القاهرة

٥ شارع محمد شكري

سَعِدنا حين رأينا شقتَنا في ٥ شارع محمد شكري بالعجوزة؛ فهي واسعة، مُشرِقة، جديدة لم يسكنها أحدٌ قبلنا، بها شرفتان، وحمَّام ونصف. وهي تقع في منطقةٍ هادئة، في شارعٍ تصطَفُّ فيه الأشجار ذات الأزهار الحمراء الوهَّاجة، وأمامها فضاءٌ شاسع يظهر على البعد منه عماراتٌ شاهقة عرَفْنا بعد ذلك أن اسمها عمارات السعودية. والأهم من ذلك أن المدرسة التي قَبِلَت أوراقنا أنا وأخي الأكبر للثانوية العامة — وهي مدرسة الأورمان الثانوية النموذجية — كانت على مَبْعدة دقائقَ سيرًا من الشقة. وكان للشقة بابان؛ أحدهما الرئيسي ويُفضي إلى الصالة، والآخر جانبي يُفضي إلى غرفة الصالون.

واحتلَّ والدي الغرفة التي بها الشرفة المُطِلة على الشارع، واقتسمتُ مع أخي الأكبر غرفةً داخلية، بينما اتخذَت والدتي الغرفة القصوى هي وأخي الأصغر. وكانت الشغَّالة تنام في غرفة المطبخ.

وكان استكشاف معالم القاهرة متعةً خالصة لي. وكالعادة كنتُ أركِّز على دُور السينما والمكتبات، وكان أول فيلمٍ شاهدناه هو «ثورة المدينة» لمحمد فوزي وصباح. وعرفتُ خط أوتوبيس أبو رجيلة رقم ٦ الذي يذهب إلى وسط البلد، وكذلك ترام رقم ١٥ الذي يشُق شارع النيل الرئيسي، ويربط الجيزة بميدان العتبة. وبالطبع، كان أهم اكتشافٍ لي في القاهرة هو سور الأزبكية بذخائره التي لا تُعد ولا تُحصى من الكتب والمجلات وجميع المطبوعات بكل اللغات. كان كنزًا وانفتح أمامي، فأصبحتُ أتردَّد عليه كلما استطعتُ مستمتعًا بمرأى الكتب والطواف عليها. وبدأتُ أشتري الكُتب التي تعوَّدتُ عليها: روايات الجيب، وروكامبول، وما فاتني من روايات الهلال ومطبوعات كتابي بقروشٍ زهيدة. وبدأتُ أيضًا في اقتناء القواميس الصغيرة إنجليزي – عربي، وإنجليزي – فرنسي.

وفي مدرسة الأورمان، وجدتُ نفسي في وسطٍ لم آلَفْه من قبلُ من حيث مستوى الطلاب فيها. كنتُ متعودًا أن أكون من بين المستوى الأعلى من التلاميذ دائمًا، بالنسبة إلى مجموع الطلاب في أي فصل. أما في الأورمان، فكان معي طلبة من عِلية القوم، وأثريائه على وجه الخصوص. كان هناك من زار أوروبا وله صورٌ مع برج إيفل في باريس، والكثيرون يحضرون إلى المدرسة في سياراتٍ خاصة ويرتدون أفخر الملابس. بيد أنني لم أشعر بأي إحساسٍ مغاير؛ إذ لم أكن أفكِّر في تلك الأمور على الإطلاق، كما أنني كنتُ أُعتبَر من طبقةٍ مناسبة أيضًا باعتبار والدي في رتبة اللواء، في وقتٍ كان الضباط هم أصحاب الحل والعقد في البلاد، ولكنني لم أكن أرى أننا من طبقة الأثرياء؛ فرغم أن والدي كان يتوجه إلى عمله بمصلحة السجون في شارع قصر النيل في عربةٍ حكوميةٍ فاخرة يرتفع في وسطها العلم الرسمي، لم تكن لدينا عربةٌ خاصة، وإذا خرجنا في العطلات نركب الأوتوبيس. وكان الركاب يندهشون لرؤية والدي حين يكون معي بزيه العسكري في الأوتوبيس؛ فلم يكن مألوفًا ألا يكون لأحدٍ في هذه الرتبة عربةٌ خاصة. وكان الكمسارية يرفضون أن يتقاضَوا ثمن التذكرة مني، أما والدي فقد كان يركب مجانًا بحكم عمله!

وكانت الدراسة الثانوية جادة، وتخصَّصتُ في مادة التاريخ، وتنافستُ مع بعض الطلبة في اللغة العربية واللغة الإنجليزية. وكان تشجيع مدرس اللغة الإنجليزية (الدكتور) جرجس الرشيدي عاملًا هامًّا في بداية قراءاتي الجادة خارج المقرَّر. وأذكُر أنني كنتُ أقرأ رواية أوليفر تويست في نسختها المبسَّطة، فرآني الأستاذ الرشيدي فصاح مستنكرًا عبارتَه التي ما زلتُ أذكرها: what a shame, Maher، وكان يعني أنني يجب أن أقرأ الكتاب الأصلي الكامل وليس التبسيط. وكنا ندرُس في الإنجليزية موضوعاتٍ أخرى من كتاب العام الماضي «المختارات»، بالإضافة إلى مسرحية «كرايتون العجيب» تأليف ج. م. باري، التي طالعتُها بنهمٍ وإعجاب. وسرعان ما اشتريتُ أول قواميسي الكبيرة من الإنجليزية إلى العربية من سور الأزبكية، وهو قاموس سعادة من جزأَين، وقد اصفرَّت أوراقه، وسرعان ما بدأَت تتآكل.

أما في اللغة العربية فقد درسنا — ضمن جملة أشياء — مسرحية مجنون ليلى، وكنا نتنافَس في إلقاء أبياتها وفهم معانيها. وساعدَني على حفظ بعضها غناء عبد الوهاب للكثير من مقاطعها: الدويتو مع أسمهان، جبل التوباد، تلفَّتَت ظبية الوادي.

كانت مواد الثانوية العامة مقدمةً معقولة للدراسات التي سأُقبل عليها بعد ذلك. ولمَّا كان تخصُّصي في التاريخ، استهوَتْني دراسة الثورة الفرنسية التي درَسْناها باستفاضة. كان مدرسو الأورمان على قدرٍ عالٍ من التمكُّن في تخصُّصاتهم، فكانوا يُحبِّبوننا في المواضيع التي يُدرِّسونها لنا. ورغم كل حبي للأدب والتاريخ والكتب، دفعَتْني العادة في التفكير إلى وضع اختياراتي للكليات في شهادة التقدُّم لامتحان الثانوية العامة على الترتيب التالي: كلية الطيران – كلية البوليس – كلية الآداب. كنتُ في الخامسة عشرة من عمري آنذاك، أنظر إلى وظيفة الضابط نظرةً طبقية؛ فهي وظيفةٌ مرموقةٌ ومضمونة. ولمَّا كان والدي وكثيرٌ من أفراد عائلتي من الضباط، لم أكن قلقًا من ناحية كشف الهيئة، ولم يخطُر على بالي حينئذٍ عقَبة الكشف الطبي.

كان الاستعداد للامتحان شاقًّا، وكان نجيب أفندي صديق والدي يحضُر كي يشرح لنا ما نريد من الدروس، وكنا نعرفه من أيام شبين الكوم. وقد عَبَرنا أيام الامتحان على خير، وتحرَّرنا بعدها في انتظار النتيجة. وعُدتُ إلى القراءة الحرة والأفلام وسماع المسلسلات في الراديو والأغاني التي أحبُّها، والجلوس مع والدي في البلكونة المُطِلة على الشارع.

وظهرَت النتيجة ونجحتُ أنا وأخي، وتقدَّمنا بأوراقنا: هو إلى الكلية البحرية وكلية البوليس، وأنا إلى كلية البوليس وكلية الآداب جامعة القاهرة. وكانت هذه أول سنة يُطبَّق فيها نظام مكتب تنسيق القبول بالجامعات. وفي كلية البوليس، التي كان مقرها في حي العباسية، اجتزتُ كشف الطول والوزن. وذهبتُ لأداء الكشف الطبي، وذهب معي أحد الضباط من العاملين مع والدي، ولكني فوجئتُ برسوبي في كشف النظر. كان المطلوب ٦ على ٦ في كلتا العينَين، ولكن عيني الشمال كانت ٦ على ٩. وتقرَّرَت لي إعادة. وفي الفترة بين الكشف والإعادة، فعلنا كل شيء لتقوية النظر، من أكل الجزر إلى التطلُّع لمُددٍ طويلة إلى الحشائش الخضراء في المتحف الزراعي المجاور لبيتنا، بالإضافة طبعًا لمحاولات التوصية والوساطة. وفي إعادة الكشف، رسبتُ ثانيةً في النظر. ورسبتُ أيضًا في الإعادة الثالثة والأخيرة.

وتم قبولي بكلية الآداب جامعة القاهرة، وقُبل أخي بكلية البوليس. وكنتُ قانعًا راضيًا بكلية الآداب، وأقبلتُ عليها بنفسٍ مفتوحة، ومضيتُ قدمًا في إجراءات القَبول بها. وفي الكشف الطبي، اجتزتُ اختبار النظر بدرجة ٦ على ٦ في كلتا العينَين، ولكنهم طلبوا منى إجراء كشف أشعة على الصدر نظرًا لنحافتي. وجاءت أشعة الصدر سليمة، وبقي أن أختار القسم الذي ألتحق به في الكلية. وحين طلبتُ الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية، اتضح ضرورة أن أكون قد تخصَّصتُ في تلك المادة في الثانوية العامة، فاخترتُ قسم الاجتماع كبديل، ولكن والدي لم يرتَحْ لذلك الاختيار، وأصَرَّ على أن ألتحقَ بقسم اللغة الإنجليزية حيث المستقبل أفضل، وكان ذلك بصيرةً منه حيث ثبت ذلك قطعيًّا ولو بعد عدة عثَرات. وسعى والدي لدى معارفه للتوسُّط عند عميد الكلية. وتدخَّل القدر في ذلك بعد أن التقى عند أحد أطبائه بصديقٍ للعميد وعَد أن يُحادثه في الأمر. وبالفعل، تم قَبولي بقسم اللغة الإنجليزية، وكان ذلك في سبتمبر ١٩٥٦م.

وكانت المحاضرات الأولى استكشافية، للتعرُّف على ذلك العالم الغريب الجديد في الجامعة. معنا فتياتٌ كثيرات، وهناك معيداتٌ فاتنات. هناك موادُّ عامة للسنة الأولى كلها، مكانها المدرَّجات الكبيرة، مثل مدرَّج ۱۳ في مبنى القسم، أو ٧٤ في مبنى الكلية، ثم ينقسم الطلاب إلى مجموعاتٍ لحضور موادَّ معيَّنة. وفتحَت لي دراسات القسم مجالاتٍ جديدة للقراءة والمعرفة. كنا ندرُس النقد، الشعر، الرواية، جغرافية إنجلترا وتاريخها، اللغة اللاتينية، اللغة الفرنسية. وكان العميد، الدكتور عز الدين فريد، هو الذي يُدرِّس لنا التاريخ والجغرافيا. وكانت محاضراته في مدرَّجٍ عامٍّ كبير، ويتكلم بهدوء ووضوح، وينتقي كلماته، ويحدِّثنا عن أمورٍ ثقافيةٍ عامة إلى جانب مادة الدراسة، مما جعل محاضراته متعةً عظيمة. ودفعَني ذلك إلى شراء كُتب «أكسفورد» عن تاريخ إنجلترا من على سور الأزبكية، بالإنجليزية، مما ساعدَني كثيرًا على هضم تلك المادة التي تُشكِّل رافدًا مهمًّا لدراستنا للأدب والحضارة الإنجليزيَّين.

أما في الرواية، فقد درسنا مرتفعات وذرنج لإميلي برونتي، وكنتُ قد قرأتُ ملخَّصَها في كتابي، وصدَرَت بعد ذلك كاملةً في مطبوعات كتابي، واشتريتُ الترجمة اللبنانية لها كيما تسهل لي مطالعتها بالإنجليزية، وكتمرين على الترجمة أيضًا. وسَعِدتُ جدًّا بالرواية وأجوائها، وبالرومانسية التي تشيع في حب هيثكليف لكاثي. وحين بدأتُ في مطالعة المقالات المقرَّرة علينا في كتاب النقد الأدبي، واجهتُ صعوبة في فهم العبارات ومقاصدها؛ فقد كان أسلوبها جديدًا عليَّ تمامًا. وكان من بين تلك المقالات «التقاليد والموهبة الفردية» لإليوت، وهو من معالم النقد الجديد الذي كان يُشيعه الدكتور رشاد رشدي، رئيس القسم آنذاك. وفي الشعر، درسنا كتاب «الذخيرة الذهبية» لبلجريف، وكانت به مقطوعاتٌ ممتعة أدخلَتْني مباشرةً إلى زُبدة الشعر الإنجليزي، خاصةً الشعراء الرومانسيين.

وبدأتُ أكوِّن صداقاتٍ مع بعض الزملاء في القسم، فتعرَّفتُ على صلاح ونبيل ووهيب وحلمي وعبد الرحمن وعبد الستار وحامد وتهامي. ولم تكن العلاقة مع الفتيات سهلة، فلم تتعدَّ صِلاتنا بهن التحية والأسئلة العابرة.

وفي وسط كل هذا، وقع العدوان الثلاثي في أواخر أكتوبر ١٩٥٦م. وكنتُ في الكلية مساء يوم، حين أخرجونا من محاضرة المعيدة «ثريا» قائلين إن الدراسة بالجامعات قد توقَّفَت لأجلٍ غير مسمًّى. وعُدنا إلى المنزل في توجُّس وترقُّب. وعشنا تلك الأيام القَلِقة في فَورة من الحماس الوطني، من خطاب عبد الناصر في الأزهر، وغارات الطائرات على المدن المصرية، والإنزال في بورسعيد، وعمليات المقاومة المصرية الشجاعة. وطَوالَ تلك الفترة، كنا ملتفِّين حول الراديو نسمع أخبار القتال، وتوقَّفَت محطة الشرق الأدنى التي كانت تُذيع بالعربية من قبرص فتأكَّدَت تبعيَّتها لبريطانيا. وجاء عدد من أفراد الجيش وتمركَزوا في أسفل عمارتنا في ٥ شارع محمد شكري، وبات البلد كله في حالة حرب. واستمرَّت المناوشات في بورسعيد وحرب العصابات ضد القوات المعتدية هناك، واتضح من الأيام الأولى تآمر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل للقيام بهذا العدوان الثلاثي. وأفرخَت هذه الظروف الكثير من الأناشيد والأغاني الوطنية التي ألهبَت حماس الناس وباتت على كل لسان: والله زمان يا سلاحي، الله أكبر، دع سمائي …

ولم أنقطِع في تلك الأثناء عن القراءة وزيارة سور الأزبكية. وكانت إميلي برونتي قد أعجبَتني، فواصلتُ قراءة روايات الأخوات برونتي الأخرى، مثل جين إير وفيليت، كما قرأتُ عن حياتهن الغريبة. بيد أن تحوُّلًا رئيسيًّا طرأ عليَّ في تلك الفترة، وجعلَني أشعر، مرةً أخرى، بضرورة الالتحاق بكلية البوليس لضمان مكانةٍ اجتماعيةٍ لائقة، على أن تكون القراءة والأدب والفن هي الهوايات الأساسية التي أمارسها بجانب عملي. وشجَّعني على ذلك ما رأيتُه من إحرازي المعدَّل المطلوب للنظر في كشف الجامعة الطبي. وكنا نزور أخي الأكبر في الكلية بعد انتهاء فترة ٤٥ يومًا من العزل الكامل. وفي زيارتنا الأولى، وجدتُ بعض الطلبة يبكون عند مرأى أسرتهم، ولكن أخي كان سعيدًا بدراسته وبزيارتنا. وبعد ذلك، انتظمَت زياراتُه لنا في عطلة نهاية الأسبوع.

وعاد السلام إلى مصر بعد نجاح الأمم المتحدة وقوات الطوارئ في حل الأزمة، وانسحبَت القوات الغازية كلها، وساعد على ذلك طرفا النقيض: الاتحاد السوفييتي وأيزنهاور. ولم نعلم نحن المصريين في ذلك الوقت بمرور السفن الإسرائيلية بمضيق تيران حتى أزمة ١٩٦٧م. بيد أن الجميع كانوا مبهورين بقدرة مصر الناصرية على صد عدوان ثلاث دولٍ مجتمعة وإجبارها على سحب قواتها والخروج من الأراضي المصرية. وبدا انتصار مصر في انتهاء اتفاقية الجلاء بينها وبين بريطانيا، وما حدث من بعدُ من استقالة إيدن، رئيس وزراء بريطانيا أيام العدوان. وسَعِدنا بصوت أم كلثوم يشدو «صوت السلام»، وفايدة كامل تغني «عاد السلام يا نيل».

وانتظمنا في الدراسة ثانية، ولكن قراري بترك كلية الآداب والالتحاق بكلية البوليس استمر، مخلفًا أثرًا ضارًّا وعميقًا في تحصيلي الجامعي؛ فلم أعُد أهتم بالمواد والكتب المقرَّرة علينا، ورحتُ أطالع ما أريد من كتبٍ خارجية بالعربية والإنجليزية. وعرفتُ طريقي إلى مكتبة مدبولي بوسط البلد بميدان سليمان باشا (طلعت حرب)؛ حيث تصل المترجمات اللبنانية الكاملة لروائع الأدب العالمي. وانغمستُ في تلك القراءات العامة على حساب المواد الجامعية، وفي التردُّد على دُور السينما لمشاهدة أحدث الأفلام. وقد شُغفتُ شغفًا هائلًا بفيلم «طيش الشباب» لجيمس دين، وعنوانه الأصلي Rebel Without a Cause، وهو أول فيلم يُعرض في مصر لهذا الممثِّل، الذي أصبح بعد ذلك رمزًا للتمرُّد على كل ما هو مألوف. وقد وجدتُ في الفيلم مثالًا للشباب غير المتآلفين مع بيئتهم وواقعهم، ويحلُمون بعالمٍ أفضل يحقِّقون فيه ذواتهم، ووجدتُ نفسي أتماهى مع تلك الأحاسيس، وأشعر بنفسي غريبًا غير مؤتلفٍ مع نفسي ولا مع مجتمعي. وأُعجِبتُ من يومها بجيمس دين وبناتالي وود التي مثَّلَت معه، وتابعتُ أفلامهما الأخرى من يومها. والغريب أن كلَيهما قد لقيا مصرعَيهما في ظروفٍ فاجعة.

وتعرَّفتُ في ذلك الوقت على الشخص الذي سيكون له الأثَر الأعمق في توجهاتي الأدبية مستقبلًا، والذي توثَّقَت علاقتي به حتى يومنا هذا (الدكتور) محمد عناني؛ فذات يوم كنتُ عائدًا من الكلية سيرًا على قدمي كالمعتاد أحيانًا، حين دلفتُ من شارع النيل إلى شارع الدري (الفردوس)، سمعتُ من ينادي عليَّ في مواجهتي، ويسألني إن كنتُ أدرس في قسم إنجليزي بآداب القاهرة، فلما أجبتُ بنعم قال إنه هو الآخر يدرُس في القسم، في السنة الثانية، وإنه يسكن في شارع الدري. وذكَرتُ له أنني أسكن في شارع محمد شكري، وتبادلنا حديثًا طويلًا عن الأحوال في القسم وفي الحي، وسرنا معًا تجاه بيته. وسألَني عما أدرس وأقرأ، فقُلتُ له إنني أقرأ كثيرًا خارج المقرَّر، وإنني قد بدأتُ أكوِّن مكتبةً صغيرة عندي في البيت، فقال إننا يجب أن نتزاور؛ فهو يهوى القراءة أيضًا، ويُحب الموسيقى والغناء مثلي، ولديه عودٌ يعزف عليه حين يكون وحده في البيت.

وحين اقترب موعد امتحانات التيرم الأول، بذلتُ جهدًا كبيرًا في استذكار ما استطعتُ من مقرَّر الرواية، ولكن النقد النظري وقف عقبةً كأداءَ أمامي، والأسوأ أن امتحانه كان شفويًّا. وانعقَدت الامتحانات في شهر فبراير متأخرة عن موعدها بسبب الحرب. وأجبتُ في الاختبارات التحريرية بما أعرف، وإن كان خامرَني الإحساس بأنني لن أنجح؛ ولازمَني هذا الشعور في معظم الامتحانات التي تقدَّمتُ إليها طوال عمري. أما امتحان النقد فقد كان مهزلة. كانت اللجنة مشكَّلة من الدكتور رشدي مع دكتورٍ آخر حديث السن هو الدكتور سعد، وكانا يمتحنان طالبَين معًا في كل مرة. ودخلتُ مع صديقي وهيب، ويبدو أنني ورَّطتُه معي في شأنٍ لا يهمني كثيرًا باعتبار أن سنة الآداب هذه هي سنةٌ عابرة سأتركها إلى كلية البوليس. وفيما يلي نص خطابٍ طريفٍ عابث أرسلتُه بعد الامتحانات وبدء إجازة نصف السنة إلى صديقي عبد الستار بعد أن سافر إلى قريته، يصف بطريقةٍ هَزْلية شعوري عن هذا الامتحان، وأثبِتُ الخطاب كما كتبتُه بأخطائه وعبَثه:

القاهرة في صباح ٢٦ / ٢ / ١٩٥٧م حسب التوقيت المحلي للمدينة وعلى المقيمين خارجها «المنصورة» أن يُراعوا فروق التوقيت
عزيزي عبد الستار

«بعد التحية والسلام، والصلاة على خير الأنام، تركتك وأنت فرحان ومزأطط، وتركتني وأنا ضلوعي عماله تفطفط. إنت خلصت الامتحان، وأنا إلى تخليص الامتحان عطشان. إنت ضامن نجاحك وفلاحك، وأنا — ماهر البطوطي — ضامن سقوطي. ولا أطيل عليك الكلام، قول لأ طوِّل، ذهبت باكر امتحانك (٢٥ فبراير) إلى اللجنة ووجدت صلاح قيَّد اسمه (لأنه لم يكن قد امتحن بعدُ) وكان رقمه في الورقة ٤ فقيَّدت اسمي رقم ١٨. أما صلاح، فقد امتحن وعمل كويس جدًّا، أما أنا فلم يصل إليَّ الدور فرجعت البيت فرحان، وفي جيبي جعران.

ولكني كنتُ قد صمَّمت على الامتحان في هذا اليوم المشئوم، فجئتُ ثانية إلى لجنة الامتحان بعد الظهر ولم يكن فيه طلبة كثير، ولم يكن هناك إلا لجنة رشدي – سعد، فدخلتُ أنا وواحد وجلسنا. وإليك ما دار بالحرف والنص، ولن أحذف شيئًا لئلا تعتبرني لص، وتعزمني على أكلة خص (خس). سألونا عن اسمنا، فلما أدليتُ باسمي سألني دكتور رشدي «هل أنت تقرب لابن بطوطة» (والله العظيم ده حصل، والله العظيم، والله العظيم) وضحكنا.

ثم هف زميلي سؤال عن The statement in narration، فطقطق قلبي لأني لا أعرف شيئًا ولا حرفًا في هذا السؤال. ولكن الحمد لله جاوب زميلي فيه ببعض الكلام. ثم سألني أنا عن The unity of action فجاوبت بالنص: The action must be united، ثم تذكَّرتُ بعض الكلام عن اﻟ Organic، ثم سألني بعدها أسئلةً كثيرة.

ولا أطيل عليك الكلام، قول لأ طوِّل، فبالاختصار لبَّخت تلبيخ شديد.

أظنك تمرح الآن في الغيطان، مع الشيخ زيدان، وتتقاذفوا بحبات الرمان. أما عن حالنا فقد انتهى الامتحان، وبدأت القراءة والزوغان.

لقد افتقدناك كثيرًا، فقد كنت تفطرنا فطيرًا، وتجعل يومنا مطيرًا، وتُلبسنا حريرًا. ولكن ها قد جاء التيرم الثاني، ولا بد أن تعود من تاني، ومعاك الريال البراني، وتقعد تكلمنا عن الكاني والماني.

ما زلنا أنا وصلاح نضحك على قلقاس، فأثبتنا أننا من جزيرة سيلاس.

وأخيرًا:

أرجو أن تكون بخير صحة وعافية، وتكون المنصورة بلد دافية، وأن تكون معدتك تهضم الزلط، ولكن على ألا تركب متن الشطط.»

أخوك: ماهر البطوطي
٥ شارع محمد شكري بالعجوزة – القاهرة

وعبد الستار هذا له قصةٌ تماثل قصة «شباب امرأة» التي تحوَّلَت فيلمًا من تمثيل تحية كاريوكا وشكري سرحان وشادية، ولا أدري هل قيَّض له الله فتاة تقوم بدور شادية أم جرَفه تيار تحية كاريوكا.

وفي إجازة نصف السنة المختصرة، عرفَت قدماي كنزًا جديدًا متمثلًا في دار الكتب بميدان باب الخلق، فتردَّدتُ عليها كثيرًا، واستخرجتُ بطاقة للاستعارة الخارجية. واستمتعتُ بفحص بطاقات الكُتب في أدراجها، فتعرَّفتُ على كثيرٍ من العناوين التي كنتُ أجهل وجودها. وأعدَدتُ قائمة بالكتب التي لفتَت انتباهي، وأكثرها في علم النفس، فقرأتُ ترجماتٍ لكُتب فرويد وأدلر ويونج، منها كتاب «تفسير الأحلام»، وكُتب عن الخجل والقلق والانطوائية. وكنتُ أقرأ كتابًا داخل الدار، وأستعير كتابَين للقراءة الخارجية.

وبدأ التيرم الثاني في أوائل مارس، وذهبتُ إلى منطقة المدينة الجامعية لدفع المصروفات واستخراج الكارنيه. ووقفتُ مع شلة الأصدقاء. وفي لمحةٍ خاطفة، وقع بصري على الفتاة التي ستصبح محط اهتمامي وموضع استحواذي لسنواتٍ عدةٍ قادمة، فتاةٍ صغيرة، ترتدي زيًّا إنجليزيًّا للطالبات، يميِّزه الجونلة السكوتش الحمراء. ولكن أكثر ما يَلفِت النظر فيها هو عيناها. لم تكونا عينَين عاديتَين، بل عالمٌ بحاله، بحيرتان واسعتان، خضراوان خُضرةً لم تُعهد من قبلُ في العيون. رأيتُها عند شباك دفع المصروفات، وبعدها وقفَت تتحدث مع صديقةٍ لها. وبعد أن استخرجنا الكارنيهات، توجَّهنا إلى الجامعة ودخلنا القسم. ورأيتُها في القسم أيضًا رغم أنني لم أرَها قبل ذلك في التيرم الأول.

وأقبلتُ على دراسات التيرم الثاني بعدم الاكتراث نفسه، فمثلًا، كان مقرَّرًا علينا مسرحية مكبث لشكسبير، فقرأتُها مع مضاهاةٍ بالترجمة العربية التي قام بها لها خليل مطران، ثم طفِقتُ أطالع مسرحياتٍ أخرى لشكسبير في مكتبة الجامعة، وأدوِّن أسماء الشخصيات فيها. وأذكُر أن أحد الزملاء في نفس السنة وهو أحمد كمال، الذي أصبح معيدًا بعد ذلك، رآني أفعل ذلك، فدهِش دهشةً بالغة، ونصحني بالتركيز على المنهج المقرر ومكبث فقط. وكنا ندرس اللغة اللاتينية، ولم أكن أعرف أن الامتحان يأتي من نفس الفِقرات القليلة التي ندرسها؛ وعليه فقد قمتُ بالبدء في دراسة اللغة من أصولها، واشتريتُ كُتب تعليم اللغة بنظام «هوجو» الذي كان منتشرًا أيامها. وكان ذلك بالطبع بعيدًا كل البعد عما يتطلبه الامتحان. أما مادة اللغة العربية فقد كانت مبعث اغتباطي وسعادتي؛ فقد كنا ندرس أحمد شوقي، ونتلقى محاضراتٍ عامة من الدكتور شوقي ضيف، فدرستُ كتابه «شوقي شاعر العصر الحديث». كما درسنا إحدى قصائد المتنبي مع «الدكتور» سيد حنفي، وهي القصيدة التي مطلعها:

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمُه
بأن تُسعِدا والدمع أشفاه ساجمُه

ودخلتُ في جماليات هذه القصيدة البديعة الصعبة، وتشبَّعتُ بصورها الخلابة حتى كِدتُ أحفظها عن ظهر قلب. وقد تأثَّرتُ بهذَين الشاعرَين أشد تأثير بعد ذلك، وأصبح ديوان المتنبي ذو الجزء الواحد، من الكتب التي أصطحبها دومًا أينما سافرتُ في رحلةٍ طويلة أو إلى بلدٍ آخر.

وظهرَت نتيجة التيرم الأول، ووجدتُ أنني ووهيب قد رسبنا في مادة النقد الشفوية، ونجحنا في بقية المواد. ولم آبَه كثيرًا لذلك نظرًا إلى تطلُّعي لتغيير الدراسة بعد ذلك. وفي التيرم الثاني الذي استمر حتى يونيو، تعرَّفتُ على فكري صديق وهيب الذي اتضح أنه اكتشف الفتاة التي خطفَت قلبي عند استخراج الكارنيه، وأنه تعلَّق بها هو الآخر، وحاول التحدُّث إليها عدة مرات، ولكن فكري كان قد انقطع عن الدراسة، واختط لنفسه طريقًا آخر في العمل بالصحافة، مفضلًا ذلك على المُضي في دراسته الجامعية. وعرفتُ أن الفتاة اسمها شريفة (وأذكر هنا اسمًا مستعارًا غير الاسم الحقيقي)، ولكنها لم تكن تحضُر إلى الكلية بانتظام.

وتعدَّدَت الكتب التي عكفتُ عليها في تلك الفترة، من الروايات البوليسية، والسلاسل الشهرية في روايات وكتاب الهلال وكتابي ومطبوعات كتابي. وقرأتُ المزيد من روايات نجيب محفوظ ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله، وعشتُ كل أجواء الرومانسية التي زخرَت بها تلك الروايات؛ ولذلك فحين جاء وقت الامتحانات في شهر يونيو، لم أكن مستعدًّا جيدًا إلا في مادة اللغة العربية. وكان امتحان اللاتيني كارثةً محقَّقة؛ فقد كتبتُ أشياء لا علاقة لها بموضوعات الامتحان.

ومرَّت أيام الامتحان الذي أدَّيناه في ملحق قسم جغرافيا بالقرب من النيل. وبعد فترةٍ قصيرة من الإجازة في الإسكندرية، عُدتُ إلى القاهرة للاستعداد للتقدُّم إلى كلية البوليس من جديد. ومرَرتُ بنفس إجراءات العام الماضي، مع التركيز مجددًا على تقوية حدة الإبصار، من حقن التقوية، إلى إراحة العينَين، وإطالة النظر إلى الحقول الخضراء، بل ومحاولة الحصول على «واسطة» كبيرة. وتوجَّهتُ إلى الكشف الطبي، ومرةً أخرى أرسب في كشف النظر. وأعدتُ الكشف مرتَين أخريَين، مع تكرار الرسوب.

وعندها، لم يكن من بد من مواجهة الواقع. وأدركتُ أنه لا مفر من طرح الالتحاق بكلية البوليس جانبًا نهائيًّا. واستقر تفكيري المراهق أيامها بالتعويض عن ذلك بالالتحاق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ولكن ذلك كان صعبًا وأمامه عوائقُ كبيرة. ولم يعُد هناك من سبيل غير القبول بدراستي في كلية الآداب والانتظام فيها بصورةٍ جادةٍ هذه المرة. وكانت هذه العودة في ظروفٍ أسوأ؛ إذ كنتُ قد رسبتُ في مادتَين أخريَين في التيرم الثاني: اللغة اللاتينية والدراما، بالإضافة إلى مادة النقد السابقة. ورغم أنه قد جرت العادة في تلك الأحوال على «جبر» إحدى المواد الثلاث بما يسمح للطالب بالانتقال إلى السنة التالية بعلمَين، فإن ذلك لم يُطبَّق في حالتي لا أعرف لماذا، ووجدتُني أعيد السنة الأولى بثلاث موادَّ فقط!

وهكذا وجدتُ أمامي عامًا دراسيًّا كاملًا أدرس فيه موادَّ قليلة، مما أفسح المجال أمامي لقضاء ذلك العام كما أحب وأشتهي. وبالفعل، أصبح العام الدراسي ١٩٥٧ / ١٩٥٨م هو الفترة الأساس التي شكَّلَت مهادًا صلبًا لقراءاتي ومشاهداتي ومغامراتي الجمالية والعاطفية. كان عامًا فريدًا من كل جانب. أحسستُ بنفسي مُعلَّقًا ما بين السنة الأولى والسنة الثانية حيث كان جميع أصدقائي. ولم أكن أعُد نفسي بين طلاب السنة الأولى، فأصبحتُ أقسِّم وقتي بين محاضرات السنة الثانية مع أصدقائي نبيل ووهيب وحلمي وحامد، مع حضور الموادِّ المقرَّرة عليَّ في السنة الأولى. وقد جذبَتْني في السنة الأولى اهتماماتي بجمال الفتيات، وبرزَت منهن ليلى وليلى ورنده وهدايت، وغيرهن.

وتسلَّل الأمر الواقع رويدًا رويدًا إلى أعماق نفسي، بالقبول التام بدراستي بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وعزمتُ على أن أبرعَ فيها وأحقِّق ما أصبو إليه من نجاح. وكان والدي يجعلني أعِدُه دائمًا أن أكون ناجحًا مثل طه حسين، وأن أحصل على الدكتوراه مثله. وكنتُ في ذلك العام أبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، في فَورة الشباب وغمراته، وضغوط الرغبة الجنسية وضروراتها، وفي نفس الوقت في فَورة العواطف الرومانسية التي تتمثل في جمال فتيات الجامعة البريء الرقيق، الذي يتناقَض في ذهني مع تلك الفَورات الجنسية العاصفة. ولذلك كان ذلكما النوعان من الفَورات منفصلَين تمامًا الواحد منهما عن الآخر، مما كان يسبِّب انفصامًا نفسيًّا ظل الكثير من جيلنا يعاني منه سنواتٍ طويلة.

وقد تبلور اهتمامي وتكثَّف بشريفة منذ خريف عام ٥٧ بصورةٍ أشد؛ فقد أقام قسم اللغة الإنجليزية حفل استقبال للدفعة الجديدة، حضَرْتُه في إحدى الأمسيات، وجاءت فيه شريفة في أبهى حُللها، مما جعلني أتحقَّق أنها ستكون محط أحلامي وتهويماتي. وكان حفلًا جميلًا تخلَّله أكل الجاتوه مع حمدي، الذي لم يكن يعرف كيف يأكله بالشوكة، وعرضٌ مسرحي شارك فيه عمرو ومحمد.

وتنوَّعَت قراءاتي تنوُّعًا واسعًا خلال ذلك العام الدراسي؛ فبالإضافة إلى تركيزي على دراسة المواد الثلاث التي رسَبتُ فيها — الدراسة الصحيحة التي تؤدي إلى النجاح — واصلتُ القراءات الخارجية، سواء في الكتب التي أشتريها، أو التي أستعيرها من دار الكتب أو مكتبة الجامعة التي أصبحتُ من روَّادها الدائمين. واكتشفتُ مع بداية العام كتابًا غريبًا في مكتبة الجامعة عنوانه «كيف تصبح بوليسًا سريًّا خاصًّا؟»، فشُغفتُ بقراءته، ونقل فقراتٍ منه، على مدى شهورٍ عديدة. وانبثقَت في ذهني فكرة البوليس السري، الذي يقدِّم خدماته لمن يريد الكشف عن أسرارٍ خاصة بأسرته أو زوجه، وما إلى ذلك من أمور، حتى إنني أرسلتُ إلى إحدى الصحف أتساءل لماذا لا تُوجد مثل هذه المكاتب في مصر رغم انتشارها في دول العالم. وكنتُ قد قرأتُ قبل ذلك ملخَّصًا لرواية جراهام جرين الرائعة «نهاية العلاقة»، وشاهدتُ الفيلم المأخوذ عنها (وهو الفيلم القديم؛ فقد ظهر فيلمٌ جديد عن الرواية بعد ذلك)، والتي يلعب أحد المخبرين السريين دورًا رئيسيًّا في أحداثها. وتطوَّر الأمر إلى أن توجَّهتُ بصحبة زميلي تهامي إلى مكتبةٍ بالدقي؛ حيث أوصيتُ على طباعة كروتٍ باسمي وتحتها «بوليس سري خاص». ولم أتبيَّن وقتها مدى خطورة طباعة شيءٍ كهذا في العهد الذي كنا نعيش فيه، ولكن الأمر لم يتعَدَّ ذلك، ولم تُثِر هذه الحادثة مُعقباتٍ تُذكر.

وكان عرض الفيلم الأمريكي «الحرب والسلام» في القاهرة حدثًا فريدًا للمثقَّفين؛ فقد كان فيلمًا جميلًا من كل ناحية. وكنتُ قد قرأتُ الرواية ملخَّصة، فدفعني إعجابي بالفيلم إلى البدء في قراءة الرواية الكاملة بالإنجليزية. وكنتُ قد تعرَّفتُ على صديقي «وفيق» المخَضْرم في دراسة الحقوق، والذي كان مثقفًا رفيعًا يهتم بالآداب العالمية وعلى رأسها الأدب الروسي، بوصفه كان يعتبر نفسه يساريًّا شيوعيًّا. وقد نصحني بقراءة تشيكوف ومكسيم جوركي وشولوخوف. وكان قد صادق إحدى الجميلات من فتيات قسم إنجليزي بعد أن خطفها من أحد أصدقائه، وانتهى به الأمر إلى أن خطفها منه هو أحد أصدقائه أيضًا! وسقط وفيق في وهدةٍ من الألم والضياع لفترةٍ طويلة.

وكنتُ أتجنَّب طلبة السنة الأولى؛ فقد اعتبرتُ نفسي متقدمًا عليهم، ولكن ذلك لم يمنع من قيام صداقاتٍ مع بعض منهم، على رأسهم «سامر»، الذي كان شخصية فريدة قُدر لها أن تقوم بدورٍ مهم في الحياة الثقافية المصرية. كان شيوعيًّا هو الآخر مثل وفيق، بيد أنه كان شيوعي الفكر والسلوك معًا، اضطرارًا فيما يبدو؛ فقد كان من أسرةٍ رقيقة الحال. واشتُهر بمعلوماته الواسعة الغزيرة. وسرعان ما التفَّت حوله فتاتان إحداهما تُحبه والأخرى سيدة مطلَّقة تشاركه أفكاره التقدمية. وكانت هناك حالةٌ من التوتُّر الدائم بيني وبين سامر لا ندري لها سببًا سوى الخلاف في الآراء، بينما وراء ذلك ما وراءه.

وكان مجلسي الأساسي على بوفيه الآداب؛ حيث يتقاطر الأصدقاء، ويجلسون ويذهبون، وأنا كذلك، ما بين حضور المحاضرات، أو تتبُّع الحسان، والبحث عن شريفة. واكتشفتُ مُعجَبين آخرين بشريفة عدا فكري، منهم حامد. ولم يتضح ذلك بجلاءٍ سوى مع بدايات عام ١٩٥٨م.

وفي بداية ذلك العام، نشرَت مجلة صباح الخير بعض سطورٍ عاطفية أرسلتُها إليها، أثبِتها هنا والتعليق عليها كما يلي:

«أما ماهر حسن البطوطي فيكتب لنا هذه الأغنية:

هل تذكُرين يا شيري،
أيامًا جميلة،
أمضيناها تحت الخميلة،
والقمر يضيئنا
بنوره الفضي،
ثم يغيب القمر تحت السحاب،
فلا أشعر باختفائه؛
لأن عينَيك الخضراوَين
تضيئان المكان؟

وقد سألتُ شيري فوجدتها ناسية خالص يا أستاذ ماهر، ولا تذكُر خميلة ولا سحاب ولا يحزنون …

أما حكاية العينَين الخضراوَين فهي تقول إنها عينا القط الذي كان يقف إلى جوار العمود لأن عينَيها سوداوان … وابقى بُص كويس يا أستاذ ماهر وأنت بتحب …»

وقد سُررتُ جدًّا بنشر تلك السطور رغم ما بها من سخرية؛ فقد كانت رصدًا لحبي شريفة، وعرف بها كثيرٌ من الزملاء والأصدقاء. وكانت بالفعل كذلك؛ إذ زارنا فكري بعدها مباشرة، وقال إنه قرأ ما كتبتُه وعلم منه أنني قد «خلَفتُه» في حب شريفة. فردَّدتُ أنني أحبُّها قبله، وأوضحتُ له بما لا يدَع مجالًا لشك أنني فعلًا أَهيم بها، وأنني عازمٌ على تحقيق ذلك الحب، وكرَّرتُ ذلك حتى لا يفكِّر في الرجوع إليها. وبالطبع، حدثَت بعد ذلك مواقفُ وإشاراتٌ حول ذلك الموضوع، ولكنها لم تغيِّر شيئًا. وقد اقتصرَت صلتي بشريفة في التيرم الأول على تبادُل النظرات والوجود معها أينما كانت، على قلة مرَّات وجودها بالكلية. وقد تملَّكني منذ تلك الفترة نوعٌ من الهوس بالملابس والأرقام المتعلقة بمن أهوى، فكنتُ أكتُب في كل مرةٍ أراها ما كانت ترتدي من ملابس بألوانها، وأرقام أي عربةٍ أراها فيها، وأرقام الأوتوبيسات التي أركبها للذهاب إلى الجامعة. وقد عرفتُ مسكنها، في فيلا جميلة بالقرب من الجامعة، وصرتُ أتردَّد عليها في ذَهابي وإيابي.

وقرأتُ في تلك الفترة رواياتٍ وقصصًا جديدة ليوسف إدريس، وما جدَّ من روايات إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي. واكتشفتُ رواية طه حسين شجرة البؤس، التي أعجبَني فيها رسم الشخصيات والشكل الذي اتخذَته كرواية أجيال. وقرأتُ كتاب فن القصة للدكتور نجم، وهو مرشدٌ أوَّلي للقصة والرواية.

وفي ذلك العام، وقعتُ على كتابَين كان لهما أبلغ الأثَر في تكويني الثقافي والروحي. الأول هو رواية «الغريب» لألبير كامي، والثاني كتاب «اللامنتمي» لكولن ويلسون. ومن المدهش أن اسمَي الكتابَين في الإنجليزية كان واحدًا في بعض الترجمات، فكانت رواية الغريب تُسمى أحيانًا The Outsider، وهو نفس عنوان كتاب ويلسون.

وقد فهمتُ رواية ألبير كامي على النحو الذي يروق لي. وقد طارت شُهرته لحصوله على جائزة نوبل للآداب عام ٥٧.

ألبير كامي

ورواية الغريب تحكي عن شاب فرنسي (ميرسو) يعيش في الجزائر إبَّان الاحتلال الفرنسي لها، ويعيش حياته يومًا بيوم دون مشاعر ودون اهتمامٍ بأي شيء؛ فحين تموت أمه في دار للمسنين يذهب لحضور جنازتها ولا يُبدي أية مشاعر بهذا الحدث. وهو يخرُج مع صديقته ويذهبان إلى السينما ويَسبَحان بعد عودته مباشرة. ويتورَّط ميرسو في شجار لأحد جيرانه مع بعض العرب فيتتبَّعه اثنان منهم حين يذهب مع صديقته والجار وصديقته إلى البحر، وحين يقترب العربيان منه على نحوٍ تهديدي ويُحس بالشمس تُعمي أبصاره، يُطلِق النار على أحدهما فيُرديه قتيلًا. وبقية الرواية تحكي وقائع المحاكمة؛ حيث لا يجد ميرسو مبررًا لقتله العربي غير وهج الشمس الذي غمَر عينَيه، فتُصدِر المحكمة حكمها عليه بالإعدام بالجيلوتين. وحين يزوره القسيس ليطلب منه التوبة والإيمان، يثور عليه ميرسو، ويعلن في النهاية أنه ذاهبٌ إلى الموت راضيًا. ونفهم السبب أنه لا شيء يربط بينه وبين من حوله من البشر.

وقد تأثَّرتُ بهذه الرواية، وأحببتُ ألبير كامي منذ قرأتُها، فتابعتُ أعماله التي وجدتُها، والتي أثارت الانتباه بعد حصوله على نوبل عام ٥٧، فترجمَت له دار الآداب ببيروت كل أعماله تقريبًا، واشتريتُ قصصه القصيرة بالإنجليزية من مكتبة شادي بعد ذلك. وقرأت «الطاعون» و«أسطورة سيزيف» و«الرجل المتمرد»، ولكن أكثر ما أعجبَني بعد الغريب هو كتابه «السقوط»؛ ففيه تقنيةٌ رائعة واقتصادٌ في التعبير جعل له مذاقًا رائعًا وتأثيرًا قويًّا. وكان في ذهني دومًا أحداثُ القصة التي قدَّمها في مسرحية «سوء تفاهم» ووردَت عابرةً في «الغريب»، من الابن الذي يعود إلى أسرته بعد أعوامٍ طويلة، ويُخفي عليهم شخصيته ليفاجئهم بعد ذلك، ولكن الأم والابنة يطمعان في سرقته فيقتلانه، ليَعلَما بعد ذلك من زوجته حقيقة هويته، فتنتحر الأم والابنة من هول فعلتهما. وكانت تلك القصة رمزًا لعبثية الحياة، إلى أن جاءت نهاية كامي نفسه لتصبح التصوير الأمثل لفلسفته في اللامعقول والعبثية، حين تصطدم العربة التي كان يقودها صديقه وناشره جاليمار ومعه كامي بشجرة عند عودتهما إلى باريس في ٤ فبراير ١٩٦٠م، فيموت كامي عن ٤٦ عامًا، ويعثرون في جيبه على تذكرة عودة بالقطار إلى باريس، قبل أن يدعوه جاليمار لمرافقته في عربته.

وقد فتنَني كامي بقصصه وفلسفته وحياته، ولم يُوهن الزمن هذا الافتنان، وهو يبرُز في مقدمة الكُتَّاب الذين قرأتُ لهم وأعدتُ قراءتهم حتى الآن.

كولن ويلسون

والكتاب الثاني، اللامنتمي لكولن ويلسون، نال شهرةً عريضة عند صدوره. وهو عبارة عن رصدٍ لظاهرة الاغتراب في الأدب والحياة. وقد شدَّني الكتاب على الفور؛ لأنه كان يعالج تلك الظاهرة بوصفها ظاهرةً وجودية، ويناقش مواقف سارتر وكامي ضمن من يعرض لهم في كتابه. وقد عالج ويلسون في كتابه كل مؤلِّفينا المفضَّلين؛ فقد وجد ما يجمع هنري باربوس وبطل روايته وبين سارتر وروايته الغثيان. وهو يتتبَّع ببراعة شعور عدم الانتماء وعبثية الوجود في كثير من الكتب وعند مؤلِّفين لا يجمع بينهم شيء، مثل همنجواي وكافكا وهرمان هسه. ويُحلِّل ويلسون أعمالًا لهنري جيمس ولورانس العرب، وحياة الرسام فنسنت فان جوخ وراقص الباليه نجنسكي، ليُلقي الضوء على رؤًى لم يطرُقها النقاد من قبلُ. وقد لفَت نظري حديثه عن «جوردييف» و«أوسبنسكي»، ولم أكن أعرفهما من قبلُ، وجهودهما في السيطرة على الجسَد وعلى الانفعال وعلى العقل، للوصول إلى حالةٍ من اليقظة والحرية.

وكان الجميع يتنبَّئون لكولن ويلسون بمستقبلٍ زاهر في الكتابة، وبالفعل لقي كتابه الثاني «الدين والمتمرد» (وصدر بالعربية تحت عنوان سقوط الحضارة) نجاحًا كبيرًا؛ إذ واصل تحليلَه عن اللاانتماء والخيال الشعري، كما كتب مقدمةً للكتاب فيها موجَز لحياته هو. وقد تابعتُ كتابات ويلسون بعد ذلك، وكان غزير الإنتاج، فقرأتُ روايتيه «طقوس في الظلام» و«ضائع في سوهو»، وكان يهتَم بالجرائم والجريمة. بيد أن ويلسون انجرف بعد ذلك في كُتبه إلى القوى الغيبية وما وراء الواقع، والجرائم ودوافعها، وما بعد الحياة، ومتاهات العقل، والجنس وصوره ودوافعه، وما إلى ذلك. وقد أفل نجمُه رغم إصداره ما يقرُب من مائة كتاب. وقد قرأتُ في بعض كتبه التالية أنه يُلقي بتبِعة فشل كُتبه إلى أن النقاد صنَّفوه منذ البداية ضمن «الشبان الغاضبون»، مع جون أوزبورن صاحب «انظر وراءك في غضب» الذي صدَر في وقت صدور اللامنتمي. والحقيقة أنني وجدتُ في كتب ويلسون الأخرى التي جذبَني عنوانها، مثل «الكتب في حياتي» و«القوى الخفية»، و«من أطلانطس إلى أبي الهول» وغيرها، تشوُّشًا في الفكر وضحالةً في التفكير. وحتى كتابه «صنعة الرواية»، رغم أهميته، فهو يحتوي على آراءٍ ذاتيةٍ شخصية نتيجة النقد الذي تلقَّاه عَبْر حياته ككاتب.

•••

وقد دفعَتْني رواية الغريب إلى القراءة عن كامي وسارتر وسيمون دي بوفوار. وكانت دار الآداب ببيروت قد وفَّرَت ترجماتٍ عديدة لكتاباتهم بالعربية، إلى جانب كل ما استطعتُ الحصول عليه بالإنجليزية. وبدأتُ أهتم بالوجودية في صورتها الفلسفية والحياتية. وكان أنيس منصور يتحدَّث في مجلاته عن الوجودية كظاهرة بين شباب فرنسا والغرب، ولكنه كان يرصُد آثارها وليس الفلسفة القائمة عليها.

وهكذا بدأتُ أُعجَب بالوجودية، وقرأتُ عن كيركجارد وكتاباته الوجودية. وقرأتُ ما توفَّر من مسرحيات سارتر وكُتبه، وكان كتابي قد نشَر بعض ملخَّصاتٍ لكُتبه، وصدَرَت ترجماتٌ عربية لمعظم مسرحياته، ومنها «البغيُّ الفاضلة» التي صدَرَت بالعربية بعنوانها الكامل، في الوقت الذي لم تضَع الطبعة الفرنسية الأصلية كلمة البغيِّ كاملةً أيامها، بل أشارت لها بالحرف p كناية عن Putain. وهكذا كانت مصر أيامها أكثر تحررًا ثقافيًّا من فرنسا التي كانت مثالًا للحريات الفنية والثقافية والشخصية. وكانت مصر لم تعرف بعدُ التقييد والرقابة الأخلاقية المبالَغ فيها، اللذَين جاءا بعد ذلك؛ فقد كنا نبتاع المجلات الفرنسية مثل «فرو فرو» من باعة الصحف على نحوٍ عادي، وهي التي تحتوي على صورٍ عارية دون موادَّ إباحية. أما المواد البورنوغرافية الصريحة فكنا نشتريها خلسةً من بعض الأكشاك المعيَّنة في منطقة وسط البلد، وكلها صورٌ ومجلاتٌ أجنبية، عدا تلك المطبوعات الفاحشة المكتوبة بالعربية والمطبوعة طباعةً رديئة، وتُوحي بأنها ترجمة لكتبٍ أجنبية مع التحوير والإضافة لتُلائم الذوق المصري! وكانت تلك المطبوعات — بالإضافة إلى مجلة القصة، القديمة، وغيرها — تفرِّج عن تهويماتنا الجنسية، ثم تَزيدها اشتعالًا وإثارة. وظل هذا العامل الجنسي يشكِّل القطب الثاني في نفوسنا في مواجهة قطب البراءة والرومانسية.

ومضت حياتي في الكلية على نفس النمط. أما قراءاتي فقد دخلها الكثير من الأشياء الجديدة؛ فمع الفيلم الرائع «وداعًا للسلاح»، من تمثيل جنيفر جونز وروك هدسون (ومن هنا بدأ إعجابي بجنيفر جونز؛ لأنني وجدتُها تشبه شريفة في بعض النواحي) اكتشفتُ إرنست همنجواي، وقرأتُه أولًا في ترجماته اللبنانية، ثم ابتعتُ العجوز والبحر، وقرأتُها في أصلها الإنجليزي. وبهرَتْني لغة همنجواي الدقيقة التي لا تعرف الزخارف اللفظية. وشاهدتُ بعد ذلك فيلمَي «وتشرق الشمس ثانية» و«العجوز والبحر»، تمثيل سبنسر تريسي. وأصبح همنجواي فيما بعدُ في أوائل قائمة كُتَّابي المفضَّلين الذين قرأتُ كل ما كتبوه وما كُتب عنهم.

•••

وصدَرَت اعترافات جان جاك روسو الكاملة في مطبوعات كتابي من عدة أجزاء، والتهمتُها التهامًا، وبدأ حبي لكُتب السيرة والسيرة الذاتية من قراءة هذا الكتاب الفريد، وتمنَّيتُ لو كانت يومياتي السطحية بمثل عمق روسو وصراحته. وتعجَّبتُ من نقص المكتبة العربية لهذا النوع من الاعترافات والقص العميق الصريح. وبدأتُ أيضًا في قراءة قصائد شيلِّي بالإنجليزية، وهِمتُ بقصيدةٍ قصيرة له بعنوان «سرينادا هندية»، احتوت على كل ما يجذبني من شوق وشجن وألم وغربة وحب وأحلام وموت. وترجمتُها يومئذٍ فجاءت على هذا النحو:

إني أصحو على أحلامك الوردية،
في أوائل غفوات الليل العذبة؛
إذ النسيم يهبُّ عليلًا،
والنجوم تتلألأ ساطعةً في السماء
أصحو على أحلامك الوردية،
وقد قادت روحٌ قدميَّ،
لا أعرف كيف،
إلى نافذة حجرتك،
يا حبيبتي.

•••

النسمات الهائمة
تغفو فوق النبع المظلم الصامت،
ويسَّاقط أريج الأزاهير الصفراء،
كأنها الأفكار العذبة تخطر في الأحلام.
وشكوى العندليب
تموتُ فوق قلبها،
كما سأموت فوق قلبك،
مثلما أنت حبيبتي.

•••

أوَّاه …
ارفعوني من فوق الحشائش.
إني أموت! إني أخور! إني أسقط!
فليُمطِرني حبك بالقبلات
على شفتيَّ وجفنيَّ الشاحبة.
وجنتي باردة بيضاء،
يا للأسى!
وقلبي يدق سريعًا عاليًا
أواه …
فلتضُميه إلى قلبك؛
حيث سينفطر أخيرًا.

وتعرفتُ على زميل من الطلبة العرب الوافدين من العراق، فأدخلَني معه إلى عالم عبد الوهاب البياتي وشعره، وطالعتُ ديوانه «أباريق مهشَّمة»، ونقلتُ بعض قصائده في دفترٍ خاص. وتابعتُ البياتي بعد ذلك، وتطوره وشعره وصوره. وكان ذلك الصديق قد حاول إكمال دراسته الجامعية في النمسا، فكان يقُص علينا مغامراته في فيِنَّا مع الفتيات وعن الطبيعة الساحرة هناك، مما كان يُلهِب خيالاتنا الواعدة.

ووجدتُ في مكتبة جامعة القاهرة ديوانًا صغيرًا للويس عوض اسمه بلوتولاند، فاستعرتُه، وفوجئتُ برنَّة التمرُّد والتجديد التي فيه؛ تمرُّد على أنماط الشعر العربي وعلى الصور التقليدية، وعجبتُ من مقدمته التي يعلن فيها المؤلف أنه عاد من بعثته في إنجلترا وكل شيءٍ أمامه باللون الأحمر؛ أي يُبدي إيمانه بالشيوعية. وعرفتُ من سامر أن هذا الديوان ممنوع، واندهَش من وجوده في مكتبة الجامعة. وقد حرَصتُ على نقل قصائدَ كاملةٍ منه، وأحببتُ منها قصيدة «الحب في سان لازار» حفظتُ بعض سطورها، ومنها:

في محطة فكتوريا جلستُ وفي يدي مغزل.
وكان المغزل مغزل أوديسيوس.
عفوًا إذا اختلفنا أيها القارئ؛
فقد رأيتهم، رأيتهم سكان الأرجو، وجلُّهم من النساء ارتدين البنطلونات، ولبسن أحذيةً من كاوتشوك.
أما نحن، أنت وألفريد بروفروك وأنا،
فلنا المغازل نتعلَّل بها، وبين الخيط والخيط نرفع أهدابَنا إلى الأمواج في الأفق، لعل موج الأفق يحمل الأرجو.
وفي الصباح، عندما يصير موج الأفق موج الشاطئ، نرى وجه السعادة.
جلستُ وبيدي مغزلي في انتظار بنيلوب التي لا أعرفها.
وهل أتت بنيلوب إلى رصيف نمرة ٨؟
كلا، لم تأتِ بنيلوب إلى رصيف نمرة ٨.
هذه الجزيرة العابسة. لقد رأيتُ الجاريات يدخلن خلجانها مُثقلات.
رأيتُ الجارياتِ يحملن الطيوب والخشب والمُر.
رأيتُ الجارياتِ يحملن العبيد إلى سوق النخاسة في مسقط رأس ولبرفورس.
رأيتُ الجارياتِ يحملن السمك إلى ألسكا، والسكر إلى جزيرة موريس، والقطن والبصل إلى مصر، والشاي إلى الصين، والأفيون إلى الهند، والببغاوات والفيلة وأدوات الزينة إلى القطبَين، والمتراليوزات إلى الصديق والعدو على السواء.
لكنني لم أرَ الأرجو بينها.
يا مُفرِّق الرياح! أنا هنا على رصيف نمرة ٨ وبيدي مغزلي، لكن القطار تحرَّك قبل أن تصل الأرجو.

كنتُ أهيم بهذا النوع من الشعر الموسوعي المحتوى، وفهمتُه أكثر حين درسنا تي. إس. إليوت والأرض الخراب وبروفروك، وهو ما يبدو أثَره بوضوح في بعض شعر بلوتولاند. وقد اكتسَت تلك القصيدة معانيَ جديدةً عندي بعد ذلك بسنواتٍ عديدة، حين كنتُ أذهب إلى مدينة الهافر مع زوجتي الفرنسية لزيارة أسرتها هناك، وكنا نركب القطار دائمًا من محطة سان لازار ونعود إليها، بينما أنا أتابع في ذهني أبيات القصيدة مع إيقاع القطار. وقد حصلنا على الديوان وبتعليقٍ إضافي من لويس عوض بعد أن أعاد الصديق الدكتور سمير سرحان إصدار مؤلفاته عن الهيئة العامة للكتاب.

•••

ورغم أنني كنُت أعيد السنة، ولم يكن عندي في التيرم الأول سوى مادةٍ واحدة هي النقد وهي شفوية، فإني لم أستذكِر كما يجب. وفي أيام الامتحان حرَصتُ على اختيار لجنةٍ مناسبة، فأديتُ الامتحان وحدي أمام «الدكتورة» هدى حبيشة وثريا مليكة. وأجبتُ بقَدْر ما استطعت، وتحدثنا في أمورٍ كثيرة، وخرجت راضيًا إلى حدٍّ ما وإن لم أكن سعيدًا بأدائي فيه. وكان ذلك يوم ٢٣ يناير ١٩٥٨م. وقضيت إجازة نصف السنة في تجوالات ومقابلات الأصدقاء والأقارب، الذين زرنا معهم السيرك الروسي، الذي كان حديث الجميع في ذلك الوقت حين زار القاهرة لأول مرة. وازدادت علامات التقارب بين مصر والاتحاد السوفييتي في كل مجال، ومنها افتتاح محل لبيع الكتب الروسية والمُترجَمة عن الروسية بأسعارٍ زهيدة، وتردَّدتُ عليها واشتريتُ منها الكثير من الكتب القصصية بالإنجليزية والعربية. وأهم ما اشتريتُه منها قصص تشيكوف، وكتاب عن حياته؛ وكان تشيكوف قد أصبح «أيقونة» في الثقافة المصرية، إلى جانب مكسيم جوركي وشولوخوف ودستويفسكي، وغيرهم من الكُتاب السوفييت.

واستمتعتُ في ذلك العام بمشاهدة أفلامٍ رائعة، عربية وأجنبية، منها «نساء صغيرات»، و«الفتيات»، و«بيتون بليس»، و«كوفاديس»، و«لا أنام»، و«الطريق المسدود»، و«سايونارا» وكثيرٌ غيرها. وكنا نتابع بحماسٍ أيضًا الأغاني العاطفية والوطنية الجديدة التي يخرُج بها عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وكانت تعبِّر عما نشعر به من عواطفَ جياشةٍ عاصفة، معظمها عن الحب الخائب عسير المنال، وعذاب المحب من عدم تجاوُب حبيبه معه. وقد انغمستُ في شيءٍ غريب منذ سنة الإعادة، هو مراسلتي لبرامج ما يطلبه المستمعون، في كل الإذاعات، أطلب فيها أغانيَ معيَّنة لأصدقائي مثل نبيل ووهيب، وكنتُ أُهدي بعض الأغاني الأجنبية في البرنامج الأوروبي إلى شريفة، ويُذاع الإهداء بالفعل، وكنت أشعُر أنها قد سمعَته أيضًا وفهمَت مرماه.

وشَهدَت هذه الفترة حدثًا سياسيًّا وقوميًّا مهمًّا، هو الوحدة الكاملة بين مصر وسوريا، تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة. وتابعتُ بدايات الوحدة في الصحف والإذاعة، وبقي في ذهني منها أن جمال عبد الناصر، في خطابه إعلان الوحدة، نسي أن يشكر الرئيس السوري شكري القوتلي، وعاد بعد أن أنهى خطابه كي يُوجِّه إليه الشكر بوصفه المواطن العربي الأول. وأصبحَت احتفالات الوحدة وأخبارها وزيارات عبد الناصر لسوريا تأخذ أغلب وقت الإذاعة، بينما زادت أيام الإجازات وتعطيل الدراسة لإقامة الندوات واللقاءات في حرم جامعة القاهرة.

وفي هذا الوقت أيضًا، قمتُ بكتابة حكايةٍ خيالية عن حادثٍ بوليسي اشتركتُ بها في مسابقةٍ أعلنَتها مجلة البوليس التي كانت تصدُر أيامها، وفزتُ بجائزة المسابقة وقدرُها جنيهٌ واحد. كذلك أرسلتُ إلى المجلة ترجمة لقصةٍ بوليسية طريفة ترجمتُها عن الإنجليزية، فتلقَّيتُ خطابًا من المحرِّر يرغب في لقائي. وذهبتُ إلى مقر المجلة بالقرب من دار الأهرام القديمة، وقابلت أحد المحرِّرين لمناقشة القصة. ودخل الحجرة في هذه الأثناء محرِّر شاب استنجد به المحرِّر الأول كيما يشارك في نقد القصة، ولكن الأخير — الذي دعاه المحرِّر باسم رجاء النقاش — اعتذَر بأنه لم يقرأ القصة. وكانت المرة الأولى التي أرى فيها الأستاذ النقاش، الذي سيكون أحد رُعاتي الأدبيين كما سيبينُ فيما بعدُ.

وركَّزتُ في التيرم الثاني على مسرحية مكبث، وعلى مقاطعَ عدةٍ باللاتينية كان الامتحان يتطلب ترجمة بعض السطور منها. وقد عرفتُ هذه المرة كيف أذاكر للنجاح، فأجبتُ إجابةً مُرضيةً في الامتحانَين. وفي صيف ذلك العام، سافرنا كالعادة إلى الإسكندرية، وكان والدي قد خرج إلى المعاش من شهور، وأصبح لديه متَّسعٌ من الوقت لقضائه في المصيف. وقضينا ذلك الصيف في حي المندرة، في عشَّة أحد الأصدقاء من أيام شبين الكوم، وكانت وسط مزارعَ شاسعةٍ من النخيل السامق، مما وفَّر لنا جوًّا هادئًا جميلًا. وقد شجَّعني ذلك الهدوء على قراءة الشعر، ووجدتُ في نفسي ميلًا شديدًا لقراءة شعر الأخطل الصغير، الذي عرفتُه من أغنيتَي عبد الوهاب «الصبا والجمال» و«الهوى والشباب»، فذهبتُ إلى ميدان المنشية، واشتريتُ ديوانه «الهوى والشباب»، في طبعةٍ أنيقة بخمسين قرشًا. وقد استمتعتُ بقصائد الديوان الرومانسية، ودفعَني ذلك إلى أن أنظِم بعض المقطوعات الشعرية المُغرِقة في العاطفية والرومانسية، أتغنَّى فيها بشريفة وجمالها وحبي لها. وكنتُ قد انقطعتُ منذ عامي الخامس عشر عن النزول إلى البحر أو لبس المايوه، فكنتُ الآن أجلس على الشاطئ، أقرأ وأتصفَّح الوجوه وأرقُب المصطافين. وكنتُ قد أحضرتُ معي مسرحية هملت التي كانت في مقرَّر السنة الثانية، لقراءتها مُقدَّمًا خلال الصيف. وكان هذا تحوُّلًا تراكميًّا في موقفي من الدراسة في كلية الآداب؛ فقد بدأتُ أنظر إليها نظرةً جادة أتطلع معها إلى إحراز النجاح في مجالاتها، وجاء ذلك من خلال المتعة التي أستشعرها من قراءة الأدب، سواء القصة أو الرواية، والشعر والمسرح.

وقد تبدى ذلك بوضوح مع بداية العام الدراسي الجديد في سبتمبر ٥٨، وقد أصبحتُ في السنة الثانية، مقبلًا على الدراسة بشغفٍ وجِد، خاصةً مقرَّر الرواية. وكنا ندرس في تلك السنة الرواية الإنجليزية في القرن الثامن عشر، ومنها روايات «جوزيف أندروز» لهنري فيلدنج، و«كلاريسا» لصمويل ريتشاردسون، و«مول فلاندرز» لدانييل ديفو، و«رحلة وجدانية» للورانس ستيرن. وهذه الروايات كانت البدايات «الرسمية» للرواية الإنجليزية، وأطلَق عليها النقاد صفاتٍ كثيرة حسب أنواعها، من «ملحمة كوميدية نثرية» إلى روايات البيكارسك (الصعاليك). واهتممتُ بقراءة المراجع التي أوصانا بها الأساتذة، مثل «نشأة الرواية» لإيان وات، والمرجع الضخم في عدة أجزاء من تأليف «بيكر» الذي كنا نتخاطف قراءته داخليًّا من مكتبة الجامعة. وكانت الكتب والمراجع الإنجليزية شحيحةً جدًّا في السوق بعد العدوان الثلاثي وندرة استيراد الكتب من الغرب، مما اضطَر الأساتذة إلى طبع المسرحيات والقصص والمقالات المقرَّرة في مصر، في المكتبات المصرية، خاصة مكتبة الأنجلو، نظرًا لعدم توافُرها في السوق، وهكذا ظفرنا بالمقدمة الرائعة لمسرحية هملت التي وضعها الدكتور يس العيوطي لها. وقد توغَّلتُ في دراسة هملت، وقرأتُ معظم ما وجدتُه مكتوبًا عنها، من تفسيراتٍ شتى ينحو بعضُها منحى الغرابة الشديدة. وكان أقرب الشروح إلى نفسي هي التفسيرات السيكلوجية لتردُّد هملت في الانتقام السريع لمقتل والده، فقرأتُ كتاب «إرنست جونز» عن ذلك، وأعجِبتُ به جدًّا. وقد زادت تلك الشروح والتعليقات من فهمي للمسرحية، ومن إدراكي للأبعاد الكثيرة التي ينطوي عليها هذا النصُّ المبدع، وهذا هو المغزى الحقيقي والهدف من النقد الأدبي السليم. وقد استمَر حُب هذه المسرحية في قلبي منذ ذلك الوقت، حتى إنني لم أسافر سفرةً طويلة إلا وكانت هملت معي. وكانت هي أول كتابٍ أشتريه في مدريد غداة وصولي إليها عام ١٩٦٩م.

أما دراسة الشعر في السنة الثانية فقد تركَّزَت على الشعراء الميتافيزيقيين، وشعرُهم جافٌّ صعب. وقد اخترتُ منهم «جورج هربرت» لدراسته بعمق لغرض الامتحان الشفوي. وامتحنتُ أمام لجنة الدكتور شوقي السكري، ودخلتُ مع زميلي عبد الستار. وقد أجبنا إجاباتٍ حسنةً على وجه العموم، ولكن ما أحزنَني لعدة أيام بعدها أن الدكتور شوقي سأل عبد الستار عن ترجمة كلمة Ecstacy ولم يعرف، وكنتُ أعرفها من حضوري محاضرات الدكتور مجدي وهبة، وهي «التجلي»، ولكني تظاهرتُ بعدم معرفتها أنا الآخر حين تطلَّع لي الدكتور شوقي حتى لا أجرح زميلي عبد الستار، وقالها الدكتور بعد ذلك تمامًا كما كنتُ أعرفها. وقد عصَف بي القلق من جراء عدم إقدامي على الإجابة التي كانت ستعطيني درجةً أعلى بلا شك، وبِتُّ يتنازعني الأسف على ذلك واحترام مشاعر صديقي عبد الستار.

ودرسنا أيضًا مادة «الحضارة»، قرأنا فيها مطالعاتٍ من كُتب ومقالات بعض الإصلاحيين والفلاسفة الإنجليز، مثل جون لوك وفرانسيس بيكون وماكولي. كما درسنا نُتَفًا من «يوميات صمويل بيبس» وهي طريفةٌ شائقة. بيد أنني لم أعلم حقيقة تلك اليوميات وحقيقة حياته وعبثه إلا بعد ذلك في نيويورك، حين اقتنيتُ الطبعة الكاملة من تلك اليوميات في ستةِ أجزاءٍ ضخام، وكانت بها أسرارٌ خاصة غاية في الشناعة!

كذلك أبحرنا في عددٍ من مسرحيات العصر الإليزابيثي، علاوةً على هملت، فدرَسنا تاجر البندقية لشكسبير أيضًا، والدكتور فاوستوس لكريستوفر مارلو. وكما في الماضي، لم يمنعني الاهتمام بالمواد المقرَّرة عن القراءات الخارجية، فواصلتُ قراءة روايات نجيب محفوظ الجديدة، وأعدتُ قراءة الثلاثية. وقرأتُ رواية الشارع الجديد للسحار، وخمَّنتُ فيما بعدُ أنها هي الرواية التي أشار محفوظ إليها أنها نتيجة حديثه عن خطَّته لكتابة رواية أجيال. وكان من بين الكتب التي أضفتُها إلى كتبي المفضَّلة، مثل كتب كولن ويلسون وألبير كامي، روايات فرانسواز ساجان؛ فقرأتُ رواياتها الثلاث الأولى التي اجتاحت العالم الأدبي وقتها؛ صباح الخير أيها الحزن، ابتسامة ما، في يوم في شهر في سنة، وأعجبَتني نبرة الحرية والتمرُّد التي تشيع في كتاباتها الشابة. وثار كلامٌ أيامها بتأثُّر إحسان عبد القدوس بروايتها الأولى في روايته لا أنام. كما أغرَت شُهرتُها السينما على إخراج رواياتها أفلامًا، فشاهدناها في سينما كايرو. وافتُتِنتُ ببطلة «ابتسامة ما» التي كانت تشبه شريفة، والتي ظهرَت في معطفٍ أحمرَ رشيق، أصبحتُ أحلُم بعده بإهداء شريفة معطفًا مثله! وفي المشاهد التالية تعبير روائي عن أجواء أفراد من الجيل الرائع في الفترة الجامعية. والتعبيرات الروائية لا تلتزم قطعًا بالزمن والمكان الحقيقيَّين.

«– شريفة وصلت!

ما إن سمعتُ هذه العبارة من نجيب حتى تغيَّر حالي. انبعَث في نفسي ذلك الشعور الطاغي بالنشوة الممتزجة بالقلق والترقب. تركتُ لوحة جدول المحاضرات، وخرجتُ من مبنى القسم إلى ساحة جون ملتون أتطلَّع في كل الاتجاهات. كان يجب أن أسأل نجيب أين رأى شريفة، ولكنه كان مسرعًا إلى المحاضرة. أنا أختار محاضراتي ولا أحضر كل محاضرة. وحين تكون شريفة في الجامعة، فلها الأولوية على كل شيء.

كان يومًا ربيعيًّا صافيًا من أيام القاهرة الجميلة. رحتُ أتجوَّل في الأنحاء القريبة من القسم، وطفتُ على بوفيه الكلية الواقع بين القسم والمبنى الرئيسي للآداب، ولكني لم أجد شريفة، ووجدتُ نبيل فجلست معه إلى حين.

– مالك؟

– لا شيء. سمعتُ أن شريفة هنا وأبحث عنها.

– آه. لم أرَها.

– وأنت؟ أخبار نانسي إيه؟

– لم تحضُر اليوم.

– يا بختك!

طبعًا. الحب عذاب إذا كان بهذا الشكل. أعلَم أنه يدفع المرء إلى عالمٍ سحري جميل، وهُيامات وإلهامات، ولكنه عذابٌ إذا لم يتضمَّن تحقيقًا للذات. وحكايتك مع شريفة غريبة. فتاةٌ سحرية، زميلتك في نفس القسم والسنة الدراسية، ولكنها بعيدةٌ قصية. حين تراها ترتبك. تكتفي بالتطلع إليها ومتابعتها أينما ذهبَت، من بعيد، ولا كلام إلا مصادفة، وهي البادئة دومًا. يوم تبعتَها إلى مكتبة الجامعة وجلستَ أمامها وهي تُطالِع في مرجع بالإنجليزية. تقرأ وتكتُب ملاحظات في كرَّاسةٍ معها. وأنت تُلاحظها، ورأيت كيف أن قلم الحبر الذي تكتب به قد فرغ منه الحبر، وبدَت الحَيْرة على وجهها وهي تُحاول أن تخُط كلماتٍ أخيرة، فسارعتُ تلقائيًّا بعرض قلمٍ آخر عليها، فرفعَتْ لي وجهًا ملائكيًّا مضرجًا بالحمرة الطبيعية وابتسامةٍ خَجْلى وهي تأخذه مني وتقول شكرًا بالإنجليزية. واغتبطتُ لأنها لا بد لاحظَت أني بعملي هذا إنما كنتُ أراقبها وأرى وأنفعل … وبعد وقتٍ أصابني القلق؛ إذ وجدتُ أن قلمي قد لطخ أصابعَها بالحبر، ولكنها لم تُعلِّق على هذا إلى أن أعادته لي شاكرة مرةً أخرى.

كنتُ جالسًا على البوفيه مع نبيل، ولكن عيني تجوب الأنحاء باحثةً عن شريفة.

– عندنا محاضرات إيه اليوم؟

– شعر وحضارة ودراما.

– هل ستحضُر؟

– طبعًا. فاضل ساعة.

– ما أخبارك في المذاكرة؟

– انتهيتُ أمس من هملت وشروحها.

– أنا ما زلتُ في منتصفها.

– سيستمر الدكتور العيوطي في شرحها اليوم.

– أنا أعرف المسرحية من زمن، قرأتُ عنها منذ كامل كيلاني، ثم قرأتُها بترجمةٍ عربية قديمة، ولكنها صعبة بالإنجليزية وتحتاج وقتًا.

– ألم تأخذ درسًا مما حدث لك العام الماضي؟ كُف عن قراءة الترجمات.

– لماذا؟ إن هذا درسٌ جميل أيضًا في الترجمة. ولا تنسَ أننا لو كتبنا فسنكتب بالعربية لا بالإنجليزية.

– هذا ليس سببًا. وعندك يا أخي شرح العيوطي عليها في كتابه الذي صدر عن الأنجلو. إنه رائع.

– فعلًا. أحب ما كان يقوله في البداية: Right from the start, there is a commotion in the state.
– ها أنت تُوجِع دماغنا بعبارة كل سنة، السنة الأولى كانت من مكبث، وليدي مكبث تقول: Rise gentlemen, his highness is not well.

– ها ها. ولكني ما زلتُ أستخدم عباراته الشكسبيرية الحقَّة.

– أعرف. I humbly take my leave. أنا مُعجَب جدًّا بمكبث. أرى حتى أنها أفضل من هملت.

وهبط علينا سامر فجأةً صائحًا: من هذا الذي يُفضِّل مكبث على هملت؟

فأجابه نبيل: أنا.

– كيف هذا؟ معنى ذلك أنك لا تفهم في شكسبير؛ فهملت هي أعظم أعماله. هل رأيتم كتابي؟

ودفع أمام أبصارنا كتابًا أصفر الغِلاف. فتعجبتُ كيف تيسَّر له الكتابة والنشر وهو في تلك السن الصغيرة ونحن ما نزال نتلمس خطواتنا الأولى في الحياة.

– إنه ترجمة لقصصٍ قصيرة.

– وكيف نشَرتَه؟

– عن طريق أصدقائي.

كنتُ أعرف أن «سامر» من روَّاد مقهى عبد الرحمن الشهير، ولا بد أنه تعرَّف هناك على العاملين في مجالات الكتابة والنشر. وكنتُ معجبًا بقدرته الفائقة على التعرُّف على الناس ومخالطتهم والفوز بإعجابهم. على عكسي أنا تمامًا. وكانت لديه قدرةٌ عجيبة على النقاش ومحاولة إقناع الآخرين، والتوصل إلى حلولٍ وسط للالتقاء معهم، حتى على حساب آرائه الصميمة هو. وكان هناك موقفٌ غريب بيني وبينه، نابعٌ من فرقٍ طبقي لا أكاد أشعُر أنا به، في حين أنه كان فيما يبدو متأثرًا به إلى حدٍّ عميق. كان والدي ضابطًا ذا رتبةٍ عالية بالجيش، وكان والده جنديًّا رقيق الحال. وكان رشاد معروفًا باتجاهاته الاشتراكية التي تكاد تصل إلى الشيوعية، بينما أنا لم يكن لي شأن بالسياسة، مُفضِّلًا الفن والحب على الانغمار في هذه التيارات السياسية التي كانت تموج بها الجامعة والبلاد. وكنتُ من أشد المتأثرين بسارتر، بيد أني كنتُ بمنجاةٍ من نظريته في الالتزام والانخراط العقائدي والسياسي، آخذًا منه الوجودية. وقد أدخلَني سارتر ووجوديته إلى عالم ألبير كامي أيضًا، ووجدتُ فيه ضالتي المنشودة في الأدب، وأصبحتُ أكاد أحفظ روايته «الغريب.»

وطلبتُ قهوة لسامر وأنا أتصفَّح كتابه. كانت فيه مقدمةٌ كتبها له ناقدٌ مشهور. كان حدَثًا جميلًا أن ينشُر زميلٌ لنا كتابًا وهو ما زال في السنة الثانية بالكلية. وقدَّمتُ له تهنئةً مخلصةً خالية من أي شعور بالحسد، بل وفيها نوعٌ من الانبهار.

– وأنت، أما زلتَ تلوذ ببرجك العاجي؟ انزِل إلى الحياة الواقعية يا رجل. اترُك سارتر وكامي وتعالَ معنا لدى تشيكوف ودستويفسكي.

– تقصد ماركس وإنجلز!

– الأدب والفن لا ينعزلان عن الناس والحياة.

– إني معك، ولكن الأدب والفن يختلفان عن الكتابات الاجتماعية والاقتصادية.

– أنتَ من البرجوازية الصغيرة. لا فائدة فيك.

قال سامر ذلك ضاحكًا ونهض مسرعًا بعد أن احتسى قهوته. كان دائمًا بصحبة اثنتَين من زميلاتنا، لا يكادون يفترقون. منهما واحدةٌ كان مغرمًا بها، وزميلةٌ لها أكبر سنًّا، مطلقة؛ وتجري وراء الاشتراكية والاشتراكيين.

نهضتُ مع نبيل بعد أن دفعتُ الحساب، متجهَيْن إلى محاضرة الدراما.

اتجهت كالعادة إلى آخر صف في مدرج ۱۳، ولكن نبيل تركَني وجلس في صفٍّ قريب من الأمام، وكان المدرج نصف ممتلئ، وفيه الوجوه المألوفة من الزميلات والزملاء. سامية وسهير والليالي. وجلستُ أتصفح بعض الكتب وأتشاغل بالنظر من النافذة إلى الحديقة، وزاوية «وردزورث» المليئة بالزهور الجميلة. كان كُلِّي أمل أن تحضُر شريفة هذه المحاضرة إذا كانت في الكلية. وهي تحضُر عادةً مع زميلاتٍ لها من شلة الإنجلش سكول.

كان منظر فتيات الإنجلش سكول مبهجًا لي؛ فهن يبدون مختلفاتٍ عن الفتيات الأخريات. أما شريفة فهي زهرتُهن وأنضرُهن. تَلفِت النظر أول ما تَلفِته بعينَيها الخضراوَين الواسعتَين. لم يرَ أحد مثل هاتَين العينَين. وبشرتها المُشرَبة بالحمرة. ثم ملابسها ذات الطابع الإنجليزي، السكوتش. لا بد أنها قد وُلدَت في إنجلترا. كنتُ أتلقَّط المعلومات عنها منذ رأيتُها لأول مرة في أول التحاقنا بالجامعة. كنا ندفَع المصاريف ونستخرج الكارنيهات، وكانت هي واقفةً في الصف. وكانت رؤيةً صاعقة! التفتَت بعد أن تناولَت الكارنيه فرأيتُها، والتقت العيون فصُعِقتُ من هذا الجمال النادر. وصادفتُها في القسم الذي التحقتُ به فتمَّت سعادتي ونعيمي. ولكن منذ ذلك الوقت لم نتبادل الكلام إلا قليلًا، وبمبادرةٍ منها هي.

ودخل الدكتور المدرَّج، وهبط الصمت. بدأ يُلقي تعليقًا على مسرحية هملت، ويتلو بعض الأبيات ويشرحُها. وتطرَّق حديثه إلى كتابٍ صدَر عن شكسبير للعقاد، وذكَر ساخرًا الإشارةَ إلى أن أصل اسم شكسبير الشيخ زبير. وتعالَت الضحكات.

وخرجنا من مدرج ١٣، إلى دهليز «جون ملتون»، وانضمَمتُ إلى نبيل مرةً أخرى. وما إن خرجنا إلى الساحة أمام القسم، إلا ورأينا نانسي مع زميلةٍ لها أمامنا. واضطَرب نبيل، واستأذن مني وذهب إليهما يُحَيِّي نانسي. كان أكثر حظًّا مني؛ فقد كان يُحادِث نانسي وهي تعلم أنه يُحبها. ولكنها كانت فيما يبدو تُلاوِعه، وكان يشُك أنها تفعل نفس الشيء مع وهيب، زميل الشلة. كان نبيل ووهيب يتنافسان على حب نانسي، ولكنها لم تكن تعطي كلمةً قاطعة لأيٍّ منهما.

كانت نانسي أوروبية المظهر، شقراء، باريسية القوام، ذات دلالٍ لا يخفى على أحد. وكان نبيل يُحاوِل أن يفوز بقلبها ويهش عنها الآخرين، وخاصة وهيب، ولكنها كانت غير مستقرة ولا تعطيه جوابًا شافيًا. بيد أن حاله معها، في رأيي، كان أفضل من حالي مع شريفة؛ فهو يقول إنه قد خرج معها وذهبا إلى السينما والكازينوهات أكثر من مرة، رغم أن أحدًا لم يكن يُصدِّقه. ربما كان يقول ذلك كي يغيظ وهيب ويُقنِعه أن نانسي له.

ذهبتُ وحدي إلى البوفيه، ولما لم أرَ أحدًا أعرفه تجوَّلتُ في مبنى الكلية الرئيسي، علِّي أرى شريفة، ولكنها لم تظهَر. ربما كان الأمرُ قد اختلط على نجيب. الكلية غاصَّة بالضجيج ولافتات الجداول والإعلانات والكل في هَرْج ومَرْج. وخرجتُ من الكلية إلى صحن الجامعة، والدائرة المستديرة الواسعة. على يميني قُبة الجامعة وساعة بج بن، وأمامي كلية الحقوق. سِرتُ ببطءٍ متوجهًا إلى بوفيه الحقوق هربًا من ازدحام بوفيه كليتنا. وجدتُ هناك زميلَنا عثمان. وكنا قد تعارفنا نتيجة اهتماماته الموسيقية وحُبه لفيروز مثلي. كان مع فتاةٍ لا أعرفها، فتركتُهما في حالهما، وجلستُ إلى مائدةٍ مستقلة. تلفتُّ حولي فوجدتُ بعضَ فتيات القسم. الفتاة التي تشبه كيم نوفاك. كنتُ أبادلها النظراتِ فقط. لم يكن ذلك خيانةً لحبي لشريفة؛ فهي الأولى في حياتي العاطفية، ولكن هذا لا يمنع الإعجاب بصنوف الجمال التي تُحيط بي من كل جانب.

وجاء ناشد، الطالب المخضرم في كلية الحقوق، مرتديًا نظارته السوداء، وجذب كرسيًّا إلى جواري دون دعوة. وسألتُه عن التحقيق الصحفي الذي أجراه عن شباب الجامعة وجعلَني أتحدث فيه، ولم يكن قد ظهر بعدُ في الصحيفة التي يزعُم أنه يحرِّرها. رد عليَّ بعبارته المعهودة: «سيظهر في العدد القادم.» وابتسمتُ في داخلي؛ فقد تعوَّدتُ على هذه المقولة، وعلى أحاديثِ ناشد المُبالَغ فيها عن نفسه، وعن جهاده أيامَ ما قبل الثورة، وفنجانِ قهوتِه الذي أدفع ثمنَه كلما كنتُ معه.

ومن بعيدٍ لمحت «وفيق» قادمًا يسير بطريقته المترنحة، التي يميل فيها بجسده إلى الأمام. كان أيضًا من أصدقائي الحميمين رغم أنه في الحقوق. وكان مُعمِّرًا فيها أيضًا؛ إذ كان مشغولًا بأنشطته السياسية والحياتية، فكان لا يحضُر الامتحانات، ويُقدِّم أعذارًا وهمية. كان والده من كبار رجال الجيش، وكان ذلك يُعفيه من العقوبات الشديدة التي تنزِل بمن هو مثلُه من الناشطين سياسيًّا.

ولما لم يرَني وفيق، نهضتُ وسلمتُ عليه ودعوتُه إلى مائدتنا. كان واضحًا أنه ثَمِل إلى حدٍّ ما. وكنا متعوِّدين على رؤيته على هذه الحالة بعد أن قطعَت فايزة علاقتَها به، وخُطبَت لأحد أعز أصدقائه. جلس بعينَيه الزائغتَين الضيقتَين وسلم على ناشد. يبدو أنه كان بينهما ودٌّ مفقود.

– هل علمتم آخر الأخبار؟

– ماذا؟

– لقد قبضوا على معظم الإخوان.

– الإخوان المسلمون؟

– مسلمون إيه! الرفاق.

– آه. وأنت؟ لماذا لم يقبضوا عليك؟

– أنا مختفٍ!

وقهقَهتُ. بينما قال ناشد: أيوه يا عم. يا بخت من كان النقيب خاله.

– أيوه يا عم إيه ونقيب إيه. أنا أدافع عنهم. دول قبضوا على لويس عوض.

آلمني هذا الخبر. كان من كُتابي المفضَّلين، رغم أنني لم أعاصره إبَّان عمله في القسم. كان قد فُصِل من الجامعة ويكتب في الصحف. الوحيد الذي يمتلك أسلوبًا مميزًا في الكتابة وفي اللغة تعرفه على الفور دون أن تقرأ اسمه على المقالة.

وسَرَد وفيق أسماءً أخرى على مسامعنا، ولكني لم أكن أعرف أحدًا منها. كان ناشد يسمع بهدوء. وتذكَّرتُ ما يُشاع عنه أنه يتعامل مع جهات الأمن.

كان وفيق مهتاجًا ويبدو أنه شرب كي يُهدِّئ من ثورته. كنتُ قليلًا ما أراه هكذا. وفيق قارئٌ ممتاز، ومع أنه لم يكن معنا في قسم اللغة الإنجليزية، ولا حتى في كلية الآداب، فهو قد قرأ الكثير من الكتب العالمية عن طريق إجادته الإنجليزية. ربما كانت ثقافتُه الواسعة تُعزَى لميوله السياسية الثورية. كنتُ أشعُر به أصيلًا، ليس كسامر، ولكن حظه أقل في التعامل مع الناس والحياة. لم يكن له مكر سامر أو دهاؤه. ورغم أني كنتُ بعيدًا تمامًا عن ميول جميل السياسية، فقد كنتُ أتعاطف مع مأساته الشخصية، بعد أن أوردَتْه صراحتُه ومباشرتُه موارد الهلاك. كان قد انتزع فايزة زميلتنا من صديقٍ لها معنا في القسم، بأن كشَف لها أن ذلك الصديق يتفاخر بما يفعله معها أمام الجميع. وكانت فضيحة، ولكن فايزة وثقَت بوفيق وبدأَت علاقةً معه، ولكن الحب لم يستمر طويلًا من ناحيتها؛ فقد شرب وفيق من نفس الكأس؛ إذ انتزع صديقٍ مقرَّبٍ له فايزة، وأصبحا مخطوبَين رسميًّا الآن. وأعتقد أن هذه الواقعة كانت وراء إدمان وفيق الشراب، وكان يتحدث عن فايزة كأنها فِردَوسُه المفقود.

وتعمدَّتُ تغيير موضوع الحديث إلى ما أحبه.

– فلنترك أخبار السياسة. ماذا تقرأ الآن يا وفيق؟

– أنا لا يشغَلني الآن إلا ما يحدث لرفاقي. عجيبٌ أمرك يا سامي؛ ألا تهُزُّك هذه الوقائع الخطيرة؟

– إني أهتمُّ بها وأتابعُها. ولكني لا أشارك فيها. إن عندي ما يشغَلني أكثر من هذا.

– ستقول الفن والأدب. إن هذا لا ينفصل عنهما. انظر إلى الكاتب الذي تحبه؛ سارتر. إنه يُلقي بفكره كله في الالتزام بالمذاهب والصراعات السياسية.

– ها. إنك تقول ذلك لأن سارتر شيوعي. إني أقرأ لسارتر وأحبُّ أدبه. ولا تنسَ أنني بصدد تكوين جماعةٍ وجودية. ولكني أفضِّل ألبير كامي في مواقفه وأفكاره أكثر من سارتر.

وتدخَّل ناشد قائلًا:

– ولكن كامي يريد للجزائر أن تبقى فرنسية. وسارتر مع الجزائر المستقلة.

– إن هذا ينبُع من كون كامي مولودًا في الجزائر. وهو قد تعاطَف مع نَيل الجزائريين حقوقَهم كاملة. وقد تبنَّى ذلك حتى قبل ثورة ١٩٥٤م. ومن ناحيةٍ أخرى، هذه سياسةٌ بحتة. أنا أدرس الأدب والفن، أما في السياسة، فلكل واحدٍ حرية الاعتقاد.

فقال وفيق: معنى هذا أنك توافق على الاعتقالات التي تحدث في مصر الآن؟

– أنا لا أدري ما وراء هذا. والحكومة بالطبع تعرف ما تفعل. ولتَذكُر أنكم كنتم من أشد المناصرين للثورة. ولكن يبدو أن موقفكم منها مرتبطٌ بموقفها من قوم بني الأحمر. ها ها.

فقال ناشد: احذر يا سامي، الجامعة ومَن فيها مُراقَبة.

– أنا لا يهمُّني شيء في سبيل إبداء رأيي. وعلى كل حال، لقد كنتُ أسأل عن قراءات وفيق. فقال وفيق: قبل هذه الأحداث كنتُ أكمل قراءة شولوخوف. روايتُه النهر الهادئ من أروع الروايات.

– هل قرَّروها عليكم في الحزب؟

قال ذلك ناشد مقهقهًا، وضحكنا معه.

قلتُ: لقد سمعتُ عن ظهور ترجمةٍ عربية لكتابٍ مهم أحدث ضجةً كبيرة في الغرب. اللامنتمي لكولن ويلسون، على ما أذكُر.

فقال وفيق: طبعًا. لقد ظهر عند مدبولي. بخمسين قرشًا. لقد قرأتُه بالإنجليزية.

– وما رأيك؟

– إنه كتابٌ مهم. أعتقد أنه سوف يعجبك كثيرًا.

نظرتُ في ساعتي، وناديتُ الجرسون، ودفعتُ الحساب، ثم استأذنتُ من الصديقَين للتوجُّه لحضور محاضرةٍ تالية. شِعر. كنا ندرس شِعر الميتافيزيقيين الإنجليز الذي كنتُ أجده جافًّا صلبًا لا رُوح فيه. كان معي الكتاب المطبوع على عَجَل في مكتبة الأنجلو، بعد منع استيراد الكتب الإنجليزية بعد العدوان الثلاثي.

مررتُ على مكان «الحزب النازي»، وتذكَّرتُ حامد الذي أطلق هذه التسمية على دلال وزميلاتها؛ لأن دلال ذاتُ عينَين زرقاوَين كعينَي الألمانيات. وفجأة، رأيتُ شريفة تهبط من سلالم المكتبة العامة متجهة إلى القسم. يا لَلخسارة، لقد ضاعت مني فرصة الجلوس بالقرب منها في المكتبة! كانت بهيَّة المنظر، ببلوزتها الحمراء على الجونلة الاسكتلندية، تحوطُها تلك الهالة الذهبية التي كنتُ أراها دائمًا حولها. أسرعتُ الخطى كي أذهب للمحاضرة؛ فلا بد أنها ذاهبةٌ إليها أيضًا. وعلى سُلم القسم، استوقفَني عاطف ليتحادث معي، وقضيتُ معه وقتًا بينما أنا أتحرَّق شوقًا للدخول.

هُرعتُ إلى مدرج ٧ الصغير، ولما دخلتُ وجدتُه نصف ممتلئ؛ لأن المحاضرة كانت «سكشن» وليست عامة. ولكني وجدتُ شريفة في لحظةٍ واحدة، كالعادة. كانت جالسةً في طرَف الصف، واثنان من الطلبة في أقصى الطرف الآخر. كانت فرصة للجلوس إلى جوارها. وتحرَّكتُ ببطء. وقبل أن أهمَّ باستئذانها للمرور إلى الصف، وجدتُ زميلًا يحاول الدخول، ولكنها صاحت فيه: محجوز. وسألها: كل هذا؟ وردَّت: نعم، كله محجوز. وطبعًا جفَلتُ من هذا، وقنعتُ بأن أجلس خلفها بصفَّين في الجانب المقابل كيما أستطيع رؤيتها. كانت تقرأ في كتابٍ استطعتُ أن أتبيَّن منه أنه رواية توم جونز، وهي المقرَّرة علينا في منهاج الرواية الإنجليزية هذا العام. كانت تكرُّ الصفحات بسرعة، طبعًا، فهي من الإنجلش سكول. أما نحن فنستغرق فترةً أطول بكثير. وأنا في قراءتي أمُر بكثيرٍ من الكلمات التي لا أعرفها. البركة في قاموس النهضة العتيد. كنتُ أحب هذا القاموس بجزأَيه الكبيرَين، وأُفضِّله على قاموس إلياس الذي أرجع إليه أيضًا. ربما كان من الأفضل أن أستخدم قاموسًا إنجليزيًّا لتنمية حصيلتي اللغوية، وكنتُ أفكِّر في قاموس أكسفورد الموجز الذي يُناسِب ميزانيَّتي. هل يا تُرى شريفة قد منعَت مَن يريد الجلوس إلى جوارها كي أجلس أنا أم لكي تمنعني أنا كذلك؟ مَن يدري؟

وبدأَت المحاضرة. موضوعٌ جاف. لماذا لا أشعُر بموسيقى وصور الشعر الإنجليزي بمثل ما أشعُره من الشعر العربي؟ إننا ندرس هذا العام قصيدتَين طويلتَين للمتنبي، أستمتع بهما إلى حد أنني اشتريتُ ديوانه الكامل لقراءة المزيد. وشِعر شوقي. والأخطل الصغير الذي ضحَّيتُ قبلًا بمصروف شهرٍ كامل لشراء ديوانه «الهوى والشباب» حين كنا نصطاف في الإسكندرية. ولكن، لا بد من دراسة هذه القصائد الإنجليزية فلسوف نُمتحَن فيها. سوف أطلب من عبد الرحيم أو كمال المساعدة في فهمها. طبعًا شريفة تقرأ هذا بسهولة، ولكن الصعوبة عندها في اللغة العربية. وأنا متفوِّق فيها. آه لو كنا نتبادل التعاون. كنتُ قد حصلتُ على تقدير ممتاز في مادة اللغة العربية في العام الماضي بينما رسَبَت شريفة فيها، وتأجَّلَت بالنسبة لها هي وكل طالبات وطلبة المدارس الإنجليزية. كان المقرَّر يشمل بعض قصائد شوقي، ومسرحيته مجنون ليلى. الدكتور شوقي ضيف ومحاضراته الرائعة. وكتابه عن شوقي شاعر العصر الحديث. أي متعة! كم كانت دراسة العربية ممتعة، ربما كان يجب أن ألتحقَ بقسم اللغة العربية. ولكن … آه من النظرات التقليدية والبحث عن المستقبل الأفضل عمليًّا ومعيشيًّا، في الترجمة والإذاعة وغيرهما! ولكني مُصمِّم على أن أدرس العربية دراسةً منهجية في قسم اللغة العربية أو في دار العلوم، بعد أن أُنهيَ دراستي في قسم اللغة الإنجليزية؛ ذلك أن أهم شيءٍ للمترجم هو إجادة اللغة العربية. وأيضًا للترجمة من العربية إلى الإنجليزية. أحلُم بأن أترجم رائعة نجيب محفوظ رغم طولها الشديد. ولكنها أهم روايةٍ قرأتها في حياتي. وهو ينشُر الآن روايةً أخرى في الأهرام.

– اقرأ القصيدة من فضلك.

ورأيتُ الدكتور يشير إليَّ. مصيبةٌ كبيرة.

وقفتُ فأشار لي الأستاذ أن أجلس. ومضيتُ أقرأ القصيدة كيفما اتفَق. جون ملتون. قراءة متأنية لا أعلم إن كان نطقي فيها سليمًا أم لا. وزاد من ارتباكي وجود شريفة في المدرَّج تسمعني.

وانتهيتُ لا أعلم كيف. وقال الأستاذ: حسَن. ثم انطلق يشرح أبياتَها ومعانيَها. وتطلَّعتُ ناحيةَ شريفة ففُوجئتُ بأنها تنظُر لي. وتلاقت نظراتُنا كالعادة من على البعد. لحظةٌ نورانية. عينان شفَّافتان، يغوص المرء فيهما، ويسبح إلى الأعماق. تتجلى له السماوات العلى، وتدقُّ الأجراس دقاتٍ متناغمةً متساوقة.

وكنتُ أنا من خفَض بصره أولًا. وغَرِقتُ في شرح الأستاذ وفي تهويماتي الشريفية. وبعد المحاضرة أسرعتُ بالخروج ولكني لم أرَ شريفة. ولحق بي نبيل ووهيب وتوجَّهنا كالعادة إلى البوفيه. كان كمال هناك ودعانا إلى الجلوس معه. كان قد عُين معيدًا في القسم بعد تخرجه بامتياز. واعتذر نبيل ووهيب وجلستُ أنا معه. قلتُ له: أمسِ، أنهيتُ دراسة رواية جوزيف آندروز المقرَّرة علينا.

– هل بدأَت الدكتورة أنجيل شرحها لكم؟

– ليس بعدُ.

– أتعلم أنها زوجة الأستاذ جرجس الرشيدي؟ لا بد أنك حضرتَه في الأورمان.

– حقًّا؟ طبعًا! لقد درَّس لي وشجَّعني كثيرًا.

– وهل قرأتَ الروايات الأخرى لنفس المؤلف؟

ضحكتُ وقلتُ: أنا لستُ موسوعيًّا مثلك.

– لا، لا تقل هذا. إنك مهتم بالأدب، ولا بد أن تقرأ كل شيء. وبسرعة.

– إني أركِّز بالكاد على المقرَّرات التي علينا.

– ولكنك قلتَ لي إنك قرأتَ عشرين مسرحيةً من مسرحيات شكسبير؟

– نعم. ولكن بعضها مختصر وبعضها بالعربية.

– لا، هذا لا يُجدي.

– أعرف. ولكن، شيء خيرٌ من لا شيء، ثم إن هذا يفيدني في الترجمة. هل أكملتَ مسرحيتَك؟

– إني أعمل فيها ولكن ببطء؛ فأنا أركِّز الآن على الكورسات التي عهد لي بها الدكتور لتدريسها. أعلَم أنني تحت الاختبار؛ ولذلك لا بد أن أبذل كل جهد في التحضير لها.

– هذا رائع. طبعًا ستتفوَّق في تدريسها، وسوف يعتمد عليك رئيس القسم كثيرًا.

توهَّج وجه كمال فرحًا وغبطة كعادته وقال: المستقبل بيد الله. ولكن المهم أنني أستمتع بالأدب وأعيش حياتي فيه. ليس الأدب، بل الفنون كلها. هي كلٌّ لا يتجزأ. الموسيقى والتصوير والكتب والتماثيل. والجمال الأنثوي فوق كل شيء، ولكن الحياة هنا لا تنفع، لا كتب ولا موسيقى ولا فن. وإذا خرجتَ مع فتاة فلا بد أن تتوارى معها في الخفاء. لا بد من التَّرحال إلى أوروبا والنهل من الحضارة هناك.

– المفروض أن تُوفد لدراسة الدكتوراه في الخارج.

– نعم، ولكن الشُّقَّة ما زالت بعيدة، وأمامي الكثير كيما أكوِّن نفسي. ولا تنس ضرورةَ متابعة الوضع الثقافي والفني هنا. لقد أثْرَت المناقشات الأدبية التي تدور الآن على صفحات الجرائد والمجلات من حياتنا الفكرية. إني أتابعها منذ بدأَت المعركة ضد الرومانسية في الإبداع والنقد. الحقيقة أننا في حاجةٍ لدفعةٍ شديدة إلى الأمام.

وجاء عبد الرحيم متقافزًا كعادته. ووقف إلى جوار مائدتنا يحيِّينا. كان معروفًا أن هناك تنافسًا بينه وبين كمال على الفوز بثقة رئيس القسم والاقتراب منه؛ لأن عبد الرحيم كان قد تعيَّن أيضًا معيدًا في نفس الوقت مع كمال، ومعهما عددٌ آخر من المعيدات والمعيدين، فقد كان القسم في حالة إعادة تشكيل، وكان الدكتور يريد أن يكوِّن طبقةً جديدةً من الأساتذة الواعدين، ولكن، شتان بين كمال وعبد الرحيم. عبد الرحيم يركِّز كل همه في المقرَّرات الدراسية ولا يخرج عن نطاقها، في حين أن كمال يجمع بين كل شيء. واستمع عبد الرحيم إلى نقاشنا وقتًا ما، ثم قال عبارته الشهيرة: I have to go. وانطلق بعيدًا.

ودفع كلٌّ منا حسابه. كانت الساعة قد قاربَت الرابعة وتعيَّن العودة إلى البيت، ولما كنا نقطن في نفس الحي فقد سرنا معًا إلى خارج الجامعة. وحين رأى كمال الزحمة على محطة الأوتوبيس اقترح أن نمشي إلى ميدان الجيزة ونأخذ الأوتوبيس من بدايته. ورحَّبتُ بذلك؛ فقد كان كلانا من محبي المشي. وسألني عن رأيي في أغنية عبد الوهاب الجديدة، فردَدتُ أنها أعجبتني، وأنني أُزمِع أن أحصِيَ عدد المرات التي يردِّد فيها كلمة لا لا لا، فضحك كمال عاليًا وقال إنه قد أحصاها بالفعل، وإنه يفعل ذلك دائمًا، وإن أشهر تَرداد كلمةٍ عند عبد الوهاب هو في أغنية يا ترى يا نسمة، حين ردَّد عبد الوهاب كلمة يا ترى ٢٥ مرةً متتابعة بنغماتٍ مختلفة. وذكَر أنه قد نجح في عزف بعض المقاطع المشهورة على العود؛ فهو قد تعلَّم العزف عليه، وأصبح قادرًا على الوصول إلى درجةٍ عالية من الجودة في اللعب عليه، حتى إن بعض المعارف قد طلبوا منه الاشتراك في بعض الأفراح بالعزف عليه. وكان ذلك شيئًا جديدًا أعرفه عن كمال يُضاف إلى مواهبه الأخرى. ولمَّا شكوتُ له من صعوبة الشعر المقرَّر علينا قال لي إنني يمكن أن أمُرَّ عليه في المنزل ليشرح لي كل ما أريد.

مَرَرنا على حديقة الحيوانات على اليسار، ثم كلية الزراعة إلى اليمين، حتى وصلنا إلى ميدان الجيزة. وهناك، قال كمال إنه سيذهب إلى أحد معارفه في داخل شوارع الميدان، وفهمتُ من تلميحاته وضحكه أنها إحدى الفتيات. وكان كمال معروفًا بمغامراته التي كنا نحسُده عليها. ودَّعتُه وذهب، بينما وقفتُ أنا في انتظار الأوتوبيس. وطافت في ذهني أحداث اليوم، ومَن قابلتُ من الأصدقاء وما حدث من وقائع وما قيل من أحاديثَ وتعليقات. وبدت أمام عيني أهمية حياتنا جميعًا في هذا المكان وهذا الوقت. كنا جماعةً نسعى إلى تكوين مستقبلنا بالطريقة المعروفة، وهي إتمام الدراسة الجامعية لمحاولة التوظُّف في عملٍ محترم، وكنا ما نزال في السنة الثانية، ولكننا كنا ننظر بطموحٍ إلى إنهاء الدراسة بتقديرٍ مناسب والحصول على وظيفةٍ جيِّدة. بيد أننا كنا أيضًا مجموعةً تسعى إلى تحصيل الثقافة والمعرفة فيما وراء مجرد التعليم الجامعي. كلنا في مطلع الشباب حيث التوقُّد والاندفاع والآمال العريضة. وكلنا نعيش قصص حب — سواء ناجحة أو متعثرة — تُثري حياتنا بالتجارب العميقة وبالآلام كذلك. وكان لكلٍّ منا أحلامه بالمستقبل؛ فهذا يريد أن يصبح مترجمًا، وذاك مدرسًا وآخر دبلوماسيًّا. أما أنا فكنتُ ما أزال حائرًا فيما أفعل، لم أستقرَّ على شيءٍ بعدُ بالنسبة للمستقبل. كنتُ قد فشِلتُ في الالتحاق بكلية البوليس؛ حيث كنتُ أطمع في عملٍ برَّاق ومرتَّبٍ كبير. وها أنا الآن أدرس اللغة. وكنتُ مستمرًّا في حُب القراءة التي بدأَت معي منذ الصغر، منذ كنتُ ألتهِم كُتب كامل الكيلاني وإصدارات دار الهلال ثم حلمي مراد. ورفد ذلك كله روايات المغامرات والروايات البوليسية التي بدأ بها جيلي كلُّه القراءة؛ فكنا نلتهم مغامرات أرسين لوبين وروايات أجاثا كريستي وآرثر كونان دويل وكثيرًا غير ذلك.

وجاء الأوتوبيس واندفع الجميع نحوه. وجلستُ كعادتي في المقعد المنفرد في الأمام، وأخرجت «الأبونيه» كيما أريه للكمساري حين يمُر. زحام وجلَبة وصياح. ويستدير الأوتوبيس عائدًا إلى العجوزة؛ حيث أهبط وأسير إلى منزلنا. شارع محمد شكري. أعيش مع أسرتي وإن كنتُ أحيا في عالمي الخاص بي. غرفتي مستقلَّة لها باب على السُّلم. معي مفتاحه. ولغرفتي نافذةٌ تطل على الشارع. وإلى جواري شُرفةٌ أجلس فيها أحيانًا. أتطلَّع إلى فتيات الجوار فريدة وروحية. منذ أيام المدرسة. كبرنا معًا ولكن بالنظر فقط.

الحجرة كما تركتُها بالصباح. كُتب في كل مكان. ومكتبٌ صغير عليه روايةٌ مفتوحة. وكتب على السرير. كنتُ قد أكلتُ في الجامعة سندويتشات؛ لذلك لم أطلب طعامًا. ذهبتُ فقط إلى الثلاجة، وتناولتُ زجاجة كوكاكولا، وعُدتُ إلى حجرتي.

كانت كل كُتبي أدبية الطابع؛ بالعربية والإنجليزية. وكنتُ أعيب على بعض أصدقائي كوفيق وناشد الاشتغال بالسياسة؛ فالأدب والفن لا بد أن يكونا خالصَين، يجب التفرُّغ لهما، ولكن تلك الفكرة لم تمنَعني من التعلُّق بأدباء «الالتزام»؛ سارتر وبوفوار وكامي. وقد دلفُت إليهم عن طريق الوجودية التي كنتُ أحيا فيها، ولكن مسألة الالتزام تلك لم تكن تُعجِبني. الفنان يُمكِنه متابعة السياسة كجزء من وعيه العام، ولكنه لا بد أن يتفرغ لفنه وأدبه وقراءاته وكتاباته الفنية؛ ولذلك كانت كتبي كلها في الأدب. روايات ومسرحيات وشِعر ونقد. كنتُ أعبُد الفنان قابعًا في محرابه، أو على ذُرى الأولمب، مخلصًا لفنه ولا شيء غيره. وكنتُ قد نسختُ نهاية كتاب زهرة العمر لتوفيق الحكيم، وعلَّقتُها في طرَف المرآة في الحجرة كي أراها كل يوم.

وبعد أن غيَّرتُ ملابسي وارتديتُ البيجامة، سمعتُ نقراتٍ على باب حجرتي الذي يُفضِي إلى السُّلم. أسرعتُ إلى فتحه، وقد كنتُ معتادًا على استقبال أصدقائي في كل وقتٍ دون موعد. وبالبيجاما. وجدتُ سامر أمامي فرحَّبتُ به، ودعوتُه إلى الدخول. كان كثيرًا ما يأتي لي بعد الجامعة فنتحادث ونتناقش، ونحتسي البيرة في كثيرٍ من الأحيان. كان يرتدي قميصًا وبنطلونًا، شعرُه قصيرٌ غير مرتَّب كالعادة.

جلس، ثم أخرج عُلبة سجائره، وأشعَل واحدة، وبدأ يدخِّن دون أن يُقدِّم لي واحدة. عادته. قال إنه جاء يعرض عليَّ مشروعًا.

– أنت تعرف أني بحاجة إلى نقود. مصروفي لا يكاد يُذكَر. وأيضًا لم أتقاضَ أتعابًا عن ترجمة الكتاب الذي صدر؛ فهذه الكتب لا تُوزِّع الكثير؛ ولذلك لا يدفعون أجرًا للمترجمين؛ لهذا فقد توجَّهتُ إلى حيث يدفعون.

– ماذا تعني؟

– هل سمعت عن «مذكِّرات فتاة»؟

– طبعًا.

– هل تعلم؟ إني أنا كاتبها.

– مش معقول!

– لِمَ لا؟ بدأتُ من نصٍّ بورنوغرافي، ولكني أضفتُ إليه من عندي الكثير، مع تطعيمه بالكلمات المصرية الصميمة.

– صحيح. وهو غالي الثمن ويصعُب الحصول عليه بسهولة.

– لهذا فهم يدفعون جيدًا.

– طبعًا لأن الشبان يتلهَّفون عليها.

– عندك نسخة؟

– كان عندي ولكني تخلَّصتُ منها.

– تريد أخرى؟

– يا ريت.

– خُذ.

وأعطاني نسخةً من ملفٍّ كان يحمله.

– ولكني جئتُ أعرض عليك أن تشترك معي في ترجمة بعض هذه الكتب.

– أنا؟

– نعم. لِمَ لا؟ أنت ستُترجِم الكتاب ترجمةً حَرْفية، ثم أقوم أنا بعد ذلك بصياغته على النحو المطلوب.

– إني مشغول في المذاكرة والقراءة كما ترى.

ضحك سامر عاليًا، وقال: يا أخي، اكتب أي حاجة.

– ولكن ليس لي خيالُكَ الدفَّاق يا سامر.

– وهل هذه أمورُ خيال؟ إنها أمورٌ غريزية. قل إنك لا تريد لأنك في غير حاجة للنقود. إنما أنت برجوازيٌّ كبير.

وضحكنا معًا.

– وأين البيرة؟

ابتسمتُ، وناديتُ على صباح، وقُلتُ لها أن تأتيَنا بزجاجة بيرة ستلا وكوبَين. وجلس سامر متربعًا على الكرسي الأسيوطي، وجعل يتأمل كعادته عناوين الكتب المصفوفة فوق دولاب ملابسي.

– آه. أرى عندك هنري ميلَر.

– طبعًا. ولكني لم أقرأه بعدُ.

– إن المقارنة بينه وبين لورانس ممتعة. ويمكن أن يفيد ذلك؛ فنحن سندرُس لورانس في الليسانس.

– وهل قرأتَه أنت؟

– طبعًا. إني أقرأ بسرعة وألتهِم الكتب.

– وكيف تجد الوقت وأنت معنا في الكلية معظم الوقت وفي زياراتٍ مستمرة؟

فضحك سامر عاليًا ولم يُجِب.

«يا له من شخصٍ غريب، ذي مقدرةٍ فائقة على عمل الكثير في وقتٍ قليل! إنه يصل إلى ما يريد بسرعةٍ فائقة، وبكل الوسائل الممكنة، ولكن كان له أعداءٌ أيضًا. كمال وعبد الرحيم مثلًا لم يكونا يستريحان له. وكانا يرفُضان زيارتي إذا عرفا أن سامر سيكون عندي. سامر يعتبرُ نفسه أفضل من الجميع. ويُحادِثهما كنِدَّين له. وكان يقول إنه هو أيضًا سوف يعمل معيدًا، فأستاذًا في القسم.»

وصلَت البيرة المسقَّعة، وهُرِع سامر يصُب لي وله، وأسرَع بالشرب منها في لذةٍ ظاهرة. كان يبدو لي شخصًا جمَع في يده كل شيء، الفتيات والثقافة والفن والمتع الحسية، وها هو يسعى للنقود. ولا تنسَ التقديرَ العاليَ الذي ناله في السنة الماضية وهو جيد جدًّا. ربما كان يُعوِّض نشأته المتواضعة في حواري ذلك الحي الشعبي، ولكنه كان من روَّاد مقهى عبد الرحمن، الذي تعرَّف فيه على بعض كبار المثقَّفين. وكالعادة، بهرَهم بشخصيته ومناقشاته وقراءاته، وكان ذلك مقدمةً لنشر كتابه الأول وهو في تلك السن الصغيرة. كان يبدو لي باهرًا، ولكني رغم ذلك كنتُ أحب أن أشاكسه كلما يحلو لي. وهو كان أيضًا يردُّ مشاكساتي بمثلها، ودائمًا يقرنها بوصفي بالبرجوازي الصغير. ورغم كل ذلك، كان يتقبل أي دعوةٍ مني أو من الشلة للدفع عنه في أيِّ مناسبة؛ على البوفيه، السينما، الكتب.

وانتزَع كتابًا من على الدولاب وصاح: لم أكن أعلم أن لديك هذه الرواية للمركيز دي ساد؟

– لقد اشتريتُه حديثًا من مكتبة شارع عرابي.

– إني أعرفها. لا بد أن يعرفك صاحبُ المكتبة كي يجعلكَ ترى كنوزه. هل الروايةُ كاملة؟

– أعتقد هذا.

– دعني أرى.

وغرق في الكتاب، ثم قال بعد دقائق: نعم. إنها الطبعة الأصلية.

– وكيف عرفتَ بهذه السرعة؟

– فيها الكلمات إياها. أتعرف؟ يمكن ترجمة هذه الرواية أيضًا وبيعها سرًّا.

– حرامٌ عليك يا سامر، أنا لا أحب أن يصبح دي ساد مثل مذكِّرات فتاة.

– ما زلتَ في مثاليتك. انزل إلى الأرضِ يا رجل.

– لا أحد يريد أن يرتبط اسمه بمثل هذه الكتب. ألا تقلق أنت من ذلك وأنت على أعتاب مهنةٍ ناجحة في النشر والتأليف؟

– أبدًا. إنها عمليةٌ تجارية بحتة. والقبض كاش. وليست هناك أسماءٌ مكتوبة.

– لا. يجوز لو فكَّرتُ في شيء من هذا في ترجمة عشيق الليدي تشاترلي. وحتى هذه لن أجرؤ على أن أضَع اسمي عليها، ولكنه لورانس.

– أتعرف أن قضية هذه الرواية ما تزال متداوَلةً في إنجلترا؟ يترافع في صفها كبار الكُتَّاب ومنهم فورستر.

– إنكَ مطَّلِع على كثير من الأمور الثقافية في الخارج. كيف يتأتى لك هذا؟

– إني أطالع الصحف الأدبية الأجنبية في المراكز الثقافية الأجنبية هنا، ولكن نصيحتي لك أن تترُك لورانس. أعرف أنك تهيم بمرتفعات وذرنج وغيرها من الروايات الرومانسية.

– نعم. ولكنها مترجمة إلى العربية بالفعل.

– إنها ترجمةٌ لبنانية في غاية السوء. الحقيقة أن الترجمات خارج القاهرة كلها «مسلوقة»؛ ولذلك فالسوق يسمح بترجمةٍ جديدة.

– يبدو أنك تنتوي ترجمة لورانس.

– بفكَّر.

– على العموم سمعتُ أن إحدى رواياته مقرَّرة في مواد السنة الرابعة، ولكن لا أعتقد أنها عشيق الليدي تشاترلي.

– كلا. إنها رواية «أبناء وعشاق» فقط، وهي حلقة من ثلاثيةٍ متوافقة جاء بعدها «قوس قُزَح» و«نساء عاشقات». إني أقرأ كل هذا منذ الآن. أرى أنك تُذاكِر باجتهاد. يبدو أنك تسعى إلى الحصول على تقدير جيد جدًّا.

– ياه! لا طبعًا. أنا لو نجحت بجيد يبقى كويس.

– بالعكس. جيد جدًّا سهلة جدًّا لو تركِّز عليها.

– أنا أترك ذلك لك ولفتيات دفعَتنا من الإنجلش سكول.

– انظر إلى كمال وعبد الرحيم. إن أيًّا منهما لم يحصُل على جيد جدًّا إلا في السنة النهائية؛ ولهذا يجب التركيز على هذه السنة.

– غريبة. إن من سيحصُل على التقديرات الممتازة في دفعتنا هم بنات الإنجلش سكول.

– نعم. ولكني سمعتُ أن رئيس القسم يريد أن يطعِّم القسم بمن يُجيد اللغة العربية. وهؤلاء الفتيات يؤجلن امتحان اللغة العربية إلى النهاية، ولا يعرفن شيئًا في الترجمة.

– عندك حق. وأعرف أيضًا أن الدكتور رشدي رئيس القسم يريدُ أن يكوِّن مدرسةً أدبية تلتف حوله وتؤمن بمبادئه في الأدب والنقد؛ ولهذا يحرص الجميع على التقرُّب منه عن طريق شاعره وناقده المفضَّل.

– على العموم أرى أن قوَّتَنا في اللغة العربية ستكون مفتاح التفوُّق على فتيات الإنجلش سكول من دفعتنا، ولكن، كم هنَّ جميلات!

– هُس. أنت عندك صاحبتك.

– نعم. ولكن هذا لا يمنع من الإعجاب بالجمال أيًّا كان. وأنت وشريفتك …

وضحكتُ عاليًا حتى أقطع كلامه قبل أن يقول شيئًا لا يرضيني وأُضطَر إلى الرد عليه. وشربنا مزيدًا من البيرة المسقَّعة. وبعد الانتهاء، نهَض سامر وتأهَّب للخروج قائلًا: سآخذ الرواية أكمِلها ثم أعِيدُها لك.

– يبدو أنك سوف تقتبس منها لكتبك الإباحية.

فقهقه سامر قائلًا: لا. لا. أنا أقدِّس الروايات الجادَّة، ولا أُقحمها في هذا الهذر. وعلى فكرة، لقد بدأ الكتَّابُ العرب في استخدام كلمة الإيروسية بدلًا من الإباحية.

وفتح الباب وغادر قائلًا: سلام.

وأغلقتُ الباب وراءه. وعُدتُ واستلقيتُ على السرير. كنتُ معزولًا تقريبًا عن بقية الشقة. بها والدتي وشقيقي الأصغر. وكانت والدتي ما تزال في الشرفة التي تقضي فيها معظم المساء.

وتهيَّأت للنوم كي أستيقظ مبكِّرًا كعادتي، ولكن صور شريفة وذكريات اليوم كانت تتزاحم في مخيِّلتي. كم أشتاقُ إلى مطالعة وجهها الصبوح المُشرَب بالحمرة الوردية، والغوص في أعماق عينَيها الخضراوَين، وأسبح فيهما إلى جنَّات النعيم. منذ رأيتُها ونحن ندفع المصاريف في العام الماضي وهي قد أسرَتْني فلا أستطيع منها فكاكًا. نعم كنتُ أعجَب بفتياتٍ أخريات، ولكن لكي أتعزَّى بهن عنها؛ فقد كانت بعيدةَ المنال مني. والخطأ خطئي؛ فقد كنتُ أشعر أحيانًا بها تشجِّعني على الحديث معها، ولكني لم أكن أستطيع ذلك. والبهجة التي تمنَحني في رؤيتها هي كل شيء. إنها تملأ جوانحي وعقلي وقلبي بإشراقٍ لا يمكن وصفه. إشراق من نوعٍ جمالي فنِّي يجعلني أحِسُّ بدفقة الحياة في كل ذرة مني. واستمتعتُ بهذه الفكرة التي تجعلني «مختلفًا» عن الآخرين، ممن يتوقون إلى الحصول على فتاتهم، بل ويتمثَّلون مواقفَ حسيةً معهن.

وانسابت إلى مسامعي أنغام موسيقى من راديو في الجوار. موسيقى ليالي لبنان لعبد الوهاب. أعشقها. تُذكِّرُني بشريفة. اخضرار عينَيها كخضرة روابي لبنان. وبعد قليلٍ سمعتُ يا جارة الوادي. هذا راديو معجَبٍ آخر بلبنان أو لعله لبناني. أمامنا عائلةً سورية جاءت بعد الوحدة.

«وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك.»

آه لو كانت معي هناك حيث أحلُم.

«ودخلتُ في ليلَين … فرعِك والدُّجى.»

لا، شريفة شَعْرها أشقر. كيف كتب شوقي هذا البيت؟! وكيف أجازوه؟!

غدًا أرجو أن تحضُر شريفة إلى الكلية. سأحاول أن أجلس إلى جوارها مرةً أخرى. وإلا فسوف أتبعها كالعادة عن قُرب. حتى إذا خرجَت عائدةً إلى منزلها. أعرف حيث تقيم. الفيلا الأنيقة حيث تصعد السلالم كحورية من حوريات الجنة. دائمًا أمرُّ على شارعها وأتطلَّع إلى الفيلا وأراها أحيانًا في بنطلونٍ أزرق. وتراني وتنظر طويلًا. ثم تجلس في الحديقة تقرأ على كرسي وتنساني تمامًا. وأحيانًا أراها في نافذة الطابق العلوي. لا بُد أنها حُجرتُها. وأقف أتخيَّل ما يحيط بها. كُتب. أسطوانات. ملابس. وفي الفيلا عربَتان كلتاهما كرايزلر. عرفتُ كل شيءٍ عنها. وحتى رقم تليفونها. يومًا سأحاول محادثتها. هذا الحامد عليه اللعنة ينافسني في حبها. ولكني أعتقد أنها تفضِّلني أنا. هو من الأقاليم. أسمر. مبتذل. طبعًا القرد في عين أمه غزال. ولكنه يشغَلني ويغار مني.

ها هو النوم يتسلل إلى عيني. يا تُرى ما سيأتي به الغد؟! إني أستقبل كل يومٍ جديد بأملٍ جديد ورجاءٍ عامر. شريفة. هملت. وفيق. الدكتور العيوطي. الدكتورة فاطمة …»

ومن المعالم الثقافية التي مرَرتُ بها في تلك الأيام حضوري أفلام محمد عبد الوهاب، وكانت سينما كايرو وسينما ديانا قد أقامتا مهرجانًا لأفلامه، فحرَصتُ على حضورها جميعًا في حفلة الظهيرة، واستمتعتُ بالأغاني والموسيقى الخلابة التي تحتويها، خاصة أفضل أغنية عندي، أيامها وحتى الآن: الصبا والجمال، في فيلم يوم سعيد. ولاحظتُ أن الأغنية في الفيلم بها تنويعاتٌ تختلف عن الأغنية التي تُذاع (نادرًا) في الراديو أو التي في الأسطوانة. ولاحظتُ أيضًا أن المطربة شادية حرصَت هي الأخرى على حضور تلك الأفلام، ورأيتُها مرارًا هناك. أما الأفلام المهمة التي شاهدناها في ذلك العام فيبرُز منها فيلم «وتشرق الشمس ثانية»، قصة همنجواي، وتمثيل آفا جاردنر وتيرون باور، وقد شاهَدْتُه عدة مرات (مثلما فعلتُ مع فيلم وداعًا للسلاح)، وفيلم بين الأطلال، قصة يوسف السباعي، وتمثيل فاتن حمامة وعماد حمدي، وشاهدتُه عدة مراتٍ كذلك. وحضرتُ في ذلك العام الدراسي مسرحية «٣٠ يوم في السجن»، على خشبة المسرح الجامعي؛ حيث شاهدتُ فؤاد المهندس وخيرية أحمد في الدورَين الرئيسيَّين، وازداد إعجابي بفؤاد المهندس، وكنتُ أستمع إلى أدواره في برنامج ساعة لقلبك وأضحك من قلبي لابتكاراته العجيبة.

وكانت السينما من أهم مشاغلي أنا ونبيل الذي كان يطمح أيامها أن يكون نجمًا سينمائيًّا، وكنتُ أشجِّعه على ذلك وأصحبه في زياراته للمخرجين والممثلين. وكنا نتبارى في معلوماتنا السينمائية، عن الأفلام والمخرجين والممثلين الأجانب والمصريين، ونردِّد العبارات التي وردَت في الأفلام وأصبحَت كالصكوك، خاصةً الفكاهية، على ألسنة نجيب الريحاني وعبد السلام النابلسي واستيفان روستي وإسماعيل ياسين. فكنا نغرق في الضحك من عبارات «جتك البلا في نحسك» و«نشنت يا فالح»، و«هات لي يا بني عصير قصب» لاستيفان روستي؛ و«إيه، حتة أجزخانة مش هنعرف نقشطها» و«شيء لزوم الشيء»، و«إذا لم تكن لي والزمان شرم برم فلا خير فيك والزمان ترللي» لنجيب الريحاني؛ وغير ذلك من الأقوال واللزمات الفَكِهة لعبد الفتاح القصري، وشرفنطح، وعبد السلام النابلسي، وكثير غيرهم.

١٩٥٩

وفي صيف عام ١٩٥٩م حدث ما قلب حياتي رأسًا على عقب، وهو وفاة والدي فجأةً ونحن في المصيف بالإسكندرية.

كنتُ قد حملتُ معي عددًا من الكتب لقراءتها حين توجَّهنا ذلك الصيف إلى الإسكندرية، وأقمنا في شقة خالتي بسيدي جابر. كان معي رواية «نيكولاس نيكلبي» لديكنز كاملة؛ وكنت أعرف أننا سندرُس له في العام الدراسي المقبل رواية «آمال كبار»، ولكني أحببتُ الاطلاع على الرواية الأخرى لما علمتُه من تناولها أمور التعليم وفساده أيام تشارلز ديكنز. وبدأتُ أتعلم القراءة السريعة مع التركيز، وكان ذلك مهمًّا جدًّا نظرًا للكمية الهائلة من الكتب التي أريد أن أقرأها خارج المقرَّر. وكانت مطبوعات كتابي قد أصدرَت ترجمةً عربية لرواية بوريس باسترناك «دكتور زيفاجو» في جزأَين كبيرَين، فاحتملتُهما معي لقراءة الرواية على الشاطئ.

وقد أصيب والدي دون أية مقدماتٍ بنزيف في المخ في الحادية عشرة ليلًا، وحملتْه سيارة الإسعاف إلى المستشفى الجامعي، وذهب معه أخي الأكبر بينما بقيْتُ مع والدتي في الشقة. وقد ظلِلْتُ ساهرًا بقية الليل، أدعو الله أن يعبُرَ بنا هذه المحنة؛ فقد كان أبي يعاني من ضغط الدم وأمراض القلب. وجاءتنا الأنباء من المستشفى بخطورة الحالة، وأن الأمل في الشفاء ضعيف. وكانت ليلةً قضيتُها في مناجاة مع الله، بكل طريقةٍ يمكن المناجاة بها، ولكن قُضي الأمر، وعاد جثمان والدي في عربةٍ عسكرية بوصفه كان ضابطًا، وعدنا جميعًا إلى القاهرة حيث قضينا أيامًا جهماءَ حزينة لا يمكن وصف أجوائها. كان والدي قد عمل في ديوان مصلحة السجون وكيلًا للخدمات العامة مشرفًا على إعادة تأهيل السجناء بعد الإفراج عنهم، ثم تقاعد في أوائل عام ١٩٥٨.

وبعد مرور الإجراءات التابعة للوفاة، قضَيتُ أيامًا في وحدة أتأمل ما حدث. وفي البداية، تفهَّمتُ حكمة الله في مشيئتِه التي يصعُب علينا إدراك مغزاها، واستسلمتُ لقضائه. غير أن هذا الموقف تغيَّر بالتدريج، حين بدأتُ أتساءل عن أمور الحياة والموت والدين، وبدأ إيماني يهتزُّ اهتزازًا عنيفًا. وامتزج ذلك الاهتزاز بقراءاتي في الفلسفة الوجودية، فأصبحتُ من تابعيها، وأمسيتُ أدعو لها بين رفاقي. وقرأتُ أكثر وأكثر في كُتب سارتر وكامي، بكل ما تحمله من معاني الحرية الفردية والمسئولية التي تستتبعُها والتمرُّد الوجودي وتوابعه الجِدية. لم أكن آخذ الوجودية بمعناها السطحي الذي يأخذه الشباب منها عادة من أجل التحرُّر من التقاليد، بل أخذتُ معناها الفلسفي الذي يؤسِّس مبادئ حياة. واشتريتُ ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي لكتاب سارتر «الوجود والعدم»، ولكن قراءته كانت عسيرة. والتمستُ الكتب التي تشرح أسس ومبادئ الوجودية، وغُصتُ في بحار الماهية والحرية واللامعقول والتمرُّد والانتحار والغربة واللاانتماء والتعمُّق في معنى الوجود.

وكان لا بد للحياة من أن تسير بعد هذه الواقعة الأليمة، وتذكَّرتُ قصيدة الشابي التي تقول إنه لم يكن يصدِّق أنه سوف يعود للحياة العادية بعد موت أبيه. وعُدتُ إلى لقاء أصدقائي في ذلك الصيف، ممن يبقَون في القاهرة كالشافعي ونبيل ووهيب وسمير وعبد الرحمن ووفيق وكمال، أو ممن يزورونها كمحمد عباس وعبد الستار وحسيب. وأغرقتُ أحزاني بقراءة مقرَّرات السنة الثالثة مقدمًا، فطالعتُ واحدةً من أعظم الروايات قاطبة: «طاحونة نهر فلوص» من تأليف جورج إليوت. وقد قرأتُها بشغفٍ عظيم، وعُدتُ لقراءتها مرارًا وتكرارًا بعد ذلك وحتى يومنا هذا؛ فهي بحق أول روايةٍ حديثة تغوص في أغوار النفس لتُقدِّم مجاهلها وصراعاتها الخفية. وما يزال الفصل الطويل المُعَنوَن «الإغراء الأخير» الذي يصوِّر «ماجي توليفر» وهي تقاوم حبها لخطيب ابنة عمها يمثِّل أصدق تصويرٍ لعذابات الحب الذي لا يعرف قاعدةً ولا تبريرًا. ويذكُر «مارسيل بروست» أنه كان لا يستطيع أن يمنع دموعَه حين يقرأ هذه الرواية. وقد اعتبَر النقاد جورج إليوت (وهو اسم الشهرة للكاتبة ماري آن إيفانز) أوَّل من كتب الرواية النفسية، والبعض يرى أن روايتها «ميدل مارش» هي أفضل ما كتبَت، بيد أنني أرى أن طاحونة نهر فلوص تفضُلها؛ فهي روايةٌ مكتملة الأركان، ورَسْم الشخصيات فيها يدُل على حرفيةٍ روائيةٍ ماهرة. وفيها يتابع القارئ شخصية ماجي توليفر منذ طفولتها، وحياتها مع أفراد أسرتها، ونضال أبيها ضد أحد أثرياء البلدة، ثم التقلبات التي تمُر بها ماجي وأخوها الذي يسعى لاسترداد مكانة الأسرة بعد وفاة الأب. ثم الحب الذي نشب فجأة بين ماجي و«ستيفن جست» خطيب ابنة عمها بمقربةٍ منها، وما سبَّبه ذلك الحب من مأساة للأسرة كلها؛ حيث لم ينته الأمر إلا بموت ماجي وأخيها غرقًا في الفيضان الذي اجتاح البلدة ليلًا. وقد تركَت هذه الرواية أثَرًا لا يُمحى بين زملاء دفعتي في القسم؛ فعندي لا تزال النسخة التي درستُها في تلك السنة الثالثة وعليها تعليقاتٌ مكتوبة بخطٍّ أنيق من صديقي شافعي، وكلها تعبيرٌ عن فهمٍ واعٍ لصراع الإنسان مع القدَر ومع الطبيعة. وكان من أثَر مطالعتها عندي هو زيادة الخوف من الوقوع في «الإقليمية» Provincialism، التي تعني الانحصار في جوٍّ من التقاليد والأعراف الخانقة، التي تحدُّ من حرية الانطلاق والتجديد في الفكر والإبداع والخيال. وبَقِيَت في ذهني من الرواية أفكارٌ لا تُمحى، منها أن النسوة السعيدات، كالدول السعيدة، لا تاريخ لهن. ومغزى ذلك أن الألم والمعاناة هي التي يُسجِّلها التاريخ، وتُسجِّلها الكتب والروايات والفن.

كنتُ قد اتبَعتُ خطةً معيَّنةً في دراسة الروايات المقرَّرة علينا، وهي أن أقرأ إلى جانب الرواية المقرَّرة أكبر عدد من الكتب الأخرى لنفس المؤلف أو المؤلفة. وهكذا قرأتُ لجورج إليوت «ميدل مارش» و«آدم بيد» و«سيلاس مارنر». وقد بدأتُ في محاولةٍ لترجمة آدم بيد، ومضيتُ فيها شوطًا ولكن لم أكمِل. ولمَّا كنا ندرُس رواية جين أوستن «الكبرياء والهوى» فقد قرأتُها إلى جانب «سنس آند سنسبيليتي» و«إيما». وقرأتُ ترجمةً عربيةً جيدة للكبرياء والهوى جلبتُها من مكتبة الوفد العريقة بشارع الفلكي، وقد عرفَني صاحبُها وجلَب لي الكثير من الكتب العربية التي نفِدَت ولم أعُد أجِدُها في المكتبات. غير أن أوستن لم ترُق لي كثيرًا بسبب تسطُّح شخصياتها، رغم إعجابي بلغتها الجميلة، وبراعتها في استخدام «وجهة النظر» في عبارات رواياتها، خاصة افتتاحيةَ الكبرياء والهوى التي صارت مثلًا!

أما تشارلز ديكنز فكان قصةً أخرى. كانت الرواية المقرَّرة علينا له هي: «آمال كبار»، وكنتُ قد قرأتُها منذ صباي، وكثيرًا غيرها لديكنز ملخَّصة بالعربية؛ إما في «كتابي»، أو في سلاسلَ أخرى. ولم تكن هي أفضل أعمال ديكنز، فقرأتُ إلى جانبها النصوص الكاملة لقصة مدينتَين وديفيد كوبرفيلد وأوليفر تويست. وكنتُ قد قرأتُ في الصيف نيكولاس نيكلبي. ثم استعرتُ من دار الكتب الترجمةَ الكاملةَ لمذكِّرات بكويك، التي أنجزها عباس حافظ، بروعة واقتدار، في ثلاثة أجزاء، قرأتُها إلى جوار النص الإنجليزي فاستفدتُ فائدتَين؛ النص الفكاهي الممتع، والتدريب على الترجمة إلى العربية.

وفي حياتي العاطفية بالكلية، كان يوم عيد ميلادي التاسع عشر يومًا لا يجود الزمان بمثله. كنتُ قد حلَمتُ بشريفة حُلمًا رومانسيًّا رائعًا، وخرجتُ في الصباح الباكر ماشيًا إلى الكلية، مارًّا بالشارع الذي تقع فيه فيلا شريفة، وإذا بي أراها تخرج من البيت وتتجه مثلي ماشيةً إلى الكلية. وتتبَّعتُها في انتشاء وتجلٍّ؛ أي Ecstasy! وأنا مبهور بهذا الموقف الفريد، ولكن لم يُسعِفني قلبي بالتغلب على عقلي الواعي كي أتقدم وأحادِث شريفة بعد أن رأَتني. ووصلنا إلى الكلية دون كلام. وبعد حضور محاضرتَين في القسم، رأيتُها تتجه إلى مكتبة الجامعة، فذهبتُ أنا أيضًا إلى هناك، وواتَتْني الشجاعة فجلستُ أمامها على مائدة المطالعة. وهناك، تكلمتُ مع شريفة لأول مرة مباشرة؛ لاحظتُ أنها قد طلبَت قلمًا من الفتاة التي تجلس إلى جوارها، فاعتذرَت الفتاة بأنها لا تملك قلمًا إضافيًّا، فأسرعتُ أنا دون تفكير وقدَّمتُ لها قلمًا متسائلًا بالإنجليزية: «هل تريدين قلمًا؟»، فاحمر وجهُها قليلًا، وابتسمَت ابتسامةً عريضة وهي ناظرةٌ لي بوجهها الملائكي وتقول متردِّدة: لا، لا. فقلتُ إني لا أحتاج إليه الآن. فقبلَتْه قائلة: ثانك يو. وعُدنا ننكبُّ على المراجع التي أمامنا وأنا أنظر إلى شريفة بين الحين والحين. لم أكن قد رأيتُها من هذا القرب من قبلُ، وبدَت لي أكثرَ جمالًا وشفافية، وبشرتُها وردية تتماثل مع ألوانها الأخرى في تناسُقٍ لم يشهَدْه أحدٌ أبدًا بمثل هذه الروعة. وظلِلْنا على هذه الحال فترةً طويلة، وبعدها أعادت لي القلم وهي تشكُرني. وبعد فترةٍ أخرى، لملمَت حاجياتها وخرجَت وهي تلتفتُ نحوي وتقول مرةً أخرى: ثانك يو. وغمرَتْني حالةٌ من السعادة والانتشاء لا يمكن وصفها؛ فقد كانت أول مرة قاطبةً نتحادث فيها. وقد رآني نبيل ووهيب وأنا جالسٌ أمامها وسألوني بعد ذلك عما حدث، فقلت لهما بالتفصيل، فهنَّئوني بما فعَلْت.

وفي صباح اليوم التالي، قابلتُ شريفة في صالة القسم فأحنت لي رأسها وبادلتُها التحية. وظننتُ أننا سنواصل تلك الحالة من الصداقة والمعرفة، ولكن ذلك لم يحدُث مع الأسف. وبعد ذلك بعدة أيام، تكرَّر جلوسي على نفس مائدة المطالعة التي تجلس إليها شريفة بالمكتبة. وفي هذه المرة، بادأَتني هي الحديث، طالبةً مني أن أحفظ مكانَها وحاجاتِها إلى أن تعود. وردَدتُ بالإيجاب بإنجليزيتي السقيمة الجافة، فشكرَتْني وخرجَت. وهمتُ سابحًا في بُحران من السرور والبهجة إلى أن عادت وحملَت حاجاتِها وخرجَت بعد أن شكرَتْني ثانية.

وحدَث بعد ذلك بأيام أن وجدتُ صديقي إبراهيم في المدرَّج الكبير المخصَّص للمحاضرات العامة، جالسًا إلى جوار شريفة وهو يتحادث معها. وقد أثارني ذلك المشهد، فقابلتُ إبراهيم بعد المحاضرة، وسألتُه عن الفتاة التي كانت إلى جواره، فحكى لي أنه قد تعرَّف عليها يومًا ما في المكتبة، وسألها إن كانت معنا في السنة الثالثة أم الرابعة، فردَّت بأنها في السنة الثالثة؛ لأنها قضت عامًا بأكمله مريضةً في الفراش. وحرَصتُ أنا بعد ذلك أن أذهب مع إبراهيم إلى المحاضرة التالية مباشرةً في مدرج ۱۳، وأن أمُر عدة مراتٍ أمام المدرَّجات وأنا ممسك بذراعه وأحادثه، وفعلتُ ذلك إلى أن تأكدتُ أن شريفة قد رأَتني معه وأنا أنظر إليها. وخُيِّل لي أنها رأت ذلك وفهمَت ما أعنيه فابتسمت! وحين عدتُ إلى المنزل تناولتُ ورقةً وقلمًا وكتبتُ القصة التالية عن ذلك الحدث:

«النور خافت، والأبواب مغلقة، والجو فسيح، والمصابيح الكهربائية مطفأة. النقوش على الجدار تبدو غريبةً وكأنه أول مرة يراها. تُرى أهي نقوشٌ عربية أم إسبانية؟ كان يقرأ عن الفن الأرابسك ليلةَ أمس وتعجَّب من معنى هذه الكلمة التي لم يعرف ماذا تعني إلا عند قراءته هذه. والتفَت برأسه إلى الأمام فطالعَه وجه الأستاذ وهو يلقي المحاضرة. وجهُه غريبٌ كنابليون، ومن الغريب أن يفكِّر في نابليون الآن. متى تنتهي المحاضرة بآلامها. ونظَر إليها وكانت تضحك ثم تلتفِت في حذَر إليه لترى وَقْع ذلك عليه. آه لو تدرين ماذا تفعلين بقلبي يا فاتنة القلوب! تُرى ماذا يقول لكِ هذا الأبله الذي يجلس بجانبك؟ وكيف عنََّ له أن يبادلك الحديث؟ آه … إن وجهه يحمَر وهو يكلِّمك، أيكون عنده ذلك الإحساس بجمالك الذي يكمن في فؤادي؟ لقد حادثتُكِ أنا مرارًا وكنتُ أتساءل عما يحدث لي إبَّان ذلك، هل يحمَر وجهي مثله؟ لو أن ذلك يحدُث فما أغباني أن أبدو أمامها هكذا كما يبدو الآن هذا الأبله القميء. هل هناك ألمٌ في الدنيا يفوق ألم النفس الذي يغمرني الآن؟ الأستاذ يتكلم عن لورد بايرون. لماذا ينظر نبيل إلى شريفة هكذا؟ أيكون بينهما شيء؟! ماذا سيكون بينهما؟ أعهِدتَ فيها أنها تعرف أحدًا؟ مهلًا مهلًا، لقد وصلتُ إلى درجةٍ غريبة من التفكير يا سامي. الجنون. إني أخشى الجنون فلا يمكن أن أُجَن. لا بد أن أكتب شيئًا أو أتظاهر بالكتابة؛ لأن الأستاذ ينظر نحوي كثيرًا. تُرى هل لاحظ أنني ألتفِت ناحية شريفة كثيرًا؟! الجنون. إن نبيل مُعجَب بنانسي فكيف يُعجَب بشريفة؟! إن الإعجاب شيء والزواج شيءٌ آخر. أما رأيتَ أن فكري كان ينافسك في حُبها؟ يا لَلكراهية؛ كانت أيامًا حزينة. تُرى لو أن فكري كان ما يزال في الجامعة، هل كنتَ تجد لحظةً واحدة من خُلُو البال؟ ولكنك لست وحدك الآن في حبها. هناك عبد الحميد ينتظر هناك في الخارج وقد يراها وهي خارجة. ماذا ستفعل عندئذٍ؟ ستكون لحظةً حرجة. ما زال الأبله يُحادِثها. أتعذِّبينني؟!

– ما معكش قلم زيادة من فضلك؟

سعاد تبدأني بالحديث، يا لَلسعادة!

– اتفضلي.

ما أهمية ذلك الآن وحبي الكبير يشغل فكري؟! وأراحه أنه أعطى القلم لسعاد حتى لا يكتب شيئًا. ما أغباني! إن هذا مجرد تبريرٍ مع نفسي فقط؛ فالأستاذ لا يدري أنه ليس معي قلم. يا لحزني! إنها تضحك. هل يُبدِّد بياض أسنانها هذا الجو الكئيب كما كتبتُ مرةً في قصيدة عنها؟ لقد قال فكري مرة إن أعظم شيءٍ يتمناه المحب هو أن يجعل حبيبته تضحك. آه لو كنتُ مكانك أيها الأبله! ضحكتُك سخيفة تُبديك كالساذج الأحمق. أتطمع في شيءٍ منها؟ ذلك أبعَد إليك من أحلامك. وما الذي تطمع فيه أنت؟ أأكون مثله؟ اضحك يا زميلي اضحك فأنت لا تدري عنها شيئًا — لا تدري بأمر العربات الفاخرة والفيلا الضخمة والمال المتدفق. لا تدري بأمر الخدم والحشم والسائقين والموظفين. اضحك يا زميلي في الإخفاق. وآلمَه أن يضحك ذلك الفتى بينما قلبه هو يبكي. أصحيحٌ أن عدم معرفة الشيء يجعله كأنه غير كائن؟ من قال هذا؟ أظن أنه عطيل … أو هملت لستُ أدري. لو كنتَ ذهبتَ إلى السينما اليوم لفاتَك منظر شريفة مع هذا الفتى. كان أفضل. ستظل صورتُهما مطبوعةً في ذهنك طوال بقائك. تُرى أسيخرج معها بعد انتهاء المحاضرة؟ باطل الأباطيل. إني لقاتلُك أيها الفتى. بل سيقتُلك حُبك، فستعرف يومًا ما. زوسيما قبَّل يد أحد التعساء لأنه رأى دخوله الجنة. إني أنحني لك أيها الأبله.»

وقد ظل الحال بين شريفة وبيني على هذا المنوال، دون أن أتمكَّن من تطويرِ ما حدث بيننا بحيث أواصِل الكلام معها وتحيَّتها، برغم كل الظروف التي أتيحَت لي للقيام بذلك، وما لقيتُه منها من ودٍّ في الحديث معي. ويا لها من حسرةٍ أليمة إذ يخطر على بالي ذلك الأمر الآن، بعد أن تقدَّم العمر ونضج الفكر ودخلتُ في العديد من تجارب الحياة؛ كم كان هينًا وسهلًا أن أصادِق شريفة وأن أقول لها ما تعنيه بالنسبة لي. وكانت المحادثة قبل الأخيرة بيني وبينها عشية امتحانات نصف السنة، حين أعلنوا أرقام جلوس الطلبة والطالبات في ساحة الكلية. وقد رأيتُ اسمي ورقمي، ثم كالعادة، بحثتُ عن اسم شريفة ووجدتُه. وحين كنتُ أمام الجداول، لاحظتُ مجيء شريفة ومحاولتَها البحث عن اسمها. وحدَث ما كنتُ أنتظره، إذ توجَّهَت شريفة نحوي تطلب مني أن أساعدها في العثور على اسمها، فقمتُ بتنفيذ ما كنتُ قد أعددتُه؛ إذ أشرتُ على الفور إلى اسمها في الجدول، بما يُوحي بأنني كنتُ قد رأيتُه مسبقًا. فردَّدَت شريفة رقم جلوسها وهي تكتبه في كرَّاستها، ثم شكرَتْني وانصرفَت.

وبقيتُ أنا حتى حان موعد الامتحان في مبنى قسم الجغرافيا على النيل. وهناك، لم تجِد شريفة مكانها بسهولة، وتطوَّع البعض بالبحث لها عنه، فتقدَّمتُ إليها بسرعة، وظلِلْتُ أرى الأسماء على المكاتب، وهي تسير خلفي، إلى أن وجدتُ مكانها وجلسَت إليه وهي تشكرني بحرارة. وقد حدث كل هذا في موجةٍ من الصخب جعلَت الكل يروننا، مما جعل زملائي يهنِّئونني فيما بعدُ على ما رأَوه من تقارُب بيني وبين شريفة. وكان هذا آخر حديثٍ مباشرٍ يتم بيني وبينها! وقد تباعَد حضور شريفة إلى الكلية بعد ذلك، ولم تتقدم علاقتُنا إلى أكثر مما حدث. ورغم أنني قد احتفظتُ بعاطفتي تجاهها على الدوام، فقد بدأتُ ألتفِت إلى فتياتٍ أخريات من زميلاتنا.

وقد تصوَّرتُ أنني اطَّلَعتُ على دفتر يوميات شريفة، فكان كالآتي:
٥ يناير

عامٌ جديد. احتفلنا به منذ أيام مع الأقارب والأصدقاء. رأيت شبانًا كثيرين ولكن لم يَلفِت أحدٌ منهم نظري.

ما زال سامي هذا يُطارِدني أينما ذهبت. لا أدري ماذا أفعل معه. أنا لا أفهم لماذا يفعل ذلك. لماذا لا يجيء ويُكلِّمني؟! يبدو السبب أنه خجولٌ جدًّا، وأن تقاليد مصر تضغَط عليه. لقد وُلدتُ في إنجلترا حين كان أبي يدرُس الدكتوراه هناك؛ ولذلك فأفكاري مختلفةٌ بعض الشيء. لماذا لم يمكُث في إنجلترا بعد ذلك ويقبل عروض العمل التي قُدمَت له من الجامعات هناك؟ ما زال هذا سرًّا غامضًا يُحيِّرني. وما يُحيِّرني أكثر هو عدم رغبته في الذهاب الآن بعد أن استولَت البلاد على كثير من الأراضي التي كنا نمتلكُها. ومع ذلك، لا أنكر أننا نعيش في راحةٍ تامة؛ فعندنا الفيلا وسيارتان وعزبة في الريف. ربما يعوِّض أبي زواجَه بإنجليزية بالانغماس في مصريته الصميمة، ببقائه في مصر وعمله بالجامعة، وإصراره على أن أدرُس في جامعةٍ مصرية وليس في الجامعة الأمريكية، وكذلك على الأسماء المصرية الصميمة التي أعطاها لي ولإخوتي.

أنا الآن في السنة النهائية بالجامعة، ولكني لا أشعر بانتماءٍ كبير إليها، فلا أذهب كثيرًا إلى الكلية، وما زال مَرَضي الشديد في الصيف الماضي يلاحقني. تزورني زميلات القسم، وأعرف بعضَهن منذ أيام المدرسة الإنجليزية. حين نتقابل، نتحدث أحيانًا عن الحب والعلاقات، ويجيء ذكر سامي المُعجَب بي ويضحكن كثيرًا.

ذات مرة، رأيت سامي على الرصيف المقابل من منزلنا. تعجَّبتُ كثيرًا. ذكَّرني هذا بما أقرؤه من قصص الحب الرومانسي العنيف. كان ينتظر متطلعًا إلى النوافذ. تعمَّدتُ أن أفتح نافذة حجرتي وأُطِل منها. هذا أقل ما يستحق. نظر ناحيتي وأطرق إلى الأرض وتظاهر بأنه يسير ثم يعود مرةً أخرى. بعدها، هبطتُ إلى أسفل، وفتحتُ الباب ونزلتُ السُّلم المرمري، ثم توقَّفتُ في منتصفه، وجلستُ فترة على إحدى درجاته. خسارة أن سامي لا يُكلِّمني. بدأتُ أنا عدة مراتٍ وحادثتُه، وكان يرُد باقتضاب؛ إما أنه خجولٌ جدًّا، أو أن إنجليزيته ليست جيدة. آه لو نتبادل الدروس فيُعلِّمني هو العربية وأدرِّبه أنا على الحديث بالإنجليزية. أسمع أنه من أسرةٍ كبيرة، وهو يبدو دمثًا، ليس ككثير من زملائنا.

٩ يناير

أنا سعيدة بالروايات المقرَّرة علينا هذا العام. مختلفة تمامًا عن روايات العام الماضي المتعلقة بروايات القرن التاسع عشر. أحصل دائمًا على درجة ممتاز في الرواية؛ فهي أحبُّ المواد عندي. كنا قد درسنا في المدرسة الإنجليزية معظم هذه الروايات، مرتفعات وذرنج، طاحونة نهر فلوص، روايات جين أوستن وتشارلز ديكنز. هذا العام مختلف؛ فنحن ندرس جيمس جويس وهمنجواي وجيل القرن العشرين. إني أستمتع برواية صورة للفنان في شبابه، وأتعاطف جدًّا مع بطلها ستيفن ديدالوس. من أرتبط به يجب أن يكون مثله، فنانًا حساسًا يعشق الجمال والحقيقة. أسمع من زميلاتي أن سامي يتحدث عن الفن والأدب، كما أنه يدعو إلى الوجودية لا أدري كيف. أنا أراه دائمًا بصحبة الكُتب، ويقرأ حين يكون وحده على البوفيه. ربما لينظر لي دون أن يراه أحد!

مقرَّر الدراما يشمل الملك لير. جيدة ولكن ليست في روعة هملت. والأدب الأمريكي ندرُس فيه موبي ديك لملفيل وهي رائعة. شاهدتُ الفيلم وأعجبَني جدًّا تمثيل جريجوري بيك. الأستاذة التي تُدرِّسه لنا رائعة، ويبدو أنها تعرف سامي؛ لأنها وجَّهَت له سؤالًا في المحاضرة عن موعد محاضرات مادة المقال التي تُدرِّسها أيضًا في «سكشن» صغير. لم يفُت على أحد احمرارُ وجه سامي حين رأى نفسه محَط الأنظار.

١٥ يناير

ذهب فصلنا بأجمعه تقريبًا لمشاهدة فيلم الليلة الثانية عشرة عن مسرحية شكسبير في سينما أوديون بوسط البلد. سامي هناك، وكالعادة كان متابعًا لي، مما عرَّضَني لضحكات زميلاتي وتعليقاتهن. والحقيقة أحسستُ في داخلي بشيءٍ من المتعة من وجود مَن هو مأخوذ بي إلى هذه الدرجة. ضحكنا كثيرًا من المسرحية الكوميدية. لم أكن أعلم أن السينما الروسية متقدمة على هذا النحو.

٥ فبراير

تقدم أحد شُبَّان العائلة لخطبتي ورفَضْت.

(ترجمة عن الأصل الإنجليزي لليوميات)

وأعود من حديث حياتي إلى حديث كتبي، فأذكُر أننا درَسْنا في التيرم الثاني للسنة الثالثة أنطوني وكليوباترا وعطيل لشكسبير، ورواية عودة المواطن لتوماس هاردي، الذي أحببتُه أيضًا، وقرأتُ له رواياتٍ أخرى غير تلك، وأشهرها «تس سليلة آل دربرفيل» التي قرأتُها مع ترجمةٍ فخيمةٍ لفخري أبو السعود، للتمرُّن على الترجمة الجيدة في نفس الوقت. ودرَسْنا أيضًا مواضيع في الحضارة. وكانت دراسة الشعر في تلك السنة مُنصَبَّة على الشعراء الرومانسيين، فكانت دراستُهم متعةً وعلمًا في الوقت ذاته. وقد عشقتُ شعر شيلِّي وبايرون على وجه الخصوص، وأحببتُ وردزورث وكيتس وانفعلتُ بقصائدهم، وهِمتُ مع أجزاءٍ من المقدمة لوردزورث. كنتُ أتخيَّل نفسي فيها أنا الشاعر الذي يضحك مع تشوسر، ويمرح وسط طبيعة الشمال الخلابة. وقرأتُ عن حيَوات هؤلاء الشعراء، وتأثَّرتُ بها تأثُّرًا بالغًا، خاصةً حياة بايرون وشيلِّي؛ فقد عاش بايرون حياةً عاصفة منذ بداياتها، يدفعُه شوقٌ غامض إلى الحرية والتحلل من كل قيود المجتمع الذي يحيا وسطه، ويحمل لقبًا من ألقاب النبالة فيه. وعاش بايرون حياته طولًا وعَرْضًا، وعَشِق وهام وسافر يستطلع أوجه الحياة الأخرى في الشرق، وكتَب شعرًا سحريًّا جعله يستيقظ فجأةً وقد أصبح مشهورًا. والتقى بشيلِّي في أوروبا، وكان شيلِّي مع زوجته الصغيرة ماري يقيمان في فيلا جميلة على بُحيرة «ليمان» في جنيف، وهناك كتبَت ماري روايتَها الشهيرة عن فرانكنشتاين. وقد شَهِد بايرون ملابسات مصرع صديقه غَرقًا في أثناء إقامتهم بإيطاليا، وكتَب عنه قصيدته «أدونيس». وحملَت روح بايرون الجامحة صاحبها إلى السفر إلى اليونان؛ حيث صوَّر له تفكيره المشاركة في حربها لنيل حُريتها من الدولة العثمانية. غير أنه قضى بمثل نهايات معظم الشعراء الرومانسيين، صغيرَ السن بعيدًا عن وطنه، لم يحقِّق ما ذهب إليه من النضال مع اليونانيين.

وقد فُتِنتُ بالكثير من قصائد بايرون وشيلِّي، ولكن قصيدة الأخير المُعَنوَنة «سيرينادا هندية» هي التي كنتُ أردِّدها كثيرًا أمام أصدقائي، خاصة سطورَها الأخيرة التي تجسِّم المرارة والفشل والموت، وقد أوردتُ ترجمتَها من قبلُ.

وهناك أيضًا جون كيتس الذي أبدع وكتب شعرًا خالدًا رغم موته في سن السابعة والعشرين. وقد امتزجَت تلك المشاعر الرومانسية التي تُمجِّد الكآبة والموت مع الأفكار الوجودية التي انشغلتُ بها، فأنتجَت لديَّ فكرة الأبسورد الدنيوي الوجودي الذي لا مفر منه إلا بالتمرُّد والجنون والموت أو الانتحار!

أما كولردج فقد شكَّل لي عالمًا قائمًا بذاته، وفتح لي أبواب الإلهام والإبداع عن طريق الحُلم واللاشعور؛ أي الأمور الغيبية والنفسية التي كانت قد بدأَت تسيطر على تفكيري النقدي أيامها بأحلامه وتجاربه في استخراج الصور الشعرية من أعماق النفس. وقرأتُ أيضًا كتاب «دي كوينسي» «مذكِّرات آكل أفيون» وكانت نُسَخُه الإنجليزية متعددةً على سور الأزبكية. وكنتُ أعجَب من السماح بتداول كتابٍ له مثل ذلك العنوان، غير أن أمور المغيِّبات العقلية والمخدِّرات لم يكن لها تلك الوصمة التي تُوجَد عليها اليوم، وكان عددٌ من الأدباء والفنانين يُجرون تجاربهم على تلك الأنواع من حيث صلتها بالخيال والإبداع الفني.

كذلك لا أنسى دراساتِنا الفكرية لمقالات جون بين وإدموند بيرك ودرايدن وستيوارت ميل، وكلها عمَّقَت في نفوسنا النثر الإنجليزي القوي، المقترن بالحُجَج الفكرية أو السياسية التي يتناولها الكاتب.

وقضيتُ الأيام السابقة على الامتحان النهائي في فَورةٍ عصبية، ما بين الاستذكار المتواصل المركَّز، والرهبة من عدم تحقيق الأمل بالنجاح، وهو الشعور الذي يلازمني ولازمني دومًا فيما تقدَّمتُ له من امتحانات، ولكن النتيجة كانت مشجِّعة؛ فقد نجحتُ بتقدير عام جيد، مع حصولي على تقدير جيد جدًّا في عدة مواد منها الرواية.

وكان صيف ١٩٦٠م نقطةَ تحوُّل أخرى في توجُّهاتي الأدبية وقراءاتي العامة. كانت علاقتي قد توثَّقَت ﺑ «الدكتور» محمد عناني، الذي تم تعيينُه معيدًا بالقسم، وأصبحنا نلتقي كثيرًا سواء في الكلية أو خارجها، ونتزاور؛ فقد كان يسكُن مع أسرته على بُعد خطواتٍ من منزلي. وكنا نتناقش في جميع أمور الحياة والفن؛ فهو إلى جانب تعمُّقه في الأدب الإنجليزي، متبحر في الأدب العربي، الذي درَس فيه معظم كتب التراث الأدبي، وكانت كلها في مكتبة والده المتخصِّص في اللغة العربية ودارس علوم الطيور. ومع عناني عرفتُ الطريق إلى كافيتيريات ذلك الزمان؛ سان سوسي، كازينور، الحمام، والأمريكين وجروبي عدلي وجروبي سليمان وباريزيانا وسان جيمس. وهو ذو اهتماماتٍ متعددة؛ فاهتمامه الأساسي هو المسرح — وكان يكتب مسرحيةً عنوانها الدرجة السادسة — وهو يكتب الشعر المنظوم، ويعرف بحور الشعر في العربية كما في الإنجليزية، ويترجم إلى عربيةٍ ناصعة، ويعزف على العود، ويهتم بالموسيقى والأغاني العربية الراقية، وفي جلسةٍ مشهودة في حديقة جروبي عدلي، عرَّفني عناني على «المستشار» أحمد السودة وعلى عبد الفتاح العدوي خرِّيج قسمنا. وقد أصبحنا فيما بعدُ جماعة أصدقاء لا نفترق. وكنتُ أتناقش مع عناني في ضرورة التخلُّص من «التقليدية» في أسلوب الحياة، ووجدنا مأربنا في كلمة smug التي عبَّرَت عن الصفات التي يجب أن نتفاداها، كما وردَت في قاموس أكسفورد الصغير في طَبعتِه أيامها. وهذه الصفات الممجوجة هي: of commonplace – respectable – narrow-minded – self-satisfied – comfortable – unambitious – unimagination character or appearence. ومن العجيب أن الطبعات الحديثة من نفس القاموس قد اختصَرَت تلك الشروح بحذف بعض الصفات؛ وهذا من رذائل عصر السرعة الذي أدى أيضًا إلى خروج الموسوعة البريطانية عن ثوبها الأكاديمي إلى صورةٍ حديثةٍ لا تشفي غليل الباحث المتعمق (وهذا ما دفعَني إلى اقتناء طبعة عام ١٩٧٣م من الموسوعة، قبل أن أحصُل على آخر طبعة في صورةٍ إلكترونية).

وتوثَّقَت صلتي في الوقت نفسه ﺑ «الدكتور» عبد العزيز حمودة، وكنتُ أعرفه منذ عام ١٩٥٦م، ولكن علاقتنا توطَّدَت حين كان في الليسانس، ويعمل جاهدًا للحصول على تقديرٍ يؤهِّله للعمل معيدًا بالقسم. وقضيتُ جانبًا من صيف ٦٠ معه، نتجوَّل في المكتبات حيث كان ينتقي الكتب والقواميس التي ستُشكِّل مكتبته الخاصة، في حين كنتُ أنا أستكمل شراء بقية الكتب المقرَّرة علينا في السنة الرابعة. وكنتُ قد حصَلتُ من نبيل وحامد على بعض الكتب التي درسوها في الليسانس، وأهمُّها رواية صورة للفنان في شبابه لجيمس جويس وأبناء وعشاق ﻟ د. ﻫ. لورانس. وكان مقرَّرًا علينا بالإضافة إلى ذلك روايات وداعًا للسلاح لهمنجواي، واهبط يا موسى لفوكنر، وذلك علاوةً على رواية موبي ديك لملفيل. وقد حاولتُ استكمال تلك الكتب بصعوبة؛ حيث لم يكُن الكثير منها متوافرًا في السوق، خاصةً قصة فوكنر.

كانت السنة الرابعة تختص بالأدب المعاصر؛ فمع الروايات التي سبق ذكرها، درَسنا شِعرَ ت. س. إليوت ونقدَه، ومسرحيةً لآرثر ميلر إلى جانب الملك لير لشكسبير. وقد انغمرتُ في دراسة الموادِّ المقرَّرة بشغَفٍ شديد؛ فقد كانت الأقربَ إلى ما أحبُّه وأتفاعلُ معه. وكان يتردد في أسماع القسم اسم طالبٍ في السنة الثانية متخصِّص في شِعر إليوت ونقدِه، ينشُر تراجمَه لقصائد إليوت في مجلة الأدب. وكنتُ قد سمعتُ به حين قدَّمه طاهر أبوزيد في برنامج «جرِّب حظَّك» وهو ما يزال تلميذًا، على أساس معرفته ونبوغه في الأدب واللغة الإنجليزية؛ وقد تصادَقْنا بعد ذلك وبعد أن تخرَّجْنا من الكلية.

وفيما يلي أيضًا تصويرٌ روائي لهذه الفترة وصُحبَتها من الجيل الرائع:

«انعقَدَت شِلَل بوفيه الآداب كالعادة. على منضدةٍ جلس سامر وراوية وزميلةٌ أخرى كانت تُلازِمهما. وفي الجوار، شلة سامي، تضم الخمسة «الأصليين»، وهم سامي ووهيب ونبيل وحلمي وعلي. الجامعة في صخَب وضجة. كانت الدروس معطَّلة بمناسبة احتفال الجامعة بمنح درجة الدكتوراه الفخرية للأمير سيهانوك الكمبودي. وهناك جنودٌ وحرسٌ في كل مكان، بالإضافة للحرس العادي الذي كان من طبيعة الحياة اليومية في الجامعة.

– خسارة أن يُضيِّعوا يومًا دراسيًّا من أجل هذا الهَلْس.

– هَلْس؟ هذه سياسةٌ عليا للدولة. حاذِرْ أن يسمعكَ أحد.

– أوصلَت الأمور إلى هذا الحد؟! ألا نستطيع الكلام؟!

– لقد كنتُ مع أحد العاملين في الأجهزة العليا. وقد سمعتُ منه ما تشيب لهوله الأبدان.

فقال سامي: وما أدرانا بحقيقة كل ما يُقال؟ أنا أقول ما أريد ولا يهمُّني.

– طبعًا أقاربك كلهم من رجال الجيش والبوليس.

– لا دخل لهذا بآرائي. وعمومًا أنا لا صلة لي بأحدٍ منهم. أنا لي حياتي المتوحِّدة. ومن ناحيةٍ أخرى، أنا لا أحب إضاعة وقت الدراسة في هذه المظاهر الفارغة، فليتركوا الطلاب لشأنهم؛ الدراسة والتحصيل.

– أنت عدَمي يا سامي. لا تنسَ أن الطلبة كانوا دائمًا عِمادَ العمل السياسي؛ المظاهرات والمطالبة بالدستور والديمقراطية.

– هذا زمان. انظر الآن.

– هُس.

– انظر. الكل يخاف الآن حتى من مجرد الكلام. وأنا واثقٌ أن بالكلية جواسيس للسلطة.

– هذا أدعى إلى أن تصمُت. هل أنهيتَ «طاحونة نهر فلوص؟»

– إني أطرُق صفحاتها الأخيرة.

– تعبيرٌ جديدٌ جيد.

وفجأة، لمح سامي شريفة من بعيد. كان يعرفها فورًا من أبسط الأشياء؛ مشيتها، ملابسها، فهَبَّ واقفًا واستأذن من الشلَّة.

– ما لك؟

– لا شيء. سأراكم فيما بعدُ.

– لا بد أن شريفة هنا!

وأسرع سامي الخطى وراء الشبح الجميل. ولدهشتِه وجدَها تتجه إلى قاعة الاحتفالات. كيف لشريفة أن تهتم بأمرٍ مثلِ هذا؟ وكان يُبغِض تلك المناسبات، ولكنه وجَد نفسه مرغمًا على انتهاز هذه الفرصة التي لا تسنح كثيرًا. مضى خلفها واقترَب منها. وشعَر أنها أحسَّت بوجوده. وقابلَت صديقةً لها، ودخلَت معها القاعة، في المدرَّجات العليا. جلستُ وجلس سامي وراءها مباشرة. كان يُحب ذلك كي يحظى بإدراكٍ شامل لوجهها وحركاتها كلها. كانت الصديقة تتحدَّث إليها دون انقطاع، بينما تبدو شريفة كأنها لا تسمع. وطفِقَت تنظر حوالَيها، ثم من خلفها. وتلاقت نظراتُها مع سامي. وثبَّتَت عينَيها في عينَيه إلى أن اضطُر إلى تحويل بصره وهو مشدوه. كانت أول مرة تُحدِّق فيه شريفة بهذا الإصرار. وشعَر بتوهُّج ونشوة وإشراق، ولكن بخجل أيضًا.

وترامى إلى السمع ضجيجٌ بالخارج، ثم دخل الضيف مع مضيفه المصري. فارع الطول. في البذلة الرمادية الغامقة كعادته. واسمراره المصري الأصيل. وتأمل سامي هذه الشخصية الغريبة الباهرة. وعادت به الذكرى إلى يومٍ من صيف عامٍ مضى. كان قد دخل إلى حرم الجامعة في الصيف بعد أن مَر كعادته على شارع رافع؛ حيث تقطُن شريفة. كان متعودًا أن يقابل بعض أعضاء الشلة في الجامعة أحيانًا خلال شهور الصيف؛ حيث لا دراسة. ولكن عَلِم بعد قليلٍ أن الاتحاد القومي يعقد جلساته في مباني الجامعة والكليات المختلفة. وبعد ذلك، مُنع الدخول إلى الجامعة، بعد أن دخل هو بالفعل. وجلس أمام القسم، على إحدى درجات السُّلم القليلة، في مواجهة المكتبة العامة. وقام يتمشَّى فوجد سيارةً فارهة سوداء تقف أمام باب المكتبة. وقف تحت شُجيرة «روبرت بيرنز» على مدى خطواتٍ من العربة. وفجأة، رآه. فارع الطول، أنيقًا، كارزماتك. واقترب سامي أكثر دون أن يمنعَه أحد. كان عبد الناصر قد خرج من المكتبة مع السراج وكلُّ واحدٍ منهما يدعو الآخر إلى الدخول إلى العربة. ورفع عبد الناصر عينَيه، ورأى سامي نظراته العميقة. وأحس سامي برعدةٍ عنيفة تجتاح كيانه كله. وثبَت في مكانه لا يتحرَّك، ولهثَت أنفاسه، وكاد قلبه أن يتوقف. يا لهاتَين العينَين! أي سِحر فيهما يسيطر على مَن يراهما؟! كانتا عينَين فيهما قوةٌ جاذبة لا يُمكِن لأحد أن يحيد عن مسارهما. ومال عبد الناصر ودخل العربة التي انطلقَت إلى مبنًى آخر من مباني الجامعة. ووقف سامي متسمرًا فترةً إلى أن انقشَع الذهول الذي استولى عليه. وعرف الآن مدى السحر الذي يتمتع به هذا القائد. وعادت إلى ذاكرته المناقشات الحادة التي كانت تدور بين أصحابه من المهتمين بالسياسة، وفريقٌ يطعن في عبد الناصر ويتهمُه بالسيطرة وحُب الحكم والدكتاتورية، والآخر يدافع عنه ويلتمس له الأسباب. كان سامي قد عاصر أزمة مارس ١٩٥٤ وهو ما زال يافعًا، كما أنه كان في الإسكندرية حين وقعَت حادثة المنشية وسمعَها في الراديو، ولكنه في ذلك الوقت لم يكن ليُدرِك أبعاد كل ذلك؛ فقد كان صبيًّا مشغولًا بروايات يوسف السباعي، ومشاغل حُبه للفتاة مارينا الإيطالية، التي كانت تسكن في مواجهة شقتهم في الإبراهيمية، ثم جاء تأميم قناة السويس، وكان سامي في ميدان باب الحديد حين استقبلَته الجماهير بعد عودته من الإسكندرية عام ١٩٥٦م، والكل يهتف بحياته، وكادوا يحملون عربته فوق الأكتاف. والحرب وخطبة الأزهر ثم الانسحاب والنصر. كل هذا أقام هالةً ضخمة كانت تنال منها إشاعاتُ الاعتقالات والتعذيب، والخوف الذي شَمِل الجميع. ومع الوحدة مع سوريا تضخَّمَت الأمور وأصبحت الجمهورية العربية المتحدة شعلة الحرية في العالم النامي. وتوافَد الجميع إلى القاهرة؛ مركز الحرية والإشعاع الفكري التقدمي.

ومضى الاحتفال في مراسيمه المعهودة؛ خطب واستعراضات، والروب الجامعي، ومعظم الأساتذة حاضرون في الصفوف الأمامية. كانت مصر تشهد الكثير من هذه الاحتفالات، وتزدحم العاصمة بمواكب الزوَّار والحكَّام. وكان ثمَّة مَن يتهامسون بجدوى هذا الإنفاق بينما اقتصاد مصر في حاجة إلى البناء والتكامل مع سوريا، التي انضمَّت إليها في وحدةٍ كاملة. كانت تصل إلى الأسماع أخبار الصراعات بين أصحاب السلطة والنفوذ، وتظهَر أنباء تغييراتٍ عليا في الصحف دون أسباب أو مقدمات، وتظهَر مجموعةٌ من أصحاب المصالح ومراكز القوة ومن لفَّ لفَّهم إلى القمة وتُمسِك بنواحي الحياة. كانت مصر قد برزَت قائدةً لحركات تحرير الشعوب التي كانت خاضعةً للاستعمار الغربي، وكوَّنَت معها حركة عدم الانحياز، وقطباها الآخران الهند ويوغوسلافيا. وكانت تُسمع، همسًا، انتقاداتٌ كثيرة للاهتمام بالخارج ونسيان الداخل، ويقولون إن ذلك سوف يستبين أثَرُه فيما بعدُ، على المدى الطويل.

وتتابعَت الكلمات والمَشاهد. وسامي غارقٌ في التفكير وتاه عن شريفة. ونظر أمامه بغتةً فلم يجدها. لا هي ولا صديقتها. بيد أنه اضطُر إلى البقاء في مقعده إلى حين انتهاء الاحتفال وخروج الجميع. وبعدها عاد إلى القسم. وجد كمال فحيَّاه باسمًا. أخذه كمال من يده، وخرج به إلى ساحة ملتون. كان يتحدث عن كتابٍ فرَغ من قراءته لتوِّه، عنوانه «منازع الفكر الحديث»، وجده على سور الأزبكية.

– إنه أروع كتابٍ قرأتُه منذ زمن. ولكني لم أعثُر إلا على ترجمته إلى العربية؛ لأن الأصل الإنجليزي لم يصل إلى مصر. سألتُ عنه في مكتبة الأنجلو. لعن الله السياسة والحروب التي كادت أن تُغلِق قسمَنا وتُلغيَه من كلية الآداب. المهم. المؤلف هو الفيلسوف الإنجليزي «جود»، ولا أعرفه اسمه بالكامل لأنهم — تصوَّر — لم يكتبوا في الترجمة الاسم كاملًا. لقد تُرجم ونُشر في بغداد. طباعة جيدة. المهم. الكتاب معظمه فلسفيٌّ صِرف، الفيزياء وغيرها، وقد استمتعتُ أيضًا بذلك الجانب. لكن المهم فيه هو الفصل الأخير الذي يتناول السيكلوجية الجديدة في الأدب المعاصر. وقد بحث فيه الرواية والقصة والتجارب الأدبية، وتحدَّث عن هكسلي وتشيكوف وكاثرين مانسفيلد. لقد كان كشفًا بالنسبة لي.

– ولكن كيف تطيق القراءة في الفلسفة والفيزياء؟! إني أريد دراسةً أدبيةً فنية صرفًا.

– كل فروع المعرفة ترتبط ببعضٍ يا سامي. لا تستطيع أن تفصل هذا عن ذاك. يجوز أنك تفكِّر هكذا لأنك لم تتخرَّج بعدُ وأنت مقيَّد الآن أكثر بالمقرَّرات. بعد التخرُّج ستكون حرًّا في قراءة كل شيء.

– يجوز. ولكني الآن مخلص أشد الإخلاص لنظرية الفن للفن.

– لقد تأثَّرتَ بالدكتور رشدي إذن. نحن معه في هذا ظاهريًّا؛ لأنه يحب تكوين مدرسة، ولكننا في الواقع ننتهج خطَّنا المستقل.

– إني أيضًا متأثِّر في هذا بجيمس جويس. لقد قرأتُ بتركيزٍ شديد نظريتَه في الفن، التي يعرضها على لسان ستيفن ديدالوس في رواية صورة الفنان شابًّا التي ندرُسها هذا العام.

– يا لها من روايةٍ رائعة! بالمناسبة، الأفضل أن تُترجمَها صورة للفنان في شبابه. أنا لا أحب ظرفية شابًّا هذه التي تبدو غير عربية.

– طبعًا أنت تُترجِم الآن الكثير. قل لي. ما هي أفضل وسيلةٍ لإجادة اللغة العربية حتى يمكن الترجمة بها في أسلوبٍ قوي سليم؟

– عليك بالقرآن. إنه هو أساسُ كل بلاغةٍ لغوية. اقرَأْه وادرُسْه جيدًا، واحفَظ الكثير من أساليبه البلاغية. إن الكُتَّاب الذي درستُ فيه القرآن في بلدتي هو أساسُ تقويم لساني العربي، ولكن، قل لي: هل وراءك شيءٌ الآن؟ لماذا لا نذهب إلى السينما؟ هناك فيلمٌ قديم لعبد الوهاب يُعرض في سينما مترو. أعرف أنك تشترك معي في حب أغانيه القديمة. هيا. أنا عازمك.

– لا أريد أن أثقل عليك.

– أبدًا. لقد قبضتُ اليوم مبلغًا محترمًا. هيا بنا.

وشعَر سامي بالنشوة إذ يذهب مع كمال لقضاء الوقت؛ فقد كان يُمثِّل له نموذجًا للفنان وطموحه. كما كان يُلهِمه بأقواله وأفكاره.

أشار كمال إلى تاكسي، وأدخل سامي ثم دخل معه. كان ذلك شيئًا باهرًا لسامي أيضًا؛ فلم يكن متعودًا على التاكسيات. إن في العمل استقلالًا رائعًا. ونظر من نافذة العربة فتبدَّت له الأشياء والناس والمباني مختلفة. وازدادت نشوتُه، وتَذكَّر كلمتَي ecstacy، وepiphany التي يحتار المترجمون في نقلها إلى العربية. وتَذكَّر أن الدكتور مجدي قد اقترح كلمة «التجلي» لترجمة الكلمة الأولى بدلًا من كلمة «النَّشوة».

وعبَر التاكسي شارع الجامعة، واتجه إلى كوبري عباس، طبعًا لزيادة الأجرة. كان يمكنه الذهاب عن طريق كوبري الجلاء. وعبَرَت العربة الروضة فشارع القصر العيني. وسط البلد. يبدو فعلًا أن هذا الطريق أقصرُ أو أسهل. وهبط سامي وكمال بعد أن دفع الأخير الأجرة مع البقشيش. وبدآ المشي من أول شارع سليمان، وكمال يتحدَّث، وسامي يتطلَّع إلى المحلات التجارية الأنيقة ونوافذها اللامعة وبضاعتها البرَّاقة. الشارع يبدو أنيقًا نظيفًا مرشوشًا، وسامي يشعُر دائمًا بالهيبة في وسط البلد، ويُحِس أنه ينتقل فيها إلى بلدٍ من بلدان أوروبا كما يتخيَّلها من قراءاته. وكعادته في تسمية مناطق الكلية والقسم بأسماءِ أدباءَ مشهورين، كان يُسمِّي شوارع وسط البلد بأسماءٍ أجنبية؛ فهذا شارع الشانزليزيه، وذاك الشارع الخامس في نيويورك، أما ميدان سليمان، فهو بحق ميدان بيكاديلِّي اللندني. وكان كمال يضحك وهو يسمع ذلك من سامي، ويقول: نعم، ولكن حين نفتح أعيُنَنا نجد أننا ما زلنا هنا في القاهرة.

وأخذ كمال سامي إلى مكتبة الأنجلو، كيما يسأل عن مسار طبع ترجمة لكتابٍ له. ورحَّب البائعون بكمال إذ كانوا يعرفونه، ودلَف سامي معه وكانت أول مرة يرى صاحب المكتبة. ووقف كمال يتحادث معه ويسأله عن وصول أي كتبٍ جديدة بالإنجليزية، بينما راح سامي يتطلع إلى عناوين الكتب بانبهار. كانت أول مرة يدخل المكتبة زائرًا وليس لشراء كتاب والخروج سريعًا. ولمَح في ركنٍ من أركان المكتبة الكاتبَ الشهير جالسًا على مقعدٍ متواضع وأمامه صفٌّ من الكتب ينظر فيها. يا له من منظرٍ رائع! أوَّل مرة أرى هذا الكاتب على الطبيعة بعد أن قرأتُ له بعض الكتب. سارة أثَّرَت فيَّ كثيرًا، وأعتبرُها من أفضل الروايات النفسية. وقد أحببتُها لأنها سجَّلَت نفس خواطر الغَيرة التي أُحِس بها تجاه شريفة، حين أراها تُحادِث زميلًا لنا. ويوم رأيتها مع إبراهيم في المدرَّج وهو يكلِّمها وهي ترُدُّ عليه. وكان صديقًا لك، فانتظرتَ انتهاء المحاضرة كي تُهرَع إليه لتسألَه كيف يعرف شريفة. واستغرَب هو وقال إنها زميلتُه ومن الطبيعي أن يُحادثَها. وقال لي أشياءَ جديدةً عنها لم أكن أعرفها، منها أنها مرضَت لفترةٍ طويلة قضَتها في الفِراش. وتعمَّدتُ بعد ذلك أن تراني شريفة وأنا مع إبراهيم، علَّ هذا يشعرها أنني أعرف أصدقاءها تمامًا. وقد أراحني ذلك بعض الشيء. وكان عددٌ من الزملاء أيضًا يتحدَّثون عن جمال شريفة، فكان كل ذلك مصدر غَيرةٍ مستمرة لي. وكان في غَيرة همَّام على سارة، وهو المفكِّر المثقَّف الرفيع المستوى، تعزيةٌ طيبة لي.

وأفاق سامي من تأمُّلاته على كمال يجذبه من ذراعه ليخرجا. وسأله سامي إن كان قد لاحَظ الكاتب الكبير، فقال نعم وإنه شاهَده كثيرًا من قبلُ في المكتبة. وقد حدَّثه صاحب المكتبة عن المجال العريض الذي يُطالِع فيه الكاتب؛ إذ يشتري كتبًا بالإنجليزية عن الحشرات والسُّلالات والفضاء والكون، وهو الكاتب الأدبي والشاعر المُرهَف وصاحب كُتب الشخصيات الدينية. وأضاف كمال: إنه كاتبٌ موسوعي من الطراز الذي قلتُ لك عنه؛ وهو ما يجب أن نفعلَه أنت وأنا. وكان سامي يتعجَّب من إصرار كمال على ربطه به في مجال الإبداع والفن والكتابة بينما هو ما يزال على مشارف التخرُّج.

واصطحب كمال سامي إلى مطعم «روي» حيث جلسا إلى مائدةٍ صغيرة. وطلب كمال زجاجة بيرة ستيلا، وطبق مكرونة لكلٍّ منهما. وتحدَّث كمال وسامي يستمع ويُحلِّق في تلك الأجواء المرمرية.

– شوف. هنا الواحد لا يستطيع أن ينطلق كما يُحب. أن يظهر في الأماكن العامة مع الفتاة التي يُحبها. ولا تصل كُتب ولا مراجع. ولا حياةٌ جامعيةٌ حقَّة. ولا بنات ولا غرام ولا يحزنون.

– ولكني أرى مما تحكيه لي أنك أفضلُ في كل تلك الميادين من الكثيرين.

– ها ها. تقصد الفتاة التي تعرَّفنا عليها في سان سوسيه. لقد بقِيَت معي فترةً فعلًا، ولكن تلك الأمور لا تصل إلى خواتيمها الطبيعية هنا.

– شيءٌ أفضل من لا شيء.

– ليس هذا هدفي. إني أبغي الوصول إلى قرار الأشياء. وهنا الأمور ناقصة؛ ولذلك لا بُد من الفِرار.

– تقصد الذهاب إلى أوروبا للدكتوراه.

– هذا أو الهجرة أو العمل بالخارج. ولكني أتردَّد لأن هدفي الأدبي الحقيقي هو الكتابة باللغة العربية والترجمة إليها، وربط الآداب الأجنبية بالأدب العربي عن طريق الأدب المقارن.

– طبعًا؛ فأنت قد نشأْتَ في جو اللغة العربية الحقَّة، وقرأتَ في كُتب التراث الذي يقتنيه والدُك.

– إن هذا الموضوع هو ما يشغلني حقًّا. بالإضافة إلى المسرح. أنا أكتب أول مسرحيةٍ لي، وأرجو أن يساعدني الدكتور رشدي في تمثيلها على المسرح.

كان كمال يتكلم وهو يجرَع البيرة ويأكل طبقَه من المكرونة الاسباجيتي بنهمٍ شديد. كانت هذه عادته. وطَفِق يتكلم ويأكل، ثم استحَث سامي على الانتهاء من الأكل حتى يلحقا بالفيلم، فالتَهَم سامي طبقَه بسرعة، وجرَع كُوبَه كيفما اتفق، ودفع كمال الحساب، وانطلقا مسرعَين يعبُران الشارع إلى سينما مترو. كانت تعرض مهرجانًا لأفلام محمد عبد الوهاب، وكان فيلم ذلك الأصيل من أحب الأفلام لديهما؛ رصاصة في القلب، ليس للموضوع طبعًا رغم أنه من تأليف توفيق الحكيم، ولكن لمجموعة الأغنيات التي فيه. وجلسا في مقعدَين باللوج، من القطيفة الناعمة، في الصف الأخير؛ فقد كان كلاهما طويل القامة، ولا يُحبان حَجْب الرؤية عمن يجلس خلفهما. وبدأ الفيلم. كان كمال قد شاهدَه من قبل، ولكن كانت المرة الأولى بالنسبة لسامي، الذي استمع إليه في الراديو فقط.

– أترى؟ حلمي رفلة كان ما يزال صاحب المكياج.

– غريبة.

– ولسة. سترى ليلى فوزي وسامية جمال كومبارس في أغنية لعبد الوهاب. وفاتن حمامة، طفلة.

وتتابعَت مناظر الفيلم. عبد الوهاب ببذلته الأنيقة، سكرتير وزير. صوته العادي وهو يتكلم فحسب رنَّان كأغانيه. وضحكتُه المُفتعَلة الشهيرة. ومشاهد القاهرة قديمًا بمحلاتها وشوارعها وتاكسياتها. والحِسَان في حفل محسن. كأننا في أوروبا. وأغنية إنسى الدنيا وريح بالك. ألحانٌ رائعةٌ عذبة. وما يزال يعطي الجديد والغريب. من أغانيه الحديثة بفكر في اللي ناسيني. ثم الدفقة الإلهامية التي صاحبَت مجموعة أغاني علشان الشوك اللي في الورد بحب الورد. ثم الأغاني الوطنية، وأغاني الوحدة، خاصة أغنية «خي» التي كان سامي يكرهُها أشد الكُره!

وكان كمال يُدندِن في خفوتٍ مع الأغاني، خاصة دويتو «حكيم روحاني حضرتك» مما أزعج سامي الذي كان يُحب الإنصاتَ في هدوء. ولكنه كمال، فماذا يفعل معه؟! كان يتقبَّل منه ما لا يتقبَّله من الآخرين، خاصة انفلات لسانه بكل الكلمات المكشوفة التي لا يسمح بها سامي في مجلسه، حتى مع شلته الخاصة، ولكنه كمال، الذي يطلق هذه الكلمات والعبارات في عفْويةٍ طفولية لا يمكن معها الاعتراض على شيء. فضلًا عن أنه كان بمثابة أستاذه أو مرشده في الحياة بصفةٍ عامة. كان يعطيه معلوماتٍ وخبراتٍ كثيرة عن الحياة والحب والجنس والعلاقات مع الناس، فوق الأدب والفن والدراسة والمستقبل. وكان يُحدِّثه عن مغامراته الغرامية دون حرج أو خشية.

وتتابعَت مناظر الفيلم. راقية إبراهيم بصوتها الذهبي وآهاتها الحالمة. ترى أين هي الآن؟ وجَوقة الممثلين المعروفين الذين يصاحبون عبد الوهاب في معظم أفلامه؛ بشارة واكيم، ومحمد عبد القدوس، وعبد الوارث عسر. وآه من أغنية جئتُ لا أعلم من أين. إيليا أبو ماضي. هذه القصيدة التي أثَّرَت في كل من قرأها، وتأثَّرَت بها أجيالٌ عديدة.

وحين بدأتُ في قراءة رواية صورة الفنان لجويس، راعني أسلوبُها الجديد ولغتُها المبتكرة التي جعلَت السرد يتوافق مع سن البطل ستيفن ديدالوس. ولم أكن أدري يومها أن ذلك بدايةُ قصة هُيامٍ طويل الأمد بجيمس جويس، أحد الكتَّاب الذين تخصَّصتُ في أعمالهم عن محبةٍ وتقدير. وكنتُ أحبُّ أن أقرأ عن حياة الفنانين والكُتَّاب الذين أحبُّهم، ووجدتُ في المكتبة العامة كتاب ريتشارد إلمان عن حياة جويس، فازدَدتُ حبًّا له على صعوبة رواياته.

وشكَّلَت تلك الأعمال الأدبية الرائعة، بالإضافة إلى صداقاتي مع عناني وحمودة ونبيل، أساسًا جديدًا وخلفيةً تنمو تدريجيًّا بالمهنة التي أنشُدها في هذه الحياة، وهي القراءة الواعية التي تزيد من معرفة المرء بالحياة والإنسان، ثم محاولة الكتابة عن الأفكار التي تتملَّكُني وتريد أن تخرج إلى الورق في صورةٍ إبداعية. بدأ هذا الشعور غامضًا هُلاميًّا، ثم أخذ يتشكَّل بمرور الأيام، ومناقشاتي مع الأصدقاء الذين تخرَّجوا وبدَءوا حياتهم العملية. كان نبيل ووهيب وحلمي قد عَمِلوا بالتدريس؛ نبيل بالمنيا، ووهيب في أسيوط، وحلمي في الفيوم. وكان نبيل هو الذي مضى في طريق الدراسات العليا في القسم، وكانت مثابرتُه وإصراره محل إعجاب الجميع؛ فقد كان معروفًا أن إعداد الماجستير ومناقشتَه تكاد تكون مقصورة على المعيدين العاملين فعلًا بالقسم. وكان نبيل أيضًا يشترك معي في الطموح في الكتابة والتأليف والترجمة، بعد أن راحت عنه آمال العمل في السينما. ورغم عمَله في المنيا، فإن ذلك لم يمنعه من حضور كل محاضرات السنة التمهيدية للدراسات العليا بالقسم، التي كان يعقدها الدكتوران رشاد رشدي، وأمين روفائيل.

وفي سنة الليسانس واصلتُ حياتي العادية في الكلية، من الجلوس كثيرًا على بوفيه الآداب أو الحقوق مع ثُلَّة الأصدقاء؛ غير أن سُمعتي كدارسٍ جادٍّ أخذَت في التبلوُر بين زملائي في السنة النهائية. وقد ساعد على ذلك ما أُشيع من أني قد حصَلتُ على الدرجة النهائية الممتازة في مادة الأدب الأمريكي. وكان يقوم بتدريس هذه المادة أستاذٌ مُنتدَب من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، اعتاد أن يختار ورقةَ إجابةٍ متميزة ويُعطيها درجة ٢١ من ٢٠. وهذا من غرائبِ الأمريكيين وتقاليعِهم. وكان الذي حصل على تلك الدرجة الممتازة في العام الماضي هو عبد العزيز حمودة، مما جعله مشهورًا في القسم آنذاك. وحين ظهَرَت النتيجة وجدتُ أنني قد حصَلتُ على درجة ممتاز في تلك المادة فعلًا، وهذا ما أثار الاستغراب من بعض زملاء الدفعة، ممن لم أكن على علاقةٍ وثيقةٍ بهم أو بهن؛ فقد عبَّرَت لي واحدةٌ منهن عن عجَبها؛ لأني نادرًا ما أكتب المحاضرات، وأني أقضي معظم وقتي على البوفيه!

وكان صديقي سامر يسعى جاهدًا للحصول على تقدير جيد جدًّا حتى يتسنَّى له الالتحاق بسلك التدريس الجامعي، وكان عناني يشجِّعني على الحصول على تلك الدرجة أيضًا، ولكني في داخلياتي لم يخطُر ببالي لحظةً واحدة إمكانية ذلك، كما لم أكن أتصوَّر نفسي مدرسًا في قسم اللغة الإنجليزية. بل بدأَت تنمو في داخلي فكرة الفنان الخالص لفنه، والأدب والفن والكتابة والترجمة، والحياة الحرة من أجل التفرُّغ لكل هذا دون تشويش من طموحاتٍ مادية أو علاقاتٍ سياسية بأي مذهب أو حزب. وكان مثالي في ذلك ستيفن ديدالوس بطل رواية جويس، وكذلك ما قرأتُه عن حياة همنجواي، الذي كرَّس حياتَه كلَّها كيما يُنتِجَ أدبًا جيدًا. وهكذا استبانت اهتماماتي بالتركيز على المجال الروائي، بما سبق لي احتضانُه من الروائيين الروس الخوالد، إلى جانب ألبير كامي وسارتر وفرانسواز ساجان، وآلان جويس وهمنجواي.

[April is the cruelest month, Breeding
Lilacs out of the dead land, mixing
Memory and desire, stirring
Dull roots with spring rain.

كان الدكتور رشدي واقفًا أمام المدرج الكبير، يتلو هذه الأبيات في أول محاضرةٍ له عن شعر إليوت. وكان مشهورًا عنه أنه يخصِّص أول محاضرة لتلاوة قصيدة الأرض الخراب كاملةً بصوته الجَهْوَري الغليظ، على أن يبدأ تعليقاتِه وشرحَه في محاضراتٍ تالية. كان معروفًا بغرامه بإليوت، سواء في شعره أو في نظريته النقدية. وقد اتَّبع أسلوب هذا النقد الجديد في كتاباتٍ كان ينشُرها في المجلات الأدبية، ويُقارِع النقاد الآخرين في شدة وعنف، خاصةً من يسميهم «الأدباء الحمر» كنايةً عن الفكر اليساري والشيوعي. وقد جمع الدكتور رشدي حوله عددًا من الأدباء الناشئين من تلاميذه والمعيدين والمدرسين في القسم، ممن يُشاطِرونه — صدقًا أو نفاقًا — رأيه في نظريات الشعر والنقد. وكان فنانًا وكاتبًا حقيقيًّا، يُسهِم في النقد والترجمة والقصة القصيرة، وإن كان تخصُّصه الإبداعي هو المسرح؛ فقد قدَّم عدة مسرحياتٍ نالت نجاحًا كبيرًا. وكان كل إنتاجٍ جديد له يثير زوبعةً كبيرة من ناحية النقاد اليساريين. وكان المثقَّفون في هذه الحِقْبة يتابعون تلك المعارك بشغفٍ عظيم، لِمَا كانت تُوفِّره من حركةٍ واسعة في الحياة الأدبية والفنية، وبين أفراد هذا الجيل.

What are the roots that clutch, what branches grow Out of this stony rubbish?

جلس سامي في المدرَّج مع نبيل ووهيب وإبراهيم، يُنصِتون كأن على رءوسهم الطير. كان سامي قد صادق إبراهيم منذ رآه يتحدَّث مرةً إلى شريفة.

Unreal city,
Under the brown fog of a winter dawn,
A crowd flowed over London Bridge, so many,
I had not thought death had undone so many.

الكل موجود بالمدرَّج الكبير؛ فمحاضرة الدكتور رشدي الشهيرة تجتذب الكثير. وهناك وقوفٌ في المَمرَّات. والجميع حاضرات؛ شريفة ونانسي وسهير. كان سامي قد بدأ يهتم بسهير بعد طول غياب شريفة، وعدم قدرته على التواصُل معها. سهير مختلفة؛ فقد كانا يتبادلان الحديث كثيرًا. كانت فاتنةً أيضًا، ذات عيونٍ خضراء أيضًا، ولكن مع بشرة تميل إلى السمار. ورغم أنها مسيحية فلم يخطُر على باله هذا الأمر على الإطلاق. لا يلحظ أحدٌ هُوية الدين. ولكن حين قال لعبد الملاك ضاحكًا إنه معجَب بإحدى المسيحيات من زميلاتنا، سأله: وهل هي تُبادِلك الإعجاب؟ وقال: بالطبع، فاجأه عبد الملاك بقوله: إذن فهي ساقطة. ووجم سامي ولم يُعلِّق ولم يفهم سبب ذلك. كانت أول مرة يصادف ردَّ فعلٍ مثل هذا. كان معظم شلة العقول من المسيحيين. وحتى عبد الملاك من أصدقائه الحميمين؛ ولذلك لم يُعِر تلك الملاحظة أيَّ التفات.

Goonight Bill. Goonight Lou. Goonight May. Goonight.
Ta ta. Goonight. Goonight.
Good night, ladies, good night, sweet ladies, good night, good night.

ومضى الدكتور رشدي في إلقاء القصيدة الطويلة، وسامي لا يكاد يفهَم ما يسمَع. وطَفِق يتأمل وجوه الحاضرين. كان هناك أشخاصٌ لا ينتمون لليسانس، مثل إدوارد في السنة الثانية، ولكنه مشهور بتخصُّصه في إليوت، حتى إنه نشَر بعض الترجمات لشعره في هذه السن المبكرة. يقولون إنه نابغة منذ صِغَره، وإنه يحفظ القاموس الإنجليزي. هذا منافسٌ كبير لسامر. نانسي، نبيل يقول إنه متواعدٌ معها على اللقاء والذهاب إلى السينما هذا المساء. لا أحد يعرف الحقيقة؛ ذلك أن نبيل خيالُه واسعٌ جدًّا. وهام سامي في مشروعاته المستقبلية، ومنها ما يجدُر فعلُه مع شريفة، وعن تركيزه على المقرَّرات الدراسية حتى يتمكن من النجاح بدرجة جيد على الأقل، والموازَنة بين الدراسة والقراءات الخارجية التي لا يستغني عنها، بالإضافة إلى لقاءاته مع الشلة، ومع الأصدقاء، والدعوة لجماعة الوجودية التي تبنَّاها.

When lovely woman stoops to folly and
Paces about her room again, alone,
She smoothes her hair with automatic hand,
And puts a record on the gramophone.

أفاق سامي على ضحكات من بعض الطالبات عند سماع تلك الفقرة التي لم ينتبه إليها سامي. لا بد أن فيها فكاهةً ما. سوف يسأل عنها فيما بعدُ؛ فقد تطلَّع إلى شريفة ووجدها تضحك أيضًا. ولاحظ أن الضاحكات كلهن من خرِّيجات المدرسة الإنجليزية. لا بد أنهن يفهمن ما يسمَعن، كما نفهم نحن المتنبي وشوقي من مجرَّد سماع قصائدهما. ضحكةُ شريفة فريدةٌ من نوعها. وأيضًا القصيدة التي يدرُسونها هذا العام للمتنبي هي أحسن قصائده. وقد قرأ سامي مقالةً لطه حسين يقول فيها إن أغنى بيتَين في الشعر العربي الكلاسيكي هما — في رأيه — بيتا المتنبي في تلك القصيدة الفريدة، وهما كما تردَّدا في ذهن سامي ساعتَها:

يا ساقيَيَّ أخمرٌ في كئوسكما؟
أم في كئوسكما همٌّ وتسهيدُ؟
أصخرةٌ أنا؟ ما لي لا تُحرِّكُني
هذي المُدامُ ولا تلك الأغاريدُ؟!

وأحسَّ سامي أنه يتفق مع ذلك القول تمامًا؛ فقد كانا بيتَين من أروع الشعر الغنائي قاطبة.

وتفكَّر في جماعته وأصدقائه. إنهم مثالٌ لهذا الجيل من الشباب. متوزِّعون ما بين الحب والجنس والفن، وبعضهم في السياسة والطموح. سامي وراء شريفة، وحمدي وراء ناديةة، وعصام وراء نبيلة، ونبيل وراء نانسي. ما نتيجة ذلك؟ وهل سيفوز أيٌّ منهم بمن يُحب؟ وماذا عن سطوة الجنس القاهرة؟ هل يفكِّر أحدٌ منهم في حبيبته وهو في خلوة الجنس؟ يا له من جيلٍ تحوطُه المشاكل من كل ناحية!

These fragments I have shored against my ruins
Why then lle fit you. Hieronymo’s mad again.
Datta. Dayadhvam. Damyata.
Shantih Shantih Shantih

وأفاق سامي على الصمت الذي تَبِع هذه الأبيات، فعلم أنها نهايةُ القصيدة اللعينة. إنه لم يفهَم منها شيئًا. لا بد أن يلجأ لكمال أو عبد الرحيم ليقرَأَها معه. وقال الدكتور رشدي إنه سوف يبدأ الشرح والتعليق على القصيدة في المحاضرة التالية. ولملَم أوراقه، ووضَع المنديل في كُم الجاكت. وخرج. وتبادل الطلاب عباراتِ الدهشة من القصيدة، وإلقاء المُحاضِر ذي الوقع، بينما كانت بنات المدرسة الإنجليزية يضحَكْن ساخرات.

وبدأ الحضور في الخروج من المدرَّج. وحاول سامي أن يتلكأ كيما يتمكَّن من محاذاة شريفة والنهل من عينَيها وشفتَيها. وكان الجميع يستعجلونه بمن فيهم نبيل الذي يريد أن يلحق بنانسي هو الآخر، فتنحَّى لهم عن الطريق وانتظر. وعندما رأى شريفة تخرُج من صفها، حاول التقدُّم، ثم تنحَّى كأنما ليدَعَها تمُر، فنظَرَت إليه بتلك العينَين الساحرتَين وتمتمَت: Thank you. ومرَقَت من أمامه تتبعها شلَّة الإنجلش سكول. وانسلَّت الصفوف تهبط درجات المدرَّج، وخرجوا إلى الممَر فالصالة، إلى خارج القسم؛ حيث انتظر سامي وصول أفراد الشلة. وبعد قليل، انضم إليه وهيب وحلمي وعاطف. وتوجَّهوا جميعًا كالعادة إلى البوفيه.

– مقرَّرات هذه السنة دسمةٌ حقًّا بما يتناسب مع الليسانس. ها نحن نصل أخيرًا إلى أدب القرن العشرين. إني أقرأ رواية جويس وكأني في حُلم. إني أرى أن هذه هي أحسنُ روايةٍ قرأتُها.

– أنت تقول هذا عن كل روايةٍ جيدة تقرؤها. أنسيتَ ما قُلتَه عن «طاحونة نهر فلوص» لجورج إليوت في العام الماضي؟!

– تلك الرواية أيضًا. كم أثَّرَت في نفسي! هل تعلم أن مارسيل بروست كان يبكي عند قراءتها؟

– ركِّز يا سامي ركِّز. لا تقرأ الآن في غير المقرَّر. يجب أن تحصُل على جيد جدًّا لتلحَق بصديقَيك كمال وعبد الرحيم.

– كلا. ليس ذلك من ضمن طموحاتي. لقد تركتُ ذلك لنبيل.

– أنا لم أقل إني أريد أن أصبح معيدًا.

– الكل يطمح إلى ذلك. انظر ماذا يفعل سامر.

– سامر موضوعٌ آخر. إنه يريد كل شيء. طبعًا له حق، إذا كان قد نشَر كتابًا وهو ما زال في الجامعة.

وجاء حامد وخيري وحسيب، واتسعَت الحلقة.

– هل فهم أحدٌ قصيدة الأرض الخراب؟

– لا بُد من دراستها أولًا حتى نفهمَها.

كان حامد ينافس سامي في حب شريفة. ولكنه كان محبطًا من التصاق سامي بها على ذلك النحو، ومن تفانيه في متابعتها والحديث عنها. أما خيري فكان صديق حامد ولكنه مشغولٌ بمشاكله المالية والغرامية هو الآخر؛ فقد كان مشغوفًا بفتاةٍ أردنية من عائلةٍ معروفة، ولكنها كانت شبه مخطوبة لزميلٍ آخر. أما حسيب فكان يجاهد في كتابة أزجالٍ جميلة، وكان يطمَح أن ينشُر بعضًا من كتاباته في المجلات الأدبية.

كان جيلًا نشأ في بيئةٍ من الأوهام، يُحاوِل أن يَحفِر لنفسه خطًّا في تاريخ الزمن الضائع. كان الكل يتطلَّع إلى المستقبل الذي يُوشِك أن ينفتح أمامه بعد التخرُّج. في الوقت الذي كانت البلاد فيه في حالة احتقانٍ خفي لا يُدرِكها إلا من يتعمق في دراسة أوضاعها، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية. الوحدة مع سوريا في أَوْجها، ولكنها تُواجِه مشاكلَ خطيرة منذ التأميمات في العام الماضي. وقد شَهِدَت الشلة حادثةً غريبةً فريدة في الصيف الماضي حين كانوا مع الشافعي في شارع سليمان. صاح شافعي بأحد أصدقائه من الضباط المصريين كان يسعى إلى معاكسة إحدى الفتيات: عيب يا حضرة الضابط! فإذا ببعض الضباط السوريين ممن كانوا في زيارة لمصر يظنُّون أنه يقصدهم بقوله، وكانت مشكلةً استمرَّت ساعتَين حتى استطاع الطرفان تسوية الأمر وإقناع الضباط السوريين أنهم ليسوا المقصودين. كانت ثمَّة حساسيةٌ مَرَضية بين المصريين والسوريين، تؤكِّدها الشائعات التي تصل إلى الأسماع عن اضطراباتٍ مماثلة وقعَت في ثكناتٍ عسكرية في مصر الجديدة وتم التكتُّم عليها. ثم استقالات بالجملة من المسئولين السوريين.

كانت البلاد مضطرمةً بالأقاويل والأحداث، والكل يتوقَّع شيئًا يحدث، ولا يعرف أحدٌ كنهه. لا الصحُف تذكُر شيئًا، وليست هناك مصادرُ أخبارٍ تشفي غليل من يريد معرفة الحقائق. وليس هناك من طريقٍ سوى سماع الأخبار من زميلٍ له صلة بأوساطٍ عليا تعرف ما يجري في الخفاء. وكانت الشلة تستمع إلى جانبٍ من تلك الوقائع من «الملتزمين» مثل ناشد وجميل، رغم اختلافهما الشديد. بعد أن خرج الشيوعيون من السجون والمعتقلات، أصبح الكثير منهم يحتل أماكنَ مهمَّة في المناصب الثقافية والصحفية. كان وفيق ما يزال في السنة الثالثة بالحقوق، رغم التحاقه بها منذ ما يزيد على السبع سنوات، ويتحايل على الاستمرار في الدراسة بالشهادات المَرَضية. وكانت أحواله تتدهور من عام لآخر، وانغمَس في الحركات السياسية حتى ينسى حُبه الفاشل الذي لم يستطع أن يتجاوزَه بعدُ.

•••

كانت حجرة سامي في شارع رمزي مُلتقَى الكثير من أعضاء الشلَّة وغيرهم. وكان في ذلك المساء عاكفًا على قراءة رواية «أبناء وعُشاق» المقرَّرة عليهم، حين دقَّ الباب الخاص بحُجرته من على السلَّم. وقام في بيجامته التي اعتاد مقابلة أصدقائه بها، وفتح الباب ليدخل وفيق. دخل متطوِّحًا كعادته، وجلس على الفوتيل المُواجِه للسرير الذي يرقُد فيه سامي.

– ماذا تقرأ؟

– لورانس.

– إنه من أعظم الروائيين. ماذا تقرأ له؟

– أبناء وعُشاق؛ فهي مقرَّرة علينا هذا العام.

– تعرف طبعًا أنها أول روايةٍ من ثلاثية. قرأتُها كلَّها. لا بد أن تُكمِل الباقي. قوس قُزح وبعدها نساءٌ عاشقات.

– لكن المقرَّر طويل جدًّا. سأقرؤها فيما بعد الليسانس، ولكني أتعجب لك. كان يجدُر بك أن تدخل الآداب بدلًا من الحقوق. مع كل ما تقرؤه، كنتَ ستنجحُ بامتياز.

– النصيب. أو بالأحرى والدي. قال ما يُقال دائمًا إن الحقوق مدرسة الوزراء. وها أنا ملتصقٌ بها، ولكن، كما ترى، أنا لا تهمُّني الدراسة أو التخرُّج. أنا أقرأ لمزاجي. وفوق كل شيء، أنا أناضِل من أجل العدالة الاجتماعية. لا بُد من القضاء على الفوارق الطبقية، بل يجب أن تسود طبقة العُمال والفلاحين.

– ها ها. إنك تقول هذا يا وفيق بينما تعيش عيشةَ البورجوازيين الكبار. تعيش في قصر، وخدَم، وسهرات، وشراب.

– هذا لا يمنع ذاك.

– كل المجاهدين يقولون ما تقول. نرى كبار الاشتراكيين بل الشيوعيين يركبون المرسيدس ويعيشون في فيلَّات. هذا انفصام في الشخصية. اسمع، ما رأيك في أن تترك حكاية الشيوعية هذه وتنضَم معي في جماعة الوجودية؟

– أنا أحب سارتر وبوفوار ونظرياتهما، ولكني لستُ مستعدًّا لذلك الآن. إن لي دورًا مهمًّا أريد تنفيذَه، ولكن، قل لي، ما دعاك إلى إنشاء تلك الجمعية؟

– لقد رأيتُ أن الوجودية يُساء فهمها من قِبل الكثيرين؛ ولهذا فنحن في الجمعية نُحاوِل إزالة سوء الفَهم عن هذا المذهب. وأنا مؤمن أن الفلسفة وراء الوجودية هي ما تجعل من الحياة حياة.

– إذن لماذا لا تصبح ملتزمًا كسارتر؟

– إني لا أتبع سارتر في هذا. ولا تنسَ أن الوجودية ليست سارتر فحسب. أنا مثلًا أحب ألبير كامي أكثر. ورغم قوله إنه ليس وجوديًّا، فهو في كتاباته وجودي حتى النخاع. انظُر إلى موته في العام الماضي وكيف كان عملًا عبثيًّا خالصًا، ثم إن أبا الوجودية هو كيركجارد.

– أوكي أوكي. ما لك اليوم يا سامي. أين المسقَّعات؟

وخرج سامي طالبًا من الخادمة إحضار زجاجتَي كوكاكولا، ثم دخل الغرفة معلنًا لجميل أن الكوكا قادمة؛ لأنه ليس في حاجة إلى المزيد من الكحوليات؛ فقد كان واضحًا أنه قد شرب الكثير قبل حضوره.

– أنا لا أعرف كيف أتكلَّم أو أناقش إلا حين أكون سكرانًا.

– عُذرٌ جميل. هذا القول سيُصبِح مثلًا يُردِّده الكثيرون. هل يا تُرى كلمة سكران معربة أم ممنوعة من الصرف؟

– دائمًا وراء اللغة، يبدو من جرَّاء مادة الترجمة عندكم. دعك من هذا. كيف حالك مع شريفة؟

– كما هو.

– أفضل مني على كل حال.

أنت حكايتك حكاية.

ودق الباب الخارجي مرةً أخرى. ونهض سامي فوجد سامر، ومعه كالعادة بعض الأوراق والكتب تحت إبطه. وكعادته أيضًا، كانت السيجارة في فمه. وبان عليه السرور لمرأى وفيق. وتركهَما سامي ليُوصي بزجاجة كوكاكولا أخرى، وسرعان ما دخلت الخادمة بالزجاجات الثلاث.

– أخبارك إيه يا سامر؟

– ماشية. كتبت قصةً قصيرةً جديدة.

– اقرَأْها علينا.

– انتظِر حتى أستريح وأكرَع من مُسقَّعات سامي المشهورة.

ووضَع سامر حِمله على المنضَدة، ورأى سامي أن منها قصائدَ مختارةً لإليوت. ها هو قد بدأ يحضِّر نفسه للانضمام إلى بطانة الدكتور رشدي كي يعيِّنه معيدًا. كان سامر لا يترك فرصةً واحدة إلا وينتهزها للإفادة من أي شيءٍ يلُوح له في الأفق. كان الجميع يعرفون انتهازيَّته ولكنهم يحسُدونه على ذكائه الخارق، ويغارون من نجاحاته، خاصةً مع راوية زميلته.

– هاكُم قصتي أيها السادة.

وبدأ سامر يتلو بصوتٍ هادئٍ قوي. وانسابت السطور والصفحات وسامي ووفيق يُنصِتان باهتمام ويجرَعان في خشوع من الكوكاكولا، وبعد حوالَي عشرين دقيقة، قال سامر: وهنا، تنتهي القصة.

ظل سامي ووفيق صامتَين، ثم صاح وفيق: قصةٌ جميلة.

وقال سامي: ولكن، أليست مشابهةً لقصة «مكان نظيف حسَن الإضاءة» لهمنجواي؟

فصاح سامر من فوره: لم أقرأ تلك القصة.

– إذن فالأمر مجرَّد توارُد خواطر. على العموم، فيها مضمونٌ قوي.

– المضمون لا ينفصل عن الشكل والقالب.

– ها ها. لقد أصبحتَ «رشديًّا» خالصًا.

وضحك الجميع.

– ألستَ اشتراكيًّا يا سامر؟

– اشتراكي في حالات، ومن أتباع الفن للفن في حالاتٍ أخرى.

ضحك آخر.

وبدأ سامر ووفيق يُلملِمان حاجياتهما. وطلب وفيق من ماهر استعارة رواية لكافكا، مؤكدًا أنه سوف يُعيدها سريعًا.

– جميل! إنك لم تُعِد لي بعدُ رواية فوكنر.

– لا لا، سأعيد لك الاثنَتَين معًا.

– أوكيه.

واصطفَق الباب وراءهما.

عاد سامي إلى الِفراش وإلى خَلْوته التي يعشَقها. وجذَب الكتاب الذي كان يقرؤه. الغثَيان لسارتر في ترجمته العربية. كان قد اكتشف منذ عامَين الترجمات التي كانت تنشُرها بيروت، وأصبح يُتابِعها ويقتني ما يهمُّه منها، بعد أن تعذَّر الحصول على الأصول. وكان يحرص على متابعة مؤلَّفات سارتر وكامي؛ حيث إنه يدعو إلى الوجودية، ولا بد له من الدراية التامة بكُتب أقطاب المذهب. وهو يشعُر أنه هو روكانتان سارتر، وميرسو كامي. إذا كان الوجود سابقًا على ماهية الإنسان، فالإنسان حرٌّ حريةً مطلَقة. ولكن، ماذا يفعل المرء بحُريَّته؟ تلك هي المشكلة. وإذا كان الوجود عبثيًّا ولا معقولًا، فأي شيءٍ يخلع معنًى على الوجود؟ كل ذلك يجب مناقشتُه والوصول إلى حلولٍ له. وقرأ سامي أيضًا كُتب فيلسوف الوجودية المصري، وتشرَّبها وأعجِب بها، على صعوبة أسلوبه ولغته. وقد باغتَه كتاب «اللامنتمي» لكولن ولسون، وأصبح من دُعاته، خاصة بعد أن قرأ عن حياته الغريبة، وظروف تأليف ذلك الكتاب.

كان كتاب اللامنتمي هو الأمثل لجيله. وعرف أن أفرادًا عديدين قرَءوه وتأثَّروا به مثله. وضع سامي الغثَيان جانبًا وتناوَل كتاب ولسون. مطبوعات لبنان أيضًا. كان قد قرأه أكثر من مرة، وقلَّب صفحاته. وقد توالت منشوراتُ لبنان تملأ المكتبات العربية، ومنها مكتبات القاهرة، وكان أفراد هذا الجيل يتلقَّفونها في لهفةٍ وشوق. كانت لبنان قد أضحَت المُنتِج الأول للكُتب، فانفتحَت شهيتُها على إصداراتٍ حديثة وجريئة. وتابع أفراد الجيل فضيحة كتاب «سفينة حنان إلى القمر»، وأعجِبوا بإفراج القضاء عن الكتاب وكاتبته، وتلقَّفوا الكتاب وقرَءوه وأعجِبوا به. وظهَرَت ترجمة لوليتا إلى العربية، فاستعاضوا بها عن الكتاب الأصلي، الذي كان لا يمكن أن يصل إلى مصر في ذلك الوقت. ورغم ذلك، كانت التيارات الفنية والثقافية والأدبية تفُور وتمُور في أوساط المثقَّفين بالجامعة. وشلة «العقول» في قلب هذه الأوساط. وسامي على رأسها لنشر آرائه الوجودية والدعوة لها.

كانت السلطة تترك الأمور على حالها طالما لا تقترب الأنشطة من السياسة أو الفكر السياسي. كانت الحركة الأدبية والفنية في ذروتها، ومقالات لويس عوض تَتْرى كل أسبوع في الأهرام، وقصص نجيب محفوظ ويوسف إدريس. وسَمِع الجيل همسًا عن رقابة على بعض الأعمال الأدبية، منها رواية أولاد حارتنا، التي نُشرَت مُسلسَلةً في الأهرام، ولكن لم يكن هناك قولٌ فصل فيما يتردَّد من إشاعات. وكانت الكتب تصدُر أكوامًا من مطابع الدولة، ولكن القليل منها هو المفيد. كان التركيز على الفكر الاشتراكي. أما الأدب فقد توجَّه إلى بعض الأعمال الكلاسيكية، التي هي بمأمنٍ من أي تفسيراتٍ خاطئة.

كان سامي يشعُر أنه في وسط غلَيانٍ حضاريٍّ وثقافي، يواكب غلَيانَه العاطفي — والجنسي الخفي. وينعكس هذا الغلَيان والفوَران على دراسته وقراءاته وحبه. وأصبح حبُّه متعددًا؛ فبعد أن أصبحَت شريفة لا تأتي كثيرًا إلى الكلية، ورغم أنه كان ما يزال يعتبرها حُبَّه المثالي الأعظم، فقد كان لزامًا لأشواقه العاطفية أن تجد لها متنَفسًا، فبدأ يهتم بزميلتهم سامية، بل ونحو سهير أيضًا. كان ذلك تحوُّلًا جاء مع التحوُّلات الكبيرة التي طرأَت عليه على مَر السنوات الأربع في الكلية. شعَر أنه قد نضج كثيرًا عما كان عليه عند التحاقه بالجامعة. لم يكن على ثقةٍ بعدُ في المهنة التي يريد أن يتخذها لحياته، أو الهدف الذي يسعى وراءه، ولكنه يشعُر شعورًا مبهمًا أن الفن والأدب هما مقصده وغايته. وساعدَه على ذلك شخصية ستيفن ديدالوس في رواية جويس، التي تقُص اهتداء بطلها — الذي هو رمز لجويس نفسه — إلى غايته من الحياة، وهي أن يُعبِّر عن نفسه في الحياة أو في الفن على أكثر الأشكال حريةً وكمالًا، مستخدمًا الأسلحةَ الوحيدةَ التي يسمح لنفسه باستخدامها (الصمت والمنفى والمقدرة)، ولكن الأمور ما زالت غائمةً أمام عينَيه: هل يريد أن يُقلِّد الآخرين ويعمل للتعيين معيدًا بالقسم؟ هل يسير على خُطى كمال وعبد الرحيم ويُنافِس سامر الذي يسعى بكل جهده ليُصبِح معيدًا؟ أم يُكرِّس بضع سنوات من حياته لقراءة كل ما يرغب فيه بحرية بعد قيود الالتزام بالمقرَّر الدراسي الذي يخرقُه كثيرًا منذ الآن؟ لقد شعَر دائمًا أنه مختلف عن الآخرين، وله برنامجُ حياةٍ مختلف، حتى إنه يقرنُ نفسه بمصطلحات «الغريب»، و«اللامنتمي»، و«المتفرد»، فلماذا إذن يتبع النمط التقليدي للحياة؟

كان أفراد الشلة قلقين أيضًا على المستقبل، متطلعين إليه في شوقٍ وخوف. نبيل يركِّز على استكمال دراسته للماجستير ثم الدكتوراه، بعد شعوره أنه لن يستطيع الحصول على جيد جدًّا في الليسانس، ولكن الوصول إلى الماجستير من خارج الكلية أمرٌ صعبٌ جدًّا هو الآخر. أما وهيب فقد وجَّه اهتمامه إلى أن يعمل مدرسًا في وظيفةٍ مضمونة، يمكن من خلالها أن يحصُل على إعارةٍ خارجية تُمكِّنه من توفير المال المطلوب للمستقبل. وحلمي أيضًا له نفس الأفكار، وإن طمح إلى المرتَّب الكبير لتحقيق الحُلم التقليدي لتكوين أسرةٍ «محترمة». أما أعجب الآمال فهي خطة إبراهيم؛ العودة إلى قريته والعمل على بناء منزلٍ له هناك! حسيب وعلي هما فقط اللذان لهما آمالٌ فنية. حسيب يريد أن يبرَع في كتابة الأزجال والشعر العامي، ومحاولة النشر أو بيع الأغاني لكبار المطربين. أما عليٌّ فقد كان أشبه أفراد الشلة بسامي. له مشاريعُ طموحة للقراءة والكتابة، ومشروعه العاطفي مع إحدى الفتيات، التي تعرَّف عليها في حفل بالأوبرا، يسير بنجاح.

كان الجيل مدفوعًا بزخمٍ هائل من ظروف الحكم في البلاد، والحدود التي تقيمها تلك الظروف في وجه أفراده، بالإضافة إلى صعوبات الحياة العادية. كان الجو العام جوَّ حماسٍ وترقُّب وقلَق. المشروع الثوري الاشتراكي على قدمٍ وساق، باهر الصورة الأمامية دون كَشْف ما يعتمل في الخفاء إلا على من يبحث ويدقِّق ويسأل، في حذَرٍ شديد. يُدرِك الجميع ضرورة أن يكون المرء متساوقًا مع ذلك المشروع ولا يحيد عنه قيد أنمُلَة، حتى وإن قاده ذلك إلى نسيان مبادئه وآرائه الخاصة. وكان بين هؤلاء من يُخلِصون لفنهم ومبادئهم ولكنهم يُجارون الحياة، مثل كمال وعبد الرحيم. ومنهم من يتلوَّن بألوان الطيف، كرشاد وناشد. ومنهم من يخلص لمبادئه — مهما تكن — على حساب مستقبله، كوفيق. ومنهم الطامحون الفنانون، كنبيل، والطامحون التقليديون، كوهيب وحلمي، ومنهم المتواكلون، كإبراهيم. ويبقى سامي، لا تصنيف له، أو فيه كل تلك التصنيفات السابقة مجتمعةً تتصارع في داخله.

وفي وسط كل هذا الخِضَم، لم يكَد أفراد الشلة يتلمَّسون طريقًا واضحًا لهم. لقد قرَءوا «وداعًا للسلاح»، المقرَّرة عليهم، وعَرفوا اصطلاح «الجيل الضائع» الذي أطلقَته «جرترود شتاين» على همنجواي وجيله من الفنانين، ورسَب في أذهانهم أنهم بدَورهم هم الجيل المصري الضائع. وكانوا يقولون لهم إنهم جيلٌ على موعد مع القدَر، ولكن، أي موعد؟

كان سامي دائمًا يردِّد قولته الشهيرة: «لا بد أن نعمل «كاتاكلزم» (تغيير شامل) في حياتنا». ومرةً ردَّ عليه نبيل ساخرًا: وجدتُ الحل.

– ما هو؟

– نمشي على أيدينا بدل أرجلنا.

وقهقَه الجميع. ولكنها سارت مثلًا.

•••

جلس سامي مع عبد الرحيم في كازينور، على مائدةٍ مُطِلة على النيل. توجَّه قبل ذلك إلى شقة عبد الرحيم القريبة من كازينور؛ حيث استقبلَه وأطلَعه على مكتبته العامرة التي يزوِّدها كل يوم بما تيسَّر من الكتب والمراجع. لقد استخلص عبد الرحيم سامي كصديقٍ مقرَّب له؛ إذ لم يكن من منافسيه ككمال أو سامر؛ ولذلك كان يقضي معه الكثير من الوقت، ويساعدُه في شرح ما استغلَق عليه، ولم يضِن عليه بأسراره حتى العاطفية منها.

– ما أخبار جيزيل؟

– رائع. كنتُ معها في المكتبة أول أمس، وطلبَت مني أن أشرح لها بعض الشعر الميتافيزيقي.

جيزيل فتاةٌ جميلة من أصل تركي في السنة الثانية في القسم. جذبَت اهتمام عبد الرحيم بجمالها وذكائها إذ كان يدرِّس لهم النقد الأدبي على منوال أستاذه الدكتور رشدي؛ لذلك لم يجد حرجًا أن يساعدها في مقرَّر الشعر ما دام أنه لا يُدرِّسه لها. شقراء، زرقاء العينَين، طويلة؛ بكل هذا لافتة للأنظار. تبدو متحرِّرة تتمتع بجذب انتباه المعجَبين. لم يكُن صعبًا عليها جذب اهتمام عبد الرحيم.

– وماذا تنتوي معها؟

– لا أعرف. أشعُر أنها تميل لي، ولكن لا بد من أخذ هذه العلاقات بمنتهى الحذَر. إنها طالبةٌ في القسم الذي أعمل بالتدريس فيه.

– ولكن العواطف لا تعرف القيود. أرى أن تُحاوِل تلمُّس ما في شُعورها تجاهك.

– ما في شُعورها أعلمُه جيدًا. إنها ميَّالةٌ لي.

تعجَّب سامي من فَرْط ثقة عبد الرحيم بذاته، وأرجع ذلك إلى نجاحه في عمله، وتطلُّعه إلى المزيد من النجاحات.

– عظيم. عليك إذن بالسير قُدمًا في هذه العلاقة.

وفي كازينور، بعد طلَب المشروبات وما إليه، بدأ عبد الرحيم يشرح لسامي قصيدة الأرض الخراب من أولها إلى يائها، والنيل يجري منبسطًا أمامهما فيخفِّف من غُلَواء تشاؤم إليوت في قصيدته اليبابية. وبدأَت أسرار القصيدة تتفتَّح تدريجيًّا أمام عينَي سامي، وعبد الرحيم يجلو له غوامضَها والفلسفةَ التي تكمن وراءها، مضيفًا الكثير من ظروف كتابتها والتغييرات التي أجراها عزرا باوند عليها حتى خرجَت بالشكل الذي هي عليه الآن. ووجد سامي أن القصيدة بها ملامحُ وجوديةٌ ظاهرة، فضحك عبد الرحيم وقال له إنه من الممكن لأي شخصٍ أن يجد صدًى لمعتقداته في النصوص العميقة التي تحتمل تفسيراتٍ عديدة، ولكنه لا يغامر بالوصول إلى تلك النتيجة دون مزيد من الفحص والتحليل. طبعًا هو أكاديمي، ولا بد أن يتبع النُّهُج الأكاديمية في بحثه، ولكن سامي فنان، ووجودي، فله مطلَق الحرية في تفسيراته.

وانسابت شروح عبد الرحيم؛ إذ تناوَل القصيدة سطرًا سطرًا يشرحها لسامي بالعربية والإنجليزية أحيانًا، ومضى من الفصل الأول إلى الفصل الخامس النهائي، فما إن جاءت السطور الأخيرة، مُختتَمة ﺑ «شانتي، شانتي، شانتي» حتى كانت القصيدة كلها واضحةً في وعي سامي، الذي استوعَبها الآن، وملأَته إعجابًا، وأحَسَّ أن الدكتور رشدي وجماعته على حق في الإعجاب بإليوت ذلك الإعجاب، الذي يبدو لأول وهلةٍ مُبالَغًا فيه.

– وهكذا. أرجو أن تكون الآن قد تمثَّلتَ معانيَ القصيدة واستوعبتَها.

– تمامًا. والشكر لك.

– لا شكر على واجب.

– الآن أدرك مدى أهمية القصيدة وإليوت. هل تعرف ذلك الطالب في السنة الثانية الذي يَدْعونه «راهب إليوت»؟

– تقصد إدوار. نعم إنه من تلاميذي. لقد ترجَم بعض قصائده ونشَرها في مجلة الآداب البيروتية، ولكن الترجمة ليست جيدة. كان يجب أن أراجعَها له أولًا.

– ينشُر في هذه السن المبكرة؟ إنه قد تفوَّق على سامر.

– هذا كله عبَث؛ فما ينشُرانه لا قيمة له.

دائمًا يغمِط الآخرين حقَّهم. هو ينظر إلى الأمام؛ ما سوف يكتبه وينشُره. تردَّد سامي، هل يدعوه إلى الغداء في كازينور، أم أن ذلك سوف يكون مُحرَجًا كأنه ردٌّ لجميله في معاونته؟ وحسَم أمره.

– هل تشعُر بالجوع؟ أرجو أن تقبل دعوتي على بعض الطعام هنا.

ضحك عبد الرحيم.

– أنت ما زلت طالبًا. دَعْ لي هذا الأمر، ولكن فلنذهب إلى وسط البلد، ونأكل هناك، ثم نمُر على بعض المكتبات. إني في حاجةٍ لعدد من القواميس.

جميلٌ أنْ أخَذ الأمور بهذه البساطة.

– ولكن هذا كثير. إني أريد ردَّ بعض أفضالك.

– رُدَّها بعد أن تتخرَّج وتتوظَّف، أما الآن فهيا بنا.

وأصَرَّ عبد الرحيم كذلك على دفع الحساب. خرجا إلى ساحة الجيزة قُبالة كوبري عباس، وأشار عبد الرحيم إلى تاكسي ودلَفا إليه. كان مشهورًا بالكرم؛ فقد أتى من أسرةٍ ريفيةٍ ثرية تأصَّلَت فيها الشهامة، وأمدَّته أيضًا بالتقاليد الراسخة التي لا يحيد عنها بسهولة. وكان من حظ سامي معرفتُه ومعرفة كمال أيضًا؛ فكانا يُمِدَّانه بالزاد العلمي والفني والمادي أيضًا، ممثلًا في ارتياد المطاعم والكافيتيريات التي لم يكن سامي متعودًا على زيارتها، لما تتضمنه من مستوًى آخر ونفقاتٍ أخرى.

وبعكس كمال الذي كان يحب الأماكن الأوروبية، ولا يجد حرجًا في طلب المشروبات الروحية، أخذه عبد الرحيم إلى مطعمٍ شرقيٍّ مشهور بتقديم الدجاج على الطريقة الشعبية. ما أشدَّ اختلاف هذا المكان عن مطعم جروبي أو الأمريكين أو روي! ولكنه يُضارِعها في النظافة. به أماكنُ مخصوصة للعائلات؛ ولذلك كان كل من يحوطهما من الرجال. وليس به مشروباتٌ روحية. وكان الأكل مصريًّا خالصًا، مع مشروب الخرُّوب، والشاي بالنعناع في النهاية.

واستمتع سامي بالجلسة مع عبد الرحيم، الذي راح يحدِّثه عن إعجاب الفتيات به وبعلمه الغزير، وعن طموحاته في الكتابة للمسرح؛ إذ بدأ كتابة مسرحية بعنوان «الإطار المليء»، وكان يأمُل أن يضُمَّه الدكتور رشدي إلى هيئة المجلة التي يعتزم إصدارها عن المسرح. ونهَضا بعد ذلك وسامي يشكُر عبد الرحيم على كل كرمه الحاتمي، وتوجَّها إلى مكتبة الأنجلو. وهناك غَرِقا في فحص الكتب كالعادة، واشترى عبد الرحيم بعض الكتب بالتخفيض المخصَّص للأساتذة. وفي مكتبة النهضة، امتدَح سامي قاموس النهضة ذا الجزأَين، مما دفع عبد الرحيم إلى شرائه، ثم عثر سامي على نسخة من «قاموس الجُمل والعبارات الاصطلاحية» لنفس مؤلف قاموس النهضة، وكان يبحث عنه من زمن، ففرح به، وحملَه لشرائه.

– هل وجدتَ شيئًا لك؟

– هذا القاموس. إنه لنفس مؤلف قاموس النهضة.

وقلَّب عبد الرحيم فيه بسرعة ثم قال:

– جيد. سآخذ نسخةً لي أيضًا.

وذهب مع سامي إلى حيث كان القاموس، ولكنهما لم يجدا نسخةً أخرى معروضة. ولما سألا قيل لهما إن هذه النسخة هي آخرُ الموجود؛ لأنه نافدٌ من زمن.

– غير معقولٍ هذا. إني لفي حاجةٍ إليه.

وتردَّد سامي بعض الوقت. كان هو أيضًا يريد القاموس، وهو يعرفه قبل عبد الرحيم. ولكن … هل من سبيل؟

– يُمكِنكَ أخذُ هذه النسخة، وسأبحث أنا عنه في المكتبات القديمة أو على سور الأزبكية.

– جميل. مؤكَّد ستجد نسخةً أخرى.

وأعطى سامي عبد الرحيم نُسختَه وهو يتمزَّق ألمًا خِفْية؛ إذ كان متأكدًا أنه لن يعثُر على نسخةٍ أخرى أبدًا.

•••

اقتربَت امتحانات الليسانس، وانهمك الجميع في الاستعداد لها. كل واحدٍ له موادُّ يخشى منها؛ سامي يخشى اللغة اللاتينية، وفهيم الرواية، ونبيل الدراما. أما فتيات الإنجلش سكول، فاللغة العربية هي «بُعبُعهن.»

أصبح كل فردٍ من أفراد الشلة في شُغلٍ عن الآخرين، ما عدا جماعة «العقول»؛ فقد دأبوا على التزاوُر واللقاءات؛ إما في الكلية وإما في حُجرة سامي. وانهَمَكوا في تبادُل العون الدراسي؛ فنبيل يقوم بشراء ملازمِ شرحِ دروس اللغة الفرنسية من أحد المدرسين في منيل الروضة، مكتوبةً على الآلة الكاتبة، ويتبادلها مع الجميع. وشعَر سامي أن المواد التي تتطلب الحفظ عن ظهر قلب لبعض النصوص، كاللاتينية والفرنسية، هي ما تُزعِجه حقًّا؛ فقد اعتمد على الفهم المنطقي للموضوعات والتعمُّق فيها، ولكنه خضع لمتطلبات النجاح في هذه المواد، التي يأتي الامتحان فيها بإيراد نصوصٍ مقرَّرة، والمطلوب ترجمة هذه النصوص إلى العربية أو الإنجليزية. وكان قد حاول في السنة الأولى أن يدرُس اللغة اللاتينية دراسةً منهجية بعيدًا عن النصوص المقرَّرة، فكانت النتيجة كارثة. وبعدها عرف أن الامتحانات لها مقاييسها ولا بد من التوافُق مع تلك المقاييس. أما الدراسات الحقَّة، فهي تأتي بمنأًى عن الامتحانات في خططٍ خاصةٍ مدروسة؛ ولهذا فهو يتُوق إلى التحرُّر من ربقة حصار المقرَّرات كيما ينطلق بعد ذلك لدراسة ما يُحب وفقًا لمنهجه الخاص.

وتعوَّد سامي على الذهاب كل يوم تقريبًا بعد أن انتهت الدروس استعدادًا للامتحانات إلى الجامعة؛ حيث يرى بعضَ الأصدقاء، ويُذاكِر هناك كما يحلو له. وحين أعلنَت الكلية أرقام الجلوس للامتحانات، كان سامي هناك كالعادة، فذهب إلى بهو الكلية الرئيسي حيث عُلقَت الأرقام، وكثيرٌ من الطلبة يتزاحمون لمعرفتها. وعلى نحوٍ طبيعيٍّ لا إرادي، سعى سامي إلى البحث عن اسم شريفة أولًا، واطمأن إلى وجوده، ثم بحث عن رقمه هو، وكتَب الرقمَين في دفتَره. وبقي في البهو يتفرَّج وينتظر وصول أحدٍ يعرفه للحديث. وفجأة، لمَح شريفة آتيةً من الباب الخلفي، متجهةً إلى كشوف الأرقام. ورآها تُجاهِد في الوصول إلى الكشوف وسط الزحام، ثم تنتقل من لوحةٍ إلى أخرى بحثًا عن اسمها. وتجمَّد وجود سامي في لحظةٍ حول وجود شريفة، ولم يعُد يرى غيرها مِن حوله وسط طوفان الطلاب المتزاحمين. وفي لحظةٍ سماوية، وقعَت المعجزة؛ إذ أفاق سامي من نشوته وبحرانه على صوتِ شريفةَ تُحادِثه بالإنجليزية: آسفة لإزعاجك، ولكن هل يمكن أن تساعدني في العثور على اسمي ورقم جلوسي؟

– طبعًا.

ومضى سامي من فَوره قُدمًا واثقًا، وشريفة إلى جواره، وتوجَّه من فوره مباشرة إلى الصفحة التي رأى فيها اسمها سابقًا، وقال لها: ها هو.

ووضَح من ذلك أن سامي قد بحث عن الاسم من قبلُ وعَرَفه حتى قبل أن تطلب شريفة معونتَه. وملأه ذلك الإحساس، وإدراكُ شريفة لذلك، نشوةً وحبورًا. وحين تورَّد وجه شريفة، أدرك سامي أنه على الطريق الصحيح.

– آه، شكرًا. إذن هو۳ و۷ و٢.

– نعم، ٢۷۳.

– شكرًا جزيلًا. وحظٌّ سعيد. أرجو أن تكون مستعدًّا للامتحان.

– إني أبذل جهدي. وأنتِ؟

– مثلك. هناك موادُّ أحبها وأخرى أكرهها. وكما تعلم، العربي عندنا مشكلة.

– لو أحببتِ شرحتُ لك أيَّ شيءٍ ترغبين فيه.

ضحكَت شريفة وقالت: لا أعتقد أن هناك متَّسعًا من الوقت الآن. ولكن شُكرًا. ولو أردتُ شيئًا سأخبرك.

– إذن حظٌّ سعيد لكِ أيضًا.

آه وآه. سطعَت الشمس وأشرقَت، وصدحَت الألحان من حوله، وأينعَت أزهار وطارت عصافير، وانسابَت غدائر وتلَألأَت أقمار. وتبدَّت الدنيا من حوله سعيدةً مضيئة. وسبَح في طوفانٍ من السعادة الغامرة. وتابع شريفة بنظره وهي تخرج من الكلية، لا بد عائدة إلى منزلها. كانت ترتدي الفستان السكوتش الذي يجعلها تتبدَّى في صورةٍ ملائكية. لقد تكلَّم بعض أصدقائه يومًا ضد الحب الأفلاطوني، وقالوا كلامًا جنسيًّا جريئًا عن الفتيات. يومها شعَر سامي بالإهانة، وقطَع عليهم الحديث بطريقته الساخرة العدوانية التي تُلجِم الآخر وتقطَع عليه الطريق. كيف لشريفة أن تكون في طبقة الفتيات الأخريات. وعادت إلى ذهنه «قصر الشوق» وعايدة شداد وكمال عبد الجواد. هل يا تُرى هو واهمٌ نفس وهم كمال؟ كان يرى شريفةَ ناضجةً جسمانيًّا أيضًا، وإن تجاهل مواطنَ الفتنة فيها، وكان يُبعِدها تمامًا عن فكره في أوقات حسيَّاته المنفردة، على أن تعود إلى مركز الروح بعد ذلك. وهذا ما ربطَها بالرومانسية والروح والسمو والعفة. لم يكُن، مثله مثل كمال عبد الجواد، يتصوَّرها في موقف الجنس، رغم أن ذلك طبيعي. وهي ستتزوج يومًا ما وتجرِّب الجنس والحمل والولادة، ولكنه لم يكن يفكِّر في ذلك مطلقًا، رغم أن تلك الأفكار كانت تُراوِده عند التفكير في حبيباته الأخريات، كسامية وسهام. ولكن شريفة نوعٌ آخر. وماذا يريد من شريفة؟ وهل يا تُرى سيراها بعد التخرُّج؟ كل ذلك في علم الغيب.

وأفاق سامي من نشوته على صوت فريد يقول له: رائع يا سامي. رأيتك مع شريفة. هكذا تهبط إلى أرض الواقع بدلًا من تهويمات الخيال. تهانئي.

وعرَت سامي بهجةٌ أن رأى آخرون نجاحه مع شريفة.

– طبعًا. نحن أصدقاء. وهي تكلمني كثيرًا، ولكنكم لا تُصدِّقون. أرجو أن تقول ما رأيتَه لحامد.

– حامد هذا لا أمل له مع شريفة. وأنا سعيدٌ جدًّا لرؤيتي لها معك.

الآن تقول ذلك ويا طالما ألمحتَ إلى فشلي مع شريفة نتيجة رومانسيتي الشديدة. أما هو فكان عمليًّا. يحكي ما يفعله مع صديقته دون حياءٍ مما يصُد سامي عنه في ذلك الأمر. يتفاخر أن سميرة قد رفضَت عريسًا ثريًّا من أجله. وهو يخرج معها كثيرًا. ثم قال إنه استقبلها في شقَّته حين كان وحده، وجرى بينهما ما جرى. حكى تفاصيلَ رهيبة ملأَت الجميع بالحسد، وملأَت سامي — بجوار الحسد — تقزُّزًا. «كيف تحكي مثل هذه الأمور الخاصة على الجميع هكذا؟! يا أخي، راعِ أننا نعرف الفتاة.» قهقَه فريد وقال إنه يأمُل أن يصل كل محبٍّ منَّا إلى ما وصل إليه!»

وقد دخلتُ الامتحانات النهائية بصورةٍ جديدة كنتُ قد ناقشتُها من قبلُ مع سامر، وهي طريقةٌ لفتَت نظر الأستاذ المصحِّح لورقتنا، فكنتُ أجيب عن السؤال في شكل مقال أو بحثٍ منشور، أبدَؤه بفِقرةٍ مقتبَسة لها علاقة بالموضوع، ثم أضيف عدَّة حواشٍ أشرحُ فيها المزيد من التعليقات عليه. وكان هذا كفيلًا بجذب نظر المصحح إلى الورقة على أقل تقدير. وقد خرجتُ من الامتحانات مطمئنًّا إلى حدٍّ ما، وإن لم أكن أفكِّر إلا في مجرد النجاح فحَسْب. وواصَلْنا بعد انقضاء الامتحانات التردُّد على الكلية، وعلى التقديم في عددٍ من الوظائف التي تم الإعلان عنها؛ حيث كانوا يقبَلون أوراقنا بشرط النجاح بعد ذلك. وحين ظهَرَت نتيجة الليسانس بعد ذلك في شهر يوليو، سُررتُ جدًّا إذ وجدتُني قد نجحتُ بتقدير جيد مرتفع؛ حيث حصَلتُ على جيد جدًّا وامتياز في عدة مواد، وبخاصة حصولي على امتياز في الرواية، وهو ما كان له مغزًى مهم بالنسبة لي. وقد نقص مجموعي درجاتٍ قليلةً للوصول إلى تقدير عام جيد جدًّا، وأسهَم في ذلك حصولي على تقدير مقبول في مادةٍ وحيدة كان يُصحِّحها مدرس لغةٍ قديم يستعين به القسم من زمن، وكنتُ أعرف أنه قضى سنواتٍ طويلةً يعمل في إحدى الدول العربية، فضمَّنتُ إجابتي جملةً عن تلك الدولة علَّ ذلك يُعجِب المصحح، ولكن يبدو أن تجربة ذلك الأستاذ في تلك الدولة لم تكن سارَّة، فكان أن انعكَس ذلك في تصحيحه لورقتي!

وبدَأَت أيام الامتحانات، وسامي يذهب إليها قلقًا، يشعُر أنه لم يستعدَّ الاستعداد الكافي، وأنه سوف ينسى كل شيء، ثم يخرج راضيًا بعض الرضا. وكان يرى شريفة تجلس إلى مقعدها، ومعها دواية حبر، وتنهمك في الكتابة وهي تضع يدها على خدِّها. ونجح مرَّات في تبادُل كلماتٍ قليلة معها في الصباح، أما بعد انتهاء الامتحان، فلم يكن ينجح في العثور عليها أبدًا. وتعوَّد أن يذهب مع إبراهيم بعد كل امتحانٍ سيرًا على الأقدام إلى ميدان الدقي، ويجلسان إلى الكافيتيريا الشهيرة هناك؛ حيث يشربان التمر هندي ويتناقشان في الامتحانات. ووثَّقَت تلك اللقاءات بينهما؛ حيث تواعَدَا على مواصلة اللقاء والاتصال بعد ظهور النتيجة؛ لأن إبراهيم كان ينوي الذهاب إلى قريته فور نهاية أيام الامتحانات.

انتهَج سامي في إجاباته على الأسئلة نهجًا كان قد ناقشَه قبل ذلك مع سامر. المطلوب هو جذب انتباه الأستاذ الذي يصحِّح المادة بحيث يستمر في قراءة الإجابة حتى نهايتها؛ ولذلك كانت الفكرة هي بدء كل إجابة باقتباسٍ أدبي في أعلى الصفحة، على غرار كتابات بعض المشهورين. وفي مادة النقد النظري، عمَد سامي إلى إيراد أمثلةٍ بلغاتٍ مختلفة منها اللغة العربية، ولم يجد أفضل من شعر علي محمود طه كي يصوِّر النزعة الغنائية التدفُّقية، في مواجهة الشعر العقلاني الذي تدخُل فيه الصنعة البنائية. واستخدم كذلك أشعار قصيدة الكرنك التي كان يعشقها وإن لم يتذكَّر مؤلفها.

وكانت فترة الامتحانات فترةً عصيبة بقلَقها وتعَبها. وحين انتهَت تنفَّس الجميع الصُّعَداء. والتقَت الشلة في آخر يوم، ومضَوا جميعًا إلى وسط البلد. وعلى كوبري قصر النيل، قام سامي بمراسيم آخر امتحان، بأن ألقى كتابًا لم يعُد في حاجة إليه في النيل. ولكن مراسم هذا العام كادت أن تنتهي نهايةً سيئة؛ إذ هُرِع إليهم أحد الجنود وسألهم ماذا فعلوا. وحاول سامي أن يشرح له الأمر، ولكنه لم يفهَم شيئًا، وطلب أن يصحبهم إلى قسم البوليس. ذكَر لهم أن مجرَّد التوقُّف على الكباري فيه مخالفة للأمن، وأن إلقاء شيءٍ من الكوبري قد ينطوي على أمرٍ خطير. ولم يُنقِذ الموقف إلا تدخُّل البعض بأن ذكَروا للجندي أن أخا سامي هو فلان الذي يشغل مكانًا مهمًّا في المباحث. وبعد أن رأى الضابط كارنيه سامي وتحقَّق من لقبه، تركَهم لشأنهم منذرًا إياهم بعدم تكرار ذلك مرةً أخرى. وعادت إلى ذهن سامي نوبات الحراسة والاستعدادات الحربية في فاتحة مسرحية هملت. ولكن، ما لنا وللدنمرك؟ إننا في مصر المحروسة!

وعبَروا ميدان التحرير، في طريقهم إلى كافيتيريا لاباس. وجلسة لاباس جميلة، وجود مكيف لطيف يتيح لهم النقاش ومشاهدة الغيد الحسان. وفي المحل طبق مكرونة بالفرن لذيذ الطعم ذو سعرٍ معقول. وكانت الشلة تتهكَّم على حب نبيل لذلك الطبق، وحرصه على طلبه دائمًا هناك، مشيرين إلى أن ذلك الحرص مرآةٌ لحرصه في الإنفاق، كما يقول سامي في التشنيع عليه.

– ها قد أتت الإجازة أخيرًا. ماذا سنفعل في الصيف؟

– سننتظر النتيجة طبعًا. ونستطيع أن نتقدم للوظائف من الآن.

– بالفعل؛ فقد سمعتُ أن الاستعلامات تعقد امتحاناتٍ ومقابلاتٍ لخرِّيجي أقسام اللغات، ويقبَلون دفعاتِ هذا العام ممن لم تظهر نتيجتُهم بعدُ.

– إذن علينا أن نتقدَّم أيضًا. وهناك أيضًا امتحان مسابقة المترجمين في المصانع الحربية.

– أنا سأنتظر أسبوعًا أو أسبوعَين للراحة، ثم أبدأ في التقديم للوظائف.

•••

وفي انتظار النتيجة، واصَل الأصدقاء الذين بقُوا في القاهرة لقاءاتهم. وكان سامي على موعده السنوي الغريب؛ إذ كان يختار يومًا في أوائل الإجازة يخصِّصه للمشي والتأمُّل، يبدأ من أمام منزله بالعجوزة وينطلق إلى الإسعاف فشارع رمسيس بطوله، إلى العباسية وحتى مصر الجديدة. وهناك يستريح ويأكل في أحد المطاعم ثم يشرب القهوة في جروبي مصر الجديدة قبل أن يقفل عائدًا على قدميه. وقد حافظ سامي على هذا التقليد منذ ثلاث سنوات، وها هو اليوم يخرج في ملابسه الصيفية للقيام بهذه الرحلة الشيِّقة. وأفضلُ ما في الرحلة ما يُلاقيه في طريقه من أناسٍ وعرباتٍ ومبانٍ. يستشعر الجمال في كل ما هو جميلٌ منها؛ أبنية كلاسيكية بديعة يُحب التوقُّف أمامها وإشباع بصره من تناسقها. فيلا شارع رمسيس التي تحمل اسم أستاذٍ أدبيٍّ كبير. تُرى أهو صاحبها أم مجرَّد تشابُه في الأسماء؟ وميدان رمسيس وما يزخر به من حركةٍ دافقة. يتفرَّع جانبًا إلى شارع الفجالة الذي يرتادُه كثيرًا في طلب الكتب والأدوات الكتابية التي يعشقُها. وفي العباسية، ثم مبنى الكاتدرائية المهيب الذي يُعيد إلى ذهنه مباني الكاتدرائيات والكنائس المشهورة في بلاد أوروبا، والتي حَلَم بزيارتها يومًا، وخصوصًا نوتردام دي باري، التي عرفها أولًا من أحدب نوتردام. يا لها من قراءاتٍ متنوعة! طَفِق يفكِّر في سنوات التكوين الثقافي والأدبي منذ الصغر، منذ بدأ القراءة في شبين الكوم، ثم الإسكندرية فالقاهرة مع سور الأزبكية ودار الكتب. وبعد ذلك الجامعة والمقرَّرات الأدبية الرائعة في قسم اللغة الإنجليزية.

وصل سامي مع تلك الخواطر الحنينية إلى مشارف مصر الجديدة. وسار متجولًا فيها، يتفرَّج على فتارين المحلات التي تمتلئ ببضائعَ باهرة. كانت «القوانين الاشتراكية» قد صدَرَت منذ فترة، ولكن أثَرها لم يكن ظاهرًا في بعض المحلات، التي كانت تعتمد على الاستيراد المُقنَّع، وعلى التهريب، للحصول على البضائع التي تعوَّدَت الطبقات الثرية على امتلاكها. وكانت ظاهرتا «مسافرو الشنطة» وسوق غزة في قلب القاهرة، قد بدأَتا في الظهور.

توجَّه سامي إلى المطعم الصغير الذي يرتادُه هناك. له حديقةٌ جميلة، جلس إلى إحدى موائدها وطلب طبقَه المفضَّل؛ كبدة مشوية مع بطاطس مقلية وزجاجة بيرة ستيلا. وعاد ثانيةً بذاكرته إلى أحوال حياته الماضية، وكيف جاءت فتيات الجامعة فحفَرَت في فؤاده بحرًا من الهُيَام بالجمال الأنثوي الذي وجد ضالَّتَه في شريفة أساسًا. كان أصدقاؤه يحكُون عن مغامراتٍ عاطفيةٍ وجنسيةٍ أبعدَ مدى؛ ولذلك كان لكل واحدٍ من أبناء ذلك الجيل عالمه العاطفي والغرامي والجنسي الخاص به. وسرعان ما أغرق سامي عالَمه في عالَم قراءاته، وعالَم الوجودية التي أصبح يُبشِّر بها، وأصبحَت مكتبتُه تزداد يومًا بعد يوم من الكتب التي تتَّفِق مع ذلك العالَم الخاص به. ولم يخلُ الأمر من بعض «المصنَّفات» الحسية التي كانت تثير فيه نوازع الجنس. وكان يعرف أن الجميع لديهم مثل تلك المصنَّفات. وكان البعض يتحدث صراحةً عن مغامراتٍ جنسية، مثل كمال الذي كان غارقًا في هذه الأمور، على نحوٍ لا يفرِّق بين أحد؛ فهو مع فتياتٍ محترمات، وبنات بلد، على حدٍّ سواء، باحثًا عن الجنس الخالص، ولا يشعُر بحب أو خلافه. كان الجنس يمثِّل مشكلةً كئودًا أمامهم، وعلى كل واحدٍ أن يحلَّها وَفْق ظروفه وأوضاعه.

حانت ساعة العودة من مصر الجديدة. واتخذ طريقًا مغايرًا موازيًا للطريق الذي جاء منه، بقصد التغيير. وفي العودة، كان تفكيره مُنصَبًّا على المستقبل وليس الماضي. ذلك المستقبل الذي كان على وشك أن تتحدَّد سماته لكل فردٍ من أفراد الشلة.

•••

الجامعة في قيظ يوليو. رغم الصباح الباكر، داهَم الحَرُّ المكان، وتسلَّطَت الشمس على الأماكن المفتوحة، فلجأ نبيل إلى ظل شجرةٍ صغيرة، وجلس تحتها في انتظار مَن يحضُر مِن الأصدقاء. كان اليوم هو موعد ظهور نتيجة آخر العام، والكل في تشوُّف وانتظار. وعقلُ نبيل مشغولٌ بخطَطه للمستقبل مع نانسي؛ فتارةً يتخيَّل أنه قد حظي بعمل في القاهرة يؤهِّله للتقدُّم لخطبة حبيبته، وتارةً أخرى يصطدم بواقع أنه يحتاج إلى عملٍ ذي دخلٍ كبير يمكِّنه من الإنفاق على الزواج.

وتوافدَت شلة الأصدقاء؛ سامي وحسيب ووهيب وزملاءُ آخرون من المعارف.

وقام الجميع وتوجَّهوا إلى القسم، فإذا بعم علي وحوله ساعيان آخران، وهو يعلِّق صفحاتٍ كثيرةً داخل اللوح المغطَّى بالزجاج ثم يُغلِقه وينتظر إلى جواره هو وزميلاه.

وهُرِع الجميع إلى اللوحة وعيونهم تكاد تخرُج من مكمنها تلهُّفًا على رؤية مصيرهم. وإذ كان سامي قلقًا من السُّعاة المنتشرين حولهم، وما يطلبون من حلاوة النتيجة دون تمييز بين مَن نجح ومَن رسب، ينقلب إليه نبيل بوجهٍ مشرق وفرحٍ طاغٍ ليهتف به: مبروك. لقد نجحنا. وقبل أن ينتهي من عناقه ينقَض عليهما عم علي بنفسه وقد تأكَّد من النجاح، فيدُس ماهر يده في جَيبه ولا يجد من الفكة غير ريالٍ فضي، فيدُسُّه في يد عم علي الذي يسعَد به، ويقول مبروك وهو يضعه في جيب جلبابه. وكأنما اعتبر نبيل أن الريال يكفي لهما هما الاثنَين، فأخذ بيده واتخذا ركنًا من القاعة ينتظران زملاءهما.

– هل رأيتَ نتيجةَ وهيب؟

– لا، رأيتُ اسمي واسمك واسم نانسي فخرجتُ من الزحمة.

– وما تقديراتنا؟

– أنا وأنت جيد. نانسي جيد جدًّا.

– شفت شريفة؟

– لا.

كان نبيل يشعُر ببعض القلق المشوب بالغيظ؛ لأن نانسي تفوَّقَت عليه، ولكنه شعَر بأن هذا لا يمكن أن يغيِّر شيئًا في علاقتهما وخططهما للزواج.

وكانت مفاجأة النتيجة أن سامر قد أحرز جيد جدًّا، وقد سُرِرتُ لذلك غاية السرور، وهنَّأتُه من صميم قلبي، وكنتُ صادقًا في ذلك؛ إذ كنتُ أعلم حق العلم مدى ثقافته ورحابة معلوماته وقراءاته؛ وكان يزورني في شقة محمد شكري كل يوم تقريبًا في السنتَين الأخيرتَين. وانشغلنا طوال أغسطس وسبتمبر في التقديم للوظائف وإجراء الاختبارات والمقابلات. ولم يكن نظام التوظيف للقوى العاملة قد صدَر بعدُ، فكان علينا الاعتماد، وحَسْب، على إعلانات الوظائف. وتركَّزَت تقديماتي في الجهات التالية: مترجم بالمصانع الحربية؛ مضيف أرضي بشركة مصر للطيران؛ عضو فني بوزارة التربية والتعليم المركزية بالقاهرة. وقد تقدَّمتُ أيضًا للعمل مدرسًا ثانويًّا في وزارة التربية والتعليم على أمل أن يجيء تعييني في القاهرة أو الجيزة، ولكن جاء التعيين في مدينة دمنهور فصرفتُ النظر عنها.

وذهبتُ لاختبار المقابلة لوظيفة مصر للطيران مع صديقي إبراهيم، وكان الممتحنون من الضباط الذين انقلَبوا مدنيين. وملأنا استمارات المعلومات الخاصة، بما فيها أسماء الأقارب، فكتبتُ أسماء أقاربي وجلُّهم من الضباط؛ إما في البوليس أو الجيش. واصطفَفْنا أمام اللجنة لتختار على أساس الهيئة أولًا، ورأيتُ رئيس اللجنة يتجاوَزني ببصره إلى مَن بعدي، ولكن بعد أن وصل إلى آخر المصطفِّين، عاد ببصَره واختارني. وفي المقابلة سألوني بعضَ الأسئلة عن معلوماتي عن عمل المضيف الأرضي، وكنت قد عرفتُ طرفًا منها من صديقي حلمي جرجس، الذي انتقل للعمل في البنك الأهلي فرع المطار. وكانت استمارتي أمام أعضاء اللجنة، ولا بُد أنهم رأَوا الأسماء التي دوَّنتُها فيها؛ فقد وجدتُ آخر الأمر أنني ضمن عددٍ قليل ممن نجحوا في الاختبار، وتم اختيارهم للالتحاق بالوظيفة. وقد مضيتُ قُدمًا في إكمال تلك الإجراءات رغم عدم اقتناعي بتناسُب هذا العمل معي؛ فقد كان بنظام النوبات shifts وسيكون صعبًا معه أن أواصل أيَّ دراسات عليا. وفي انتظار نتيجة الوزارة المركزية، أدَّيتُ الكشف الطبي لوظيفة الطيران، ودفعتُ تأمينًا مطلوبًا قَدْره خمسون جنيهًا، ولكن حين حان الوقت لتفصيل زي العمل، اليونيفورم، تهرَّبتُ من ذلك، وماطلتُ فيه حتى لا أُضطَر بعد ذلك إلى دفع ثمن البذلة لو أنني اعتذرتُ عن عدم قبول الوظيفة. وظهر بعد ذلك أن وظيفة المصانع الحربية — رغم مرتَّبها الكبير — ليست ثابتة، فاستبعدتُها هي الأخرى. وفي يومٍ فُوجئتُ بأحد السعاة يطرق باب المنزل ومعه خطابٌ بقبولي في وظيفة العضو الفني بوزارة التربية والتعليم المركزية. ونزل ذلك بردًا وسلامًا على قلبي؛ فقد كان مقرُّها في وسط القاهرة، وهو ما يناسبني تمامًا. وكنتُ قد خلَصتُ إلى أن أكثر ما يناسبني هو وظيفةٌ مكتبية وإن في الكادر الجامعي، يكون عملها من الثامنة صباحًا حتى الثانية بعد الظهر، وهو ما يُتيح لي وقتًا مناسبًا بعد ذلك للدراسة والقراءة والكتابة، ناهجًا في ذلك نهج ت. س. إليوت حين التحق بوظيفةٍ كتابية في أحد البنوك، بينما كان يعمل في تدبيج قصائده العظيمة، وكذلك مثال أستاذنا نجيب محفوظ الذي كتب رواياته وهو موظَّف في وزارة الأوقاف.

ولما كنتُ قد استقرَرتُ على اتخاذ الفن والثقافة والكتابة حياةً لي، فقد سألتُ يومًا محمد عناني عن السبيل إلى إتقان اللغة العربية إتقانًا تامًّا؛ حيث إنها ستكون الوسيط الذي نستخدمه دومًا، سواء في الكتابة أو الترجمة أو في المقارنات الأدبية، وكان جواب عناني قاطعًا: القرآن الكريم. ووعَيتُ هذه النصيحة جيدًا؛ فقد كنتُ أعرف مدى تضلُّعه في اللغة العربية واستشهاده دائمًا بآياتٍ من القرآن الكريم. وكان عناني قد بدأ يُترجِم كتبًا للنشر؛ فقد تعاقَدوا معه على ترجمة عددٍ كامل من سلسلة «على مائدة المعرفة» التي كانت تصدُر آنذاك. كما تعاوَن مع الدكتور مجدي وهبة في ترجمة كتاب «درايدن والشعر المسرحي». وبدأ في ذلك العهد خروجي معه كثيرًا، وجلوسنا في الكازينوهات النهرية الهادئة؛ حيث كان أحيانًا يعكُف على الترجمة بينما أنا أقرأ أحد الكتب، أو كان يُملي عليَّ ترجمتَه الفورية وأنا أكتُبها. وكنتُ أشعُر بسعادةٍ بالغة في تلك اللقاءات بما كنتُ أستمتع به من المناقشات معه في شتى المواضيع، ومن إعجابي بجمال اللغة التي يستخدمها في ترجمته، والتي كنتُ أستفيد منها أشد استفادة.

وشرعتُ في إتمام أوراقي للالتحاق بعمل الوزارة، فبدأتُ بسحب أوراقي ومبلغ التأمين من شركة مصر للطيران، وقد لاقيتُ صعوبةً شديدة في ذلك نتيجة الروتين والزحام في مقَر الشركة. وكتبتُ طلب الاستقالة بسبب رغبتي في الالتحاق بالدراسات العليا، وهو ما لا يتفق مع مواعيد العمل بالشركة. وأخيرًا، أفلحتُ في الحصول على الموافقة على الاستقالة، وعلى استرداد أوراقي ومبلغ التأمين. وفي نفس الوقت، أدَّيتُ الكشف الطبي اللازم لوظيفة الوزارة المركزية، وبقِيتُ في انتظار إتمام أوراقي هناك لبدء العمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤