البدايات

أبدأ الرواية بشيءٍ مضادٍّ لفن الرواية كما حدَّده ديفيد لودج؛ إذ أقحِم نفسي فيها بأن أطلب إلى القارئ أن يحاول أن يتذكر أول ما يمكنه من أشياء في حياته، ويرى كم كان عمره حين يستطيع أن يستعيد في ذهنه أوائل أحداث حياته، حتى لو كانت تلك الذكريات مجرد صورٍ أو أصواتٍ أو كلماتٍ متفرِّقة مشوَّشة.

أما أنا، وحيث إن الرواية تربط الحياة بالكُتب والفن، فقد بدأتُ رحلتي الطويلة مع الكتب البداية التقليدية؛ أي عن طريق السماع. ولا أتذكَّر طبعًا الحكايات التي كانت تُقال لنا ونحن صغارٌ جدًّا، أو الهدهدات الطفولية، وأوَّل ما تعود به ذاكرتي في هذا الشأن هو الوقت الذي أصِبتُ به بالحصبة، وأنا في حوالي السابعة من عمري. كنا في مدينة دمنهور، وغطَّت والدتي مصباح الغرفة بورقٍ شفَّاف أحمر اللون، وكانت تجلس إلى جواري وتقرأ لي قصصًا للأطفال. وكانت تلك الحكايات تخفِّف عني كثيرًا من آلام الحمَّى التي انتابتني في ذلك الحين. لا أتذكَّر من تلك القصص إلا نتفًا أعرف منها صيغةً عربية لقصة الأمير السعيد التي قرأتُها بعد ذلك لأوسكار وايلد.

أما ذكرياتي الحقيقية للمجلات والكُتب والقراءة فقد جاءت بعد ذلك، في عام ١٩٤٩م، في مدينة شبين الكوم، ولكن ذلك لا يعني عدم وجود ذكرياتٍ لي عن سنواتي السابقة. قرأتُ كثيرًا عن السن التي يمكن للإنسان أن يعود بذاكرته إليها. يقول البعض إنه يذكُر أشياء من سنته الأولى، بينما يتأخر البعض في ذلك نوعًا ما. وقد ذكَر أحد الروائيين أن بطل روايته يذكُر لحظة مولده، وهذا من الخيال القصصي بالطبع.

وأوَّل ما يمكن أن تعود به ذاكرتي إلى الوراء، صورٌ مفردة لا تحمل أي سلسلةٍ متصلة، ومنها صورة والدي وهو يحلق ذقنه أمام مرآة في حمَّام الشقة التي كنا نقطن فيها في مدينة طنطا؛ حيث علمتُ بعد ذلك طبعًا أنني قد وُلدتُ هناك، وأننا كنا نسكن شقة في شارع النحاس. كذلك يعود إلى ذاكرتي المشوَّشة منظر أبي أيضًا وهو يذرف دمعًا، وعلمتُ بعدها أن ذلك حدث عندما تُوفيَت شقيقةٌ لنا، أصغر مني، تُدعى نادية، ولم أعرف أبدًا ظروف وفاتها. وانتقلَت الأسرة بعد ذلك إلى مدينة بنها، حيث أتذكَّر منها شجرة فاكهةٍ ضخمة في حديقة منزل مأمور السجن، والدي، نأخذ منها ثمارًا نسمِّيها «بامبوزيا»، وأعتقد أنه الكريز. وكنا نملأ جرادلَ بلاستيكية بتلك الثمار اللذيذة. وأحمل ذكرى صورة والدي وقد عاد من العمل مرةً ومعه قالبٌ صغير أصفر اللون، وضَعَه في مياهٍ ساخنة، فإذا به شوربة دجاج. ويبدو أن ذلك كان عند بدء ظهور تلك القوالب. كذلك صورة العربة الحنطور وهي تحمل والدي ووالدتي إلى السينما، بينما نرقبها من النافذة أنا وأخي الأكبر. وقد وُلد أخي الأصغر في تلك الفترة من مقامنا في مدينة بنها عام ١٩٤٤م.

وبعد انتقالنا إلى دمنهور، تبدو صور الشارع الذي يقع فيه السجن العمومي وسط المساكن، والمحلات التي نخرج لنشتري منها اللعب والحلوى والعسلية بالملاليم والقروش. وزيارتي لوالدي في مكتبه بالسجن وقد جلس يستمع إلى شكوى سجين كان قد قفز من النافذة محاولًا الانتحار. ومرةً وقفتُ في الطريق أرقب سيارةً صغيرة تحمل محكومًا عليه بالإعدام في طريقه إلى سجنٍ قريب لتنفيذ الحكم فيه؛ حيث إن سجن دمنهور لم تكن به مشنقة. وكان وراء السجن نادٍ رياضي، ندلُف إليه من الحديقة الجانبية، ونستمتع بمرأى الأزاهير ذات الألوان الخلابة، ونبحث عن القواقع بين الحشائش هناك. وقد بدأتُ التردُّد على المدرسة في دمنهور، بعد تَلقِّيَّ دروسًا خاصة في البيت من أزهريٍّ معمَّم، وبعدها التحقتُ بالسنة الأولى الابتدائية مباشرة. وسبقَت ذلك محاولة الذهاب إلى روضة أطفال، أذكُر منها سيدةً مدرسة تقف في وسط الحوش وترفع منديلًا في يدها، ويُحاوِل الأطفال الإمساك به. وطفلةً تقول لي في عجَب: «إنت أبوك عسكري!» ولم أبقَ في تلك الروضة إلا أيامًا معدوداتٍ مكثتُ بعدها في البيت أتلقَّى الدروس الخاصة. والتحقتُ بالسنة الأولى الابتدائية، وكنا نلبَس الطرابيش الحمراء، ويفتِّش الناظر كل أسبوع على أظافرنا، ويضرب بالمسطرة من لم يكن نظيف الأظافر. ومن أهم ذكريات تلك الفترة الحرب في فلسطين، والغارات الجوية وتعليقات الناس على ذلك. وذكرى والدي وهو يقرأ الجريدة اليومية، ثم يغلق الراديو. ويتبيَّن بعد ذلك أنه قرأ خبر وفاة زوج خالتي، الباشا، في حادث سير. ووالدتي تنتحب وترتدي السواد. وكذلك تفشِّي مرض الكوليرا في مصر، وضرورة غسل الأيدي بأليزول كل فترة. وفي دمنهور، عرَفتُ السينما لأول مرة في أفلامٍ قصيرة كانت سحرًا بالنسبة لي. وفيها رأيتُ مواكب «المحمل»، وبدأنا هناك اللعب بالطائرات الورقية.

ولكن أغرب صورةٍ بقيَت في ذاكرتي من ذلك العهد وأنا صغير، صورتي وأنا مع والدتي في منزل بالقاهرة — يبدو أنها كانت في زيارة هناك وأخذَتْني معها — ونحن نُطِل من النافذة، ونشهد الجنازة الشعبية لرئيس الوزراء أحمد ماهر باشا، الذي اغتيل عام ١٩٤٥م. ولا أدري لماذا بقيَت هذه الذكرى في ذهني، وكان عمري آنذاك أقل من خمس سنوات.

وانتقلَت الأسرة بعد ذلك إلى طرة؛ حيث يُعيَّن والدي ضابطًا بليمان طرة. وكان هناك صفٌّ من البيوت المخصَّصة لضباط الليمان بخلاف المأمور، ويمُر المرء إلى المنزل عَبْر تعريشات عنبٍ كثيفة. وذهبتُ مع أخي الأكبر إلى مدرسةٍ ابتدائية في المعادي، مما تعيَّن معه ركوب المترو كل يومٍ مع الجندي المراسلة الذي انتقل معنا من دمنهور، واسمه سعيد. وكان المترو يُسبِّب لي قلقًا خفيًّا وهواجسَ رهيبة، خوفًا من عدم اللحاق به في الموعد المحدَّد، أو السقوط بين القضبان. وعشَّش الخوف في داخلي من قصة سمعناها عن امرأةٍ جميلةٍ ثرية، انحشرت قدمها بين قضبان المترو إذ هو قادم، وأهابت بالناس من حولها أن يقطعوا قدمَها ليخلصوها من الموت المحقَّق، على أن تعطيهم كل المصوغات الذهبية التي تتحلى بها، ولكنَّ أحدًا لم يجرؤ على ذلك. ودهمها المترو قبل أن يتمكَّن أي شخصٍ من إخطار البوليس أو عامل «التحويلة». ومن الواضح أن ذلك كان من الحكايات ليس إلا.

وبهرَتْني طرقات المعادي الهادئة الأنيقة. والمدرسة جميلةٌ بها حدائق نلعب فيها، ونأخذ دروس الفِلاحة. وسمعتُ عن غياب بعض المدرسين، وأسمع أنه قد قُبض عليهم لأنهم من الإخوان المسلمين. وهناك أيضًا رأيتُ تلميذًا يسير وحوله ما يشبه «الزفَّة» من الرفاق والسعاة، وقالوا إنه تلميذٌ حصَل على الشهادة الابتدائية!

وكنا في طرة نلعب في «الترولِّي» الذي يجري على قضبان لنقل الحجارة التي يكسِّرها نُزلاء الليمان من المحجر المجاور. وقد ظهر هذا الترولِّي بعد ذلك في أحد الأفلام المشهورة لفريد الأطرش وسامية جمال. وأذكر منظر السجناء يسيرون والأغلال في أقدامهم، والتماثيل الأنيقة التي كنا نشتريها من صُنعهم. وقد استقبلتُ في منزل طرة أول صديقٍ طفلٍ لي من المدرسة، جاء مع والده. وفرحَت الأسرة بوجود صديقٍ لي، وأهديناه بعض المفكِّرات وأدوات الكتابة.

وهكذا، كما قُلتُ، لم تبدأ حياتي في الكتب والقراءة إلا بعد استقرارنا في شبين الكوم؛ فهناك تتداول الذاكرة أولى القراءات الخاصة في مجلات الأطفال الموجودة آنذاك: علي بابا التي كنتُ أجمعها وأشترك في مسابقاتها التي فزتُ في إحداها بمجموعة من الأدوات المدرسية، والكتكوت التي كانت تأتي كملحقٍ لمجلة بنت النيل لصاحبتها درية شفيق، وكانت والدتي مشتركةً فيها. وكانت الأسرة ترتِّب لشراء عدد من الجرائد والمجلات الدورية، فيذهب جندي المراسلة كل صباح لشراء «اللوازم»، ومنها الجرائد والمجلات التي كنا نشتريها من بائع صحفٍ يُوجد فيما وراء الكوبري الجديد على مشارف وسط المدينة. كنا نتلقَّى الأهرام والمصري وأخبار اليوم وآخر لحظة والمصور وآخر ساعة، والاثنين والكواكب والصباح، وكثيرٌ غيرها. وكان والدي يشتري «كتب للجميع»، وبعض روايات الجيب. واعتدنا أنا وأخي الأكبر أن نقتسم فيما بيننا الاحتفاظ بهذه المجلات، وبعدها الكتب التي بدأنا نشتريها «على حساب البيت»، أو على حسابنا الخاص. وشيئًا فشيئًا، تحدَّدَت ملامح الاختصاصات على النحو التالي: المصور، ومجلة الاثنين لأخي الأكبر، بينما أخذتُ أنا الكواكب وآخر ساعة. وكان كلٌّ منا يشتري كتبًا وسلاسلَ أخرى حسبما يروق له، وكان على رأس قراءاتنا في ذلك الوقت المبكِّر من العمر مجلات الأطفال، التي أضِيف إليها بعد ذلك مجلة «سندباد» التي أصدرتها دار المعارف، وعن طريقها عرفنا إصدارات الدار من كُتب الأطفال المبسَّطة، مثل سلسلة «أولادنا» ومسرحيات شيكسبير المبسَّطة وكتابات كامل الكيلاني، وكنا نلتهمها التهامًا ونحتفظ بها، ثم اكتشفنا عالم الروايات البوليسية وروايات المغامرات، وكانت أشهر تلك الروايات هي التي تصدُر في سلسلة روايات الجيب. ولما كانت تلك القصص تعتمد على الإثارة والتشويق، كنا نلتهمها التهامًا ونتبادلها فيما بيننا، ونستأجرها من مكتبة «هويس» بالقرب من المدرسة، والتي صادقنا الشاب الذي يعمل فيها، وأصبحنا نتبادل تلك الروايات معه. ومن ذلك المحل كنا نشتري الأدوات المدرسية التي شُغِفتُ بها منذ طفولتي، وصفحات ما كنا نسمِّيه «الطبع» وهي صورٌ جميلة ننقلها إلى الورق بعد أن نُبلِّلها بالماء، فتخرج بألوانٍ زاهيةٍ جميلة.

وبدأَت شخصيات الروايات البوليسية وروايات المغامرات تتشكل في وعينا: أرسين لوبين لموريس لبلان، هركيول بوارو لأجاثا كريستي، شرلوك هولمز لآرثر كونان دويل، وروكامبول وابن جونسون، وإدجار والاس ورافائيل ساباتيني، وغيرهم كثيرون. ولم ندرك في ذلك الحين أن ناشري تلك الروايات ومترجميها بدءوا يؤلِّفون بأقلامهم كثيرًا من الروايات التي ينسبونها إلى أولئك الكتاب المشهورين، سدًّا للطلب الشديد عليها. وأعتقد أن جيلي بأكمله قد بدأ قراءاته من ذلك السيل المتدفِّق من الروايات.

وتدرَّجنا مع مَرِّ الوقت والدخول إلى مرحلة الدراسة الإعدادية. وكنتُ من التلاميذ الذين التحقوا بها في أول عامٍ من إنشائها لتتوسط المرحلة الابتدائية والمرحلة الثانوية. وعرفنا الطريق إلى مكتبة البلدية، وكان يشرف عليها شابٌّ مثقَّف، أبدى استهجانه من أن نطلب كتبًا سطحية لا تفيد لغتنا ومعلوماتنا في شيء. وقد اقترح علينا ذلك الشاب المستنير كتبًا لطه حسين ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم، وكان ذلك بداية انفتاحي على تلك الكتب الأدبية النفيسة. وبدأتُ أنا وأخي نتنافس على شراء ما نستطيع من تلك الكُتب القيمة، وكانت السلاسل التي تصدُر شهريًّا تتضمَّن بعضها، مما يسَّر لنا اقتناءها بأثمانٍ مناسبة، ومن ذلك كُتب عباس العقاد عن أبي الأنبياء والمسيح عليهما السلام. واهتم أخي باقتناء روايات الهلال وكتاب اليوم وكُتب للجميع، بينما جمعتُ أنا كتاب الهلال والكتاب الذهبي وسلسلة اقرأ. وما زلتُ أذكُر دهشةَ والدتي وسخريتَها من عنوان أحد كُتب اقرأ، وهو «مذكِّرات دجاجة» للدكتور إسحق موسى الحسيني. كانت تضحك من مجرد فكرة دجاجة تكتُب مذكراتها. وطبعًا كان العنوان مجرد غطاءٍ يحوي أفكارًا عميقة عالجها الكاتب. وجدير بالذكر أنني لم أقرأ هذا الكتاب قراءة فهم إلا فيما بعدُ، حين أصبحتُ مهيَّأً لهذا النوع من الكتابات الرمزية العميقة. بيد أن مؤلَّفات يوسف السباعي كانت حُلمًا لنا، بأغلفتها المُذهَبة الأنيقة في محلات «ساير داير» بوسط البلدة. وكانت لُعَب الأولاد الحديثة المعروضة في ذلك المحل المتعدد البضائع مثار اهتمامي كذلك، فأصبحَت تتجاذبني هي الأخرى. ومرةً تغاضيتُ عن شراء كتابٍ أريده واشتريتُ لعبة جندي يزحف على الأرض ويتوقف ليطلق بندقيته ثم يواصل زحفه، وكانت حديثَ الجميع في ذلك الوقت.

وبهذه المناسبة، يجدُر القول بأن اللعِب قد شكَّل جانبًا مهمًّا من حياتنا في تلك الفترة، وكنا نُمضي الوقت في ممارسة كل الألعاب المعروفة آنذاك: الكرة الشراب، أولها سنُّو، النحلة، ألعاب البلي الزجاجي والنيكلي، وألعاب الأعياد مثل «البمب» وشرائط «حبش وإطاليا» والصواريخ. وما زلتُ أذكُر شيئًا غريبًا كان يحدُث في أوائل كل عام؛ إذ كان فرع النيل المسمى هناك «بحر شبين» العريض الذي يخترق المدينة، يجفُّ تمامًا لفترةٍ معينة، فكنا نهبط إلى قاعه ونلعب هناك ما شاء لنا اللعِب. وكنتُ أفكِّر دائمًا: ماذا يحدث لو أن مياه النيل عادت فجأةً ونحن في القاع لاهين؟ كانت فكرةً مخيفة وسبَّبَت قلقًا دائمًا لي. وأذكُر أن ذلك الجفاف كان يحدُث في شهر يناير؛ لأن ذاكرتي ما تزال ترى صفحة جريدة «آخر لحظة» التي رأيتُها مرةً بعد صعودي من قاع البحر الجاف، ووجدتُ عناوينها الضخمة الحمراء تقول: إقالة النحاس. وكان ذلك بالطبع بعد حوادث حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م.

ومن مظاهر الترويح والرياضة، كنا مدمنين على ركوب «العجلة»، وكنا نستأجرها بقرش صاغ من محل العجلاتي، ونتسابق بها ونطوف في كل الأرجاء، شرط مصاحبة جندي المراسلة «سعيد» لنا. وقد حدث أن ذهبتُ مع بعض الأصدقاء، واستأجرنا عجلًا ذهبنا به إلى «كفر المصيلحة» المجاورة للمدينة، حيث قضينا بعض الوقت هناك في ضيافة أحد الزملاء، ولم أكن قد أخطرتُ والديَّ بذلك، وقد قلقا لتأخري وتلقَّيتُ عقابًا جسيمًا على ذلك. وأذكُر في واقعةٍ أخرى أنني كنتُ أركب عجلةً واحدة مع أخي الأكبر: هو يبدِّل وأنا أقود «الجدون» في طريق الزراعية، حين ارتبكنا فجأةً والعجلة في أقصى سرعتها، فإذا بها تنحرف متجهة إلى ترعةٍ جانبية مليئة إلى حافتها بمياه الصرف الصحي الراكدة، وكان غرقًا محقَّقًا، لولا عناية الله التي تداركَتْنا؛ إذ اصطدَمَت العجلة في طريقها إلى الترعة بشجرةٍ مزروعة إلى جانبها. وسقطنا مبهوتَين لا نصدِّق ما حدث لنا. ومرةً أخرى، كنا جميعًا نركب العجل، حين اصطدمتُ بحائطٍ أسمنتي وسقطتُ في مواجهته. وبعدها ظلِلتُ لمدة نصف ساعة أذكُر للمراسلة ولأخي أنني فقدتُ ساعتي، وطفق الجميع يبحثون عنها بلا جدوى. وفجأة، أشرقَت الشمس على ذهني على نحوٍ صافٍ غريب، وإذ بي أقول لهم: عمَّ تبحثون؟ لقد تركتُ الساعة مع والدتي قبل خروجنا. وفهمتُ أنني فقدتُ الذاكرة طوال نصف الساعة تلك. وكانت من أغرب تجارب حياتي.

ومع تفتُّح الصبا والشباب، بدأَت العواطف الإنسانية تطغى على أحاسيسنا، ووجدتُ متنفسًا طبيعيًّا في فتيات أصدقاء العائلة والأقارب، اللاتي كن في سنٍّ مقاربة لسنِّنا. وهكذا انتظرتُ بشغفٍ شديد زيارات هاته الفتيات؛ حيث كنتُ أذهب إلى حديقة السجن المترامية الأطراف كي أقطف الأزاهير الحمراء لإهدائها للفتاة الصغيرة الزائرة. وكذلك كان هناك قريبٌ لوالدي، وكنا نزوره في شقته الفخمة بالبر الغربي، ونلعب مع ابنته الجميلة العاقلة التي ارتبطَت فيما بعدُ بذهني بأغنية أم كلثوم، مصر التي في خاطري، التي سمعتُها لأول مرة هناك. وكانت تلك الأحاسيس عاطفيةً رومانسيةً خالصة، تَهيم في أجواء الخيال، وتجعلني أشعر على نحوٍ أصدقَ بقصص الحب وأغانيه وأشعاره وأتوحَّد معها. أما الأحاسيس الجنسية فكانت تُطِل أيامها في لمحاتٍ خاطفةٍ هاجمةٍ جائحة، عند مرأى صور الممثِّلات الأجنبيات في المجلات، مثل مارلين مونرو وجين راسل، نجمتَي الإغراء في ذلك الوقت، في ملابس الرقص التي ظهرَتا بها في فيلمَيهما «الرجال يحبُّون الشقراوات»، و«كيف تتزوَّجين مليونيرًا؟». ولا أدَلَّ على عدم جدية الجنس في تلك المرحلة الطفولية من جلوسي ذات يومٍ على حافة الترعة التي تفصل مبنى السجن عن مزرعة الأسرة الريفية، التي تستأجر مساحةً شاسعة من الأرض تزرعُها بالفاكهة والخضراوات وتتعيَّش منها، حين رأيتُ إحدى بنات تلك العائلة، وعمرها حوالي ١٣ عامًا، قد نزلَت إلى الترعة لتستحم، وتربَّعتُ على الحافة مصممًا ألا أتزحزح حتى تخرج الفتاة لأراها عارية. وقد حضَرَت أمها واستحثَّتها على الخروج حتى لو رأيتُها، قائلة لها: «بلاش دلع بنات.» وانفرج الموقف حين قذفَت لها أمها بملابسها، فارتدَتها تحت القنطرة التي تقوم فوق الترعة لتصل الشارع بأرضهم، وخرجَت تقطُر المياه من ملابسها!

ويجدُر عند هذه النقطة إعطاء وصف للمكان الذي جرت فيه تلك الأحداث الخصبة. مدينة شبين الكوم بين عامَي ١٩٤٩م و١٩٥٤م، يشقُّها نهر النيل إلى قسمَين؛ قسم يشمل وسط المدينة وفيه المحلات الكبرى والمدارس ودور السينما، وفيما وراءها مناطقُ سكنية يغلب عليها الثراء. ويشمل القسم الآخر مساكن متوسِّطة الحال وفقيرة، تنتهي بمباني السجن العمومي الذي تقع فيما وراءه الطريق الزراعي والحقول. والسجن العمومي قد تم بناؤه على الطريقة الإنجليزية؛ فمقدمته بوابةٌ ضخمة تفتح رأسيًّا، وفيها بابٌ صغير للاستخدام العادي، وفوقها لافتة «السجن تأديب وتهذيب وإصلاح». وفوق المدخل فيلا أنيقة لسكن المأمور لها حديقةٌ واسعة تمتلئ بأحواض الزهور وأشجار الفاكهة، ويقوم على خدمتها يوميًّا فرقة من السجناء بحراسة أحد الجنود. وفيما وراء تلك الحديقة الخاصة، تقع «جنينة السجن»، وهي مساحة شاسعة من الأرض المنزرعة تتبع السجن، وتشكِّل المكان الذي يعمل فيه السجناء طوال النهار في المحاصيل الزراعية، التي تُباع بعد ذلك وتدخُل حصيلتها في ميزانية السجن. وفيما وراء البوابة وفيلا المأمور، تقع مبانٍ جهماءُ صفراء اللون فيها زنزانات السجناء. وكانت حديقة المأمور يفصلها جدارٌ عالٍ سميكٌ عن زنزانة السجينات، كما يفصل جنينة السجن عن الزنزانات جدارٌ مماثل، يقع وراءه مبنى مشنقة الإعدام! وكانت زنزانات النساء تقع وراء حديقة المأمور، فكنا في المساء نسمع أصوات السجينات يتصايحن ويتشاجرن، ويُغنين ويتبادلن الشكايات والقصص، فكان الأمر أشبه بالمسرح الشعبي المرتجل.

وكانت فيلا المأمور تتكون من ثلاثة أدوار؛ غرفة خزين في الدور السفلي، ثم غرف المسكن في الدور الثاني، ثم السطح، وكان هناك سُلمٌ رخاميٌّ فخيم يصل الأدوار الثلاثة؛ حيث تعوَّدنا على الانزلاق على «الدرابزين» الخشبي الصقيل عند الهبوط أحيانًا. كانت غرف السكن عديدةً واسعة، وخارجها غرفةٌ كبيرة نُطلِق عليها غرفة المسافرين؛ أي الصالون حديثًا. وفي سطح الفيلَّا عدة غُرف للتخزين، كما أن به سُلَّمًا يؤدي إلى ساريةٍ لرفع الأعلام في المناسبات الرسمية؛ العلم الأخضر ذي الهلال والنجوم في الأعياد، والعلم الأسود في اليوم الذي يجري فيه إعدام سجين. وحين أتذكَّر الآن ما كان يحدُث في أيام الإعدام تلك، لا أكاد أصدِّق ما كنتُ أفعل. كنا لا نذهب إلى المدرسة في ذلك اليوم، ونصعَد في الصباح الباكر مع الجندي لرفع العلم الأسود فوق المبنى، ثم نُطِل من النافذة في انتظار وصول «عشماوي»، ونراه يدخل إلى غرفة والدي مأمور السجن، حاملًا معه حقيبةً متوسطة الحجم، ومعه مساعده. وبعد تنفيذ الإعدام، نرى أحد أشد المشاهد غرابة، حين تنفتح بوابة السجن الكبيرة، ليخرج منها جثمان المعدوم في نعشه، ويكون في انتظاره جماعتان يفرِّق بينهما الحرس؛ جماعة تطلق الصَّريخ والصُّوات والترحُّمات وتتسلم الجثمان — وهي جماعة أقارب المعدوم — بينما الجماعة الأخرى تُطلِق الزغاريد وتوزِّع أكواب الشربات — وهم أقارب الضحية التي قتلَها الرجل الذي جرى إعدامه! وفيما بعدُ، حين بدأتُ قراءة التاريخ وأحداثه، كانت فكرة إعدام الملوك والوزراء تملؤني رهبةً وغرابة، ولا سيما في الأفلام التي تصوِّر ذلك الحدث، مثل إعدام ملك إنجلترا شارل الأول، وملك فرنسا لويس السادس عشر، والملكة ماري ملكة اسكتلندا، والسير توماس مور في فيلم «رجل لكل العصور»، والذي دهِشتُ فيه أن السير توماس أعطى قطعةً ذهبية للجلاد ﮐ «بقشيش» قبل أن يقطع رأسه! وكان جلَّادو كبار القوم هؤلاء يُغطُّون وجوههم حتى لا يتم الانتقام منهم لو عادت أسرة الملك إلى الحكم، وهو ما حدَث كثيرًا.

ومن ناحيةٍ أخرى، كانت غُرف التخزين في السطح تُثير فضولنا الصبياني. وفي ظهيرة أحد أيام الصيف القائظة، خطر على بالنا أنا وأخي الأكبر التنقيب في صحَّارةٍ كبيرة من الخشب تركَها عندنا أحد أقارب والدي. ولما فتحناها وجدنا فيها أدواتٍ منزلية وملابس، ثم — ويا للهول — كَومًا كبيرًا من روايات الجيب محفوظة بعناية، أغلِفتُها برَّاقة زاهية. وكان كنزًا اقتسمتُه أنا وأخي غير مُلقين بالًا في تلك السنِّ الغضَّة إلى أي عواقبَ لما كنا نفعل. وفي حجرةٍ أخرى من حجرات السطح، أقمتُ ورشةً بدائية لتجليد الكتب. وقد بدأنا منذ هواية جمع الكتب في اختيار الثمين منها لتجليده في المحل المخصَّص لذلك في وسط البلدة. وأصبحنا اختصاصيَّين في أنواع التجليد: عربي وإفرنجي، والأخير يعني «الكعب الجلد»، الذي يمكن كتابة العناوين عليه بماء الذهب. ونتج عن ذلك الاهتمام محاولة القيام بالتجليد كهواية، فاشتريتُ مستلزمات ذلك من مسلَّة الخيوط السميكة، والغِراء الذي يُستخدَم في لصق الأوراق، وأغلفة التجليد. وقد كانت هوايةً لذيذة، وإن لم أنجح في إخراج أي مجلد على مستوًى ناجح.

وفي مواجهة مبنى السجن ترعةٌ صغيرة، تقع وراءها المزرعة التي أشرتُ إليها سابقًا، ويقطنها أخوان متزوِّجان من شقيقتَين، ولكلٍّ منهما أولاد وبنات، وكانت المنازعات والمشكلات لا تنقطع بين الشقيقتَين وما ينجم عن ذلك من خلافات بين الأخوَين.

كان وصولنا إلى شبين الكوم في حوالي فبراير ١٩٤٩، وكان البرد فيها شديدًا عاصفًا. وتم إلحاقنا بالمدرسة الابتدائية هناك. ومن الطبيعي أن يكون تنقُّلنا الدائم بين المدارس في منتصف العام الدراسي له أثَرٌ من الاضطراب النفسي، غير أني لم أشعُر بذلك في تلك الفترة. وأذكر أن مدرس مادة الطبيعة تلقَّى شهادتي السابقة من مدرسة المعادي، وأحَبَّ أن يُجاملنا بما أنه رأى أنني ابن مأمور السجن، فأعلن للتلاميذ أن الشهادة تذكُر أن ترتيبي في الفترة السابقة كان الثالث على الفصل. ولكني لم أُدرِك «اللعبة»، وظننتُ أن المدرس قد أخطأ في قراءة الرقم، فرفعتُ إصبعي وقلت: «لا يا أستاذ، أنا ترتيبي كان تلاتة وعشرين!» فبُهتَ المدرسُ، وصاح بي غاضبًا بعبارة لا أنساها أبدًا: «الله يخيبك يا شيخ. بقى أنا كنت عاوز أمنجهك قدام زمايلك.»

وسرعان ما كوَّنتُ صداقاتٍ قليلة مع زملاء الفصل، ولكن المدرسة والدروس كانت عائقًا أمام الوقت الذي أقضيه في القراءة وفي اللعِب، فكنا نستغل أيام الإجازات أفضل استغلال؛ ففي مجال القراءة، كان معظم الكتب ما زال مرتكزًا على الروايات البوليسية، وأضيفَت إليها الروايات العالمية الملخَّصة التي تصدُر في سلسلة روايات الهلال، وكُتب الحب الرومانسي التي كتبها المنفلوطي. وكنتُ كثيرًا ما أقرأ كُتبي تلك — إذا كان الوقت ربيعًا أو صيفًا — وأنا جالس في الشرفة، أو في الحديقة، أو جالسًا بين أغصان شجرة الجوافة الضخمة مستظلًّا بها. وكنتُ أحب مراقبة الفاكهة وهي تنمو صغيرةً خضراء، في أشجار المشمش والجوافة والمانجو. غير أنها للأسف لا تكاد تتحول ثمارًا ناضجة إلا فيما ندَر؛ ذلك أننا لم نكن نمهلها، فنقطفها خضراء لنلعب بها، أو نقذفها بالحجارة حتى تسقط. ولا أذكُر أننا أكلنا يومًا من ثمار تلك الأشجار، اللهم إلا شجرة الجوافة، التي كنتُ آكل من ثمارها وأنا أقرأ بين أفنانها الوارفة.

أما الفاكهة الحقَّة فكنا نأكلها من ثمار المزرعة المقابلة لنا. ورغم أن أصحابها كانوا يتمنَّعون عن أخذ ثمنها، كانت والدتي تُصِر على إعطائهم ثمنَ كل ما نطلب؛ فكنا نحب ثمار التين الشوكي في الصباح الباكر، والعنب والمانجو والتين البرشومي وغيرها من الفاكهة اللذيذة.

شكَّلَت تلك الأماكن «الموئل» الذي أحاط بتفتُّح مداركي؛ إذ وعيتُ أن هذه الطبيعة الخلابة هي جزءٌ مكمل للمعلومات والقصص التي أطالعها في الكتب والمجلات، بالإضافة إلى الإحساس الجمالي الذي كنتُ أستشعره من مرأى التناسُق الفني في الطبيعة والأزهار والطيور من حولي. وبدأتُ في فترةٍ ما في قراءة قصص محمود تيمور وإبراهيم المازني ونجيب محفوظ. تأثَّرتُ برواية «سلوى في مهب الريح» بكل واقعيَّتها ورومانسيَّتها المضفَّرة. وأطلعنا الكتابُ الذهبي على رواية «خان الخليلي» التي زلزلَت كياني كله تعاطفًا مع تضحية الأخ الكبير عاكف أفندي، الذي أحب جارته حبًّا صامتًا، ثم كتم حبه حين علم بتعلُّق أخيه الأصغر بها، ثم إصابة الأخ الصغير بمرض السل ووفاته. وكان السرد في تلك الرواية ورسم شخصياتها على نحوٍ جديد ترك أثرًا بالغًا في تفكيري عن فن القصة. ورحتُ أبحث عن روايات نجيب محفوظ الأخرى، فقرأتُ زقاق المدق وفضيحة في القاهرة (صدَرَت بهذا العنوان في سلسلة الكتاب الذهبي، وعنوانها الأصلي هو القاهرة الجديدة). واقتنيتُ أيضًا مجموعة «همس الجنون» وإن لم أتمَّها إلا على مراحل.

وفي شبين الكوم بدأتُ أهتم بالأغاني الجادة. أذكُر أني أحببتُ قصائدَ أم كلثوم، وُلد الهدى، نهج البردة، مصر تتحدَّث عن نفسها. واشتريتُ من مكتبة «هويس» نشرةً مطبوعة طباعةً رديئة بنصوص أغانيها، وأخذتُ أحفظها. وما زلتُ أذكر البيت الذي يقول:

الحرب في حقٍّ لديك شريعةٌ
ومن السمومِ الناقعاتِ دواءُ!

وكانت كلمة الناقعات مكتوبةً بالفاء خطأً «النافعات»، وأخذتُ أغنِّيها كذلك سنواتٍ طويلة!

وإلى جانب الكُتب والأغاني، اكتشفنا الأفلام. كان في شبين الكوم ثلاث دُورٍ للسينما، إحداها مغلَقةٌ دائمًا؛ فكانت هناك سينما «نادية» الشتائية في الضفة التي يقع فيها مبنى السجن، وسينما «النصر» الصيفية في الضفة التي بها المدرسة. وكنا نذهب إلى السينما كل يوم أربعاء، ولنا لوجٌ مخصوصٌ فيهما، فكنا نتابع مسلسلَي كابتن أميريكا وشازام وغيرهما بانبهارٍ شديد، ونرى أيضًا أفلام رعاة البقر، علاوة على الأفلام المصرية الفكاهية والعاطفية، مما غذَّى فينا الخيال، وألهب المشاعر الدفينة في تلك السن الغضَّة. وتأثَّرتُ تأثرًا كبيرًا بالأفلام التي أشاهدها وروايات المغامرات التي أطالعها، فبدأتُ أنتهز فرصة وجود عدد كبير من الأصدقاء وأدعوهم إلى مشاهدة عروضٍ مسرحية أقدمها أمامهم؛ حيث أرتجل وحدي أنواعًا من المغامرات والقصص المسرحية التي تعتمد على الأكشن، يستمدها خيالي مما أختزِنُه من روايات أحدِّثُ نفسي بكتابتها تقليدًا لما كنت أقرأ وأشاهد. وكانت تلك العروض تلقى نجاحًا كبيرًا ممن يشاهدها، حتى أدخلَتْ في ذهني أنني سأصبح ممثلًا حين أكبر، وأصبحتُ أقول لمن يسألني ما أريد أن أفعل في المستقبل إنني سأعمل ممثلًا! وقد أُعجِبنا أيضًا بالأفلام الفكاهية الهَزْلية التي شاعت أيامها، من تمثيل لوريل وهاردي وبودابوت وكاستلُّو وإخوان ماركس. ولم تعُد الأجيال الحالية تعرف أيًّا من هؤلاء الممثلين الذين ملَئوا صبانا وشبابنا بالضحكات والبهجة.

وكانت نتيجة حضورنا السينما كل أسبوع أن شاهدنا كل الأفلام المصرية التي أنتِجَت في تلك الفترة، والتي أصبحَت رصيدًا مهمًّا في ذاكرتنا الفنية بعد ذلك، ومنها الأفلام الاستعراضية الغنائية لمحمد فوزي وفريد الأطرش وليلى مراد. ومن تلك الأفلام قلبي دليلي، وعنبر الذي خرجنا منه في صبانا باستعراض اللي يقدر على قلبي واستعراض حدش مشغول البال، وبعد ذلك اهتمَمنا بأغنية مين يرحم المظلوم، وإعادة الموشَّح القديم «ملا الكاسات وسقاني». وأذكُر أنني عاودني الخوف من منظرٍ مكبَّر للقصبجي وهو يتوعَّد أنور وجدي وليلى مراد بأنهم «سيذبحونهما زي الفراخ!» وأفلام محمد فوزي وأغانيه الاستعراضية في فيلم «الحب في خطر»، مثل استعراض جنينة الغرام؛ حيث اختارت صباح إسماعيل ياسين على محمد فوزي؛ لأنه ضحى من أجل لقائها بأكلة قلقاس وملوخية! أما فيلمه الرومانسي «ورد الغرام» فقد أسعد الجميع وما يزال، بأغنيات شحات الغرام وديالوج «فيه حاجة شغلاك» وقفشات سراج منير وسليمان نجيب حول عمل كلٍّ منهما.

وأبهجَتْنا الأفلام الكوميدية الرومانسية لكمال الشناوي وشادية، والكوميدية الصرف كفيلم المليونير لإسماعيل ياسين، الذي ما يزال يُضحِكنا حتى اليوم. وهناك الأفلام الدرامية التي أبكَتني مثل فيلم «وداعًا يا غرامي» وفيلم «ابن النيل». وقد عادت ذكرى ذلك الأثَر بعد ذلك حين عُرض الفيلم الأخير في التليفزيون في الستينيات، وكان يشهده صبي من أبناء الجيران، فوجدتُه يبكي عند المناظر نفسها التي كانت تُبكيني صغيرًا. أما الفيلم الذي أضحكَنا وأبكانا في الوقت نفسه فهو «غزل البنات»، وأودَع عندي أيضًا رومانسية الحب وسُموَّه الروحي الفائق متمثلًا في أغنية عبد الوهاب «عاشق الروح»، التي كانت وما زالت تغمرني في روحانيةٍ صوفيةٍ عشقية فائقة، فجمع ذلك الفيلم كل العناصر التي نُحبها، فكان أول فيلمٍ أشتريه على شرائط الفيديو كاسيت حين ظهر فيما بعدُ.

وفي سينما النصر الصيفية، كانوا يديرون أسطوانات الأغاني حتى يحين موعد العرض، وفي الاستراحة أو في فترات انقطاع الشريط. ويبدو أن مدير الدار كان معجبًا بفريد الأطرش، فكنا نسمع أغانيه في تلك الفترة مرارًا وتكرارًا: «ليه دايمًا معرفشي بتقولي مقدرشي»، «حبيبي فين»، «أحبك إنت»، «يا زهرة في خيالي» حتى ضجرنا منها ونحن أطفال، ثم ها أنا أسمعها الآن في الغربة في الأفلام التي ظهر فيها فريد في ولعٍ شديد. والحقَّ أن أغاني ذلك الزمن — وحتى هجمة الأغاني الشبابية والحديثة — هي رصيدٌ لا يفنى من الألحان والمعاني الرقيقة والأصوات العذبة، وهي التي طبعَت حياة أفراد ذلك الجيل بالطابع الرومانسي في الحب، ومعاناة الفراق والتدلل وصراعات التقاليد والأعراف الاجتماعية. وما زال أغلبنا يعيش مع تلك الأغاني الخالدة، التي بعثَها أكثر طبع الأفلام القديمة على شرائط الفيديو والدي في دي، حتى أصبحنا نعيش في طيَّاتها بدلًا من الأغاني الحالية التي لا نستسيغها، ولا تُعبِّر عنا بأي حال.

وكانت الأسرة تُمضي شهرًا من شهور الصيف في الإسكندرية؛ حيث كنا ننزل في كابين أنيق في حي كليوباترا يملكه أحد أصدقاء والدي. وكان الكابين يُطِل على البحر، مما مكَّنَنا من النزول للاستحمام واللهو في المياه القريبة من الشاطئ؛ فلم نكن قد تعلَّمنا السباحة. وكنا في الليل نلعب مع الأصدقاء والأقارب كل أنواع اللعب والمغامرات المألوفة في تلك السن. ولم أكن أنسى القراءة في المصيف، بعد الاستحمام أمام الكابين، ومَرَّ علينا أحد الآباء يومًا فإذا به يصيح غاضبًا: «إيه ده؟ كلكم كده عندكم ملحق!»، إذ كانت القراءة ترتبط في ذهنه بالاستذكار والامتحانات فحسب.

وفي مارس ١٩٥٢م بزغَت شمسٌ جديدة في ثقافتنا المصرية، بصدور سلسلة كُتب «كتابي»، ثم «مطبوعات كتابي» على يد الأستاذ حلمي مراد. وقد أقبلنا على اقتناء هذه الكُتب بحماسٍ بالغ؛ إذ كانت تصدُر في طباعةٍ متقنة وأغلفةٍ برَّاقة بثمنٍ زهيد لا يزيد على ثمانية قروش. وكانت السلسلة تقدِّم خلاصةً لأهم الكُتب التي تهمُّ المثقَّف الواعي، وتتنوَّع كيما تشمل جميع مناحي الأدب والفن والفكر والعلوم، فكان فيها القصص القصيرة، والروايات، وكُتب التاريخ، وسِيَر الحياة، وتاريخ الفن والفنانين، وغير ذلك. وقد عرَفْنا عن طريق كتابي ومطبوعاته ركيزة الكُتب الأساسية، وبنَينا عليها فيما بعدُ ما يلزم من قراءة الأعمال التي وردَت ملخَّصةً في أصولها الكاملة، فمنها عرفنا دون كيشوت، والجريمة والعقاب، والشيطان على الأرض، ومسرحيات موليير، وكُتب علم النفس الحديثة، وحياة وأفكار جان جاك روسو وجورج صاند وجان بول سارتر. وزاد حلمي مراد بعد ذلك فقدَّم لنا سياحاته في الدول الأجنبية، واللوحات الفنية الخالدة لكبار المصوِّرين الأجانب والمصريين، مطبوعة على «ورق الكوشيه الفاخر».

وفي هذه الأثناء، وقع الحدَث الجلَل، إذ فاجأَنا الراديو ذات صباح (الأربعاء ٢٣ يوليو ١٩٥٢م) بنبأ قيام الجيش بحركةٍ عسكريةٍ سلمية، لم يكن أحدٌ يعرف مداها أو ما وراءها، إلى أن سمعنا الراديو يُنبِّه إلى إذاعة بيان مهم في مساء السبت ٢٦ يوليو. ولم يُثِر ذلك توقعًا خاصًّا من جانب أسرتي، فكان والدي خارج المنزل، وكانت والدتي في حديقة المنزل مع بعض الزائرات. وكنتُ أنا الذي أستمع بالصدفة إلى البيان، الذي أعلن تنازُل الملك فاروق عن العرش، وخروجه من البلاد إلى المنفى. ولا أعلم مدى تأثُّري بذلك النبأ إلا من ردَّة الفعل لديَّ؛ فقد رغبتُ أن أكون أول من ينقل ذلك الخبر، فهُرِعتُ من فَوْري جاريًا بسرعةٍ فائقة هابطًا السلم، ومندفعًا أصيح بأعلى صوتي: «عزلوا الملك، عزلوا الملك!» ولكن النتيجة جاءت سريعًا عكس ما توقَّعْت؛ فقد كان هناك «خروف» مربوط إلى شجرة بالحديقة، استعدادًا لعيد الأضحى الذي كان قريبًا، فانتابه الفزَع من صياحي، فقطع حبله وانطلق يعدو بأقصى ما يستطيع هنا وهناك. ونسي الجميع الثورة والملك، وانطلَقوا وراء الخروف للإمساك به، وهو ما نجحوا فيه بعد جهدٍ جهيد.

وكان وقع الثورة وتغييراتها كبيرًا في الحياة من حولنا، وأصبحنا نستمع إلى أغنياتٍ وطنيةٍ جميلة: «صوت الوطن» لأم كلثوم، دعاء الشرق لعبد الوهاب، «على الإله القوي الاعتماد» لليلى مراد، «ما خلاص اتعدلت» لأحمد عبد الله. وبالطبع «نشيد الحرية» لعبد الوهاب، الذي أصبحَت مقدمته الموسيقية فاتحة نشرة الأخبار بدلًا من موسيقى مارش النصر في أوبرا عايدة لفردي.

وكنا نحن الذين في عمرنا الغضِّ مدفوعين إلى الحماس بما يدور حولنا، دون أن ندرك مدى هذا التغيير ومعناه. وبدا والدي قلقًا من التغييرات المرتقبة ومن «حملات التطهير» التي بدأ رجال الثورة إجراءها في كل دوائر الحكومة، ولكنه اطلع على التقرير الذي تم وضعه عن ضباط مصلحة السجون — وكانت تابعةً أيامها لوزارة الحربية — وجاء فيه أنه يُعَد من أشرف الضباط وأطهرهم يدًا. وبعد ذلك بقليل، نال ترقيةً إلى رتبة القائمقام (العقيد حاليًّا)، وبعد ذلك بشهور نُقل إلى سجن الحدراء (الحضرة) بالإسكندرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤