في ربوع الأندلس

كان سفري يوم ١٢ أغسطس ١٩٦٩م. وصباح ذلك اليوم، كنتُ قد جهَّزتُ كل شيء. وعانقتُ والدتي مودعًا، بينما اصطحبَني أخواي في التاكسي إلى المطار. وخالجَتْني مشاعرُ عديدة؛ فها أنا — دون قصد — أذهب للعمل في المعهد المصري في إسبانيا، الذي يتصارع الكثيرون على الانتداب للعمل فيه. وكنتُ متهيبًا الموقف؛ فهذه أول مرة أخرج فيها للعمل خارج القاهرة، وأول مرة أقيم بمفردي. كما أنني كنتُ سأعمل مع مديرٍ جديد، وسنتسلَّم المعهد من المدير السابق ومساعده بعد أن قضَيا سنواتٍ عديدةً في العمل هناك، مما سيجعل مهمَّتنا أكثر صعوبة. ورغم أن المدير المعيَّن أستاذٌ مشهور في الفنون الجميلة، فهو سيخلُف أستاذًا متخصصًا في التاريخ الإسلامي والأندلسي، ولا ندري كيف سيكونُ عمل المدير الجديد. ولكني طرحتُ التفكير في هذه المشاكل جانبًا حتى حين.

بدا المطار مهجورًا، ومعظم المسافرين من الأجانب. وتوجَّهنا إلى مكتب الجوازات حيث أنهيتُ فحص الأوراق وختم الجواز، ثم إلى مكتب شركة مصر للطيران التي كانت تقوم بتسفير كل موظَّفي الحكومة أيامها. وكان خط سَيْري هو القاهرة – روما على مصر للطيران، ثم روما – مدريد على خطوط إيبيريا الإسبانية. وشحَن العمال حقيبتيَّ، ولم يكن معي نقودٌ مصرية لإعطائهم أيَّ بقشيش؛ وحملتُ حقيبة اليد الفرعونية معي إلى صالة الانتظار. ومع قلقي وخشيتي من ركوب الطائرة، رأيتُ أن أحسن حل للتغلب على ذلك هو الاستغراق في قراءة كتابٍ شيِّق؛ لذلك رجعتُ إلى أصولي وحملتُ معي روايةً بالإنجليزية لم أكن قد قرأتُها لأجاثا كريستي، ثم اصطفَفنا في نوعٍ من الفوضى لركوب الباص الذي سيحملنا إلى الطائرة، وأظن أنها كانت من نوع الكوميت. وصَعِدنا سُلم الطائرة في هَرْولة، وفي الداخل كان المسافرون يجلسون كيفما اتفق، فحرَصتُ على أن أجلس في مقعدٍ بعيد عن النافذة. ولفَت نظري عدم الاكتراث الذي يبدو من المضيفات، بينما أحد المضيفين الشبان يصيح بلهجةٍ مضحكةٍ لا معنى لها Welcome, Welcome.

وتحرَّكَت الطائرة، ومع ارتفاعها حاولتُ أن أتشاغل بالقراءة، ولكني كنتُ أشعُر برهبةٍ شديدة. وبعد أن اتخذَت الطائرة مسارها ورُفعَت القيود وسُمح بالتدخين، ظلِلتُ متصلبًا في مقعدي لا ألتفتُ يمينًا ولا شمالًا، وأقرأ أحيانًا، ولكن، حين أعلن قائد الطائرة بعد قليل أننا نطير فوق الإسكندرية، لم أستطع أن أمنع نفسي من الالتفات تلقائيًّا نحو النافذة. ورأيتُ ما ظننتُه الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية، طريقًا رماديًّا من الأسفلت الأملس. وهدأَت نفسي، وأخذتُ أتطلَّع إلى مَن حولي من الركاب. ومع تدقيق النظر مراتٍ عديدة إلى ما ظننتُه الطريق الصحراوي، اكتشفتُ أنني ما كنتُ أنظر إلا إلى جناح الطائرة!

ومع مرور الوقت، وتوزيع المشروبات والطعام، أصبحَت مشاعري طبيعية، وتبادلتُ مع الراكب الجالس إلى جواري إلى جانب النافذة بعض الحديث بالإنجليزية، وكان إيطاليًّا عائدًا إلى بلاده. وحين هبطَت الطائرة بسلام في مطار روما، حمِدتُ الله، وشعَرتُ بسعادةٍ غامرة؛ لأني أطأ لأول مرةٍ أرضًا أوروبية. واحتملتُ حقيبة اليد، وتتبَّعتُ الأسهم واليافطاتِ التي تقود إلى مكان ركاب الترانزيت حتى وصلتُ إليه. وكان منظرًا مدهشًا، مغايرًا تمامًا لصالات الانتظار في مطار القاهرة، وكأني قد انتقلتُ نقلة محجوب عبد الدايم في القاهرة ٣٠ حين دخل إلى محفل الأثرياء! كل شيء يبرق، والناسُ يروحون ويجيئون في نشاط وحبور، والشباب يتعانقون في حرية ولا أحد يكاد يلتفت لهم، والكل حر فيما يلبس ويفعل في حدود شخصه. وتجوَّلتُ في أنحاء الصالة أبحث عن مكتب إيبيريا لتأكيد الحجز. ووقع بصري في هذه الأثناء على مكتب شركة العال الإسرائيلية إلى جوار مكاتب الشركات الأخرى، فانتابَتْني رعدة؛ فقد كانت أول مرة أرى شيئًا إسرائيليًّا، وحاولتُ الابتعاد عنه تلقائيًّا، بينما أنا أرمقُه بطَرْف عيني لأرى هذا الشيء الذي شكَّل لنا نحن العرب هذا القَدْر من الغرابة والكراهية. وتقدَّمتُ إلى مكتب إيبيريا، وأكَّدتُ تذكرتي إلى مدريد. وكانت طائرتي ستُقلِع بعد حوالي ساعتَين، فانتهزتُها فرصةً لمشاهدة كل ما حولي؛ فأنا في روما بعد كل شيء! وتطلَّعتُ إلى ساحات الانتظار في الخارج، وكلها مكتظة بسيارات الفيات الصغيرة جدًّا، وطفتُ بالمحلات التي في الصالة، وشاهدتُ السلع المُغرِية الجميلة دون أن أجرؤ على شراء شيء؛ فقد خرجتُ من مصر وليس معي سوى عشرين دولارًا فقط، حسب اللوائح المالية، فكنتُ حريصًا على الإبقاء عليها للطوارئ إلى حين وصولي إلى مقر عملي. ومن المناظر التي تركَت عندي انطباعًا كرمزٍ للغرب الذي سأعيش فيه زمنًا، فاتنةٌ في ثوبٍ أصفرَ قصيرٍ جدًّا، وهي تصعَد على السلم الكهربائي إلى الطابق الأعلى من الصالة. وتذكَّرتُ كيف عاد أحد أصدقائي في القاهرة أدراجه ونحن نسير في شارع قصر النيل ليرى فتاةً أجنبية ترتدي الميكروجيب!

ونادت الميكروفونات على ركاب الطائرة الإسبانية، فدخلتُ مع الداخلين، وفي هذه المرة أجلسَتْني المضيفة حسب رقم مقعدي. ووجدتُ الطائرة صغيرة الحجم، أظن أنها من طراز دي سي ۹؛ فقد كانت المسافة قصيرة بين إيطاليا وإسبانيا، ولكنها كانت ممتلئةً بالسائحين، ومن تفحُّصِهم أدركتُ أن معظمهم من أهل شمال أوروبا، الذين يُهرَعون إلى إسبانيا طلبًا للشمس التي تمنحهم بشرةً برونزية على الشواطئ الإسبانية، التي عرف الإسبان كيف يُسوِّقونها ويُعلِنون عنها، حتى أصبحَت إسبانيا تتنافس مع فرنسا على المرتبة الأولى في عدد السياح. وساعد إسبانيا في ذلك رخص الأسعار النسبي الذي كانت إسبانيا ما تزال تتميز به عن بقية دول أوروبا.

وفي تلك المرة، بعد أن تعوَّدتُ على الطيران (!)، لم أشعُر بالرهبة التي شعَرتُ بها سابقًا، خاصة وأنني كنت وسط آياتٍ ساطعات من الجمال الباهر الذي شغلَني عن التفكير في الإقلاع والهبوط. ورغم أن الهبوط كان مزعجًا حين لامسَت عجلات الطائرة الأرض، فقد انتهى الأمر على خير، وخرجتُ مع الخارجين إلى مكان استلام الحقائب. وفوجئتُ عند دخولي رَدْهة الصالة بوجود مدير المعهد المصري — الذي كنتُ أعرفه بسيماه — في انتظاري مع مساعده الأستاذ سويسي. وقد تأثَّرتُ بذلك جدًّا، وقدَّمتُ له نفسي، ذاكرًا أنه ما كان له أن يُزعِج نفسه بالقدوم بنفسه لاستقبالي. واصطحَباني إلى حيث تناولتُ حقيبتي، وخرجنا من الجمرك في لحظات. وركبنا عربة الأستاذ سويسي، وانطلَقنا إلى الفندق الذي حجَز لي فيه.

وكان أول ما لفَت نظري بعد أن تجاوزنا طريق المطار هو أن الطرق التي أراها هي نفس الطرق، والمباني هي نفس المباني. أهذه هي أوروبا إذن؟! وطبعًا كان هذا ردَّ فعلٍ صبيانيًّا أوليًّا؛ فما كان لي أن أتوقع مبانيَ وطرقًا مختلفة؛ فالاختلاف هو في الحضارة والثقافة، إلى جانب التقدم العلمي طبعًا. وتبادلتُ بعض الحديث مع المدير ومساعده، الذي ذكَر أنه قد حجَز لي غرفةً في فندق «إمبراتريث» (الإمبراطورة)، فقال المدير إنه فندقٌ غالٍ، ويجب ألا أمكُث فيه طويلًا، وطلب من السويسي أن يجد لي «بنسيونًا» إلى أن أعثُر على شقةٍ مناسبة. ووصلنا إلى الفندق، في شارعٍ أنيقٍ هادئ، وأوصلَني السويسي إلى حجرتي مع عامل الفندق، وذكَر لي أنه سيمُر عليَّ غدًا في التاسعة صباحًا بعربته أمام الفندق، ويصطحبني إلى المعهد لأتسلَّم عملي. وشكَرتُه كثيرًا على كل ما فعله.

وحين أصبحتُ وحدي، أخرجتُ بعض الملابس وعلقتُها في الدولاب، ثم غسلتُ وجهي في الحمام الملحَق بالغرفة وتمدَّدتُ للراحة بعض الوقت. وبعد قليل، غيَّرتُ ملابسي، ونزلتُ إلى بهو الفندق، وطلبتُ تغيير عشرة دولارات إلى البيزيتة (البسيطة) الإسبانية. وبعد أن أتممتُ المبادلة، خرجتُ من الفندق لأرى مدريد. وكانت معي خريطةٌ صغيرة لمدريد وجدتُها في حجرتي، فاخترتُ نفس الشارع الذي يقع الفندق فيه لأسير عَبْره حتى أصل إلى الميدان الرئيسي في مدريد المسمى «باب الشمس»، ثم أعود من الشارع نفسه، حتى لا أضلَّ الطريق. وأعجبَتْني النظافة التي تتبدَّى في كل شيء من حولي، والمحلات الصغيرة الأنيقة، كما سعِدتُ بمروري على عدة نوادٍ للشباب — دسكوتيك — تنبعث منها الموسيقى الصاخبة، والتي ذكَّرَتني بكهوف الوجوديين التي وصفها أنيس منصور في كتاباته. وواصلتُ السير وأنا في نشوةٍ غامرة؛ فلأول مرة أشعُر بأنني حرٌّ طليق من أي قيد، وأنني وحدي، مستقل بنفسي، ليس من أحدٍ يتابع تصرُّفاتي أو ينتقد أفعالي.

وعبَرتُ في طريقي عددًا من الكافيتيريات الصغيرة التي تضع بعض الموائد والمقاعد أمامها في الخارج، وكلها تمُوج بالشبَّان والفتيات الذين يتحادثون ويشربون في مرحٍ وانطلاق. وواصلتُ السير حتى وصلتُ إلى شارعٍ رئيسي فيما يشبه وسط البلد، يزخر بدور السينما والمطاعم والمشارب، كله شُعلاتٌ مضيئة من النور الساطع، ويمُوج بالخلق من كل نوعٍ وصنف. واجتزتُه محافظًا على طريقي إلى أن بلغتُ الميدان الرئيسي؛ باب الشمس، قلب مدريد. وتطلَّعتُ إلى الشوارع المتفرِّعة منه دون أن أدلُف إلى أيٍّ منها، وشاهدتُ في أحد هذه الشوارع مبنًى ضخمًا عليه لافتة El Corte Inglés أي «الطراز الإنجليزي»، ففرحتُ جدًّا إذ ظنَنتُ أنه مركزٌ لبيع البضائع الإنجليزية، بما فيها الكتب! ثم عُدت أدراجي من نفس الشارع الذي جئتُ منه إلى أن وصلتُ بسلام إلى الفندق، فصَعِدتُ إلى غرفتي، وأكلتُ بعض البسكويت الذي كنتُ قد ملأتُ به حقيبة يدي، ثم تهيَّأتُ للنوم.

وفي الصباح؛ أول صباح لي في مدريد، استمتعتُ بوحدتي في السكن، فاستحممتُ وحلقتُ ذقني في استرخاء، وارتديتُ ملابسي وخرجتُ أنتظر السويسي أمام الفندق. ولم يطُل بي الوقت؛ فقد سمعتُ من ينادي باسمي، فوجدتُه في عربته على مبعدة، فهُرعتُ إليه، وركبتُ إلى جواره وأنا أحيِّيه تحية الصباح. وخرج بالعربة إلى شارعٍ رئيسيٍّ فسيح ذكر لي أنه شارع «الكاستيَّانا» الذي يتفرَّع منه شارع لا هافانا، وعلى ناصيته معهدُنا العتيد. وفي دقائقَ كنا أمام مبنًى ذي طرازٍ عربي جميل، فعرفتُ أننا قد وصلنا. ودخلتُ مع السويسي، الذي قدَّمني إلى البواب «فكتور» بوصفي الموظَّف الجديد، فحيَّيتُه بالإسبانية، وصَعِدنا إلى الطابق الثاني الذي يضُم المكاتب. ويتكوَّن المعهد من أربعة طوابق، وبدرومٍ كبير يسكُن فيه البواب. والطابق الأول هو رَدهة الاستقبال، بينما الثاني لمكاتب الموظَّفين، والثالث للمكتبة وقاعة المطالعة، والرابع لمسكن المدير. وكان هناك مبنًى للمطبعة في الطابق الأول منفصلًا عن مبنى المعهد، وتحيط بالمبنى حديقةٌ صغيرة.

وصَعِدنا إلى طابق المكاتب، وبدأنا بغرفة المدير، وكان جالسًا إلى مكتبه تُحيط به الكتب من كل جانب، والغرفة كلها محاطة برفوفٍ مصطفَّة بالكتب. ورحَّب بي المدير، واستفسر عن أحوالي، فذكرتُ له أنني من تلاميذه لأني تربَّيت على قراءة كتبه، فقال لي إن هذا هو ما يُسعِده أكثر من أي شيء؛ فلا المال ولا الوظائف تُعادِل عنده أن يستفيد الناس من كُتبه. وتركَنا السويسي وحدَنا، فسألني المدير كيف تم انتدابي هنا، فقصَصتُ عليه قصة الاختبار ونجاحي فيه، فقال إن هذا هو الأصح، بدلًا من أن يقذفوا إلى المعهد أناسًا بالواسطة، وهو ما حدث منذ أشهر حين فوجئ بانتداب مدرس ثانوي إلى المعهد، وهو العضو الثقافي الآخر معي في المعهد، وإنه لا يصلُح لعمل أي شيء، وإنه جاء إلى مدريد لأنه من أقرباء أحد المسئولين الكبار، الذي حصل من رئاسة الجمهورية على الموافقة على الانتداب، وإنه هنا بحُجة علاج ابنه من الحوَل في عينه، بينما المقصد الأساسي هو أن «يعالج جيبه»! وضحكتُ من نكتة المدير ولم أعلِّق. وعندها همَس لي: ولماذا لم يأتِ المدير الجديد؟ فأجبتُ بأنه على وشك الحضور. فقال المدير: «لا أظن ذلك؛ فقد أرسلتُ طلبًا منذ فترة إلى الوزير لبقائي ستة أشهرٍ إضافية لمسائلَ شخصية، ثم أشفعتُ ذلك بطلبٍ مماثل إلى أحد المسئولين الكبار (عرفتُ فيما بعدُ أنه محمد حسنين هيكل) كي يُقيمَ عمامتي.» وهذا التعبيرُ كان يُستخدم أيام الدولة العربية والولاة. فسألتُه لماذا لم يطلب المد لفترة أطول، فأجاب ضاحكًا: «ما هي دي البداية، شوية شوية.»

وحضَر الأستاذ السويسي كي يصحبَني في جولةٍ تعريفية، فأراني حجرة مكتبه وهى تلي مكتب المدير مباشرة، ثم حجرة السكرتيرة الإسبانية، مرسيدس، وكنتُ قد سمعتُ عنها من الدكتور شعراوي، فقدَّمتُ لها نفسي متحدثًا بالإسبانية، فدهِشَت وقالت لي إني أول موظفٍ جديد يأتي عارفًا اللغة، فأجبتُ أني أعرف القليل من الإسبانية المحكية وآمل أن أتقدَّم فيها بوجودي في مدريد، ثم دخلنا إلى آخر غرفة في الصف، وبها عدة مكاتب؛ أحدها يشغله الأستاذ حسيب الذي جاء كي «يعالج جيبه»، فتعرَّفتُ عليه ووجدتُه إنسانًا هادئًا طيبًا في حاله. وجلستُ إلى مكتب بالحجرة، وجدتُ عليه بعض الكتب، منها كتاب بالإنجليزية عن شكسبير فأخذتُ أتصفَّحه في سرور. ودخل المدير فأريتُه الكتاب وأثنيتُ عليه، ثم جاء السويسي وعرض عليَّ إكمال جولة التعرُّف على بقية أنحاء المعهد، فصَعِدتُ معه إلى الطابق الثالث، وتعرفتُ على أمينة المكتبة، وهي إسبانيةٌ تُجيد الإنجليزية، وشاهدتُ قاعة المطالعة، خالية، ودخلتُ إلى أبهاء المكتبة وسُرِرتُ كثيرًا إذ وجدتُها عامرة بالكتب العربية، ثم هبطنا إلى الطابق الأرضي وخرجنا إلى الحديقة لندخُل مبنى مطبعة المعهد، ويعمل فيها اثنان من العرب المغاربة وأحد الإسبان. وشعَرتُ بالغبطة من وجود مثل هذه المطبعة، ومنَّيتُ نفسي بالغوص في المكتبة والمطبعة كلما سنحَت لي الفرصة لذلك.

وعُدنا إلى مكتب الأستاذ سويسي، وكان البواب — المراسلة، فيكتور — قد عاد من البنك، فسلَّم لي السويسي مقدَّم مرتَّبي، وكان ٢٥ ألف بيزيتة، وأمضيتُ وصلًا بالاستلام. وذكَر لي السويسي أنه يجب أن أفتح حسابًا لي في البنك، وأنه سوف يذهب معي لذلك الشأن حين أكون مستعدًّا. أما وقد حان موعد الغَداء، فقد اصطحبَني إلى الخارج لتناول الطعام بدعوةٍ منه. وتوجَّهنا إلى كافيتيريا قريبة، وتعلَّمتُ منه كيف أقرأ «المينو» وكيف أختار الطعام. وقال لي إن أفضل شيءٍ للأكل في خارج المنزل هو في مثل هذه الكافيتيريات التي تُقدِّم الإفطار والغداء، وإن هناك ما يُسمَّى «الأطباق المُشكَّلة» platos combinados هي الأحسن والأرخص. وطلبتُ طبقًا من هذه وكان جيدًا، وطفِقنا نتكلم على الأكل. شرحتُ للسويسي ظروف انتدابي، وأني جئتُ عن طريق امتحان بدون واسطة، وأني كنتُ أريد الذهاب إلى لندن أو واشنطن حيث لغتي الأولى. وكنتُ أذكر ذلك بصفةٍ اعتذارية من أننا سوف نأخذ المعهد منهما، وكان واضحًا أنهما — هو والمدير — في غاية الحزن من انتهاء نَدْبهما إلى إسبانيا، ولكن السويسي قال لي إنني سوف أحب إسبانيا جدًّا، وإنها أفضل لي من أي بلدٍ آخر. وقد تآلفنا أنا والسويسي من اللحظة الأولى، وقضينا أوقاتًا طيبة إلى أن غادر مدريد إلى القاهرة.

وسألتُ السويسي عن المواصلات القريبة، فشرح لي موقف الباص ٧ القريب من المعهد، والذي يصل إلى شارع خوسيه أنطونيو في وسط البلد قريبًا من باب الشمس، ولكنه قال لي إنه يأخذ الأستاذ حسيب معه عند انتهاء العمل لأنه يسكن قريبًا منه، وإنه سيأخذني اليوم معه ويتركني في وسط البلد. وعُدنا إلى المعهد، ولاحظتُ أن كتاب شكسبير قد اختفى من على المكتب الذي جلستُ عليه، وكان هذا بداية معرفتي بالوجه الآخر لمدير المعهد!

وركبتُ مع السويسي وحسيب العربة التي انطلقَت بنا في طرق مدريد الجميلة، وكنتُ أتطلعُ إلى كل شيء محاولًا احتفاره في داخلي بطزاجته قبل أن أتعوَّد عليه. وقال لي السويسي إنه سيتركني في ميدان ألكالا (القلعة) وهو على مسيرة دقائق من باب الشمس، وكانت معي الخريطة فوافقتُه. ووقفتُ في الميدان الفسيح مبهورًا بمنظره؛ ففيه تمثال الدُّب رمز مدريد في دائرة تخرج منها نافورةٌ جميلة. ولمَّا كان مركز البريد الرئيسي في هذا الميدان، قرَّرتُ زيارته، وهناك اشتريتُ بعض البطاقات السياحية البريدية، وكتبتُ أولاها إلى والدتي أطمئنها عليَّ، وأرسلتُها بعد أن سألتُ عن الطوابع المطلوبة لمصر، ثم نظرتُ في خريطتي، وتوجَّهتُ إلى باب الشمس. وهناك، طُفتُ على الميدان كله، أتطلع إلى المحلات والناس، إلى أن رأيتُ أول مكتبة في طريقي. ورُحتُ أتطلع إلى العناوين الموضوعة في الفترينة. كلها بالإسبانية. كتبٌ مشهورة مترجمة إلى الإسبانية. التحدي الأمريكي. قرأتُه بالعربية. ونظرتُ إلى داخل المكتبة. وجدتُ الزائرين يطوفون بالكتب المعروضة دون أن يعترضَهم أحدٌ بالسؤال كما يحدُث في مصر. فتشجَّعتُ ودخلتُ إلى المكتبة ووقفتُ أطالع عناوين الكتب في أول طاولة. كانت الإصدارات الحديثة. كل طاولة عليها بطاقة تحدِّد نوع الكتب التي عليها. وبدأتُ بالكتب المترجَمة لأني أعرفها، ووجدُت أن الإسبان يتابعون كل الكتب الأجنبية المهمة بترجمتها إلى لغتهم على الفور، فرأيتُ ترجماتٍ إسبانية لمعظم الروايات المشهورة والحديثة كذلك. وتهلَّلَت نفسي؛ إذ وجدتُ ترجمةً إسبانية لمسرحية هملت، وكنتُ قد حمَلتُ النسخة الإنجليزية معي، فقرَّرتُ شراء الترجمة الإسبانية لأتمرَّن فيها على اللغة المكتوبة؛ حيث إنني كنتُ أكاد أحفظ المسرحية الأصلية. وتعجَّبتُ أنني لم أجد كتبًا للوركا أو نيرودا، وهو ما كنتُ أحلم به من وجودي بإسبانيا، فلما تقدَّمتُ لدفع ثمن هملت سألتُ البائع عن كتبهما. وقد راعني ردُّه مع التعبير الذي اكتسى وجهه، إذ قال باقتضاب: «سنيور، نحن لا نبيع مثل تلك الكتب.» وبُهتُّ من ردِّه الذي لا أعرف له سببًا، ولكني حمَلتُ هملت وخرجتُ متعجبًا.

ودلَفتُ إلى الشارع المتفرِّع من الميدان الذي رأيتُ فيه المبنى الإنجليزي، ولكني ضحكتُ طويلًا حين وصلتُ إليه؛ فلم يكن سوى محلٍّ هائلٍ متعدد البضائع من تسعة أدوار، فدخلتُه وتجوَّلتُ فيه ورأيتُ من الأصناف ما ملأ خيالي بالمتعة والترقُّب، ولكني أجَّلتُ شراء أي شيء حتى أستقر في سَكنٍ دائم. وعُدت أدراجي إلى الفندق متتبعًا طريق الأمس. وهناك وجدتُ ورقةً بأن الأستاذ السويسي اتصل بي وسيعاود الاتصال ثانية. وحمِدتُ له ذلك؛ فلم أكن أعرف بعدُ كيف أتصل بتليفونات مدريد. وانتظرتُ مرتديًا ملابسي علَّه يريد لقائي، ولكن حين جاءت مكالمتُه قال لي إنه عَثر على بنسيونٍ مناسب لي في وسط البلد، وأرخص من الفندق، فإذا لم يكن عندي مانعٌ فإنه سيمُر عليَّ صباح غدٍ للانتقال إلى المكان الجديد. ووافقتُ بالطبع، ثم قضيتُ وقتًا ممتعًا في مقارنة هملت بالإسبانية بأصلها، وطبعًا لم يكن هناك مجالٌ للمقارنة، ولكني استفدتُ كلماتٍ إسبانيةً جديدة، وهو المطلوب. وخبَّأتُ مرتَّبي الكبير إلا قليلًا مما أريده للصرف اليومي، بين صفحات هملت الإسبانية!

واستيقظتُ مبكرًا وأعدَدتُ نفسي، ثم وضعتُ ملابسي وحاجياتي ثانيةً في الحقيبتَين، بينما أبقيتُ حقيبة اليد للأشياء المهمَّة، ومنها النقود. واتصل بي السويسي من بَهْو الفندق، وبعثَ لي بعاملٍ يحمل الحقائب إلى أسفل. وهناك دفعتُ فاتورة الفندق، وأعطيتُ العامل إكراميته بعد أن حمل الحقيبتَين إلى سيارة السويسي. واتجهنا إلى البنسيون في خمسِ دقائق، وقضيتُ الإجراءات اللازمة، ودفعتُ نفقات أسبوعٍ مقدمًا، للإقامة والعشاء، وكانت فعلًا أرخصَ بكثيرٍ من الفندق. وكما قال السويسي لي إن البنسيون أفضل لأنه سيُعرِّفني على أحوال الإسبان ويجمعُني بهم. ووضعتُ حقائبي في غرفتي المتواضعة، ونزلنا متجهَين إلى المعهد. وهناك وجدتُ المدير المنقول في انتظاري لأقوم بأول عملٍ لي؛ إذ قال لي إن أحد الدارسين المصريين قد اتصل بالمعهد يسأل عن أوراقه، وهل وصلَت من إدارة البعثات أم لا، وطلب مني أن أتصلَ به وأبلغَه أن الأوراق لم تصل، وأننا سوف نُرسِل استعجالًا لها. وعجِبتُ لماذا لم يكلِّمه هو. كان مشهورًا عن ذلك المدير أنه لا يُرحِّب بإيفاد مبعوثين مصريين للدراسة في إسبانيا، مفضِّلًا عمل المعهد بالدراسات الأكاديمية والأندلسية، ولم يَزِد عدد الدارسين في عهده على أفرادٍ معدودين.

وكان الدارس هو «الدكتور» أحمد يونس، ابن الدكتور عبد الحميد يونس أستاذ الأدب الشعبي الذي قرأنا له وتتلمذنا عليه. وسَعِدتُ بأنني سأتحدث إلى الابن، فطلبتُه وقدَّمتُ له نفسي فرحَّب بي، ولكنه فقد صبره من تأخُّر إدارة البعثات في البتِّ في طلبه أن يُوضَع تحت الإشراف العلمي لمكتب البعثات في مدريد، وهو جزء من المعهد ذاته، ولكني طمأنتُه بأنني سأتولى هذا الموضوع بنفسي، ووعدتُه بالاتصال به حال وجود أي جديد في موضوعه.

وتبادلتُ بعض الحديث مع مرسيدس، سكرتيرة المعهد، وسألتُها أين أجد مؤلفات لوركا ونيرودا، وضحكَت حين قصَصتُ عليها الرد الجافي في المكتبة بالأمس، فشرحَت لي أن المكتبات — كما الناس في إسبانيا — منقسمون إلى فريقَين عامَّين؛ المحافظون الذين يناصرون فرانكو والكنيسة، وهؤلاء يُبعِدون من مكتباتهم أيَّ مؤلفاتٍ فيها شبهة الليبرالية، ناهيك عن الاشتراكية والشيوعية. والفريق الثاني هم الليبراليون مناصرو الجمهورية، ومكتباتُ هؤلاء فيها الكتب المتحرِّرة. ومع بعض الانفتاح في نظام فرانكو سُمح بدخول وبيع كتب الفريق المُعارِض لمن يريد. وأحيانًا تجري مهاجمة تلك المكتبات الليبرالية وتخريبها. وقالت مرسيدس إنني سأجد ما أريد من مؤلفات لوركا ونيرودا في تلك المكتبات، وأشارَت عليَّ بالتوجُّه إلى شارع سان برناردو المتفرع من جادَّة خوسيه أنطونيو؛ ففيه معظم مكتبات وسط البلد. وشكَرتُها وتذكَّرتُ شارع الفجالة في القاهرة.

وما إن انتهى وقت العمل حتى أخذتُ الباص ٧ إلى وسط البلد، وسِرتُ قليلًا لأبلغ شارع الكتب. وبالفعل كان مليئًا بالمكتبات، وكنتُ حَذِرًا هذه المرة؛ فلم أدخل مكتبةً إلا بعد أن وجدتُ في نافذتها بعض كتب نيرودا. وحين دلَفتُ إلى الداخل انفتحَت لي مرةً أخرى كنوز علي بابا الثقافية. وجدتُ كثيرًا من كتب لوركا ونيرودا مطبوعةً في سلسلة لوسادا بالأرجنتين، وتعرَّفتُ على كُتب لويس ثرنودا ورفاييل ألبرتي وخورخي جيين، وكنتُ أعرفهم بالاسم، وابتهجتُ لرؤية كتب خوان رامون خيمينيث الذي عرفناه بكتاب حماري وأنا، وأونامونو الذي قدَّمه لنا الدكتور عبد الرحمن بدوي كفيلسوفٍ وجودي. ثم رأيتُ عشراتٍ من الكُتب والمؤلِّفين الذين لم أسمع بهم من قبلُ؛ ولهذا فقد بحثتُ عن كتابٍ مختصَر عن تاريخ الأدب الإسباني حتى أيامنا هذه؛ فقد تعلَّمتُ أن معرفة الإطار العام لأدب لغةٍ ما مهم جدًّا في وضع خطة التعرُّف على ذلك الأدب وقراءة ما هو أساسيٌّ فيه. ووجدتُ هذا الكتاب فاشتريتُه مع كتاب يحتوي على مختاراتٍ شعرية للوركا، وآخر لنيرودا عنوانُه «عشرون قصيدة حب وأغنية يأس». وخرجتُ سعيدًا بحِمْلي واكتشافي هذه المكتبات وهذا الشارع «الفجَّالي».

وعُدت إلى بنسيوني الصغير لأتعشَّى وأستكشف الكتب التي معي. وكانت الحجرة قد رُتِّبَت وبدَت جميلة، ولكني لاحظتُ أن بيجامتي التي تركتُها على السرير في الصباح غير موجودة. وتحرَّكَت داخلي أوهام المصريين البسطاء، وقلتُ في نفسي أهكذا يسرقونني من أول يوم، وخرجتُ أنادي صائحًا على الشغَّالة ومناديًا: أين ملابسي؟ وجاءت فتاةٌ تعمل في البنسيون تسأل ما الأمر، فقلتُ لها إني لا أجد بيجامتي، ويبدو أنها قد سُرقَت، فضحكَت الفتاة وأخذَتني معها إلى الغرفة ورفعَت مخدات السرير، فإذا بيجامتي مطويةٌ مهندَمة تحتها! وتضرَّج وجهي خجَلًا واعتذرتُ للفتاة بأني حديثُ عهدٍ بأعرافهم وعاداتهم، فقالت لا عليك، ودعَتْني للنزول لتناول العشاء، وهو داخل في أجر البنسيون الذي دفَعتُه. وتعجَّبتُ من اختلاف العادات بين الأمم، وكيف للغريب أن يعرف ذلك، ولكنها سنة الحياة أن نمتزج وندرُس ونعرِف الآخرين، وهذا ما كنتُ أبدؤه بالفعل.

واتخذَت حياتي في مدريد نوعًا من الإيقاع؛ الإفطار في الكافيتيريا القريبة من المعهد، وسعادتي بتعرُّف الجرسونات هناك عليَّ وتحيَّتهم لي بحفاوة، مما أشعرني بأني في الطريق إلى أن أصبح مدريديًّا أصيلًا! وبدأتُ البحث عن شقةٍ مناسبة حتى أتخلَّص من العيش الجماعي الذي كان يمثِّله لي البنسيون. وفي صباح أحد الأيام بعد انقضاء عشرة أيام على مجيئي، جاء إلى المعهد «الدكتور» صلاح فضل، المبعوث للحصول على الدكتوراه. وفي الحال امتدَّت عُرى الودِّ بيني وبينه؛ فهو مثقَّفٌ واعٍ واسع المعرفة، وأحسستُ على الفور أنه من ذلك النوع من المصريين الأُصلاء الذين يقدِّمون العون دون انتظارٍ لعائد أو مردود. وطفِقنا نتناقش في أمور الأدب، وسَعِدتُ بإعجابه بلوركا، ودلَّني على قصيدة محمود درويش عنه. ولمَّا علم أنني أبحث عن مسكن وعدَني بمساعدَتي في ذلك.

وكنت في تلك الأيام الأولى أستكشف وسط البلد المدريدي، وأتحسَّس طريق التعرُّف على الإسبانيات اللائي أراهن رائحاتٍ غادياتٍ في صورة من الفتنة والجمال لم أرَها من قبلُ. وتذكَّرتُ قول الدكتور بدوي في كتابه «الحور والنور» الذي أصطحبه معي حتى الآن أينما رحلت: «وأشهد.. لقد طوَّفتُ ما طوَّفتُ في مغاني الجمال فما عثَرتُ على مثل هذا القَدْر المتجمِّع من الجمال والإغراء. كم تأمَّلتُ مواكب العابرين في الشانزليزيه وجادَّة الكابوسين بباريس، وفي كورسو أمبرتو وفيا ناتسيونالي بروما، وميدان أوديون ومكسميليان بميونيخ، والطرقاتِ المزدحمةَ في برن أو على سواحل بحيرات جنيف ولوتسرن، فلم أجد فيها كلها من الجمال عُشر معشار ما شاهدتُ في جادَّة خوسيه أنطونيو (جران فيا) أو ميدان باب الشمس Puerta del Sol بمدريد.» أما أنا فقد قضيتُ الأصائل والأمسيات الأولى أذرع الجرانَ فيها جيئةً وذهابًا أتطلع إلى أسراب الجمال المتجمِّع فيها، وأجلس بين الفَينة والفَينة في الكافيتيريات المتناثرة خارجيًّا على الأرصفة، وكنتُ لا أزال أشعر أنني غريب عن المدينة، فكنتُ أسمح لنفسي بالحديث إلى من أحب من الفتيات حين يكُنَّ إلى جواري، وكانت مدريد في ذلك الصيف من آخر سنة في الستينيات، محتفظةً بطابعها الأصيل، ولم تَطغَ عليها المَسْحة الأمريكية التي بدأَت تزحَف عليها مع بداية السبعينيات. ووجدتُ كافيتيريا جميلة في وسط شارع خوسيه أنطونيو اسمها «موريسون» فاتخذتُها مقامًا مماثلًا لجروبي في القاهرة، فكنتُ أجلس فيها، وأراقب ما حولي ومَن حولي في فَورة من التوقُّد والنشاط الذهني الجمالي والحسي. وقد حدث بعد ذلك أن تكلَّمتُ مع فتاةٍ شابةٍ جميلة في الطريق وبادلَتني الحديث، وسِرتُ معها إلى أن تأهبَت لأخذ الباص، فاقترحتُ عليها أن نتقابل يوم الأحد للذهاب إلى السينما فوافقَت. وودَّعتُها وأنا أكاد أطير فرحًا؛ ففي يوم الأحد بمدريد يخرج كل واحدٍ مصطحبًا فتاتَه حيث يستمتعان بالأكل والشرب والرقص أو التردُّد على السينما أو المسرح. وقد قرأتُ أن أسوأ ما يمكن أن يحدُث لشاب أو فتاة في مدريد أن يكون وحيدًا يوم الأحد!

وأستبق الأحداث لأكمل قصة هذه الفتاة؛ فقد وفت بوعدها، وتقابلنا في الساعة الموعودة، وكنتُ قد حجزتُ تذكرتَين في أفضل مكانٍ في سينما بالجران فيا التي تعرض فيلمًا لجيرالدين شابلن. وتحادثنا كثيرًا عن عملها وعملي، وكان اسمها ماري كروث — اسم إسباني أصيل — وتعمل بائعة في محلٍّ تجاري. وفي السينما، وضعتُ ذراعي حول كتفها، ولكنها أزاحَتها بلطف. وبعد فترة أعَدتُ المحاولة، فتركَتني. وخرجنا نتناقش في الفيلم والتمثيل، ودعوتُها إلى مقهاي العزيز موريسون. وصحبتُها إلى الطابق العلوي حتى يمكننا تناول طبق الفطائر المحلَّاة بالعسل، وهو ما كنتُ أرجو أن يعجبها. وبالفعل، كانت جلسةً ممتعة، ذكرتُ لها فيها أنني أقيم بمفردي، وأني أدعوها لترى شقتي في الويك إند القادم، فأجابت بأنها ستفكِّر في ذلك. وافترقنا على وعد باللقاء في وسط البلد يوم الأحد القادم، على أن نذهب كيما ترى المكانَ الذي أعيش فيه. وفي اليوم الموعود، لم تأتِ. ولم أرَها بعد ذلك.

وفي تلك الأيام، عثر لي صلاح فضل على استوديو جميل في طرَف المدينة، وزرتُه معه وأعجبَني، ما عدا أنه كان بلا تدفئةٍ مركزية. ولمَّا كنا ما نزال في الصيف فقد نقلتُ حاجياتي إلى الاستوديو، ووقَّعتُ عقدًا شهريًّا مع مندوب المالك. وقد شعَرتُ شعورًا جديدًا عليَّ بالمرة من معيشتي وحدي لأول مرة، وامتلاكي مفتاحًا لشقةٍ هي لي أعيش فيها بملء حريتي، وأدعو فيها من أشاء من أصدقاء وصديقات، في بلد يحترم الحرية الشخصية، وأناسٍ لا يدُسُّون أنفهم في شئون الآخرين. وبدأتُ أتعوَّد على خدمة نفسي بنفسي، وعمل بعض المأكولات الخفيفة كالبيض والأرز وما شابه ذلك، ولكني واصلتُ الأكل في الخارج بصفةٍ عامة.

ودخلتُ في عالم أدب اللغة الإسبانية بشوقٍ عارم وفرحةٍ طاغية. ولزمني قاموس إسباني-إنجليزي وإسباني-إسباني، ولم يكن قد صدر بعدُ قاموس إسباني-عربي. وما إن بدأتُ أقرأ ديوان شعر نيرودا حتى راعَتني أشعاره؛ فقد وجدتُها تلمسُ الوجدان والخيال والفكر كما يفعل الشعر العربي الجيد، وكنتُ قد خبرتُ الشعر الإنجليزي ولم أجد فيه — عمومًا — ذلك الدفء والعاطفة الوجدانية التي في الشعر العربي، وأجدها الآن في الشعر الإسباني. وسرعان ما برزَت القصائد التي لفتَت نظري من ديوانه عشرون قصيدة حب، وكان إحساسي بها يتغيَّر بمعاودة القراءة وعلى حسب الزمن، ولكن القصيدة رقم ٢٠ كانت هي التي ردَّدتُها أول الأمر، ربما لرنَّتها الحزينة، في وقتٍ كان الحزن والشجن والتشاؤم ما تزال في نسيجي الفني. كانت القصيدة تبدأ بسطورٍ تشُد القارئ إليها:

أستطيع أن أكتب أشد الأشعار حزنًا هذه الليلة.
أكتب مثلًا: لقد ترصَّع الليل بالنجوم،
وارتعدت الكواكب الزُّرق على البُعد.
رياحُ الليل تئِن وتدور في السماء،
وتُغَني.

وتمضي القصيدة تصوِّر لوعة الشاعر لفراقه عن حبيبته التي يتذكَّرها تلك الليلة بألم وشجن. ثم توالى استكشافي لقصائد الديوان الصغير بالقصيدة رقم ١٤، وفيها:

كلماتي تسقط رذاذًا عليك،
وتُهدهِدكِ بين قطراتها.
لكَم أحببتُ جسدَك اللؤلؤي المضيء،
فحسبتُك سيدة هذا الكون.
سأهديك ورودًا بهيجة،
من وراء الجبال،
وزنابق فضية،
وبندقًا مسحورًا،
وسِلالًا برية من القُبلات.
آه!
أشتهي أن أفعل بك
ما يفعل الربيع بأشجار الكرز.

ودفعَني ذلك إلى القراءة عن حياة نيرودا ونقد شعره، وكان «أمادو ألونصو» قد أصدر كتابًا يعلِّق على أشعار نيرودا فابتعتُه، واستفدتُ منه كثيرًا، وواصلتُ شراء دواوين نيرودا بالتدريج، على حسب ما كنتُ أجده منها في المكتبات. واتخذ نيرودا مكانه وسط الكُتَّاب المفضَّلين عندي.

بابلو نيرودا

وكان مولد نيرودا في ١٩٠٤م، ونشأ في «تيموكو» جنوب شيلي، واسمه الحقيقي «نفتالي رييس». وقد بدأ الكتابة منذ صباه، وحصلَت قصائده على جوائزَ عدة، فكتب بعد ذلك تحت اسمٍ مستعار هو بابلو نيرودا حتى لا يعرف والده بنشاطه الأدبي. وبعد حصوله على ما يعادل الثانوية العامة، يذهب إلى العاصمة سنتياجو ليدرُس اللغة والأدب الفرنسيَّين. وفي ١٩٢٣م يصدر أول دواوينه «شفقيات»، وفي العام التالي «عشرون قصيدة حب وأغنية يأس» الذي يلقى من فَوره نجاحًا هائلًا. وبعد أن يكتب أشعارًا جديدةً كثيرة، يقبل العمل قنصلًا فخريًّا لشيلي في بعض بلاد آسيا القصية؛ بورما، سيلان، جاوة. وفي تلك المدينة الأخيرة يقابل ويتزوج الهولندية «ماري أنطوانيت أجينار». ويعود إلى شيلي في ۱۹۳۲م حيث تصدُر طبعاتٌ عدة من ديوانه «عشرون قصيدة حب»، وديوانه الجديد الرئيسي «إقامة في الأرض». وفي ١٩٣٥م يُعين قنصلًا في مدريد حيث يباشر نشاطًا أدبيًّا ضخمًا، ويتعرف على أئمة الفكر والأدب والفن الإسباني وقتذاك، ويجدِّد صداقتَه لغرسيه لوركا الذي كان قد التقاه قبل ذلك في الأرجنتين. وأصبح منزله، المسمى «بيت الورود»، قِبلة المثقَّفين والأدباء من كل الأنحاء، وعلى رأسهم لوركا، وميجيل إرناندث الذي كان نيرودا يعامله كابنٍ له. وتنشب الحرب الأهلية الإسبانية فتدمر كل هذا، ويلقى لوركا مصرعه في غرناطة بعد شهر من بدء الحرب، بينما ينحاز نيرودا ورفاقه إلى الجمهوريين. ويكتب درة أعماله إبَّان تلك الحرب المدمرة: «إسبانيا في القلب» وهي التي بدأ بها قصائده التي تُمجِّد الشعوب، وفيها يقول:

لسوف تتساءلون
لماذا لا تحدِّثنا أشعارُه
عن الأحلام، عن أوراق الشجر،
عن البراكين الفخيمة في أرض موطنه؟
تعالَوا لتَروا الدماء تُغطي الطرقات.
تعالوا لتروا الدماء
تغطي الطرقات.

وقد حمل فيها بعنف على أثرياء إسبانيا الذين عضدوا فرانكو، وعلى الجنرالات الذين قاموا بالحرب، ونعتَهم بأبشع الأوصاف. ولمَّا تنتهي الحرب بانتصار الملكيين، يعمل نيرودا على الدفاع عن الأدباء الجمهوريين الذين بقُوا في مدريد، وينجح في تهجير الكثير منهم إلى شيلي وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية. وفي هذه الأثناء ينفصل عن زوجته الهولندية ويتزوج «ماريا دل كارِّيل»، ويشرع في كتابة ملحمته العظيمة «النشيد الشامل». وفي الحرب العالمية الثانية، يقف ضد الفاشية والفاشيين، ويتغنى بأمجاد المقاومة، خاصة في الاتحاد السوفييتي. وفي ١٩٤٧م، يختلف نيرودا مع رئيس الجمهورية في شيلي الذي يعمل على اعتقاله، فيختفي الشاعر حتى ينجح في عبور سلاسل جبال الأنديز الوعرة، ويتنقَّل بعد ذلك في أوروبا ودول المشرق. وفي ١٩٥٠م يصدر ديوانه «النشيد الشامل» وتتعدَّد طبعاته نظرًا للإقبال الشديد عليه. وتتوالى دواوين الشاعر غزيرة، ويعود إلى بلاده بعد إلغاء الأمر بالقبض عليه، ويحتفل في عام ٦١ بصدور النسخة الإسبانية رقم مليون من «عشرون قصيدة حب». وفي ٦٩ يتم ترشيحه لرئاسة الجمهورية، ولكنه يتنازل عنها لصالح «سلفادور أليندي» الذي يفوز بالرئاسة، ويذهب نيرودا سفيرًا لبلاده في باريس. ويفوز الشاعر بجائزة نوبل للآداب عام ٧١. وفي العام التالي يترك فرنسا ويعود إلى شيلي، حيث يوجِّه نداء في ٧٣ إلى مفكري العالم لتجنيب بلاده خطر الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي، ولكن يقع الانقلاب العسكري في ۱۱ سبتمبر ۱۹۷۳م الذي يؤدي إلى مصرع أليندي، ويلحق به الشاعر العظيم في ٢٣ سبتمبر متأثرًا بمرض السرطان الذي أصيب به سابقًا.

وقصتي مع نيرودا قصةٌ حافلة. وقد أرسلت إليه غداة فوزه بجائزة نوبل برقية تهنئة أرجو أن تكون ما تزال بين أوراقه في المتحف الذي خُصِّص له بعد ذلك. وفي زيارة لي لباريس، مكثتُ واقفًا أمام سفارة شيلي هناك حتى رأيتُ الشاعر العظيم رأي العين يهبط ليستقل سيارته. وكنتُ ما أزال في إسبانيا عند موته، وشاهدتُ تغطية الأنباء والصحف لذلك الحدث. أما عن كتاباته، فقد قرأتُ كل كُتبه على مراحل، وتأثَّرتُ بأسلوبه الشعري وصوره البلاغية الغريبة وأشعاره الغرامية. وفيما بعدُ، نشرتُ ترجماتٍ عديدة لقصائده في المجلات، ثم أصدرتُ من دواوينه: عشرون قصيدة حب وأغنية يأس (في طبعتَين)، غزليات نيرودا (وهو ترجمةٌ كاملة لديوانه أشعار القبطان)، إسبانيا في القلب (وهو مجموعة من قصائده، ومحاضرته عند تسلُّم جائزة نوبل، ومقابلة أجراها معه صحفيٍّ فرنسي). وما زال عشقي له مستمرًّا! ويُمكِن للقارئ الاطلاع على كتاب الدكتور الطاهر مكي «بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال» لمعرفة المزيد عنه.

أما لوركا فله نفس المنزلة عندي كنيرودا، كما أن معرفتي به أسبق؛ فقد نشرتُ ترجماتٍ لشعره في الهلال في ١٩٦٧م. ولمَّا كان لوركا إسبانيًّا غرناطيًّا، فقد أمضيتُ أوقاتي كلها مشبعًا بقصائد لوركا وحياته الأسطورية. وقد عزمتُ على إعداد كتابٍ عن حياته، مطعَّمًا بأشعاره، بدأتُه بكلمةٍ واحدة هي: غرناطة. بيد أن الكتاب لم يخرُج إلى الوجود إلا بعد ذلك بسنواتٍ طويلة بعد أن ذهبتُ للعمل في نيويورك. وكانت حكومة فرانكو قد خفَّفَت من الحظر المفروض على الشاعر وأعماله، فأمكَنني أن أشتري الأعمال الكاملة له، التي أصدرَتْها دار أجيلار للنشر، وأن أشاهد بين الحين والآخر إحدى مسرحيَّاته على خشبة مسارح مدريد. وكانت أولى رحلاتي داخل إسبانيا إلى مدينة غرناطة، أتلمَّس فيها الآثار العربية الإسلامية، وكذلك سيرًا على خطى لوركا. ويمكن للقارئ الاطلاع على كتابي «لوركا شاعر الأندلس» لمعرفة المزيد عنه.

ويتوالى تعرُّفي على الأدب الإسباني، فبدأتُ أقرأ دُررَه وروائعَه، الكلاسيكية منها والحديثة، مما تطلب وقتًا وجهدًا كبيرَين. ولم أهمل الفنون الأخرى؛ ففي أول أحدٍ لي في مدريد، خصَّصتُه لمتحف البرادو، المعادل لمتحف اللوفر الفرنسي، ودخلتُ متسلحًا بدليلٍ عن محتوياته وشرحٍ لها. ولن أنسى مشاعري المضطرمة الجامحة حين وقفتُ أمام لوحتَي جويا «الحسناء العارية» و«الحسناء الكاسية»؛ فقد كنا نقرأ عنهما وعن لوحاته الأخرى، وها أنا أمام أعماله أتشرَّبها في نفسي، واعتَدتُ بعد ذلك على زيارة المتحف مرةً كل أسبوعَين تقريبًا، مخصصًا كل زيارة لرسام معين أو لجانب من المتحف. كما أني استكشفتُ الموسيقى والأغاني الإسبانية، ووجدتُ مؤلفات الموسيقار العالمي مانويل دي فايا، فاشتريتُها، وأدمنتُ سماعَها. وكانت أجهزة الكاسيت في بدء ظهورها، فابتعتُ واحدًا منها نظرًا لسهولة استخدامه وحَمْله، بالنسبة إلى أجهزة «بيك أب» الأسطوانات، وعرفتُ تدريجيًّا «ألبانييز» و«رودريجو» وغيرهما من الموسيقيين الكلاسيكيين الإسبان، أما الأغاني فكانت من النوع الراقص ذي الإيقاع السريع، فكنتُ أسمعها للتسلية وللتدريب على سماع الإسبانية المحكية. وفيما بعدُ، أصبحتُ أحب الأغاني المأخوذة من الشعر، حين تغنَّى المغَنون بقصائد لوركا وماتشادو وميجيل إرناندث.

وتعدَّدَت جولاتي في أنحاء مدريد، فرُحتُ أذرع طرقاتِها وجادَّاتِها كلها للتعرُّف عليها، فلم يَبقَ حيٌّ لم أزره. وكانت الشوارع تحمل أسماءً بعينها، منهم العسكريون رفاق فرانكو، ولكن أكثرها يحمل أسماء الفنانين والأدباء، منهم جويا وفيلاسكث وموريلُّو وثورباران وسرفانتس ولوبي دي فيجا وغيرهم، ولكن أطرف اسم وجدته هو «شارع المكتئبين» في جنوب مدريد، فتعوَّدتُ التردُّد عليه كلما انتابني ضيق أو كآبة!

نعود برهةً إلى أحوال المعهد، فنجد أن مساعي المدير المنقول للبقاء قد باءت بالفشل؛ إذ وصل المدير الجديد الأستاذ في كلية الفنون الجميلة، واستلم إدارة المعهد والمكتب الثقافي في مواجهةٍ باردة مع المدير المنقول حاولتُ تخفيفها بقَدْر الإمكان. وبدأ المدير السابق في إخلاء مكتبه وغُرفته وكُتبه، وكذلك مسكنه الحكومي فوق المعهد، وأسرَّ إليَّ أنه سوف يطلُب الإحالة إلى المعاش ويذهب للعمل أستاذًا في جامعة الكويت. وكانت عملية التسليم والتسلم محرجة وشاقة، ولكن سرعتها خفَّفَت من ذلك. وسافر المدير السابق والأستاذ سويسي وأنا على أفضل علاقةٍ بهما، بعكس المدير الجديد الذي بدأ عمله بالبحث عن أي أخطاءٍ أو مخالفاتٍ للمدير السابق. وقد تماشيتُ على أحسن حالٍ مع المدير الجديد؛ فقد كان فنانًا، وأصبحنا نعمل معًا في كل شيء؛ فقد انتقلت الإدارة إلينا، وأصبح صرف شيكات المعهد بتوقيعنا نحن الاثنَين. ولما كان المدير الجديد قد أتى وحده أولًا دون أسرته، فقد كان يُمضي معظم الوقت معي؛ حيث نذهب للغداء في مطعمٍ قريب ثم نعود إلى المعهد. بيد أنه كان غريب الأطوار نوعًا ما، وقد كنتُ أفهم ذلك؛ فمعظم الفنانين بهم شيء من الغرابة، وبدأ بمعركة مع السفارة، وكان السفير وقتها عسكريًّا سابقًا من زملاء جمال عبد الناصر؛ فقد رفض المدير إقامة صلاة العيد بالمعهد، بحُجة أنه معهدٌ تعليميٌّ ثقافي وليس دينيًّا، ولكن السفير أصَر على ذلك؛ فقد جرت العادة في السنوات السابقة على الاحتفال بالعيدَين سنويًّا بالمعهد، واشتكى إلى وزارة التعليم العالي التي نتبعُها، فتلقَّينا برقيةً تطلُب من المعهد الاستمرار في ذلك التقليد بإقامة صلاة العيد كما هو المألوف. وعندها اتخذ المدير ذلك الطلب ذريعةً لإقامة احتفالٍ باذخ بعد الصلاة للمدعُوِّين، مُدَّت فيه الموائد بما لذ وطاب، وتكلَّف المعهد مبالغَ كثيرةً في ذلك السبيل. وقد تولى إقامة شعائر الصلاة وخطبة العيد أحد المبعوثين من خرِّيجي الأزهر فأداها بنجاح. ويبدو أن ذلك الجانب من الاحتفال هو ما كان يثير قلق المدير؛ فقد كان المدير السابق هو من يقوم بتلك الشعائر، بينما لم يكن ذلك في اختصاص المدير الجديد، الذي كان مجاله الرسم والتصوير والفنون.

وأخذتُ أستعد لبداية العام الدراسي، فقرَّرتُ أن ألتحق بمدرسة اللغات التابعة لجامعة مدريد، لدراسة اللغة الإسبانية، وبالمركز الفرنسي في مدريد لمواصلة دراستي للفرنسية التي بدأتُها في مركز القاهرة. ومن مميزات المعاهد الفرنسية المنتشرة في البلاد الأخرى أنها متكاملة، ومناهجها واحدة؛ ولهذا تم قبول شهادتي من مركز القاهرة بسهولة في مركز مدريد لمواصلة دراسة اللغة الفرنسية. واشتريتُ أشرطة الكاسيت لمنهج تعليم الفرنسية بطريقة Assimil وأصبحتُ أستمع إليها ليلَ نهار. كنتُ مصممًا على إتقان اللغتين الفرنسية والإسبانية بكل السبل المتاحة، حتى أثبِت لنفسي وللغير أن عدم ابتعاثي إلى لندن أو باريس أو واشنطن لم يَثنِ عزمي عن متابعة الدراسة والمعرفة. ومن هنا أيضًا رافقتُ خطى زملائنا من المبعوثين لمعادلة الليسانس الذي حصَلنا عليه بليسانس الجامعات الإسبانية، حتى نتمكَّن من إعداد درجتَي الماجستير والدكتوراه. وقد قابلتُ في المعهد الدكتور الفلسطيني محمود صبح، الذي رحَّب بي، وقال إنه يعرفني من مقالاتي في مجلة الآداب البيروتية، وأضاف أنه قرأ لغالي شكري أن من بين أفضل مترجمي الشعر صلاح عبد الصبور وماهر البطوطي. وقد أسعدَتني هذه الأقوال، وتذكَّرتُ إعجاب شكري بترجمتي لقصيدة سفينة الموت للورانس. وكان للدكتور صبح نشاطٌ كثيف في المحاضرات والتأليف والترجمة ما بين العربية والإسبانية، وشارك في كثيرٍ من أنشطة المعهد. وممن سَعِدتُ بلقائهم أيضًا في تلك الفترة الدكتور عبد الرحمن بدوي، الذي زار المعهد لأخذ نسخة من مجلة المعهد، ومكافأته عن المقال الذي نشَره فيها. وقد نقلتُ إليه إعجابي بكتبه، خاصة الحور والنور، وترجمتَه الفائقة لدون كيشوت؛ مما أزال بعض التحفُّظ الذي اعتاد عليه الدكتور بدوي مع الأغراب، وشرح لي كيف رجع إلى عدة طبعاتٍ إسبانية لدون كيشوت لمقارنة النص، وكيف غاص في تاريخ المفردات الإسبانية في عصر سرفانتس حتى يقدِّم الكلمة الصحيحة لما كتَبَه. وقد بقِيَت كلمات الدكتور بدوي في ذاكرتي تجعلني أضحك ساخرًا حين يطلُع أحدُهم بزعم أن الدكتور بدوي ترجم دون كيشوت عن لغةٍ أخرى غير اللغة الإسبانية الأصلية! كذلك شرُفتُ بمعرفة الأستاذ العلامة عبد الله عنان، الذي كان يتردَّد على مكتبة المعهد لمواصلة أبحاثه القيِّمة عن التاريخ الأندلسي.

وحين بدأ العام الدراسي وجدتُ أن المدير الجديد لن يقوم بتدريس منهج اللغة العربية للإسبان، الذي يقدِّمه المعهد على مستويَين دراسيَّين، فكان عليَّ أن أقوم أنا بذلك. وساعدَني في هذا النسخة التي كان المدير السابق يستخدمها في التدريس، وهي من وضعه وتأليفه. ورغم ضيقي بعبء التدريس الإضافي، فقد استفدتُ منه في آخر الأمر فائدةً كبيرة، في طرق تعليم العربية للأجانب، وفي الحديث بالإسبانية كذلك، ووجدتُ أن كتب تعليم العربية لم تستفِد من الوسائل الحديثة في تعليم اللغات، فاختمَرَت في ذهني فكرة إدخال الوسائل السمعية والبصرية في تعليم العربية، وبدأتُ في إعداد منهج لهذا الأمر، ولكنه للأسف لم يكتمل بسبب ضغوط العمل وتغيِّر إدارة المعهد كما سيَرِد بيانُه. وفي أكتوبر أصيب الأستاذ حسيب، زميلي في المعهد، بنوبةٍ قلبية، ولزم منزله في إجازةٍ مَرَضية، فكان عليَّ أن أقوم بكل أعمال المعهد؛ الإشراف على أعمال المطبعة ومراجعة بروفات الطباعة، تدريس اللغة العربية، الإشراف على المكتبة وتزويدها بالجديد من الكتب والدوريات، القيام بالأعمال الإدارية والمالية، متابعة المبعوثين وحل مشاكلهم. ورغم ضيقي بكل هذه المسئوليات فقد استفدتُ منها فائدةً كبرى، خاصة بحصولي على شهادة خبرة في تدريس العربية للأجانب، وأخرى في تصحيح تجارب الطباعة، التي مكَّنَتني من دخول امتحان الأمم المتحدة لتلك الوظائف فيما بعدُ.

وكنتُ قد ذهبت مع المدير الجديد بعد فترةٍ من وصوله إلى فرع البنك الإسباني الذي نُودِع أموال المعهد فيه، وأخذنا قرضًا شخصيًّا لكلٍّ منا، فاقترضتُ ما يعادل ستمائة دولار، بينما اقترضَ المدير ما يعادل عشرين ألف دولار، وذلك لشراء سيارة. وحين اشتد البرد، لم تُفلِح المدفأة في الاستوديو الذي استأجرتُه في إشاعة الدفء الذي أريد، فانتقلتُ إلى شقةٍ أخرى واسعة، تُواجِه شقة صديقٍ لبناني وأسرته، هو الرسام المشهور حسن جوني، وكان يدرُس في كلية سان فرناندو للفنون الجميلة. واستخدمتُ مبلغ القرض لشراء الحاجيات الضرورية للمعيشة، من معطفٍ ثقيل، وملابسَ مناسبةٍ للشتاء، وحقيبة سامسونايت، وما إلى ذلك من حاجيات. وقد انتهى أمرُ هذَين القرضَين نهايةً سيئة؛ فبينما كنتُ أدفع أقساطي بانتظامٍ للبنك، تأخَّر المدير في دَفْع بعض الأقساط، مما دفَع البنك إلى استرداد مستحقَّاته كاملة، ولكن من الأموال الخاصة بالمعهد، مما شكَّل لنا كارثةً كبرى. وقد تدخَّل المستشار التجاري المصري بمدريد، ونقَل حسابات المعهد لفرع البنك الذي تتعامل معه السفارة، وتمَّت تسوية الأمر وإعادة أموال المعهد بالكامل. وكان ذلك بداية احتكاكاتٍ بيني وبين المدير؛ إذ كنتُ أجد في بعض تصرُّفاته مبالغاتٍ كبيرة.

وتابعتُ حضور حصص اللغة الإسبانية واللغة الفرنسية بانتظام، وكانت دروس الإسبانية في جوٍّ شبه دولي؛ فقد كان الدارسون جميعًا من جنسياتٍ متعددة، وفيهن فتياتٌ بارعات الجمال، سرعان ما أخذ الشبان في التودُّد إليهن. وفي هدوء، تعرَّفتُ على فتاةٍ فرنسية اسمها ماري كلود وصديقةٍ لها إنجليزية تُدعى شستر، وأصبحنا نخرج معًا لشرب البيرة والقهوة والنقاش في كل الأمور. وحاولتُ التودُّد إلى ماري كلود، وزُرتُها في شقتها الصغيرة، وذهبنا إلى السينما ومقهى موريسون مراتٍ عديدة. ولكنها اختفت فجأة ولا أدري أين ذهبت؛ فالحب في هذا الزمان — كما يقول حسب الشيخ جعفر — مسافر، يأتي ويذهب عنا فجأةً ولا ندري لأين!

كنتُ أحضُر دروسَ الإسبانية مساءً، ودروسَ الفرنسية عصرًا، فأخرج من المعهد حوالي الثانية فأتغدَّى بسرعة، ثم أهرَع إلى مقهى «ريوفريو» المجاور للمركز الفرنسي، فأحتسي فنجان القهوة باللبن الذي ينشِّطني، وأدلُف إلى درس الفرنسية وسط فتياتٍ في عمر الزهور جئن للاستزادة من تعلُّم الفرنسية التي يدرُسنها في المدرسة أو الجامعة. ولفَت نظري واحدةٌ من هؤلاء الفتيات، ناضرة، فائقة الحسن، أندلسية، غزلانية العينَين، ذات شعرٍ فاحمٍ ناعم، فاخترتُها كي أحاول الفوز بصداقتها. وكنت كلما تبادلتُ معها حديثًا أعجَب من سطحيَّتها الشديدة، ولا غرو فقلما يصاحب الجمال الذكاء، علاوةً على صغر سنها. وكان الجميع فرحين بوجودي معهم، وإن نظروا لي بوصفي «أعجوبة» قادمة من بلادٍ بعيدة! وقد ظل الأمر على هذا المنوال حتى قرب نهاية العام الدراسي. وكان في هذه الفترة تنفيذ مشروعي الفرنسي الكبير بقراءة «البحث عن الزمن الضائع» لبروست في أصلها الفرنسي، بعد أن قرأتُها في مصر في ترجمتها الإنجليزية الرائعة. واقتنيتُ الأجزاء السبعة للرواية في طبعة الفوليو الفرنسية، واشتريتُ في الوقت نفسه الترجمة الإسبانية للرواية في سبعة أجزاء أيضًا، والترجمة الإنجليزية الشهيرة لمونكريف. وعكفتُ كل ليلة على قراءة النص بالفرنسية، فإن غمض عليَّ المعنى أو المفردات، استعنتُ بالترجمة الإنجليزية أو الإسبانية، ثم بالقواميس إذا دعت الضرورة. ويا لها من متعة! ويا لها من مشقَّة! تفكيك لغة وعبارات هذا الساحر الفرنسي واستيعابها في نفسي. كم شاقَني القراءة عن سوان وغَيرته الجنونية على فتاته، ما أعاد إلى ذهني علاقتي الغريبة مع نشوى، والتي بدت أقلَّ غرابة إذ أجد لها موازيًا مثل الذي في رواية بروست. وقد قرأتُ الرواية بهدوء وصبر إلى أن أنهيتُها في خلال عام.

وما إن أهلَّ ديسمبر حتى بدأَت البلاد تستعد للكريسماس واحتفالاته. وفي البداية كانت تحيِّرني البوسترات التي تقول Feliz Navidad Y Reyes أي عيد ميلاد وملوك سعيد! وكنتُ أظن أنهم يعنون تعيين الأمير خوان كارلوس ملكًا مستقبلًا للبلاد، ولكن اتضح أن إسبانيا تحتفل في السادس من شهر يناير من كل عام بزيارة ملوك الشرق الثلاثة للسيد المسيح في مهده؛ حيث قدَّموا له الهدايا الثمينة، وفي ذلك اليوم يتهادى الإسبان فيما بينهم، لا في الكريسماس ولا عيد رأس السنة. وكان كل احتفال من هذه الثلاثة فريدًا في نوعه؛ ففي الكريسماس تنتشر الزينات وتتردَّد أغانٍ يسمونها Villancicos (التي هي بالإنجليزية Christmas Carlos) تتغنى بالسيد المسيح ومولده، وتنشُر البهجة في كل الأنحاء. أما رأس السنة، فيحتفلون به في ميدان باب الشمس، في رقص وأهازيج، وحين يحين منتصف الليل على الدنو، يتناول الناس اثنتَي عشرةَ حبةً من العنب؛ حبةً مع كل دقة، تنتهي بالدقة التي تُعلِن مولد العام الجديد، ويتفاءل الإسبان بهذه العادة، ويتمنَّون في أثنائها ما يرجون من السنة الجديدة. أما يوم الملوك، فتظل المحلات مفتوحةً إلى ما بعد منتصف الليل، حتى يشتري كل واحدٍ الهدايا التي يعتزم تقديمها لمحبيه وأصدقائه. وفي كل تلك المناسبات وغيرها، تتبدَّى روح المرح والبهجة التي تسود الإسبان، وتدفعُهم إلى انتهاز أي فرصةٍ للترويح عن أنفسهم كما يريدون.

وبعد أن درستُ تلك الاحتفالات عن قرب وشاركتُ فيها، انتهزتُ فرصة الإجازات في مطلع العام الجديد لشد الرحال إلى مهد شاعري المفضَّل؛ لوركا. وكنتُ في الشهور الماضية قد زرتُ كل الأماكن السياحية المحيطة بمدريد، عن طريق شركة «بولمان تور» للرحلات المنظَّمة، فزرتُ طليطلة وأرانخويث ووادي ضحايا الحرب الأهلية، وغيرها. وحان الوقت الآن للخروج من مدريد، وكان من الطبيعي أن تكون أول سفرية لي إلى غرناطة. وأخذتُ القطار من مدريد، الذي قطع المسافة في ساعاتٍ طويلة، وسط حقول قشتالة الجرداء، ولكني كنتُ أتشرَّب كل ما أرى وأسمع. وحين وصلتُ غرناطة، وجدتُ أنني أخطأتُ بعدم حجز فندقٍ مقدمًا، ووجدتُ كل الفنادق المتوسطة بل والفاخرة مشغولة، وأخيرًا وجدتُ «هوستال» (نوع من الفنادق الرخيصة)، فحَمِدتُ الله، وألقيتُ بحقيبتي في الغرفة، ونزلتُ أسعى في مدينة أحلامي.

كان الليل قد أسدل أستاره، فلم يتَبقَّ وقتٌ في اليوم لبدء زيارة الآثار العربية أو المتاحف، فقصَدتُ وسط البلد أتعرَّف إلى روح المدينة. وكانت مدينةً عاديةً إقليمية، تبدو عليها مَسْحة من الفقر، وإن كانت نظيفة. عندها فهمتُ أكثر قول لوركا في حديثٍ له عن بلدته حين سُئل عن سقوط الحكم العربي لغرناطة: «لقد كان يومًا أسود، رغم أنهم يذكُرون لنا عكس ذلك في الكتب المدرسية. لقد ضاعت حضارة مدهشة، وشِعر، وفلَك، ومعمار، ورِقَّة لا مثيل لها في العالم، وحلَّت محلها مدينةٌ فقيرة، خانعة، تزخر بطالبي الصدقات، وحيث تُوجد الآن أسوأ طبقةٍ برجوازية في إسبانيا.»

وتعشَّيتُ في إحدى الكافيتيريات عَشاءً شهيًّا، وتوجَّهتُ بعدها إلى فندقي للنوم استعدادًا لغدٍ. وخرجتُ مبكرًا، متسلحًا بكتاب دليل غرناطة وكاميرتي المتواضعة، وقصَدتُ أهم معالم المدينة؛ قصر الحمراء وحدائق جنة العريف. ومضيتُ مُصعِدًا في طريقٍ وارف الشجر، أفضى بي إلى ساحة الدخول إلى قصر الحمراء وملحقاته. كان هناك عددٌ كبير في انتظار بدء الزيارة؛ فقد كان الوقت ما يزال مبكرًا. وبعدها، اشتريتُ تذكرةً شاملة لكل الآثار والمتاحف بالمنطقة، صالحة لمدة أسبوع. ودخلتُ من البوابة الرئيسية فوجدتُ نفسي وسط فردوسٍ من الجمال المعماري والتشكيلي الفخم، وتنقَّلتُ ما بين بهو الرياحين، وبهو الأخوات، وبهو السفراء، وقاعة بني سراج، حتى دُرَّة الحمراء وهو بهو السباع. وبهو السباع عبارةٌ عن نافورةٍ يحيط بها ١٢ أسدًا تنبعث من أفواهها المياه، وسط ساحةٍ شاسعة تتعدَّد المداخل إليها. وقضَيتُ طول النهار داخل الحمراء؛ إذ إنه قصورٌ متعددة يفضي الواحد منها إلى الآخر، وفيها من الآيات القرآنية وأبيات الشعر وعبارة «لا غالب إلا الله» ما يجعل المرء يعودُ بذهنه إلى الأمجاد العربية والإسلامية في تلك البلاد. وفيه كذلك من النقوش والمقرنصات والدلايات ما هو مُعجِز بكل الأوصاف. وأثار انتباهي وجود عدد من زخرفات النجمة السداسية على الجدران، وتذكَّرتُ ما يُقال إن العرب كانوا يعتبرونها خاتم سليمان الذي استخدَمه في ختم القماقم التي حبَس بها الشياطين. وفي قاعة السفراء تخيَّلتُ سلاطين بني الأحمر يستقبلون سفراء الدول الأخرى فيها، وفي بَهْو بني سراج استعَدتُ وقائع المذبحة الدامية التي انتهَوا إليها على يد بني الأحمر.

وفي الأصيل توجَّهتُ إلى «جنة العريف» وهي كانت أصلًا كرمة من كرمات الأمراء، أمامها حديقةٌ مستطيلةٌ كبيرة، تتوسَّطها بِركة ونوافير، وكلها فعلًا تماثل جنةً أرضية. وجلستُ على أريكةٍ مقابلة للحديقة وغرِقتُ في سكينةٍ وراحةٍ قلما شعَرتُ بهما. وبعد فترةٍ طويلة، شعرت بشابٍّ يجلس إلى جواري، وحين تطلَّعتُ إليه حيَّاني بالإسبانية. وتعارَفنا، فإذا هو أرجنتيني أنهى دراسته الجامعية في المحاماة، ويقوم الآن بجولة في أوروبا قبل أن يعود إلى بلاده ليبدأ حياته العملية. ولما عرف أنني مصري، ذكَر لي أن له خطيبةً في بوينوس آيرس وهي من أصلٍ لبناني. وتبادلنا بعض الأحاديث العامة، والمناقشات الفنية والأدبية، مما قرَّب فيما بيننا. واتفقنا على أن نتقابل في الغد ونزور معًا متحف الموسيقار مانويل دي فايا. وخرجتُ متشبعًا بجو الحمراء وجنة العريف وأمجاد العرب والمسلمين. وعُدتُ مساءً إلى وسط المدينة، وجُلتُ فيها جيئةً وذهابًا، بحثًا عن أي رحلاتٍ معلَنة لبلدة لوركا أو إلى منطقة «فيزنار» التي لقي فيها مصرعه، ولكن لم يكن هناك أي شيءٍ من هذا القبيل. ولم يكن هناك أحدٌ يحب الحديث عن لوركا مع الأجانب، من كثرة الصحفيين والأدباء الذين كانوا يهبطون إلى المدينة وراء أخبار الشاعر وأسرار مصرعه.

وفي الغد، قابلتُ «كارلوس»، الصديق الأرجنتيني، وصَعِدنا معًا مرةً أخرى في طريق أشجار السَّرو إلى كرمة «دون مانويل» كما يُسمِّي الغرناطيون ابن بلدهم مانويل دي فايا. وكلمة «كرمة» العربية؛ أي الفيلا الصغيرة المحاطة بحديقة (كما نقول الآن كرمة ابن هانئ) انتقلَت إلى الإسبانية واتخذَت شكل carmen، تلك الكلمة التي كنتُ أعتقد قديمًا أنها أكثر الكلمات إسبانية؛ إذ إنها من أكثر الأسماء شيوعًا في فتيات إسبانيا. واستمتعنا بمشاهدة الآثار التي خلَّفها الموسيقار الأندلسي، والبيانو الخاص به، ونوتاته الموسيقية. وجلسنا في أحد أركان الاستماع، نُنصِت خلال السماعات إلى موسيقى الحب الساحر، وهي أجمل ما أحب لفايا، ورغم استماعي لها كثيرًا في المنزل، فإن تجربة سماعها في مَهبِط وحي الموسيقار لها متعةٌ لا يمكن وصفُها.

وانطلقنا عائدَين إلى المدينة، فتغدَّينا في شُرفة أحد الفنادق، وقرَّرنا أن نزور حي «ساكرمنتو» في المساء، وهو حي الغجَر الغرناطيين، وهو مَعلَم من معالم المدينة. وبعد أن استراح كل واحدٍ منا في فندقه، التقَينا واتجهنا إلى موقع كهوف الغجَر، مخترقين حي «البيازين» العربي، إلى أن وصلنا إلى سلسلة من البيوت المنخفضة؛ الكهوف، رأينا في بعضها سياحًا يتفرَّجون على عروض رقص وغناء الغجر ولكننا لم نكن نرغب في شيءٍ سياحي، إنما نبحث عن بعض الأصالة. والتقينا فلاحًا غجريًّا مسنًّا، أوصانا بكهفٍ معيَّن نجد فيه مرادنا. واتفقتُ مع كارلوس ألا نبدو كالسياح، وأن نتحدث الإسبانية، هو أكثر وأنا أقل، حتى لا يخدعَنا أهل الدار ويكلِّفونا ما هو أكثر من المتعارف عليه. وهناك، طرقنا الباب ففتحَت لنا صبيةٌ حسناء، ذكَر لها كارلوس ما نريد، فنادت على أمها التي جاءت ورحَّبَت بنا وأدخلَتنا. وكانت القاعة غريبة الشكل؛ كهفٌ حقيقي، وعلى الجدران والسقف أدواتٌ منزلية من النحاس اللامع، وحُزَم من الثوم والبصل، ومقتنياتٌ أخرى. وجاء رجل وامرأتان والشابة الصغيرة. وبدأ الرجل يدندن على جيتاره أنغامًا حلوة، وبعد قليلٍ بدأَت النسوة يصفِّقن ويغنِّين أغاني باللهجة الجنوبية الغجرية. وما إن حمي المشهد، إلا وقامت الفتاة الشابة ترقص وتغَني. وكان معها ما يشبه الإيشارب الطويل ترقص به، ثم ألقته على عنق كارلوس كدعوةٍ لمشاركتها في الرقص، بيد أنه اعتذر، فمالت نحوي وألقَته حول عنقي، فنهَضتُ من فَوري ورقصتُ معها كيفما اتفق، وشعَرتُ بسعادةٍ بالغة؛ فقد كانت الفتاة تشبه المصريات السمراوات. وفي غناء الغجريتَين، أخذتا تُنشِدان بعض قصائد لوركا وأغانيه، فطفقتُ أغني معهما، مما أثار فيهما الدهشة. ولا بد أن كل هذا فعل فعلَه حين جاء وقت الحساب؛ فقد طلبتا ٤٠٠ بيزيتة من كل واحدٍ منا، مما اعتبرناه ثمنًا معقولًا، فدفعنا مع بقشيشٍ مناسب، وغادرنا ونحن في سعادة وحبور.

وفي اليوم التالي، أعدتُ زيارة قصر الحمراء وحدائق جنة العريف، وابتعتُ من إحدى مكتبات غرناطة بعض الكتب الجديدة وجدتُها هناك، ثم أخذتُ القطار عائدًا إلى مدريد، مستقبلًا العام الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤