من حالٍ إلى حال

منذ تلك الليلة المشهودة أصبحتُ من أشد المؤمنين بالله ورسله وكتبه، وأصبح القرآن الكريم هو أول وأهم كتابٍ أعتدُّ به وسط كل الكتب التي تأثَّرتُ بها. وبدأتُ في شراء الكتب الدينية الأساسية، إلى جوار الكتب الجديدة التي كانت تجتهد في تجديد النظرة إلى الدين على نحوٍ مستنير. وقرأتُ كتاب أحمد أمين المتعدد الأجزاء عن فجر الإسلام وما تَبِعَه من مجلَّدات، وأخذتُ فكرةً شاملة عن حال الخطاب الديني عَبْر الدول التي سادت الأمة الإسلامية، من الدولة الأموية حتى الدولة العثمانية. ورنَّت في أذني إلى اليوم ما ذكَره عن أنه بسيطرة آل عثمان على الأمة الإسلامية، تم إغلاق باب الاجتهاد في الدين.

ولم يغيِّر هذا الانقلاب الإيماني من مَظهري ومَسلكي؛ فقد كان إشراقًا داخليًّا جعل من القرآن الكريم كلمةً إلهية لا شك فيها، فإذا كان الأمر كذلك، فكل ما جاء به القرآن حقٌّ لا جدال فيه، وكل ما ثبَت عن الرسول كذلك، ومن الواجب التوفُّر على دراسة القرآن والتعمُّق فيه لأنه يحوي كل حقائق الوجود، ولا بد من الوصول منه إلى أغوارٍ لا تنفسح للإنسان إلا بالاستغراق الكامل في دراسته، بالاستعانة أيضًا بالبصائر اللدُنِّية، والشطحات الصوفية، والإشراقات الحَدْسية.

ولم أبدِّل من مَسْلكي ولا عاداتي ولا ما درَجتُ عليه من أمور؛ فقد انتظرتُ أن يأتي ذلك في موعده كما جاء الإيمان الصَّلد في ميعاده. ولكني بدأتُ في المطالعة في مصحفٍ صغير وأنا ذاهبٌ كل صباحٍ سيرًا إلى العمل، وكانت متعةً ما بعدها متعة؛ الإحساس بروعة الكلمات والمعاني في انفتاح الذهن والمشاعر في باكورة الصباح.

كنا قد انتقلنا بعد إلغاء الوزارة بحوالَي تسعة أشهر إلى مكتب الدكتور مصطفى طلبة، وكيل وزارة التعليم العالي للشئون الثقافية، وبقينا فترةً قصيرة في مبنى المبتديان، قبل أن ينتقل الوكيل وكل مكتبه إلى مبنى جاردن سيتي مقَر الوزير. وتقلَّصَت حريتي في لقاء نشوى بعد العودة إلى الدوام الوظيفي المعتاد، غير أنني لم أفوِّت فرصةً للقائها المعتاد، وإن تواصل الشد والجذب معها كي تترك عملَها بالتليفزيون وتنتقل إلى عملٍ آخر.

ومضيتُ قُدمًا في ترجمة رواية جويس، واستعنتُ في فِقراتها الغامضة بترجمةٍ فرنسية لها وجدتُها على سور الأزبكية، وقد نُشِرَت تحت عنوان «ديدالوس». وعملتُ فترةً طويلة في تنقيح الترجمة، وإن كان قد حيَّرني كثيرًا الاقتباسُ الذي وضعَه جويس في مقدمة الرواية من كتاب التحوُّلات لأوفيد. وكان البيان يشير إلى أنه مأخوذ من الفصل الثامن، السطر ١٨. وحين رجعتُ إلى الترجمة الإنجليزية للتحوُّلات، وبحثتُ في المكان المذكور، وجدتُه يتناول شيئًا مختلفًا تمامًا عما هو موجودٌ في اقتباس الرواية، مما اضطُرِرتُ معه إلى ترجمة الاقتباس بمعرفتي بالاستعانة بالقاموس اللاتيني (عرفتُ بعد ذلك من محاضرات جوزيف كامبل عن جويس أن السطر الصحيح هو ١٨٨ وليس ١٨، وأن أحدًا لم ينتبه لذلك الخطأ إلا بعد عشرات الطبعات التي حملَت الرقم الخطأ). وبدأتُ في كتابة نسخةٍ نظيفة من الترجمة بخطٍّ واضح على صفحات الفولسكاب المسطَّرة، وساعدَني صديقي إبراهيم في العثور على زجاجة حبر «كوينك» الذي شحَّ وجوده آنذاك، والذي كنتُ لا أحبُّ الكتابة إلا به. وأرسلتُ المخطوط على عنوان دار الآداب حوالي يناير ١٩٦٧م.

وتَبِع انتهائي من ترجمة وإرسال رواية جيمس جويس دفقةٌ وهَّاجة من الأعمال الأدبية، فبدأتُ مقالًا عن العجوز والبحر لهمنجواي بنيَّة إرساله إلى مجلة تُراث الإنسانية؛ وترجمتُ عدة قصائد للوركا وأرسلتُها إلى مجلة الهلال القاهرية. وكنتُ دائمًا أرسل أعمالي بالبريد، تاركًا الفرصة للمشرفين على التحرير لنشرها من عدمه. وواصلتُ سياستي هذه حتى الآن، إلا في أحوالٍ قليلة ستُذكر في حينها. وكان هدفي هو تنويع مصادر النشر، بغزو تلك المجلات الثقافية الشامخة والعمل على نَشْر أعمالي بها. وقد قمتُ بكل ذلك وسط كل أنواع الفوَران العاطفي مع نشوى، وفي خِضَم النزاعات والشقاق معها. ومَن يدري؟ فلربما كان هذا الجو دافعًا إلى العمل والإبداع عندي، للتعويض عما يحدُث، أو أن هذا هو ما يُهيِّئ بعض الكُتَّاب للعمل بعد إفراغ شحناته العصبية والعاطفية، فيصبح مستعدًّا للكتابة والإبداع! مَن يدري؟!

وعُدتُ يومًا في المساء إلى المنزل، فوجدتُ خطابًا من سهيل إدريس يُخطِرني فيه أنه تلقَّى ترجمتي لرواية جويس، وأنه سينظُر في أمر نَشْرها، ولكنه يطلب مني الآن أن أقوم بترجمة كتابٍ أمريكي ظهر حديثًا بعنوان «بابا همنجواي» وأحدَث ضجَّة؛ لأن مؤلِّفه يؤكِّد للمرة الأولى أن همنجواي قد انتحر عام ٦١ مع سبق الإصرار والترصُّد، ولم يكن موتُه حادث بندقية كما أشاعوا وقتَها. وكان قد ثار لغطٌ شديد حول ذلك الأمر عند وقوعه دون قطعٍ جازم فيه. وكان الدكتور إدريس يرغب في نشر الترجمة العربية سريعًا لمواكبة الشهرة التي نالها الكتاب. وقد طلب مني أن أحصُل بنفسي على الأصل الإنجليزي، وأبدأ في ترجمته على الفور، وأحاول إنجاز الترجمة في أسرع وقت.

وقد سَعِدتُ جدًّا بهذا التكليف، وإن كنتُ عجِبتُ لأنه كلَّفَني العثور على النسخة الإنجليزية للكتاب، وهو أمرٌ مستحيل في القاهرة، بينما هو متيسِّر جدًّا أيامها في بيروت. ولكني تحرَّكتُ بسرعة، وأرسلتُ خطابًا عاجلًا إلى محمد عناني في لندن أطلُب منه نسخةً من الكتاب. ولم يخيِّب الأستاذ الصديق ظني؛ فقد أرسل لي الكتاب على الفَور، رغم ثمَنه الغالي بأسعار ذلك الزمان، وضعفِ مرتَّبات أعضاء البعثات. ومن حُسن الحظ أن وصل الكتاب سالمًا دون التعثُّر في أبواب جمارك أو رقابة، وتسلَّمتُه حوالي فبراير ٦٧. وبدأتُ بأن قرأتُه قراءةً عامة في يومَين، ثم قَطعتُه أجزاءً منفصلة حتى يُمكِنني العملُ في أكثر من جزءٍ حسب الزمان والمكان اللذَين أكون فيهما. وحين حادثتُ علي كمال في ذلك الموضوع، عرضتُ عليه أن يساعدني بترجمة فصلَين من الكتاب، فرحَّب بذلك مشكورًا. وأوضحتُ له صراحةً أنه لن تكون هناك إمكانيةٌ لذكر اسمه في الترجمة، وأنني سوف أراجِع ما ترجَمَه وأغيِّره حسبما أرى، كيما يتسق مع لغة الترجمة لبقية الكتاب، وأنني سأعطيه نسبةً من الأجر الذي سأحصل عليه، إن كان هناك أجرٌ على الإطلاق. وقد قمتُ بنفس الاتفاق مع صديقي عاطف مرسي. وقد وافق الصديقان على ذلك.

وكانت فترة العمل في ترجمة الكتاب مزيجًا من المتعة والعذاب؛ المتعة بترجمة كتابٍ جميل موضوعُه من موضوعاتي المحبَّبة، حياة همنجواي، مع إدراك أن الكتاب مُتفَق عليه للنشر. والعذاب في مجاهدة الوقت والزمن للانتهاء منه في أقرب وقتٍ ممكن. وكنا نتحادث بالهاتف أنا وعلي كمال، فيناديني همنج وأناديه هوتش، كما كان يفعل مؤلِّف الكتاب — هوتشنر — مع همنجواي، بعد أن كسب صداقته، وأصبَح من خلصائه ومريديه.

كانت فترةً محمومة، وخفَّف انشغالي بالكتاب من إحكام قبضتي على نشوى، فاستمتعَت هي الأخرى بسلامٍ نسبي في تلك الفترة. وكنتُ أشعُر بأنها سعيدةٌ بحق بأني سأنشُر أول كتابٍ باسمي.

وانتهيتُ من الترجمة ومراجعة الفصول التي ترجمَها صديقاي حوالَي شهر أبريل — وهو وقتٌ قصير بالفعل تسبَّب في وجود بضعة أخطاء في الترجمة — ونسختُ الترجمة الكاملة في خطٍّ واضح، وأرسلتُها بالبريد المسجل إلى دار الآداب ببيروت. وفي نفس الشهر، أبريل، اتصل بي الدكتور سهيل إدريس من القاهرة، وطلب أن أقابله صباح اليوم التالي في مقر إقامته بفندق أطلس بالقاهرة، ووافيتُه في الموعد المضروب، وكان يتناول إفطاره، فرحَّب بي، وكانت أول مرة أراه فيها، وسألَني إن كنتُ قد «تروَّقت»؛ أي أفطرت، فأجبتُه شاكرًا بالإيجاب، وطلبتُ مشروبًا. وأثنى الدكتور إدريس على مقالاتي وترجماتي، وسألني عن مخطوط كتاب همنجواي، ولما عرف أنني أرسلتُه بالبريد، ذكر أنه كان بإمكاني أن أسلِّمه إلى وكيله بالقاهرة. ثم كتب عقدًا قصيرًا بيني وبينه بشأن ترجمة الكتاب، وحدَّد لي أجرًا قدرُه مائة جنيه مصري؛ وأعطاني ورقةً موجهة لوكيله بالقاهرة ليُعطيَني مكافأة الترجمة. وكان لقاءً ودودًا، بدا فيه الدكتور إدريس في أبهى حالاته، وتوافد زوَّار على مائدته، ومنهم مرسي سعد الدين الذي قام بالتدريس لنا فترةً من الوقت في قسم اللغة الإنجليزية. وقد أخبَرني الدكتور إدريس أنه قد حصَل على حقِّ نَشْر رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ في لبنان، وهي الرواية الممنوعة من النشر في مصر، وأنه سيُصدِرها قريبًا من دار الآداب، وطلب مني أن أكتب مقالًا نقديًّا عن الرواية يواكب النشر، ووعَدتُه بذلك. وقد ذكَر لي أيضًا أنه ما زال يدرُس نَشْر رواية صورة الفنان لجويس عن الدار.

واستأذنتُ من الحضور، ورُحتُ من فوري إلى وكيل دار الآداب؛ حيث قدَّمتُ له ورقة الدكتور إدريس، وأعطاني مائة جنيه. وكنتُ سعيدًا جدًّا بهذه الصفقة، رغم إدراكي قلة المكافأة التي حصَلتُ عليها، ولكني كنتُ أنظر إلى الإنجاز الأدبي بنَشر أول كتابٍ لي. وأمضيتُ وقتًا رائعًا في انتظار صدور الكتاب، وراقَتني متابعة الإعلانات عنه في مجلة الآداب مقرونًا باسمي، وأخذتُ أرتِّب، فيمَ أصرف المائة جنيه؟ وكنتُ قد أعطيتُ خمسة جنيهات لكلٍّ من علي وعاطف لمعاونتهما لي. وفكَّرتُ في شراء رفوفٍ للكتب لترتيب حجرتي، وشراء ملابسَ جديدة. ورسمتُ مشاريعَ عريضة جميلة، أعادت إلى ذاكرتي ما فعلَه ستيفن ديدالوس حين ربح، وهو تلميذ، أول جائزةٍ مالية له، وطريقةَ صَرفه لها، وسرعان ما تبخَّرت المائة جنيه.

وأطبقَت علينا الأحداث السياسية في منتصف مايو من ذلك العام، بالتعبئة الحربية والتوجُّه إلى سيناء في مظاهرةٍ عسكرية، بعد أن تواتَرَت الأنباء بحشودٍ إسرائيلية على حدود سوريا، ثم طلبَت مصر سحب القوات الدولية من مضائق تيران؛ حيث علم المصريون، آنذاك فحسب، أن السفن الإسرائيلية كانت تمُر في المضائق، طبقًا لاتفاق السلام عام ١٩٥٧م، بعد العدوان الثلاثي على مصر، ولكن القوات الدولية انسحبَت من سيناء كلها، تاركةً إسرائيل أمام مصر، مع إغلاق مصر لمضائق تيران أمام إسرائيل.

وكنا نُناقِش في لقاءاتنا هذا الوضع الخطير، ولم يكن أحدٌ يتوقع أن تنشَب الحرب؛ حيث كانت المفاوضات ما تزال على قدمٍ وساقٍ لحل المشاكل التي ترتَّبَت على هذا الوضع. وتأزَّمَت الأمور، وعقَد جمال عبد الناصر مؤتمره الصحفي الشهير الذي تحدَّى فيه الجميع، وأعلن عدم التراجُع عن أي قرارٍ تم اتخاذه. وقد أثار عجبي المستوى الضعيف الذي ظهَر به المسئول عن تلقي الأسئلة والتنسيق بينها، وقلة محصوله من إجادة الحديث والترجمة. وأصبح الوضع العسكري الخطير حديث الجميع. وأذكُر في جلسةٍ جمعَتْني مع عدد من الأصدقاء في جروبي سليمان، أن ذكَر أحد الأصدقاء العارفين أن هناك مائة غواصةٍ نوويةٍ روسية قد وصلَت إلى البحر الأبيض! عندها قلنا إنه لو صَحَّ هذا الحديث، فهي نهاية إسرائيل قد حانت أخيرًا، بعد كل الوعود التي سمعناها من قادتنا. وأصبحنا في انتظارٍ مترقب لنصرٍ سريع.

واستعدَّت البلاد للحرب، وبدأ طلاء النوافذ باللون الأزرق، وإجراء تجارب الغارات الجوية لقياس استعدادات الدفاع المدني. وفي أحد الأيام، في الثامنة والنصف صباحًا، أعلَنوا عن تجربة غارة في مقر وزارة التعليم العالي في جاردن سيتي حيث نعمل. ونزلنا جميعًا إلى قاعة المسجد في أسفل المبنى بوصفها المخبأ، وكان معنا وكيل الوزارة وكبار الموظَّفين. وجلسنا جنبًا إلى جنب نتحدَّث، بينما الفتيات والسيدات يتضاحكن فيما بينَهن. وسمعنا صوت انفجاراتٍ بعيدةٍ مكتومة، فتصوَّرنا أنها جزءٌ من تدريبات الغارات الوهمية في جهاتٍ أخرى من القاهرة … ولكن … كان اليوم هو ٥ يونيو ١٩٦٧م. وحين بدأ الهمس بين الموجودين بأن هناك غاراتٍ حقيقية، وأن الحرب قد بدأَت، أسرع كل واحدٍ إلى الخروج عائدًا إلى مكتبه.

وجلستُ إلى مكتبي وحولي زملائي نترقَّب الأنباء. وكنتُ أتوقُ إلى لحظةٍ أكون فيها وحدي كي أتصل بنشوى. وفي أول فرصةٍ اتصلتُ بها، وكانت في صدمةٍ مما حدث، وذكَرَت أنه من المستحيل اللقاء اليوم أو الأيام التالية حتى ينجلي الموقف، وأنهم في عملٍ دائب في الإذاعة والتليفزيون. وتقبَّلتُ ذلك في هدوء؛ فالظروف طارئة وصعبة، ولا نعرف ما ستكون عليه الأمور. وأخذ بعض الزملاء يصيحون بما يسمعونه من الراديو: «أسقطنا عشرين طائرة. حرَّرنا جبل المكبر داخل الأرض المحتلة.» وخرج زميلٌ لنا معروف بصمته ورزانته إلى الشرفة المطلة على الطريق وصاح: «النصر لنا.» وجلستُ أرقُب ما يحدث من حولي. وأخذ الموظفون يُلملِمون حاجياتهم ويخرجون عائدين إلى منازلهم ليطمئنوا على أُسرِهم. وبعد قليل، خرجتُ أنا أيضًا. ولم أجد جديدًا في الطريق سوى بعض الشبان الذين يوقفون السيارات ويَطْلون مصابيحها باللون الأزرق من جرادلَ يحملونها. وعُدتُ سائرًا إلى المنزل وأنا أسمع دَوِي انفجاراتٍ بعيدة. ووجدتُ والدتي يملؤها القلق، فذكَّرتُها أنها حرب، ولكني طمأنتُها بأننا بعيدون عن مراكز العمليات، وأن الحرب حربٌ ولا بد من احتمالها. ولم أتمكَّن من سماع محطاتٍ أجنبية، فظلِلْتُ مع التهليل لانتصاراتنا التي كانت إذاعاتنا تُبشِّر بها. ورجوتُ أن يكون ذلك حقيقيًّا.

وظل الحال مستمرًّا كذلك طَوال اليومَين التاليَين، وإن كان البعض قد بدأ يتهامس بما سمعَه من المحطات الأجنبية، بأنه قد تم تدمير الطيران المصري بكامله في الساعات الأولى للحرب، وأن إسرائيل تتقدَّم على جبهة سيناء بينما الجيش المصري ينسحب. بيد أنني كنتُ في عالمٍ آخر. في يوم ٦ يونيو، ذهبتُ إلى وسط البلد وشاهدتُ بعض الغوغاء يقودون رجلًا يقولون إنه جاسوس. وكنتُ على موعد لإجراء بروفة للبدلة الجديدة. وكان الترزي باديَ القلق، ويُتمتِم بآياتٍ قرآنية وهو مغموم، بينما أنا أنبِّهه إلى تقصيرٍ هنا وتطويلٍ هناك. ولا بد أنه تعجَّب من برودي وعدم اكتراثي. كنتُ أركِّز على البدلة، متخيلًا ما ستقوله نشوى حين تراها.

ثم بدأَت التقارير العسكرية التي تُصدِرها القيادة تتناقض في مضامينها ومع ما كانت تذكُره من انتصارات. وأذكُر أني كنتُ في وسط البلد أيضًا، حين رأيتُ الناس ملتفين حول الراديو في الطريق وهو يعلن عن دوران المعارك في خط الانسحاب الثاني. وكان الناس مذهولين، ثم سمعنا أن مصر قد وافقَت على وقف إطلاق النار الفوري دون شروط. وأخيرًا، سمعنا أن القوات الإسرائيلية في طريقها إلى الضفَّة الغربية من قناة السويس، وأنها تُطارِد الجنود المصريين أمامها. وتم الإعلان عن خطابٍ مهمٍّ سيُلقيه الرئيس جمال عبد الناصر مساء يوم ٩ يونيو. وكانت والدتي عند الجيران حين جلستُ أستمع للخطاب في التليفزيون. وهالَني ما سمِعْت. وعجبتُ أن يظهر ليقول ما يقول وهو في كامل أناقته، بالياقة والأساور المنشاة، ويعلن في أتم هدوء هزيمتَنا في الحرب؛ لأنه كان يتوقَّع هجوم إسرائيل من الشرق، ولكنها هجمَت من الغرب. وأضاف تحمُّلَه للمسئولية كاملة، وتنحِّيَه عن الحكم ليخلُفه زكريا محيي الدين في الرئاسة.

وحالما انتهى خطاب الرئيس، فوجئنا بانفجاراتٍ مدوية تهز القاهرة وترجُّها رجًّا. وأقبلَت والدتي عَبْر الشارع وهي تبكي، ولكني وجدتُ كثيرًا من سكان الحي وقد خرجوا من تلقاء نفسهم يهتفون لعبد الناصر ويتجهون لمنزله لمطالبته بعدم التنحي. وهذه شهادةٌ أقدِّمها من واقع ما عشتُه ورأيتُه بنفسي. قد تكون بعض التنظيمات قد حشدَت رجالها بعد ذلك لهذا الغرض، ولكن سبق كل ذلك الانطلاقة التلقائية الفورية لأفراد الشعب العاديين بعواطفهم الجيَّاشة لمساندة رئيسهم في محنته.

وكان اليوم التالي يوم فوضى عارمة في القاهرة كلها. ومشيتُ كالعادة إلى العمل، ورأيتُ ميدان التحرير يمُوج بالجنود الهائمين على وجوههم، وبالجماهير الزاحفة إلى مجلس الأمة للمطالبة ببقاء عبد الناصر. وفوجئتُ بشارع القصر العيني ممتلئًا بالجماهير المتلاطمة، وأخذَت الهستيريا تُسيطِر عليهم، حتى إن رجال الأمن اضطُرُّوا إلى إلقاء الغازات المسيلة للدموع في محاولةٍ لتفريقهم. وقد أصابَتْني تلك الغازات وشعَرتُ بأثَرها الحارق في عيني وتنفُّسي، وأسرعتُ مع آخرين إلى الدخول إلى إحدى عمارات الشارع نحتمي داخلها من تلك الغازات. ووضعتُ منديلي فوق أنفي. وكانت تجربةً مريرة.

وفي المكتب، اتصلتُ بنشوى وأصرَرتُ على لقائها، وتقابلنا في محطة باص بالمنيل؛ حيث توجَّهنا إلى كازينو هناك على النيل اعتدنا أن نلتقي فيه. لم يكن هناك أحد، نظرًا للظروف التي تمُر بها البلاد، ولكني كنتُ أركِّز على لقائي بنشوى بعد مُدةٍ لم أرَها فيها. وحدَّثَتني عن أثَر النكبة العسكرية في الوسط الإعلامي، فسألتُها عن أخبار انتقالها من التليفزيون فأجابت أن كل هذه الأمور الإدارية متوقفةٌ الآن. وزاد هذا من انشغال بالي وعصبيَّتي. وكنا أحيانًا نتبادل القبلات في ذلك المكان المُستَتِر، ولما حاولتُ ذلك صدَّتني في حدة، مما زاد من إصراري حتى تمكَّنتُ من تقبيلها، وكنتُ أعلم أنها تذوب من قبلاتي وما زاد قليلًا عن القبلات، ويلين عنادها، بعد أن تستعيد أيامنا الجميلة قبل أن تعصفَ بها الشكوك والمشاكل. وحدَّثتُها عن قرب ظهور كتابي المترجَم عن همنجواي، وأنني سأهديها نسخةً منه. وبعد أن تمازحنا قليلًا على طريقتنا، وعدَتني أنها سوف تُتابِع طلَب نقلها وتُحاوِل تحريكه. كما ذكَرَت لي أنها تنوي التقدُّم لامتحان وزارة الخارجية الذي سيُعقَد في الخريف لاختيار دبلوماسيين جُدد. وقمنا ونحن متصافيان، على وعدٍ بالاتصال لتحديد موعد لقائنا القادم.

وتوجَّهتُ بعد ذلك بصعوبةٍ إلى وسط البلد للقاء أصدقائي، وجلستُ في إيزافيتش بميدان التحرير، وكان معي الصديق الذي ذكر واقعة المائة غواصةٍ نووية. وشاهدنا أعدادًا من الجنود يهيمون دونما وجهة، بينما أفراد البوليس الحربي يفحصون أوراقهم. وقال الصديق نفسه إن هذا هو يوم سقوط عبد الناصر، وإن عليه أن يرحل ويُسلِّم المسئولية إلى آخرين. وابتسمتُ حين سمعتُ ما يقوله؛ فهو ينقل أخبارًا مختلفة كل يوم، ويبدو أنه يعني بالآخرين الشيوعيين. وسرعان ما جاءنا من راديو المحل نبأ موافقة الرئيس على البقاء تحت ضغط الطلب الشعبي، وذلك للعمل على إزالة آثار هذا العدوان. وقد تلا ذلك ما هو معروف من عدم عودة عبد الحكيم عامر، وبدء إعداد البلاد كيلا يعلو أيُّ صوتٍ فوق صوت المعركة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤