قصص الشطار والعيارين

«… وكان في البلدة عجوز تُسمَّى دليلة المحتالة ولها بنت تُسمَّى زينب النصَّابة، فسمِعتا المناداة بذلك فقالت زينب لأمها دليلة: انظري يا أمي، هذا أحمد الدنف جاء من مصر مطرودًا ولعب مناصف (احتيال) في بغداد إلى أن تقرَّب عند الخليفة وبقي مُقدم المَيمنة، وهذا الولد الأقرع شومان صار مُقدم الميسرة وله سماط في الغداة وسماط في العشي، ولهما جوامك (مخصصات) لكل واحدٍ منهما ألف دينار في كل شهر، ونحن قاعدون مُعطلون في هذا البيت لا مقام لنا ولا حرمة وليس لنا من يسأل عنَّا .. فقالت الأم وحياتك يا بنتي لألعب في بغداد مناصف أقوى من مناصف أحمد الدنف وحسن شومان …»

حكاية دليلة المُحتالة وابنتها زينب النصَّابة

«… أما ما كان من أمر علي الزيبق المصري فإنه كان شاطرًا بمصر في زمن رجل يُسمى صلاح المصري مُقدم ديوان مصر، وكان له أربعون تابعًا. وكان أتباع صلاح المصري يعملون مكائد للشاطر علي ويظنون أنه يقع فيها فيفتشون عليه فيجدونه قد هرب كما يهرب الزيبق، فمن أجل ذلك لقَّبوه بالزيبق المصري …»

حكاية علي الزيبق المصري

•••

ربما كان موضوع الشطَّار واللصوص والعيارين هو واحدٌ من أهم التأثيرات العربية في الرواية الغربية، إذ إنها قدمت نوعًا قصصيًّا فريدًا نال ذيوعًا واسعًا وشهرةً كبيرة، وتواصل إنتاجه ونماذجه إلى يومِنا هذا. وهذا النوع من الروايات هو ما عُرف في الغرب باسم البيكارسك PICARESQUE وهو اسم مُشتق من الكلمة الإسبانية PICARO اسم الفاعل من الكلمة الأولى، وتدل على بطل هذه الروايات، وهي تعني ما تدلُّ عليه كلمات: صعلوك – دجَّال – مُحتال – شحَّاذ، بالعربية. ويدخل تحت هذا التصنيف كل أنواع البخلاء أيضًا. وهذا في حدِّ ذاته يُفسر ماهية هذا النوع القصصي، إذ هو يتناول بالوصف حياة ومغامرات الفتية الصعاليك الذين يَجوبون الآفاق وراء إشباع رغباتهم ويقضون حياتهم يومًا بيومٍ سابِحين مع التيار حيثما يُلقي بهم. وتصف هذه القصص الأجواء التي يعيش فيها هؤلاء الصعاليك، وهي تختلف باختلاف أقدار الواحد منهم، فهو أحيانًا يُعاشر أحطَّ الناس وأفقرَهم، وأحيانًا ترفعه عجلة الحظِّ إلى الأدوار العُليا فيعيش عيشة الأغنياء المُوسرين، وهكذا. وهو في حياة الصعلكة تلك، يلجأ إلى كل أنواع الاحتيال ليكسِب قوتَه، ولا يُصبح لدَيه أية شكوك أو هواجس أخلاقية، فهو يكذب ويسرق وينصب في سبيل الحصول على ما يُريد. وأحيانًا ما ينتهي الأمر بفتًى منهم أن يستقر في النهاية وقد جمع ثروة تُغنيه فيما تبقَّى له من العمر، أو يكتشف أنه سليل أسرةٍ نبيلة يلتحق بها وينسى ماضِيَه الملوَّث.
وكانت إسبانيا هي التي قدَّمَت هذا النوع من القصص والروايات إلى العالم الأوروبي، في نماذج فريدة من نوعها. وقد استمدَّت إسبانيا هذا النوع من القصص من عدة مصادر عربية مجتمعة. وقد ظهرت أول رواية بيكارسكية في إسبانيا عام ١٥٥٤م، حين صدرت في «برغش» و«أمبيريز» و«قلعة إينارس» (قلعة عبد السلام العربية) ثلاث طبعات في نفس الوقت تقريبًا من رواية مجهولة المؤلِّف بعنوان «لاثارييو دي تورميس» LAZARILLO DE TORMES. وتحكي الرواية على لِسان بطلها لاثارييو قصة نشأته في منزل أُمِّه وعشيقها بعد وفاة أبيه، ثم خروجه إلى مُعترك الحياة صبيًّا لأحد الشحَّاذين المكفوفين، وكيف كان يحتال عليه لإشباع جوعِه وعطشه، ويسخر من استغلاله الدين والصلاح لابتزاز نقود المُحسنين الأتقياء، ثم فراره منه في النهاية بعد أن لقَّنه درسًا قاسيًا تركه بين الحياة والموت. وتنقل لاثارييو بعد ذلك خادمًا لعدة أسياد، لم يكونوا بأفضل من الشحَّاذ الأعمى، فهم إما فقراء مُدقعون، أو بخلاء مُقتِّرون، أو مُحتالون أفَّاقون. ويُضطرُّ إلى مجاراتهم في هذا النوع من الحياة أو ذاك، والتعلُّم من فنون مكرهم وحِيَلهم، وشحذ قريحته حتى يستطيع أن يستخلص منهم ما يتبلَّغ به ويُبقي عليه الحياة. وهو في هذا يمر بتجارب مريرة مضحكة، مُغرقة في الواقعية التي تُقارب المأساة، إلا أنها تنتزع من القارئ الضحك والابتسام لغرابتها وطرافتها. ويستقرُّ لاثارييو في النهاية مع أحد وُجَهاء الريف الذي يُغدق عليه من خيراته مقابل قَبول الفتى الزواج من خادِمته التي كانت تعمل عنده، ولا يهتمُّ لاثارييو بغمزات الناس عليه لهذا الاتفاق المُهين، ما دام قد وجد مُستقَرًّا يضمن له العيش الهانئ والرغد في الحياة.

وقد عمل نجاح هذه الرواية، برغم عاصفة الاحتجاج الديني الذي أثارته واقعيَّتها وسُخريتها من التديُّن المُزيف، على صدور أعمالٍ أخرى في إسبانيا وفي خارجها لها نفس سِمات هذا النوع القصصي. ومن بين ما صدر في إسبانيا منه بعد ذلك تتميَّز روايتان هامَّتان: الأولى بعنوان «عثمان الفراجي» تأليف «ماتيو أليمان»؛ والثانية باسم «السيد بابلو النصَّاب» تأليف «كيبيدو». وسنتلو في ما يلي ذكرًا عن هاتَين الروايتَين لرسم فكرةٍ أوضح عن مضمون ذلك النوع من القصص. فعثمان الفراجي تحكي عن حياة بطلِها الذي يحمل هذا الاسم. فقد وُلِد عثمان في إشبيلية بالأندلس، نتيجة علاقةٍ غير شرعية ما لبثت أن قُنِّنت بالزواج بين الوالِدَين. ولكن الابن يُضطر إلى الخروج إلى الدنيا ليكسِب عيشَه فيها ولم يكد يُكمل عامه الثاني عشر، فيتوجَّه إلى جنوة حيث يعمل في خانٍ يعيش فيه على الكفاف. ثم يبدأ تجواله وتشرُّده في أنحاءٍ كثيرة من أوروبا، ويُقبض عليه مراتٍ عديدة، ويسرقه أصدقاؤه ولا يتركون معه دانقًا. ويعود إلى إسبانيا ليتفرَّغ فيها لعدة مغامرات غرامية تنتهي بالفشل، فيلتحِق بفرقةٍ من الجند المُرتزقة مُتجهة إلى روما. ولكنه يُغير من هيئته ويهرب منهم، ويمضي متسولًا يحتال على رجال الدين مُستغلًّا طيبة قلوبهم. وفي القسم الثاني من القصة، يتنقَّل في خدمة عددٍ من كبار القوم، ويجوب البلاد الإيطالية مُستخدمًا حيلته وذكاءه في كسب المال. ثم يعود إلى برشلونة حيث يعمل بالتجارة، ويتزوَّج ويرِث ثروةً من زوجته المتوفَّاة، ثم يلتحق بجامعة «قلعة إينارس» ليدرس اللاهوت! غير أنه يهجر الدراسة قبل تخرُّجه بقليلٍ ليتزوَّج مرةً أخرى. ويفقد ثروته، فيُرغم زوجته على ممارسة الدعارة مقابل النقود، ولكنها تهرُب منه. ويعمل عثمان مديرًا لأعمال إحدى السيدات الثريَّات، ولكنه يسرقها فيُحكَم عليه بالأشغال الشاقة على السفن الملكية. وحين يكتشف مؤامرة يُدبرها البحارة للقيام بتمرُّد على السفينة، يفتن عليهم فيُكافأ بالبراءة مُقابل ذلك.

أما الرواية الأخرى، «السيد بابلو»، فقد كتبها كيبيدو، أحد شوامخ الأدب الإسباني في القرن السابع عشر، وعنوانها الكامل هو «قصة النصَّاب السيد بابلو، مثال المُتشرِّدين ومرآة البخلاء»، ونشرت عام ١٦٢٦م. وكان مؤلِّفها كذلك أحد المُستشرقين الأوائل الذين أجادوا اللغة العربية وقرءوا فيها الكثير من الكتب، ولم يكن العهد قد طال بعدُ بخروج العرب من إسبانيا. وتدور القصة حول بابلو، ابن حلَّاق لص، وأمٍّ تعمل بالسحر والشعوذة، الذي يلتحِق بخدمة الفتى الثري «دييجو كورونيل»، ويدرُسان معًا في مدرسةٍ داخلية لدى مُدرس خاص كاد أن يُميتهما من الجوع لبُخله وتقتيره الشديدَين. ويلتحقان معًا بعد ذلك بجامعة «قلعة إينارس»، حيث يتعرَّض بابلو لأسوأ الدعابات والمُزَح من الطلَّاب القُدامى بالجامعة على عادة ذلك العصر. وحين يبلغ مَسمعه نبأ موت أبيه على حبل المشنقة، يعود إلى بلدتِه كي يتسلَّم إرثه ويرحل إلى مدريد، حيث يعيش حياةً عاصفةً مُتنقلة مع أصدقاء له من الشطَّار، وينتهي به الأمر إلى السجن. وبعد أن يقضي فترة العقوبة، يُحاول الزواج ولكنه يفشل فشلًا ذريعًا. ويعمل بعد ذلك مُهرجًا في فرقة هزلية في مدينة طليطلة. وينتهي بابلو من سرد قصته بالإشارة إلى اعتزامه السفر إلى أمريكا الجنوبية حتى يعمل على تحسين أوضاعه المالية هناك.

وبعد هذا العرض للنماذج الرئيسية الإسبانية لقصص الشطار، نُورد هنا جانبًا من المصادر العربية — عدا بعض قصص ألف ليلة وليلة — التي تبدَّت من هذا النوع القصصي. فبادئ ذي بدء، أعلن الكثير من مُحقِّقي ومُؤرخي الأدب المقارن، أن لفظة بيكارو PICARO إن هي إلا تحريف واشتقاق من لفظة فقير العربية (والإسبان يُبدلون أحيانًا الفاء إلى باء وبالعكس في كلماتهم). وفي هذا اللفظ دلالة على صِفة بطل القصة الذي تدور حياته حول الفقر والعوَز والحاجة، بما يدفعه إلى حياة الصعلكة والتشرُّد.

ومصادر تلك الروايات في الأدب العربي الذي كان مُتداولًا أيام الوجود العربي في الأندلس، عديدة. فالصفات الرئيسية في هذه الروايات وهي قيام البطل بسرد روايته ومغامراته بنفسه، وحياة البطل التي تتميَّز بالتنقُّل المُستمر والتطواف وجوْب الآفاق، بالإضافة إلى لبِّ هذا النوع من الحكايات وهو استخدام الدهاء والمكر والاحتيال، تظهر كلها في بعض قصص ألف ليلة، كما تظهر أكثر في فنِّ المقامات الذي ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي، وكان أبرز نِتاجه مقامات بديع الزمان الهمذاني (٩٦٨–١٠٠٧م) ومقامات الحريري (١٠٥٥–١١٢٢م). وقد عمل الهمذاني على خلق شخصيةٍ من صعاليك المُجتمع هو أبو الفتح السكندري، وهو أحد شخصيات مقاماته — جمع فيها نفس السِّمات التي ظهرت بعد ذلك في البيكارو الإسباني، من الحياة الوضيعة والاحتيال على التكسُّب، والاستهتار بالقِيَم والتقاليد والناس، وما إلى ذلك. أما الحريري، فإن بطلَه أبا زيد السروجي هو الذي نبَّه بعض المستشرقين إلى الشبَهِ الشديد بينه وبين الصعلوك الإسباني. فأبو زيد هذا مُتسول ذكي، بائس، طريد المجتمع، رُزق مَوهبةً أدبية وجلاءً فكريًّا استغلَّهما في اكتساب قُوتِه ورزقه. وتَستبين في مقامات الحريري سِمات أساسية ظهرت فيما بعدُ في روايات الشطار الإسبانية، مثل استغلال الدين والتظاهُر بالتديُّن والصلاح في سبيل الحصول على المال، وتَنكُّر البطل في هيئاتٍ مختلفة كيما يهرب من مُطارِديه ودائِنيه أو للاحتيال على الآخرين، وتصوير أولئك القوم الذين يعيشون مِن تعبِ غيرِهم وكدِّهم، ويَهيمون بأطايِبِ الطعام والجيِّد من النبيذ والشراب. ذكر الدكتور غنيمي هلال عن أبي زيد في كتابه عن الأدب المقارن: «وهو في كل ما يأتي مُحتال لا تنفد حِيَلُه، ومرة ثالثة يقِف على قبر ميتٍ غير مُكتفٍ بالموقف في استدرار عطف الناس عليه، يبدو معصوب الذِّراع، ويتنكَّر في زيِّ امرأةٍ مع أطفالها. ويبلُغ استهتاره أقصاه حين يزعم حاجته إلى مالٍ ليُجهِّز ابنةً له، وليست هي سوى ابنة الكرْم، الخمر.» أما تلك النهاية السعيدة التي تنتهي بها قصص الشطَّار في العادة، فهي أيضًا قد وُجِدت أولًا في مقامات الحريري، كيما تُوفر اللمسة الأخلاقية الإضافية في مثل هذه القصص؛ إذ نجد أن بطلَه الشهير أبا زيد، بعد طول التجوال والتطواف على هيئته تلك وأفعاله التي أشرْنا إليها، يتوب في النهاية توبةً نصوحًا، ويعود إلى الحياة الصالحة والنهج القويم.

ومما هو ثابت أنَّ مقامات الحريري قد تُرجِمت إلى اللغة العبرية إثر تأليفها، وظهرت في إسبانيا بالذات مُحاكاة لها من الكُتَّاب العبرانيين الذين عاشوا بين ظهراني العرب في الأندلس. وتُشير قرائن عديدة إلى ذيوع قصص المقامات بين الأوساط الأدبية الإسلامية والمسيحية في إسبانيا. وكانت طريقة صياغتها الفريدة، ذات الجُمَل الموزونة المَشطورة، التي تنتهي بنفس القافية وتسير على نمَطٍ واحد، من بين الأشكال الأدبية التي استعارها الأوروبيُّون لتظهر بعد ذلك في كتاباتهم القصصية المُبكرة، ومنها مَلحمة السيد القمبيطور الإسبانية. بالاضافة إلى أنَّ الكثير من الكتُب القصصية التي أشرْنا إليها هنا، مُسطَّرة بنفس الطريقة البلاغية.

وثمَّة كاتب عربي مشهور تردَّد اسمُه كثيرًا في سياق مصادر روايات الشطار والصعاليك، هو أديبنا المعروف أبو عثمان الجاحظ. فهو قد أفرد عددًا من مؤلَّفاته — وإن لم يصِل معظمها إلينا — للحديث عن هذه الطبقة البائسة الفقيرة وطرُق احتيالها على العيش. وقد انعكست بعض صفات البُخل والتقتير التي وردت في كتابه عن البخلاء، واحتيالهم على التهرُّب من الإنفاق ومن القيام بواجبات الضيافة، في روايات البيكارسك الإسبانية، خاصة الأولى منها. فالجاحظ قد قدَّم لنا في كتابه قصصًا عديدةً تُبين دقائق حياة البخلاء وتفصيلاتها؛ وهو — كما يقول الأستاذ فاروق سعد في كتابه «مع البخلاء»: «يتابع بُخلاءه في حلِّهم وترحالهم، ولا يتردَّد في أن يدخُل بنا مساكنهم لنقِف على أكلِهم ومُواكلتهم ومُمتلكاتهم، وعلى همومهم ومشاكلهم وهواجسهم.» والكتاب يزخر هو الآخر بأخبار الفقراء والمُتسوِّلين والصعاليك. وكان الجاحظ يلمس عن قربٍ آثار الفقر والبؤس في مُجتمعه الذي حفل بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية الخطيرة التي تركت أثرها العميق على حياة الناس وأمنهم وثرواتهم. والفقر والتسوُّل يؤدِّيان إلى الغربة والتجوال والتشرُّد، وإلى شحْذ القريحة وادِّعاء ما ليس في المرء من أجل التكسُّب. كما أشار الأستاذ سعد ببراعةٍ إلى حقيقةٍ هامة وردت في وصف أحد المُتسولين في كتاب الجاحظ ممَّن يترك التسوُّل أحيانًا وينصرِف إلى ممارسة رواية القصص، ويقول في ذلك: «أنا لو ذهب مالي جلستُ قاصًّا.» وهذا إرهاص بما حدث من ورود قصص الشطار كلها على لِسان أصحابها بعد انتهائهم من حياة الصعلكة التي انتهجوها. كما يُشير الأستاذ سعد كذلك إلى تردُّد وصايا خالد بن زيد لابنه في كتاب البخلاء، ووصايا أبي زيد السروجي لابنه في مقامات الحريري، تردُّدها في روايات الشطار، ومنها وصية يتلوها الشحَّاذ الأعمى إلى لاثارييو، يدعوه فيها إلى الحرص والحذَر، والاحتراس من الدنيا ومن الناس.

ولا يقتصر إسهام الجاحظ في هذا الميدان القصصي عن الشطار على كتاب البخلاء، وبعض أقسام كتابه «المحاسن والأضداد»، وإنما له كتاب آخر مفقود يتحدَّث عنه مؤرخو الأدب، بعنوان «حيل المكدِّين» أي الشحَّاذين الصعاليك. ومن يدري، فلرُبما يُكشَف النقاب يومًا ما عن مخطوط لذلك الكتاب فنجد فيه ما يُلقي الضوء على ما ورد عن الشطار في الكتب الأوروبية الأولى. (هذا الجزء مأخوذ من مقالي «المصادر العربية في القَصص الأوروبي» المنشور في «رواة وروائيون من الشرق والغرب» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت عام ٢٠٠١م).

وقصص ألف ليلة حافلة بأخبار ونوادر الشطار والمُحتالين، وأبرزها مُتجمِّع في الحكاية التي أخذنا الاقتباس الأول منها، حكاية أحمد الدنف وحسن شومان مع دليلة المُحتالة وبنتها زينب النصَّابة، وهي كلها صور من الاحتيال والنصب والمقالب، يقوم بها شطَّار ومُحتالون ولصوص وسحرة. ونظرة إلى الأسماء الغريبة والكُنى العجيبة لبعض الشخصيات، التي جادت بها قريحة راوي أو مؤلف الحكايات تُعطي فكرةً لطيفة عن تلك الشخصيات، مثل: علي كتف الجمل – علي زيبق – أحمد اللقيط – زُريق السمَّاك – المعلم عذرة اليهودي – حسن شر الطريق، بالإضافة طبعًا إلى الأبطال الرئيسيين: دليلة المُحتالة – زينب النصَّابة – أحمد الدنف – حسن شومان. ويُلاحَظ أن هذه القصة تسير على نسَق معايير قصص الشطار، حيث ينتهي الأمر بأبطالها نهايةً سعيدة، حين تدخل دليلة المُحتالة وزينب النصَّابة في خدمة الدولة والخليفة، ويُرتِّب لهما معاشًا شهريًّا مقابل التزامهما بحفظ النظام، وهو ما سرى قبلًا على الشطار حسن شومان وأحمد الدنف ثم علي الزيبق.

ولم يقتصر الإبداع في روايات الشطَّار على إسبانيا وحدَها، بل إن هذا النموذج القصصي ما لبث أن انتقل من إسبانيا إلى الأقطار الغربية، بعد أن تُرجِمت تلك الروايات البيكارسك الإسبانية إلى اللغات الأوروبية الأخرى. ففي فرنسا، حاكى بعض المؤلِّفين مِثالَي «لاثارييو دي تورميس» و«عثمان الفراجي» اللتَين انتشرتا بسرعةٍ هناك، فظهرت أشهر رواية شطار فرنسية عام ١٧١٥م باسم «حياة جيل بلاس»، وإن كان بعض الباحثين يؤكِّدون أنها مجرد ترجمةٍ لرواية إسبانية مجهولة وليست إبداعًا فرنسيًّا خالصًا. وبعد ذلك، تأثر بقصص الشطار عددٌ كبير من الكتَّاب الفرنسيين منهم فولتير في رواية «كانديد» (١٧٥٩م) و«ديدرو» في «جاك القدرى» (١٧٩٦م) و«تندال» في روايته الشهيرة «الأحمر والأسود» (١٨٣١م).

وفي ألمانيا، تُرجِمت لاثارييو دي تورميس إلى الألمانية عام ١٦١٤م، وعثمان الفراجي في ١٦١٥م وبابلو النصَّاب في ١٦٧١م. وفي عام ١٦٦٩م، ظهرت رواية شهيرة في الأدب الألماني تنتسِب لهذا النوع، هي رواية «المغامر»، من تأليف «جيرمان شلايفهايم» (١٦٢١–١٦٧٦م).

أما في إنجلترا، فقد بلغت روايات الشطَّار شأوًا عاليًا من الشُّهرة والرواج، بدأت عام ١٥٩٤م برواية «المسافر سيئ الحظ» تأليف «توماس ناش»، ثم الرواية التي كتبَها دانييل ديفو (مؤلف روبنسون كروزو) المُسمَّاة «مغامرات مول فلاندرز» عام ١٧٢٢م، التي جاءت أقرب روايات الشطار الإنجليزية من الروح الإسبانية لهذا النوع من القصص، ومن ناحية الصفات الأساسية للشخصية التي تلعب دور البطولة وفي تطوُّر حياتها وتقلُّبها بين الرذيلة والفضيلة. ثم جاءت روايتا هنري فيلدنج «جوزيف أندروز» (١٧٤٢م) و«حياة توم جونز اللقيط» (١٧٤٩م) فرسَّختا أقدام الرواية البيكارسكية الإنجليزية بما ضمَّتاه من صفاتٍ مُميزة للبيكارو الإنجليزي، وبما أضافه فيلدنج من سخريةٍ من العاطفية الرخيصة والفضائل المُزيفة التي أسبغها على أبطال روايتَيه. وقد التقط تشارلز ديكنز الخيط بعد ذلك في رواياته التي تنحو إلى نفس النهج، ومنها أوليفر تويست، ودافيد كوبرفيلد، وآمال كبار، وغيرها.

وثمة رواية إنجليزية استوحاها مؤلِّفها من ألف ليلة وليلة قدَّم فيها شخصية «شطارية» من الطراز الأول هو حاجي بابا الأصفهاني. والمؤلف هو الدبلوماسي والكاتب الإنجليزي جيمس موريير (١٧٨٠–١٨٤٩م) وأصدرها في ثلاثة مُجلدات عام ١٨٢٤م، مُستخدمًا فيها معلوماته عن الشرق، خاصة إيران وتركيا حيث أقام وعمِل مدةً طويلة، تعرَّف فيها على أحوال أهل البلاد وقرأ كُتُبهم وتأثر بقصصهم. ورواية موريير تحكي قصصًا فارسية حول بطلِها حاجي بابا، الذي هو أشبَه بالشطَّار الذين يجوبون الآفاق بحثًا عن المغامرة والتربُّح. وهو في تطوافه ذاك يُلاقي من الأحداث والشخصيات ما يملأ الكثير من القصص المُشابهة لحكايات ألف ليلة وليلة. ومِن الواضح أن مؤلِّفها قد كتبَها تقليدًا للكِتاب العربي وطلبًا للنجاح الذي كانت تُلاقيه القصص العربية والشرقية في أوروبا. وفيها يسير المؤلِّف على النسَق الطبيعي لقصص الشطَّار، فيبدأ بوصف مَولد حاجي بابا حين تلِدُه أمُّه وهي في طريقها إلى العتبات الدينية المُقدَّسة للشيعة، فيلتصِق به لقب الحاج منذ صِغره. ويتعلَّم من أبيه صنعة الحلاقة، في نفس الوقت الذي يتلقَّى طرفًا من العلوم الدينية واللغات التي كان يتعلَّمها من التجار الوافدين إلى أصفهان من جميع أنحاء العالَم. وسرعان ما يُقرِّر الترحال حالَما يشبُّ عن الطوق، فيلتحق بخدمة تاجرٍ ثري ويُسافر معه في قافلةٍ يتهدَّدها التركمان فيقع أسيرًا في أيديهم.

ويقوم جاجي بابا بالتعاون مع التركمان وخدمتهم في غزواتهم، إلى أن يتمكن من الهرب والعودة إلى بلده حيث يمتهِن عدة مِهَن يستخدم فيها الحيلة والشطارة. ويتعرَّف على بعض الدراويش الذين يستغلون وضعهم في التكسُّب، فيتعلَّم منهم طُرق الاحتيال باسم التديُّن. ويُعلِّمه واحد منهم حكاية القصص والطُّرق التي يتبعها لاستخراج النقود من جيوب المُستمعين. وهنا نجد مرةً أخرى التصاق «الشطَّار» بقص الحكايات والقيام بدور الراوي، وهي التي بدأت عند أبي زيد السروجي في المقامات العربية.

ويسوق المؤلف موريير بطلَه حاجي بابا في أحداثٍ ومغامرات وقصص داخل قصص طوال المجلدات الثلاثة التي تستغرقها الرواية، ممَّا يجعلها من بين روايات الشطَّار النموذجية، التي كتبَها مؤلِّفها أصلًا بإلهامٍ من قراءاته في ألف ليلة وليلة وغيرها من القصص الشرقية.

ولم تنقطع روايات الشطار عن الظهور في عالَم الأدب المُعاصر، وإن كان ذلك في شكلٍ مختلف تمامًا ويتمشَّى مع العصر الذي كُتب فيه، وينطوي على دلالاتٍ فنية ومضمونٍ غير الذي ظهر في الروايات الأولى لهذا النوع القصصي. فنحن نجد صدًى لها في روايات ألمانية مثل «فيلكس كروس» (١٩٥٤م) لتوماس مان، ورواية «الطبلة الصفيح» (١٩٥٩م) لجونتر جراس؛ وفي إنجلترا في رواية كنجزلي أميس «جيم المحظوظ»، ورواية إيريس مردوخ «تحت الشبكة»، وفي الرواية الأمريكية «الحارس في الحقول» (١٩٥٤م) لسالينجر، و«مغامرات أوجي مارش» (١٩٥٤م) لصول بيلو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤