مقدمة

الحمد لله الواحد الخلاق، وسبحان الله وبحمده في العشي والإشراق، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة الإخلاص التي نرجو بها الخلاص يوم التلاق، وتهون بها سكرات الموت إذا حشرجت الأنفس في التراق.

ونشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أشرف الخلق على الإطلاق، المبعوث لإقامة الحق والعدل وإتمام مكارم الأخلاق، بكتاب باهر الحجة، وسنة واضحة المحجة، وبراهين كالصبح في الانفلاق، والشمس في الائتلاف صلى الله عليه وعلى آله الغطاريف، وعلى أصحابه الصناديد، وعلى أنصاره الكرام العتاق، الذين نشروا التوحيد المحض في الآفاق، وجمعوا كرم الأفعال إلى كرم الأعراق، ما هبت نسائم الأسحار، وتفتقت كمائم الأزهار، وسجعت الورق على الأوراق، وسلم تسليمًا كثيرًا.

وبعدُ، فقد مضت عليَّ حجج كثيرة وأنا أهم بأداء فريضة الحج، والعوائق تعوق، والموانع من حول إلى حول تحول، إلى أن يسر الله بلطفه وحسن توفيقه لي أداء هذا الفرض في سنة ١٣٤٨؛ أي منذ سنتين كاملتين، فكان قصدي إلى الحجاز من لوزان بسويسرة، عن طريق نابولي بإيطاليا؛ إذ ركبت منها البحر على باخرة إنكليزية إلى بورسعيد حيث نزلت، وفي اليوم التالي ذهبت إلى السويس، ومنها أبحرت إلى الحجاز، في باخرة مكتظة بالحجاج، فأحرمنا ولبينا من بحر رابغ، ووصلنا إلى جدة من السويس في اليوم الرابع، على ما وصفت في رحلتي الحجازية التي سيقرؤها المطالع، وفي المساء يوم وصولي إلى جدة يسر الله دخولي إلى البلد الأمين، مبادرًا إلى البيت العتيق بالطواف، وإلى المروة والصفا بالسعي.

وبعد ذلك بيومين صعدنا إلى منى فعرفة، ثم أفضنا منها إلى المزدلفة، حيث بتنا ليلة، ثم عدنا إلى منى حيث لبثنا ثلاث ليالٍ، وعدنا إلى البيت الحرام، وتممنا مناسك الحج، والله يتقبل منا، ويتوب علينا، إنه قابل التوب غافر الذنب العلي الكبير، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ويعفو عن كثير.

ولقد وجدت مناسبًا أن أنشر ما ارتسم في مخيلتي من هذه المشاهد، وما انطبع في لوح دماغي من مناظر تلك المشاعر المباركة والمعاهد، مقرونًا بما يظهر لي من الآراء، مشتملًا على ما عندي من الملاحظات التي أحب أن يطلع عليها القراء، فأرسلت إلى جريدة «الشورى» بمقالات كنت أنشرها فيها الفينة بعد الفينة، ذاكرًا فيها مكة وعرفة، ومنى والمزدلفة، وتلك البقاع المعظمة المشرفة، ولما كنت بعد ذلك قد صعدت إلى الطائف مُستشفيًا من سقم أصابني في أثناء أداء الفريضة، كتبت أيضًا عن الطائف وجبالها ومرابعها ومنازلها، وجنانها وكرومها وفواكهها، ولم أقتصر في الوصف على جنانها الناضرة، وأحوالها الحاضرة، بل كررت النظر إلى الوراء من أمور تاريخية ماضية، ومددته إلى الأمام في أمور اجتماعية مستقبلة، بحيث جمعت في هذه الرسائل بين مباحث جغرافية وتاريخية، ومواقف سياسية واجتماعية، ومسائل عمرانية واقتصادية، ودقائق لغوية وأدبية، متناولًا من القديم والحديث، متنقلًا بين التالد والطريف.

ومن حيث إني كنت أصدرها من وقت إلى آخر في جريدة سيارة كانت هيئتها أقرب إلى أسلوب الجرائد منها إلى أسلوب الكتب؛ لأن الكاتب إذا كتب بين أسبوع وآخر متأثرًا بالعوامل المختلفة، ملاحظًا المتجدات اليومية، مراعيًا حالة قرائه الروحية، ذهب به الاستطراد كل مذهب وشردت به شجون القول فشرق وغرب، ولهذا جاء في هذا الكتاب استطراد ليس بيسير من فصل إلى فصل، وإن كان جميعه مرتبطًا بالموضوع ومردودًا إلى الأصل.

ثم رأيت أن إكمال هذا التأليف على الخطة التي انتهجتها أولى من نشره رسائل متفرقة على الأسابيع، قد يأخذ وقتًا طويلًا ولا ينتهي بأقل من سنتين أو ثلاث، على أني صرت مشغولًا مستغربًا برحلتي الأندلسية، التي قد تأخذ مجلدات عدة، ولا يتأتى لي الاشتغال بغيرها هذه المدة، فعدلت مؤخرًا عن الطريقة الأولى، وقطعت رسائل هذه «الارتسامات» عن الشورى، وانصرفت إلى إكمال هذا التصنيف توًّا، حاثًّا مطية القلم إلى غايته، ماضيًا به بلا توقف إلى آخره، فكان ما نشر منه في الشورى نحو الثلث، وما لم ينشر في الشورى ولا في جريدة غيرها نحو الثلثين.

هذا؛ ولما تسنى إكماله، وبلغ الإبدار هلاله، رأيت أن أتوجه باسم جلالة الملك الهمام، الذي هو غرة في جبين الأيام، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، تذكارًا لجميل الأمن الذي أمد على هذه البلدان سرادقه، وعرفانًا لقدر العدل الذي وطد فيه دعائمه، وناط بالإجراء مواثقه، وابتهاجًا بالملك العربي الصميم الذي صان للعروبة حقها وللإسلام حقائقه، أدام الله تأييده، وأطلع في بروج الإقبال سعوده، وخلد شمسه الشارقة، ووفقه للاتفاق مع سائر ملوك العرب وأمرائها، والعمل مع رجالاتها العاملين لرقيها وعلائها، ولا سيما الملكين الهمامين، الفاضلين الكاملين الماهدين المجاهدين، المتوكل على الله، الإمام يحيى بن محمد بن حميد الدين صاحب اليمن، والملك فيصل بن الحسين، صاحب العراق والرافدين، أدام الله توفيقهم جميعًا لما به حفظ تراث الأمة العربية، وإبلاغها المقام الذي تسمو إليه نفوس العربي الأبية، وحياطتها بوحدة الكلمة من سطوات الغدر، وغوائل المكر، التي لا تفارق حركات الدول الأجنبية، والله تعالى سميع الدعاء، كفيل بتحقيق الرجاء آمين.

وكتب بلوزان في ٥ ذي الحجة الحرام ١٣٤٩ﻫ
شكيب أرسلان

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤