إليه مرةً ثانية في المساء كيما نشهد جلال المنظر وسط الأضواء. وتذكَّرتُ كيف دعا الموسيقار محمد عبد الوهاب مصطفى النحاس وصحبه إلى هنا، وشدا لهم بأغنيته «الكرنك»، حين علم أن الزعيم المصري غير مُعجَب بها، وكيف أنه غيَّر رأيه بعد تلك السهرة الفنية. وزُرنا أيضًا معبد الأقصر ببهوه الجميل المزيَّن بالتماثيل. وفي يومٍ آخر زُرنا وادي الملوك وبعض المقابر السفلية فيه، ويومًا آخر معبد حتشبسوت وما فيه من رسوم وألوانٍ زاهية كأنها رُسمَت بالأمس. وفي طريقنا لإحدى تلك الزيارات، توقَّفنا لمشاهدة تمثالَي ممنون (وهو الاسم اليوناني للفرعون أمينحتب الثالث، ويُسمِّيهما العرب «الصنمان»). وقد قضَيتُ وقتًا طويلًا أتفحَّص التمثالَين، وأحاول قراءة ما كتبه الرحَّالة الأقدمون عليهما من كلماتٍ وأبياتِ شعر؛ فقد كانا منذ أيام الرومان من الآثار التي يطوف بها «السياح» حين زيارتهم لمصر. وقد دهشتُ لمنظر التمثالَين تحيط بهما الحقول من كل جانب، ثم قرأتُ أنهما ما تبقَّى من معبدٍ ضخم كانا يقفان على أبوابه.

والآن، وبعد تَجوالي بين العديد من البلدان، أجد أن تلك الرحلة النيلية هي من أفضل الرحلات الممتعة التي يمكن القيام بها، وأصبحتُ أوصي أصدقائي ومعارفي جميعًا بها. وقد زاد من استمتاعي بها، اصطحابي الووكمان الصغير معي وسماع أغنية النهر الخالد؛ إذ الباخرة تطوي صفحته، وأغنية الكرنك؛ إذ نحن نتجول في أبهاء المعبد، مما يُضفِي على مشاعر المرء فيضًا حيويًّا ومتعةً فنية يستعصيان على الوصف.

وكما أن آن ماري شجَّعَتني على استكشاف الأقصر وأسوان، فقد ردَدتُ لها الفضل بأن طفنا معًا بكل أنحاء فرنسا، نتلمس تاريخها المليء بالأحداث، ونقتفي أثَر أدبائها وفنانيها. وكان البدء في باريس ثم نورماندي بطبيعة الحال، فكانت نقطة وصولنا إلى فرنسا هي العاصمة باريس، وأسرة آن تقطُن مدينة الهافر في نورماندي شمالي فرنسا. وفي كل مرة نزور باريس، كنتُ أتعمَّد اختيار فندقٍ مختلف في منطقةٍ مختلفة، كي أتعرَّف إلى حياة كل تلك المناطق. وباريس هي كما قال همنجواي بحق «عيدٌ متنقِّل»، فكنتُ في كل مرة أرى جديدًا وألهث من مكانٍ إلى آخر ومعي خريطة المدينة ودليل مترو الأنفاق الذي لا أستخدم غيره. كانت أولى سياحاتي «العميقة» في شارع الشانزليزيه بطوله — وما يتفرَّع منه من طرقاتٍ عديدة. كان في نظري أجمل شوارع العالم، كما أن ميدان الكونكورد هو أجمل الميادين، تتوسَّطه مسلة كليوباترا، وتُثبِّت أركانَه التماثيل الأربعة. وأروع منظرٍ هو عند المسلة المصرية باتجاه البصر نحو قوس النصر؛ حيث الطريق تحفُّه الأشجار على الجانبَين يبدو كأنه منظرٌ رسمَته فرشاة فنانٍ انطباعي، ويتغيَّر المشهد لتغيُّر الوقت والطقس. وفي الطريق يُوجَد القصر الكبير والقصر الصغير، وتُقام فيهما المعارض المختلفة، وبعد عبور ميدان الكونكورد، على الناحية المقابلة، تُوجَد حدائق التويلري ذات التاريخ العريق بأحداث الثورة الفرنسية؛ حيث حدثَت فيها مذبحة الحرس السويسري، الذي كان يحرس الملك لويس السادس عشر، والتي أقام فيها روبسبيير بعد ذلك مهرجان «الكائن الأعظم»! وفي الحدائق أيضًا تماثيل «مايول» المشهورة، ومتحف الأورانجيري.

وفي طَرَف الشارع يقع قوس النصر، وهو بناءٌ فخيم بدأ بناءه نابليون بونابرت، ولكنه لم يكتمل إلا عام ١٨٣٦م في عهد لويس فيليب. وفي أسفله قبر الجندي المجهول وعنده شعلةٌ دائمة. ويُمكِن الصعود إلى قمة القوس ورؤية باريس من هناك، خاصةً الشوارعَ العريضةَ الاثنَي عشر المتفرِّعة من الميدان، وقد سُمِّيَ لذلك ميدان النجمة، ثم أضيف إليه اسم شارل دي جول.

ومن هناك، ندلُف إلى أشهر شيءٍ سياحي في باريس؛ برج إيفل. وهو يقع في طرَف حدائق «شان دي مار» ويُطِل على نهر السين عند جسر يينا. وقد أقيم البرج عام ١٨٨٩م، وصمَّمه المهندس المشهور جوستاف إيفل، ويبلُغ ارتفاعه الآن ۳۲۰ مترًا. ويمكن زيارة البرج في ثلاثة طوابق، وبه محلاتٌ عديدة، ولكن الأفضل هو منظر باريس وضواحيها حين يُطِل المرء عليها من الطابق الثالث، وحين يكون الطقس رائقًا. وبالقرب من البرج، يمكن زيارة مبنى اليونسكو، والإنفاليد حيث قبرُ نابليون، وشارع ريفولي وفيه تتركَّز محلات العاديات والتذكارات الباريسية.

أما المتاحف في هذه المنطقة فأبرزُها بالطبع متحف اللوفر، وهو المتحف الأشهر في فرنسا والعالم، وتحتاج زيارته إلى أيامٍ عدة للإلمام بما فيه من تُحف وذخائر. والمتحف ينقسم إلى صالاتٍ متعددة، كلٌّ منها يختص بموضوعٍ معيَّن؛ فهناك صالة الآثار المصرية القديمة، وآثار حضارات بين النهرَين، والآثار الإسلامية، والإغريقية، والرومانية، وهكذا. وفي المتحف أمثلةٌ لكل مدارس الرسم؛ الفرنسية بكل عصورها، والإيطالية، والفلمنكية، والإسبانية، والألمانية، والإنجليزية. والمُتحَف في حالة تطوُّر وتغيُّر دائمَين؛ حيث إنني في كل زيارةٍ له أجد شيئًا جديدًا وتسهيلاتٍ أكثر في الدخول والطواف. وبعد عشرات الزيارات له وللمتاحف الأخرى، أصبحَت زياراتي لها لدراسة شيءٍ معيَّن والتمعُّن فيه. وكنتُ أبدأ زياراتي التالية للوفر بالمرور على شيئَين في البداية؛ الموناليزا، وتمثال فينوس اليوناني؛ قبل أن أرى ما جئتُ له. وقد أدهشَنا فيما بعدُ التصميم الجديد للمتحف، الذي وضعه مهندس ياباني، وجعل على بوابته وفي بهوه هرمَين من الزجاج، ولكننا اعتدنا عليه بعد ذلك ورأينا إبداعه.

ورغم أن اللوفر قد طغت شُهرتُه على المتاحف الأخرى، فهناك متاحفُ أخرى في باريس ذات أهميةٍ كبرى بما تحويه؛ فقد كان الفرنسيون من الذكاء بحيث يوزِّعون الآثار الشهيرة على متاحف عدة، حتى يُضطَر الزوَّار إلى زيارة المتاحف كلها. وكانت الرسوم الحديثة في مُتحفٍ صغير هو الجي دي بوم، وزُرتُه حين كان يضيق بالسياح، ولكن لوحة مونيه «انطباع شروق الشمس» التي أعطت الانطباعية اسمها، كانت في مُتحَفٍ صغيرٍ آخر في الضواحي، اضطُرِرتُ إلى الذهاب إليه لمشاهدتها. واليوم، انتقلَت كل لوحات ذلك المتحف إلى «متحف دورساي» الضخم الذي أصبح من السهل التنقُّل فيه ورؤية كل لوحات مونيه وفان جوخ وسيزان ومانيه وديجا وتولوز لوتريك وجوجان وبونار ورينوار وبيسارو وسيزلي، بالإضافة إلى آلافٍ أخرى من القِطع الفنية التي تعود إلى الفترة ما بين ١٨٤٨م و١٩١٤م.

وقد أحببتُ متحف رودان لتنظيمه الدقيق وحدائقه الجميلة التي تضم تماثيل رودان الضخمة. وقد أخذتُ في تصوير تلك القِطع ذات مرة بكاميرا الفيديو «بيتا» أول ما ظهَرَت، ولم تكن قد عُرفَت بعدُ في فرنسا، وبعد وقتٍ وجدنا مشرفةً من المتحف تسألُني عما أفعل. وحين شرحَت لها آن ماري الأمر بينما أنا أصوِّر، أجابت أن ذلك محظور تمامًا، فتأسفتُ لها، وأغلقت الكاميرا بعد أن سجَّلَت حديثها لنا.

وفي باريس مئاتُ المتاحف الأخرى المتخصِّصة، منها متحف التاريخ الطبيعي، ومتحف الاكتشافات، ومركز بومبيدو الذي يضم أيضًا متحف الفن الحديث، ومتحف الشمع، ومتحف تاريخ فرنسا، ومتحف السينما، وعشراتٌ أخرى. وقد شُغِفتُ إلى جانب المتاحف بزيارة الدور التي عاش فيها الأدباء والفنانون وأصبحَت متاحف لهم بعد ذلك، فزُرتُ متحف فكتور هوجو، وبلزاك، وبيكاسو. وقد بحثت عن الشارع الذي كان توفيق الحكيم يسكُن في بيتٍ فيه فلم أعثُر عليه، ولكني تمثَّلتُ كاتبنا الكبير عند مرأى مسرح الأوديون؛ حيث كان يهيم غرامًا بعاملة الشبَّاك فيه.

كما زُرنا المثوى الأخير للعديد من الأدباء والفنانين في مقابر «بير لاشيز» و«مونبارناس» و«مونمارتر»، وفي الأولى توقفنا عند قبور كوليت وشوبان وموليير وموديلياني وإديث بياف وبول إيلوار ومارسيل بروست وسيمون سينيوريه. وفي مونبارناس رأينا في المدخل قبرَي سارتر وسيمون دي بوفوار، وقرأتُ سارتر السلام — فقد رأيتُه حين كان حيًّا وصافحتُه — وقلتُ له: «أوجدتَ ما وعد ربي حقًّا؟» ولا بد أنه أجاب أنْ نعم. وهناك أيضًا قبور بودلير وجي دي موباسان وسانت بيف. وفي مقبرة مونمارتر زُرنا مراقد إرنست رينان ونجنسكي وديجا وفرانسوا تريفو.

وفي باريس أيضًا مئات من دور الفنون والمباني التي تجب زيارتها؛ مبنى أوبرا باريس، والأوبرا الجديدة، والكوميدي فرانسيز، والأكاديمية الفرنسية، والمكتبة الوطنية، والبانتيون الذي يضُم رفات جان جاك روسو وفولتير، وميدان فاندوم الأنيق ووسطه عمود نابليون، وميدان الباستيل. وهناك الكاتدرائيات والكنائس، وهي قِطع من المعمار الفائق الروعة، وأشهرها كاتدرائية نوتردام دي باري، وكنيسة سان سلبيس التي يتدفق السياح لزيارتها الآن بعد ذكرها في رواية شفرة دافنشي، وكنيسة لا مادلين وكنيسة الساكر كير، ثم هناك حدائق باريس؛ غاب بولونيا وما فيه من أماكنَ وذكريات الأدباء عنه، ومنهم أحمد شوقي، الذي قال فيها:

ياغاب بولون، ولِي
ذممٌ عليك ولي عهود
زمنٌ تقضَّى للهوى
ولنا بظلِّك، هل يعود؟
حُلمٌ أريد رجوعَه
ورجوعُ أحلامي بعيد
وهَبِ الزمان أعادَها
هل للشبيبة من يُعيد؟

كانت الأبيات، وأفكار بروست عن الغاب كما وردَت في الجزء الأول من روايته الطويلة، تتردَّد في ذهني وأنا أطوف بأنحائه. وقد حضرنا فيه ذات صيف مسرحية زواج فيجارو، وطُفنا بأزاهير «الباجاتل»، ورأينا حديقة شكسبير به، وهي تحوي الأزهار والأشجار التي ورَد ذِكْرها في أعمال الشاعر الإنجليزي العظيم. والحديقة الشهيرة الأخرى هي لكسمبور التي توفِّر مكانا لطيفًا للتأمل والراحة.

وكانت مقاهي باريس من مناطق استهدافاتي الفنية، خاصةً التي اشتُهرَت بتردُّد أدباءَ وفنانين معروفين عليها؛ فحين نجلس في كافيتيريا «كلوزيري دي ليلاس» أرى في ذهني همنجواي وجيمس جويس وسكوت فيتزجيرالد. وهناك مقهى «الدوم» ومقهى «الروتند» المتواجهان، وكان يغشاهما معظم الكتاب الأمريكيين فيما بين الحربَين العالميتَين، كما أن لينين كان يخطِّط لثورته على موائد الدوم. و«كافيه دي لا بي» التي تأسَّسَت عام ۱۸۷۲م، واشتُهرَت في «الحقبة الجميلة» وارتادها هنري جيمس وتورجنيف وبلزاك وفلوبير، وظهر في رواية همنجواي «وتشرق الشمس ثانية». أما أهم مقهًى زرناه فهو «البروكوب» الذي يرجع تاريخه إلى ما قبل الثورة الفرنسية، وكان يترَّدد عليه جان جاك روسو وعيون الثورة الفرنسية، وبول فيرلين بعد ذلك. وحين تناولنا غَداءنا فيه كانت الأطباق ذات مسمَّياتٍ من عصر الثورة، مثل «مخ دانتون»، بينما دورات المياه عليها عنوان «المواطنون» و«المواطنات» بدلًا من الرجال والسيدات!

ويتبقى بعد كل ذلك آلاف الأشياء في باريس؛ حي بيجال وما به من محلات الجنس، والكباريهات المشهورة مثل المولان روج الشهير في نفس الحي، والباتو موش، وهي المراكب البخارية التي تحمل السياح في جولات في نهر السين، ثم هناك ساحة الفنانين في مونمارتر؛ حيث يتجمَّع الرسامون، ومحلات التذكارات الفنية الفرنسية من كل نوع، والمطاعم والمقاهي من كل المستويات. وقد جلسَت آن ماري لرسم صورتها هناك، وكانت تذكارًا جميلًا لنا. وفي الطريق المتعرج صعودًا إلى الميدان القريب من الساكر كير، توجد «المولان دي لا جاليت» التي استوحاها فان جوخ ورينوار وغيرهما في لوحاتهم، وكذلك الشقة التي عاش فيها فان جوخ حين كان في باريس.

وكل ما سبق ذِكْره لا يغَطي إلا جزءًا صغيرًا من مفاتن باريس. ومن حول العاصمة كنوزٌ أخرى كثيرة، منها قصر فرساي، وبلدة «شانتيي» بمتحفها وقصرها ومتنزَّهها وغابتها الشاسعة، وفونتنبلو أحد مقَرَّات نابليون، ومونمورنسي، وبها متحف جان جاك روسو في البيت الذي أقام فيه ست سنوات وكتب فيه عددًا من أعماله الرئيسية. ذلك علاوةً على رحلة «قصور نهر اللوار» التي زُرنا فيها العديد من قصور وقلاع العصور الوسطى، ومنها قصر «شامبور» العتيد.

الهافر

كانت مدينة الهافر هي المدينة الأخرى التي زرتُها مِرارًا وتَكرارًا؛ فهي مدينة آن ماري، وبها أسرتها، وهي مدينةٌ قديمةٌ حديثة؛ إذ إن الحرب العالمية الثانية قد أشاعت فيها الخراب ودمرت مبانيها — فهي تقع في إقليم نورماندي الذي شهد إنزال قوات الحلفاء في يونيو ١٩٤٤م — فتم بناء معظم المدينة من جديدٍ بعد ذلك. وهي مكانٌ نظيفٌ جميل، به المحلات الحديثة والمقاهي والمكتبات والحدائق البهيجة، فكنتُ أستمتع بالتجول في أنحاء المدينة والدخول إلى المكتبات لتصفُّح الكتب التي أريدها. ومن معالم المدينة وقوعها على بحر المانش الذي يفصل بين فرنسا وإنجلترا، والذي كان المصريون يفوزون في مسابقات قطعه سباحة. وما زلتُ أذكُر الفرحة التي عمَّت مصر عند فوز سباحٍ مصري في تلك المسابقة عام ١٩٥١م. وشاطئ الهافر جميلٌ أنيق، استمتعتُ فيه برؤية الفاتنات عاريات الصدور لأول مرة قبل أن أشاهدهن بعد ذلك في بلدانٍ أخرى. وبالمدينة مكتباتٌ عدة اشتريتُ منها الكثير من الكتب الفرنسية، وعددٌ من دور السينما التي تعرض أفلامًا فرنسية وأمريكية.

ومن حول الهافر، زرنا المدينة الساحلية الصغيرة «إترتا» بساحلها وصخرتها المدبَّبة التي أوحت لموريس لبلان روايته البوليسية «المسلة الجوفاء». وقد افتُتح فيها متحف لأرسين لوبين فيه كل ما يهتم به المعجبون بالكاتب البوليسي وبطله من معلومات وتذكارات.

واصطحبَتْني آن ماري منذ البداية إلى مدينة «روان» عاصمة نورماندي، وبها الكثير من الآثار التاريخية، وأهمها ميدان السوق القديم الذي جرى فيه إحراق «جان دارك» بتصميم من الإنجليز؛ إذ حكمَت عليها محكمةٌ كنسيةٌ فرنسية بالسجن مدى الحياة، ولكن الإنجليز احتجُّوا وتآمروا عليها إلى أن صدر الحكم بإحراقها، وتم ذلك في ٣٠ مايو ١٤٣١م. وقد أعادت فرنسا الاعتبار لجان دارك عام ١٤٥٦م، وخلعَت عليها الكنيسة الفرنسية القَداسة عام ١٩٢٠م، حين أصبحَت قديسة فرنسا كلها. وفي المدينة أماكنُ قديمةٌ جميلة أشهرها «الساعة الضخمة» التي ترجع إلى عام ١٥٢٥م، والكاتدرائية التي رسمَها الفنان كلود مونيه تكرارًا تحت أشكالٍ مختلفة. وبالقرب من روان قمنا بزيارة متحف فلوبير، وهو مكان البيت الذي كتب فيه مدام بوفاري وسالامبو. وكذلك متحف فكتور هوجو في بلدة «فيلكييه»؛ حيث جرى الحادث المأساوي الذي غرقَت فيه ابنة هوجو ليوبولدين وزوجها شارل.

كذلك زُرنا تكرارًا مدينة «هونفلير» القائمة تجاه الهافر، وفي البداية كان يتعيَّن علينا أن نقطع مسافةً كبيرة للدوران والوصول إليها، إلى أن أقاموا جسرًا مُعلقًا رائع التكوين على أحدث النظريات الهندسية بين الهافر وهونفلير، فأصبحت المسافة تُقطع في دقائق، مع دفع رسمٍ بسيط لاستخدامه.

ومع تعلُّم آن ماري قيادة السيارات كيما تصطحب «شريف» إلى الليسيه فرانسيه، اعتَدنا منذ عام ١٩٨٦م أن نستأجر سيارةً في فرنسا، وننطلق بها في جولة تشمل قطاعًا معينًا من البلاد. وكانت أولى تلك الرحلات تغَطي الشمال ومدينة «رن»؛ حيث منزل ميشيل، الأخ الأكبر لآن ماري.

نورماندي

كانت أول رحلة نقوم بها بالسيارة إلى أقاليم فرنسا المختلفة في صيف عام ١٩٨٦م. وحجَزنا السيارة في الهافر، وتطلَّب ذلك وقتًا؛ لأن آن ماري كانت معتادة على السيارات الأوتوماتيك، التي كانت شحيحة في أوروبا. ووجَدنا السيارة التي حجزوها لنا فورد صغيرةً بيضاء اللون. وتولَّت آن قيادة السيارة بينما توفَّرتُ أنا على خرائط الطريق المفصَّلة وترتيب مسار الرحلة. وكانت أول مدينةٍ في خطتي هي «دوفيل» ذات الشهرة العريضة بشاطئها وكازينوها ومرتاديها من الشخصيات والنجوم، الذين كان من بينهم سابقًا الملك فاروق. ووصلنا إليها عَبْر جسر تانكرفيل المعلق، وقضَينا فيها يومَين استمتعنا فيهما بالشاطئ الجميل والطريق الخشبي الموازي له، الذي تمشَّينا عليه جيئةً وذهابًا، وكنا أحيانًا نرى السماء تُمطِر على مبعدة بينما لا تُمطِر في منطقتنا، ونرى السحب تتجه نحونا بأمطارها، مما يشكِّل مشهدًا بديعًا لم نرَه من قبلُ. وكان المصطافون والمصطافات من نوعيةٍ عالية في الجمال وفي استعراض ذلك الجمال، فنعِمتُ وأترَعتُ نفسي بألوانه من كل نوع ولون. ودخلنا إلى الكازينو الشهير الذي سمعنا أن عمر الشريف هو صاحبه، وطفنا بأرجائه علَّنا نراه، ولكن لم يحدُث ذلك. وبعدَها مضَينا بالسيارة على طول الساحل المزهر إلى مدينة «كابور» الساحلية، التي شهَرها مارسيل بروست في روايته الطويلة، خاصة الجزء المسمى «في ظل الفتيات المتجمِّلات بالأزهار»، التي تجري بعض أحداثها في تلك المدينة. وقد حاولنا أن نقضيَ ليلةً في الحجرة بالفندق الكبير، والتي كان ينزل فيها بروست حين قضائه الصيف في كابور، فوجدنا أنها محجوزةً طَوال عامٍ كامل!

وتوجَّهنا بعد ذلك إلى مدينة «كان» Caen وهي غير Cannes بالريفييرا، وزُرنا معالمها، ومنها الكاتدرائية والكنائس القديمة. وتغدَّينا هناك، وأنا أذكُر ذلك لأني اخترتُ طبقًا من اللحوم يُسمَّى «تارتر» ولم أكن أدري أنه لحمٌ نيئٌ متبَّل، ولكني أكلتُ معظمه كي أرى ما هو؛ وبعدَها أصِبتُ بأوجاع في المعدة دامت يومَين؛ ولذلك اتجهنا مباشرةً من «كان» إلى منزل أخي آن ماري في مدينة «رن» كي أرتاح هناك. وكان ميشيل قد ترك لنا مفتاح المنزل في صندوق البريد الذي أعطانا مفتاحه. ووجدنا المنزل فسيحًا وبه وسائل المعيشة المريحة، بالإضافة إلى مكتبةٍ ثرية وكثيرٍ من شرائط الكاسيت السمعية، ومن ضمنها أغانٍ عربية لفريد الأطرش وفيروز؛ ذلك أنه سبق أن أمضى عدة سنواتٍ في الجزائر مدرسًا للفرنسية هناك. وبعد راحة يومٍ انطلقنا من المنزل في ضاحية «سان جريجوار» لزيارة العديد من المدن القريبة، وأولاها مدينة «رن». ووجدتُ المدينة جميلة، خاصة القسم القديم منها.

وانطلقنا من رن لزيارة العديد من البلدان القريبة نوعًا ما، مثل «نانت» التي وُلد فيها «جول فيرن»، ومدينة «سان نازير» البحرية. أما زياراتنا الثقافية فكانت إلى مدينة «كومبور»؛ حيث قصر شاتوبريان، ثم «سان مالو»؛ حيث مثواه وسط البحر؛ ففي كومبور، زُرنا القصر الذي عاش فيه الكاتب الدبلوماسي، وطُفنا بأبهائه مع الدليل الذي شرح لنا حياة شاتوبريان، وكيف كان والده قاسيًا عليه في طفولته، حتى إنه كان يخاف من النوم وحيدًا في ذلك القصر الكبير، وطُفنا بحدائقه الواسعة؛ حيث كان الكاتب يتجول طويلًا مع شقيقته لوسيل. وقد غادر شاتوبريان فرنسا غداة الثورة الفرنسية، وارتحل كثيرًا إلى البلدان الأوروبية، ثم عمل دبلوماسيًّا أيام نابليون وبعده. وقد قام برحلةٍ من باريس إلى القدس، وسجَّل وقائعها في كتابٍ مشهور.

أما مدينة «سان مالو» فتزخَر بالسيَّاح وبالبحَّارة؛ إذ إنها ميناءٌ كبيرٌ مشهور، وفيها طريقٌ حجريٌّ علوي مرَرنا عليه كيما نشاهد الجزيرة الصغيرة المواجهة للساحل؛ حيث يُوجَد قبر شاتوبريان. ويُقال إنه أوصى بأن يُدفن في تلك الجزيرة على نحوٍ عمودي، وهذا من غرائب أهل الفن والأدب.

أما المكان الآخر الذي ترك في نفسي أثرًا بالغًا فهو «مون سان ميشيل»؛ جبل القديس ميشيل. وهو يمثِّل مع حصن «كاركاسون» أكثر معالم فرنسا القديمة جلالًا وجمالًا. ويتبدَّى الجبل من على البُعد كنقطةٍ في الأفق، ويكبر شيئًا فشيئًا عند الاقتراب منه. وهو عبارة عن كتلةٍ هائلة الحجم في وسط المياه، إلا من المعبَر الذي ندخُل إليه منه. وكان لا بد أن نترك السيارة في مكانٍ بعيد ونسير على الأقدام للدخول إلى الجبل بكل ما فيه. وما إن ندلف حتى نجد نفسَينا في عالمٍ آخر، فما اسم الجبل إلا مسمًّى فقط؛ فهناك محلات للتذكارات والكُتيبات التي تتحدث عن تاريخ الدير، الذي أنشِئ في هذا المكان في أوائل انتشار المسيحية في فرنسا، ثم اتسع الجبل على مَر السنوات ليضُم مظاهر الحياة السياحية العادية. وهناك متاحفُ صغيرة داخل الدير – الجبل، ومطاعمُ مشهورة، أكلتُ في أحدها وجبةً من فاكهة البحر لا أنسى لها ذِكرًا. ومن الطريف أن الجبل يتنازَع تبعيَّته إقليمان من أقاليم فرنسا؛ فهو يقع ما بين نورماندي وبريتاني، إلا أنه يصنَّف الآن بوصفه نورمانديَّا أصيلًا!

وبعد أن قضَينا وقتًا في منزل ميشيل في سان جريجوار، ورأينا ما كنا نودُّ زيارته انطلاقًا منه، بدأنا رحلة العودة على طول شاطئ نورماندي. وكان أهم ما زُرنا من هذا الشاطئ العريض الأماكن التي دارت فيها معارك غزو نورماندي على يد الحلفاء عام ١٩٤٤م، إبَّان الحرب العالمية الثانية. وكانت ألمانيا تحتل الجانب الشمالي الأكبر من فرنسا، وأقامت الحصون المنيعة على الشاطئ الشمالي للبلاد، الذي كان يُتوقع أن يبدأ الحلفاء غزوهم منه. وقد شاهدنا في الأفلام التسجيلية والأفلام العادية قصة ذلك الغزو الرهيب، والدشم الحصينة التي أقامها الألمان على شواطئ نورماندي، والإنزال الذي قام به جنود الحلفاء في وجه كل هذا، والذي كلفهم أرواحًا كثيرة حتى تمكَّنوا من إقامة رءوس جسرٍ لهم في نورماندي. وكنتُ أتعجَّب من وجود أسماء مدنٍ أمريكية لأجزاء من الشاطئ النورماندي، مثل «أوهاما» و«يوتاه»، إلى أن قرأتُ أن القادة الأمريكيين قد استخدموا هذه الأسماء الأمريكية كشفرة للعمليات الحربية التي عزَموا على البدء بها في شواطئ سان لوران وكولفيل وفيرفيل سيرمير، وهي الأسماء الأصلية لهذه المناطق. وشاطئ يوتاه يقع بالقرب من «سانت مير-إجليز»، التي أظهر فيلمٌ مشهور عن الغزو كيف سقط أحد الهابطين بالباراشوت فوق برج الكنيسة؛ حيث تعلَّقَت حبال الباراشوت به. وكان يوم الغزو هو ٦ يونيو ١٩٤٤م، ويجري الاحتفال به كل عامٍ في فرنسا. وينتشر الكثير من تذكاراتِ الحرب في بعض تلك الشواطئ، إلى جانب المعارض التي تحكي قصة الغزو النورماندي، والكثير من النصُب التذكارية لمن قُتلوا في الحرب.

الألزاس واللورين

وكانت إجازة الوطن التالية لنا تُستحَق في عام ١٩٨٨م، ولكني لم أستطع القيام بها في موعدها؛ فقد كنتُ حزينًا بسبب وفاة والدتي في ديسمبر ١٩٨٦م، وتوقُّعي بما سأشعُر به في منزل محمد شكري من غربة دون وجود والدتي؛ ولذلك فقد أجَّلتُ الإجازة إلى العام التالي، وقمنا بها في صيف ١٩٨٩م. وبعد زيارة مصر ثم العائلة الفرنسية، توجَّهنا إلى باريس وقد عزمنا أن تكون رحلتنا الفرنسية إلى الألزاس واللورين. وكنا حجزنا سيارة أوتوماتيك من شركة «هرتز» بفرعها فيما وراء قوس النصر بباريس، وحين توجَّهنا لأخذها فوجئنا بهم يقدِّمون لنا سيارة فولفو ضخمةً من نوع الستيشن واجون ذات لوحاتٍ سويسرية، واعتذر الوكيل بأنهم لم يجدوا إلا هذه، وأنهم يقدِّمونها لنا بنفس سعر السيارة الصغيرة دون زيادة. وجاء معنا الوكيل يشرح لآن ماري عمل السيارة، وترك لنا دليلَها وهو مكتوب بالسويدية والألمانية، وتمنَّى لنا رحلةً سعيدة، وتركَنا وعاد إلى محله! وكانت آن شبه مصدومة، وقالت إنها لا تستطيع قيادة سيارة بهذا الحجم، وهي تجد صعوبة في «الركن» بسيارةٍ صغيرة، فكيف بها بمثل هذه السيارة الضخمة. وتناولتُ أنا الدليل وحاولتُ فك ألغازه الألمانية، وأشرتُ لآن على بعض المفاتيح. وجرَّبَت هي بعض الأجهزة في السيارة، ثم أعلنَت أنها لن تسوقها أبدًا مهما حدث. عندها استعنتُ بالصبر وقلتُ إذن سنظل في السيارة إلى أن يأذن الله، وتناولتُ كتابًا وتظاهرتُ بالقراءة. وبعد فترة ليست بالقصيرة، بدأَت آن ماري تجرِّب مفاتيح السيارة، وشجَّعتُها بأن تناولتُ الخريطة، وقلت لها أن تحاول على الأقل الخروج من أمام وكالة السيارات. وعندها أدارت المحرك وبدأَت في السير ببطء وهي تقول إنني سأكون مسئولًا لو حدث أي شيء.

وخرجنا من باريس من دون أن نمُر على ميدان النجمة الزاخر بالسيارات، وِجهَتُنا مدينة «رانس» Reims، أول محطَّة لنا. ومرَرْنا على الكثير من القرى والمدن الصغيرة الساحرة؛ حيث تناولنا الغداء في واحدةٍ منها. وفي رانس عثَرنا على فندقٍ مناسب به ساحةٌ للسيارات صغيرة وجدَت آن صعوبة في إدخال سيارتنا فيها. وطفنا بالمدينة نزور معالمها، وأهمها كاتدرائية رانس الفخيمة، المشهورة بتمثال «الملاك الباسم»، ومبنى البلدية الذي يعود إلى قرونٍ خلَت. وفي الصباح، وعند خروجنا بالسيارة، احتَكَّ رفرفها بجدار البوابة فتركَت أثرًا طفيفًا فيه، مما كان بدايةً غير مشجِّعة لنا في أخذ تلك السيارة الضخمة. وعُدنا إلى طرقات فرنسا Sur Les Routes De France كما كنتُ أسمِّيها في حبور؛ حيث الطريق محفوف بالأشجار السامقة، وعن اليمين والشمال حقولٌ مليئة بأعواد القمح الذهبية، أو بأشجار التفاح، أو بأعواد عبَّاد الشمس الزاخرة الاصفرار. وحين مرَرْنا بمنطقة «فردان» عُدنا إلى واقع التاريخ بزيارتنا متحف الحرب العالمية الأولى، في نفس الساحات التي شَهدَت أعنف قتالٍ بين المتحاربين وسط الحرب وقبيل انتهائها في نوفمبر ۱۹۱۸م. وقد أقامت فرنسا متحفًا لذكرى مواجهات فردان في قلب إحدى القلاع الحصينة داخل جبلٍ شامخ، جمعَت فيه نماذج من المعارك الأساسية التي دارت بين الفرنسيين والألمان هناك، والأسلحة المستخدمة والملابس العسكرية بطبقاتها. والزيارة تتم مع شرحٍ مسجَّل ينقل الزائر من رَدهة إلى أخرى. ولمَّا كانت الحرارة داخل الحصن منخفضةً للغاية، يُعطون كل زائر مع التذكرة غطاءً كثيفًا يتدثَّر به ويردُّه عند الخروج.

وبعد تلك الزيارة التاريخية المؤلمة، توجَّهنا نحو أولى المدن الرئيسية في المنطقة؛ متز. وكانت متز واحدةً من المدن التي تنقَّلَت ما بين فرنسا وألمانيا على مَر العصور؛ فبعد حرب عام ۱۸۷۰م، ذهبَت الألزاس واللورين إلى ألمانيا، وبعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا انتقلَت المنطقة إلى فرنسا. ومع الحرب العالمية الثانية عادت إلى ألمانيا، ثم تصبح فرنسية في نهاية الحرب. وبدءًا من متز، أخذنا نستمع إلى لهجةٍ فرنسيةٍ مختلفة، وأحيانًا لغةٍ أخرى يتكلمونها فيما بينهم.

وبعد متز اتجهنا مباشرةً إلى قلب الألزاس؛ ستراسبورج، وهي مدينةٌ ضخمة تنقسم إلى الأحياء الحديثة والمدينة القديمة، وكثيرٌ من الشخصيات المشهورة ترتبط على نحوٍ ما بستراسبورج؛ ففيها عاش جوتنبرج مخترع الطباعة، وبها ميدانٌ يحمل اسمه، مع تمثالٍ له. كما أن «جيته» أقام في المدينة فترةً طويلة إبان تكوينه الأدبي والفني. ويلتصق النشيد الوطني الفرنسي «المارسييز» بمدينة ستراسبورج؛ ففيها وضَع الضابط الشاب، في عام ١٧٩٢م، كلمات النشيد ولحنه في ليلةٍ واحدة بعنوان «نشيد الحرب لجيش الرين». وبعدها تبنَّى جيش مارسيليا النشيد، وأطلقوا عليه اسمه الحالي ويعني «المارسيلية». وفي مبنى المصرف الفرنسي بالمدينة تُوجَد لافتة تحيي ذكرى مؤلف النشيد.

وقد زرنا المدينة وكاتدرائيتها الشهيرة، وأعجبَتنا المدينة القديمة بطرقاتها الضيقة ومبانيها العتيقة، وفيها حي «لا بتيت فرانس» الذي يقع على ضفاف بُحيرةٍ جميلة؛ حيث يتجمَّع الشباب ويعرضون مواهبهم في الغناء والرقص والتمثيل. وزُرنا أيضًا متحف الفنون الجميلة بستراسبورج، وبه عدد من اللوحات المهمة لجويا وإلجريكو وروبنز وفان ديك.

وفي الميدان الكبير الذي يتوسَّطه تمثال القائد كليبر، الذي لقي مصرعه في مصر، أكملتُ دورة حياته؛ فبعد أن رأيتُ المكان الذي قتَلَه فيه سليمان الحلبي في قصره، بالقرب من حديقة الأزبكية الحالية، في مكان فندق شبرد القديم في القاهرة، عرفتُ أن قبره موجودٌ تحت تمثاله في الميدان الذي يحمل اسمه وسط ستراسبورج. وقد اهتمَمتُ بالحملة الفرنسية على مصر ووقائعها، ومنها مقتل كليبر، ومحضر محاكمة سليمان الحلبي، ثم إعدامه على نحوٍ وحشي، وعرض هيكله العظمي في أحد متاحف باريس.

كذلك فستراسبورج مقَر البرلمان الأوروبي التابع للاتحاد الأوروبي، وزُرنا مبانيه الفخمة هناك، وتجوَّلنا بين أرجائه التي تشبه مكاتب اليونسكو في باريس.

وبعد ذلك توجَّهنا إلى مدينة كولمار، وبها مناظرُ طبيعيةٌ ساحرة، حيث تناولنا وجبة الغداء في مواجهة منطقة يُطلِقون عليها «فينيسيا الصغيرة». وفي طريقنا إلى كولمار، مرَرْنا بمنطقة طيور اللقلاق، وشاهدنا في بلدة «ريكفير» أعشاشَ الطيور الضخمة في أعالي البنايات، وبالقرب من مداخن المنازل. وانطلقنا بعد كولمار إلى مدينة «ميلوز» Mulhouse، وهي مشهورة بمُتحفَيها عن السيارات والقطارات. ومتحف السيارات واسعٌ ضخم، قضَينا فيه وقتًا طويلًا، وبه أكثر من ٥٠٠ سيارةٍ أوروبيةٍ قديمة، منها كثيرٌ من سيارات المشهورين من رؤساء فرنسا، إلى فنانين كشارلي شابلن، وهو يبيِّن تطوُّر السيارة منذ نشأتها وطُرُزها القديمة، وبه أكبر مجموعةٍ من سيارات «بوجاتي» في أنواعها المختلفة.

وانطلقنا بعد ذلك إلى بحيرة «جيرارمي» الشهيرة، عن طريق «الجران بالون»، وهو عبارةٌ عن جبالٍ عالية انطلقَت فيها السيارة إلى مرتفعاتٍ لا عهد لنا بها، وحمِدنا الله على أن منحَنا تلك السيارةَ الكبيرةَ المتينة حتى تسير بنا في سهولةٍ إلى تلك الأعالي. وكنا نتوقَّف في الطريق، ونتطلَّع تحتَنا إلى المناظر الطبيعية الخلابة، التي لم تضارعها في نظري سوى جبال التيرول النمساوية. وعند البحيرة الساحرة، استأجرنا قاربًا صغيرًا ببدَّالَين تجوَّلنا به بعض الوقت بالقرب من الشاطئ. وبعد قضائنا الليل في مدينة «إبينال»، توجَّهنا إلى مدينة نانسي. وفي الطريق، وجدنا لافتةً تدعو إلى زيارة مصانع المياه المعدنية الفرنسية الشهيرة «فيتل»، فدلَفنا إليها، وانتظمنا في زيارةٍ مصحوبة بدليل، ورأينا المراحل المتعدِّدة التي تمُر بها المياه وتعبئتها، وعرفنا أن فيتل تُنتِج أيضًا الكثير من مواد الزينة إلى جانب المياه، وخرجنا وقد اشترينا بعضًا من تلك المنتَجات.

وفي الطريق أيضًا لمَحْنا أمامنا من بعيدٍ صليب اللورين، قائمًا على تلٍّ صغير، وعرفنا أننا على مقربةٍ من قرية «كولومبي لي ديزجليز»، وهي قرية الجنرال دي جول. ودخلنا إلى المكان، وزُرنا منزله المسمَّى «لابواسيري»، الذي تحوَّل إلى مُتحَف، ومرَرْنا على مقبرته، وعَجِبنا لبساطتها حسب ما أوصى به، ولم يكن مكتوبًا على شاهدها سوى: «شارل دي جول» (۱۸۹۰–۱۹۷۰م).

أما مدينة نانسي فقد كانت مفاجأة الرحلة، بتناسُقها البديع في المباني وحُسن الذوق والتوازُن في كل ما فيها. ويعود الحي القديم بها إلى القرن الخامس عشر، بينما أهمُّ ميدان فيها، وهو ميدان ستانيسلاس، يرجع إلى القرن الثامن عشر، حين وضع لويس الخامس عشر والد زوجته، البولندي ستانيسلاس ليزنسكي، دوقًا على نانسي بعد عزله عن عرش بولندا. والميدان فسيحٌ جدًّا على نحوٍ مستطيل، على جوانبه مبانٍ متناسقة، منها مبنى البلدية، ومبنى قصر الدوق، وبه بواباتٌ من الحديد المعشَّق المُذهب تتدلى منها مصابيحُ زخرفية في غاية الإبداع والجمال. ومما لا يزال في ذاكرتي المطعم الصغير الفخيم الذي تناولنا غداءنا في تراسه، وكيف كان الطعام جيدًا، والخدمة غاية في اللطف والكياسة، والنظافة ناصعة، وأمامنا منظر الميدان الفسيح بأناقته وجماله. وبعدها زُرنا كالعادة مُتحَف الفنون الجميلة بالمدينة، ورأينا فيه أعمالًا لديلاكروا ومانيه وكوربيه وأوتريلُّو وموديلياني وروبنز وغيرهم، جريًا على عادة فرنسا في توزيع ثروتها الفنية في كل المدن، وعدم إهمال أي مدينةٍ رئيسية من أعمال كبار الفنانين. وربما كان من المستحسن أن نَتبعَ تلك السياسة في مصر بالنسبة للآثار، بحيث لا تتركَّز القِطَع المشهورة في القاهرة فقط، بل يمكن توزيعُها على متاحف المدن المهمة، مما يشجِّع السياح على زيارة تلك المدن لرؤية تلك القِطَع الأثرية.

ولا أنسى مرورنا على بلدة «باكارا» المشهورة بصناعة الزجاج والطُّرَف الزجاجية الثمينة التي يجمعها هواة التُّحَف الفنية، وزُرنا مُتحَف الزجاج هناك الذي يزخر بالثريَّات الضخمة البديعة، إلى جوار المُنمنمات، وروائع الكريستال النقي من كل صنفٍ ولون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤