مقدمة

في نهاية المطاف، نتذكَّر الناس في شكل مقتطفات — شظايا ذكريات، وصور، ودفقات أصوات، وآثار متلاشية لهمسات. وحين أتذكَّر أبي، أفكِّر في عينيه. فحين كنت طفلة، كنت أبحث عنهما، متلهِّفةً لأن يتركَّزا عليَّ، ويَرْمِشا كما كانا يفعلان دومًا حين يكون على وَشْك أن يُلقيَ دُعابةً أو أن ينغمسَ في أحد خيالاتي الطفولية، كالبحث عن مخلوقات الليبريكان الأسطورية حين يكون القمر بدرًا. وفي الأيام الصافية في كاليفورنيا كان لون عينيه يُطابِق لون السماء. لكني أذكر أيضًا كيف كان يمكن أن تتطبَّعا بثباتٍ حديديٍّ حين يكون مُصمِّمًا على تعليمي شيئًا مهمًّا، مثل أن أعود على صهوة حصاني بعد أن أسقط عنه.

أتذكر كتفيه، اللتين كانتا عريضتين بما يكفي لأن يُجْلِسَني عليهما حين كنت صغيرة، وقويتين بما يكفي لأن يرفعني عليهما لأصعد إلى صهوة حصان، أو لبناء أسوار في مزرعتنا. وكان يملك ساقَي سبَّاح؛ إذ كانتا نحيلتين وقويَّتين. كما كان ذا بنية جسدية مثالية حين كان يغوص في حوض السباحة، وكانت ضربات ساقيه أثناء سباحته قوية ورياضية. حين كنت طفلة، كنت أقول إن بمقدور أبي أن يفعل أي شيء. كان والداي يجدان قولي هذا ظريفًا؛ لذا كنت أردِّده كثيرًا. لكني كنت أعنيه؛ كنت أظنُّ أن لا شيء يمكن أن ينال منه. وبعد مرور أعوام كثيرة، كنت أشاهده يقف عاجزًا أمام وحش لا يستطيع مقاومته.

وحين بدأ داء ألزهايمر يسلبه منَّا، كانت عيناه مؤشِّري الذي اعتمدتُ عليه لتحديد مدى سرعة تقدُّم المرض وشدَّة بأسه. في المراحل المبكِّرة من المرض كانت عيناه تمتدَّان إلى ما كان لا يزال معروفًا له، وكانتا تغوصان في خوفٍ إذا ما أضحى ما كان فيما مضى مألوفًا له غريبًا عليه فجأة. وفي مرحلةٍ ما أثناء فترة مرضه التي دامت عشر سنوات، كان كمن اختُطِف إلى مكان بعيد، وكان العزاء الوحيد أن عينيه بدتا مسترخيتين، وكأنه لا بأس من أن يكون هناك. وبمرور الوقت، تغيَّر لونهما فتلاشت زرقتهما وتحوَّلت إلى لون رمادي مبهم، كلون السماء حين يمر الضباب عبرها. وقبل أسبوع أو نحو ذلك من وفاته، أغمض عينيه وظننت أنهما لن يُفتَحا ثانية أبدًا. إلا أنه فتحهما.

وفي الليلة السابقة لوفاته، فكَّت الممرِّضة أزرارَ قميص نومه لتصغي إلى نبضه عبر السماعة الطبية. كانت كتفاه نحيلتين للغاية، مجرَّد حافتَين من العظم والجلد الشاحب. وضعت يدي على كتفه اليسرى؛ فاحتواها منحنى راحة يدي. ثم سألت الممرضة إن كان باستطاعتي أن أصغي إلى نبض قلبه. فأعطتني السماعة الطبية.

وقالت: «نبضه ضعيف. إنه واهن.»

سمعت صوت نبضه وكأنه صدًى. كان نبض قلب يغادر هذا العالم. قلب أردتُ دومًا أن أوطِّد معرفتي به، أن أتقرَّب إليه أكثر. عرفت أني سأتذكَّر صوت نبضه بقيةَ حياتي.

وقبل ثوانٍ من موته، فتح عينيه. كانت زرقتهما مشرقة وكانتا شاخصتَين، تطرفان مثلما كانتا تفعلان في السابق، قبل وقت طويل، في زمنٍ بدا وكأنه ماضٍ سحيق. رَكَّز ناظريه على أمي، وترك جَفنيه ينسدلان ثانيةً، وفي لحظة رَحَل.

•••

في عام ١٩٩٤، العام الذي تغيَّرت فيه حياة أسرتي للأبد، لم يكن الناس يتحدَّثون عن داء ألزهايمر. حين أصدر أبي خطابه للبلاد وللعالم، كاشفًا عن أن حالته شُخِّصَت بأنها داء ألزهايمر، فجأة أصبحت أسرة ريجان على الملصق الدعائي لمرضٍ لم يكن أحدٌ يريد أن يتحدَّث بشأنه. في ذلك الوقت كنتُ أعيشُ في مانهاتن، وإذا تعرَّف عليَّ الناس في الشارع، كانوا كثيرًا ما يستوقفونني ويتحدثون عن إصابته بداء ألزهايمر. عادةً كانوا يقولون إنهم يصلُّون لأجله، أو إنهم يشعرون بالأسف لما أصابه. لكن بين الحين والآخر كان أحدهم يشاركني مقتطفًا من تجربة شخصيةٍ له مع أحد أحبائه ممن شُخِّصَت إصابته بنفس المرض. ودائمًا ما يكون ذلك مقتضبًا، وشبه مبهم، كمشهد من خلال نافذة مواربة. ثم يرحل بعدها. كانوا يغادرون بعدما يتركون لي لمحات من تجاربهم، لكنهم لم يشاركوني مطلقًا بكامل قصتهم.

أتذكَّر أني كنت أسير في جادة كولومبوس ظهيرةَ يوم ممطر بعد لقاء من تلك اللقاءات، مدركةً أنني في حاجة لتقبُّل واقع أني وحيدة في رحلةٍ لا أعرف عنها شيئًا. شعرت وكأني شرعت في رحلة عبر جبال الهيمالايا من دون دليل من الشيربا. كنت أعرف أن سيكون ثمَّة أوقات من التعثُّر وأخرى أشعر فيها بالضياع، لكني ألزمت نفسي بتقبُّل رحلة خروج أبي من هذا العالم، أيًّا ما كان يمكن أن يعنيه هذا.

بطبيعة الحال كان أشقائي وأمي في هذه الرحلة أيضًا. لكن الحقيقة المفجعة بشأن داء ألزهايمر أن كل إنسان يفقد الفرد المصاب به بطريقته الخاصة، حسب بنية علاقته بذلك الفرد. كان أخواي وأختي وكذلك أمي بالتأكيد سيفقدون والدي بطرق مختلفة عن طريقة فقدي إياه. وحتى في أسرةٍ متقاربة ويسود التواصل بين أفرادها، تظل رحلة الفقد مثل رحلة الحُجاج الطويلة والصعبة، ويستقر شعور الوحدة في أعماقك.

•••

منذ بداية الأمر تقريبًا، فكَّرت في ألغاز الذاكرة وأسرارها، وكيف أننا نتشكَّل من خبراتنا وتجاربنا وماضينا ودروسنا الحياتية ونسترشد بما نتذكَّره منها. كل تلك الأشياء تؤثِّر فينا، وتُقَوْلِبنا لنصبح الشخصَ الذي نحن عليه في نهاية المطاف. إذن ما الذي يبقى إذا ما تلاشت ذاكرتنا؟ أنكون مجرَّد أوعية فارغة، مجموعة خلايا من دون هويَّة؟ لم يستطِع جزءٌ مني في أعماقي تقبُّل هذا، وما خطر لي كان قَناعةً من شأنها أن تصير دافعي خلال السنوات التي تلت ذلك: لم أعتقد أن بإمكان روح المرء أن تُصاب بداء ألزهايمر. فاتخذت قرارًا بأنني إن ظللت أحاول تجاوُز نطاق المرض، وأنني إذا ما ظللت أستهدف روح والدي، فسيمكنني بطريقةٍ ما أن أتواصل معه. أو على الأقل ستتاح لي فرصة لذلك. سيكون الأمر بلا شك تدريبًا على الإيمان.

أدرك أن البعض قد يقرءون كلامي هذا ويفكِّرون في أن هذا لا يُناسبهم، وأنهم باعتبارهم ملحدين أو لا أدريين لا يؤمنون بأن الروح كيانٌ منفصل. أنا في هذا المقام لا أهدف إلى هداية أحد؛ فمعتقدات الناس ليسَت من شأني. سأطلب منك ببساطةٍ أن تضع ذلك الاحتمال في اعتبارك. فأنت لا تعرف أنه ليس حقيقيًّا، وإن كنت تواجه تحدي إصابةِ أحد أحبائك بأي شكل من أشكال الخرف، فستكون بحاجة لكل الأدوات التي يمكنك الحصول عليها.

قال أنطوان دو سانت إكزوبيري: «لا يرى المرء بحقٍّ إلا ببصيرة قلبه. فالعين لا تُدرك جوهر الأشياء.» صادفت هذا الاقتباس بعد فترة وجيزة من تشخيص والدي بالمرض، ولسنوات طويلة قضاها في الرحيل عن هذا العالم على مراحل، تمسَّكت بالاقتباس وكأنه ترنيمة، عازمةً على أن أرى بقلبي ما خَفي على عيني.

لم أعرف ما ينبغي أن أتوقَّعه من داء ألزهايمر — ولا أحد يعرف؛ لأن كل حالة فردية تختلف عن غيرها — لكنني عرفت أن اللغة ستضعف، وأن الذكريات ستستحيل إلى رماد، وأننا لن نُنشئ ذكريات جديدة. رغم ذلك ظللت أُومِن أن روحًا سليمة معافاة تستقر في العالم الخفي المبهم الذي يتجاوز عالم الفكر والإدراك.

لطالما بدا لي أبي أكبرَ من الحياة، لكنه احتمل معه عزلة، وكأنها ضُمِّنت في حمضه النووي. قديمًا في الطفولة، قبل أن يتسلط عليه وهج دائرة الأضواء العالمية بوقت طويل، كنت أشعر بلغز يكتنفه، شيء مستتر جعل الأمر يبدو وكأن رحلته على هذه الأرض كانت رحلة حافلة ومهمة، وكأنه كان هنا للاضطلاع بمهامَّ جسام أعظم من تربيتي.

حين كنت في الصف السادس ساعدني على إنشاء مشروع علمي عن القلب البشري. أتذكر جلوسي إلى جواره في الباحة، وهواء الخريف حولنا حاد وبارد، بينما كان يُجَمِّع بصبر نسخةً مطابقةً مصنوعة من البلاستيك، مزودة بأنابيب شفافة لتقوم مقام الشرايين وماء أحمر اللون عوضًا عن الدم. وفيما كان يجمع القلب، تساءلت في نفسي عن قلبه ولماذا لم يكن باستطاعتي الاقتراب منه أكثر. بينما أتذكر هذا الآن، أظن أننا جميعًا راودنا إحساس بأن العالم كان يدعوه، وأنه كان يتوق لإجابته. هذا هو أحد الأشياء التي كانت مشترَكة بيني وبين إخوتي؛ كنا نتوق جميعًا لنعرفه أكثر، رغم إذعاننا الغريزي المُحزن لأننا لن نفعل أبدًا.

وبإصابته بداء ألزهايمر بدا أن والدي يتقلَّص في الحجم. كلُّ مَن يصابون بالمرض يتقلَّصون في الحجم؛ فهذا أحد الثوابت القليلة في مرض لا يمكن توقعه. سمح لي التمسُّك باعتقاد أن روحه لم تتأثر بمرضه ألَّا أتوه في غياهب تضاؤل وتلاشي جسده. رأيت ما يحدث، وفجعت على ما كان يُسرَق منه، لكنني استمسكت بثقتي في أن روحه كانت عميقة لا قرار لها، وأن أي مرض لا يمكن أن يحطِّمها.

لم أكن أعرف حينها أن بذور برنامج مجموعة الدعم الذي سأنشئه بعد سنوات عدة كانت تُغرس، مجموعة من أجل مقدِّمي الرعاية وأفراد أُسر المصابين بالخرف. وهو البرنامج الذي كنت سأطلق عليه «الجانب الآخر من داء ألزهايمر».

بعد أن توفِّي أبي فكَّرت برهةً في أن عملي مع داء ألزهايمر قد انتهى، وأن وطأته عليَّ قد انكسرت وأنني سأتذكَّره باعتباره فصلًا في قصة حياتي؛ فصلًا تغيَّرت فيه وكبرت. لم أرَه باعتباره تجربة وخبرة سترسم مسار حياتي وتمضي بها قُدمًا بطرائق عدة.

أفكِّر في ذلك الآن وأتعجَّب من سذاجتي.

•••

ما حدث كان أن عيونًا أخرى بدأت تؤثِّر فيَّ. كانت عيون غرباء توقفني بين الحين والآخر في متاجر البقالة أو على الرصيف. وتخبرني بتفاصيل شخصية عما كانوا يمرون به مع داء ألزهايمر (أو أحد أشكال الخرف الأخرى). كانوا يخبرونني عن والد أو والدة، أو شريك حياة في بعض الأحيان، لم يَعُد بإمكانهم التواصل معهم، لم يعودوا يعرفونهم، توقفوا فجأةً أو رويدًا رويدًا عن التعرُّف عليهم. أحيانًا كانت عيونهم تغرورق بالدموع، وأحيانًا أخرى كانت متسعة ولا ترمش، وكأنهم منهكون لدرجةٍ لا تمكِّنهم من البكاء. دائمًا ما كانت عيونهم تبدو مطارَدةً أو مسكونة. يدخل داء ألزهايمر من باب غير موصد ويتقدَّم ليسرق أثمنَ ما في الوجود؛ يسرق إنسانًا. تكون عاجزًا أمامه. ليس أمامك خيار سوى أن تتقبل أنك أنت أيضًا سجينه.

بدأت ألاحظ أنه عندما كنت أستمع إلى أناس لم أكن أعرفهم وربما لن أراهم ثانيةً، وكنت أعرض عليهم بعضَ الأفكار أو المُدرَكات من سنواتي التي قضيتها مع داء ألزهايمر؛ كانت عيونهم تتغيَّر. عادةً ما كان تغيُّرًا طفيفًا، ابتعاد عن اليأس نحو شيء يبدو شعورًا قريبًا من الأمل. الأمل في أن جدران السجن لم تكن صلبة كما كانت تبدو، الأمل في أن الخرف ليس نهاية المطاف؛ أنه توجد حجرات خفيَّة في مكانٍ يتخطى ذاكرة أحبائهم الخرِبة ولغتهم الممزَّقة حيث لا يزال بإمكانهم فيها أن يروا لمحةً من الشخص الذي عرفوه من ذي قبل. بدأَتْ إحدى السيدات في البكاء في ممر بيع الحبوب بمتجر «هول فودز» وقالت: «شكرًا لكِ. لم أكن أسمح لنفسي بالبكاء بما يكفي. كان كل شيء مكبوتًا بداخلي.» كنت قد أخبرتها ألَّا تستمع إلى الكلمات غير المترابطة التي تنطق بها والدتها (أو «خليط الألفاظ» كما أصبح يُطلَق عليها) وأن تستمع عوضًا عن ذلك إلى ارتفاع صوتها وانخفاضه وإلى نبرتها، وإلى موجات العاطفة التي تبدو من تحت كلماتها. ربما ما زالت لا تعرف ما تحاول والدتها التعبير عنه بالتحديد، لكنها كانت تفهم الأسس العاطفية ومنها يمكنها صياغة رد.

قلت للمرأة: «قد يساعدك في بعض الأحيان ألَّا تنظري إليها. أشيحي بناظرَيكِ عنها واستغرقي في صوتها.»

الطريقة التي توصَّلتُ بها إلى ذلك الاكتشاف غريبةٌ وغير معتادة بعض الشيء. فذات يومٍ عندما كان كل تركيزي منصبًّا على والدي، أحاول فَهْم ما يحاول قوله وأفشل في ذلك، انبثقَت في ذهني ذكرى. قبل سنواتٍ كثيرة، في الثمانينيات، كنت قد أمضيت أمسيةً مع جون بيلوشي ودان أكرويد في نيويورك. غادرَنا جون مبكِّرًا، وأوصلني دان وصديقته بالسيارة إلى شقتهما. وفي إحدى اللحظات في غرفة جلوسهما كان جون يتحدَّث عن شيءٍ ما (لا أتذكره الآن) لكني لم أستطِع أن أحدد ما إن كان يمزح أم يتحدث بجدِّية.

فقلت لصديقته: «كيف تعرفين حين يمزح؟»

فقالت لي: «الأمر بسيط. فقط لا تنظري إليه.»

ظلَّت تلك الذكرى تلازمني وبرزت على السطح عندما كنت في حاجة لها بالضبط. كانت تلك هي الكيفية التي اكتشفتُ بها أنني إذا لم أنظر إلى والدي، فإن مفاتيحَ ما يحاول قوله ستكون موجودة في نغمة صوته.

وبقدرِ ما كانت رحلتي الملحمية مع ألزهايمر تتسم بالوحدة، فإنني في واقع الأمر ممتنَّةٌ لما انطوت عليه من عزلة. إذ تعيَّن عليَّ أن أدبِّر أموري بنفسي دون أن يخبرني أحدهم بأنني مخطئة أو مجنونة أو لا أتسق مع الواقع. وحيث إن الناس لم يكونوا يتحدَّثون عن المرض، لم يكن ثمة ما يدعو لأن أتصل بأحدهم وأقول على سبيل المثال: «توصَّلت إلى هذا الاكتشاف العظيم بناءً على أمسية قضيتها مع دان أكرويد قبل وقت طويل. ما رأيك؟» لا يسعني سوى أن أتخيل كيف كان سيُضْحي ردُّ الفعل تجاه ذلك. لكن الحقيقة أن الأمر نجح حين وثقت بغريزتي واعتمدت على تلك الذكرى بعينها وبدأت ممارستها.

بين الفينة والأخرى قد يذكر أحد الغرباء عَرَضًا شيئًا عن أحد والديه الذي لا يعاني داءَ ألزهايمر، لكنه يقدِّم له الرعاية ويذكر مدى صعوبة الأمر عليه. وعادةً ما كانت تتخلَّل التعليقاتِ تنهُّداتٌ طويلةٌ وإشاراتٌ تنمُّ عن الإنهاك والسخط. بعدها كنت أفكِّر في مدى ما يصل إليه الأمر من تعقيد في بعض الأحيان مع والدتي أثناء العَقد الذي مرِض فيه والدي. كنتُ أريد أن أكون ابنة تعرف كيف تخفِّف عن أسرتها وتقدِّم العزاء؛ فأمي، في نهاية المطاف، كانت تفقد حب حياتها. لكن لغة التواصل بين أفراد أسرتي كانت لغة تباعد وانفصال وخوف. تعيَّن عليَّ أن أتعلم لغة تواصل جديدة وأن أجرِّبها في بيئة قد لا تلقى فيها القبول. كانت أمي مصدر خوف لي طيلة حياتي؛ وكان عليَّ أن أتجاوز ذلك الخوف من أجل أن أقدِّم العزاء والتشجيع. وكانت ثمة لحظات أظن أنني أَصَبتُ فيها، لكن كان ثمة لحظات كثيرة أخرى أعاقني فيها الخوف.

في نهاية المطاف، تعلَّمت درسًا آخر مهمًّا للغاية: بقدْر ما يهيمن داء ألزهايمر والشخص المصاب به على حياتك، فإنه يقدِّم لك أيضًا فرصة تحرير نفسك من هيمنة الماضي عليك. لا داعي لأن يتحدَّد شكل المستقبل بناءً على ديناميكيات الماضي. لقد أمضيتُ عقودًا كثيرةً من حياتي أتوق لشيء لم أكن لأحصل عليه أبدًا من أبويَّ. وجعلني داء ألزهايمر أدرك أنه أنا التي يتعين عليها أن تتغيَّر. أخبرتني إحدى صديقاتي أنها كانت تقصُّ على معالِجها النفسي كل الطرائق التي اتبعتها، وما زالت تتَّبعها في محاولة استثارة حنان أمها؛ وهي امرأة لم تُظهر لها من قبل أيَّ حنان. فأجابها المعالج النفسي في نهاية المطاف بردٍّ غير متوقع. قال: «لماذا تُصرِّين على الذهاب إلى متجر المؤن والأدوات من أجل الحصول على الخبز؟» كان ذلك وصفًا رائعًا وذكيًّا لما يفعله كثيرون منا. فقرَّرتُ أن أتوقَّف عن البحث عمَّا لن أجده، وأن أولي اهتمامًا أكبرَ بما هو موجودٌ بالفعل.

بحلول عام ٢٠٠١، كان قد مضى عليَّ سنوات عديدة وأنا ألقي محاضرات. وفي المناسبات واللقاءات المختلفة كنت أتحدَّث عن أنني ابنة شخص مصاب بداء ألزهايمر وعما كنت أتعلمه من هذه التجربة. وكان لديَّ موعد مقرَّر في منتصف شهر سبتمبر لإلقاء محاضرة في ميشيجان، وكانت قد حُدِّدَت قبل أشهر كثيرة من موعدها. ثم وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر. كنا كأمَّة مهزومين شرَّ هزيمة، ومخدَّرين من أثر الصدمة ويمزقنا الحزن. أتذكَّر، كما نتذكر جميعًا، السماء الصامتة وغمامة الحزن التي خيَّمت في كل مكان. ولم أكن أعرف إن كانت الطائرات ستعود للتحليق مجددًا في وقت محاضرتي، وبصراحة كنت آمُل نوعًا ما ألَّا يحدث ذلك. لم أكن فقط لا أرغب في أن أصعد على متن طائرة، لكن أيضًا لم أعرف كيف أجعل شعور الدمار الذي يتملَّكنا جميعًا يتواءم مع موضوع المحاضرة الذي كان متوقَّعًا مني أن أتحدث فيه. وشعرت أن عليَّ أن أضمِّنه في حديثي. لم أستطِع أن أتجاهل ما يحتل الصدارة في أفكار الجميع. وكما اتضح، عاودت الطائراتُ الطيرانَ قبل يومَين من موعد محاضرتي.

ركَّزت في حديثي — الذي ألقيته بعد وقتٍ قصيرٍ للغاية من سقوط البرجَين — على الحزن أكثرَ مما فعلت في محاضرات أخرى. ثم أثرتُ السؤال الذي كان يعصف بنا جميعًا: لماذا؟ لماذا أُرسِل في طريقنا مثل هذا الشر الذي يفوق التصور؟ لماذا كان أولئك الذين قضوا في البرجين، أو في الطائرات، موجودين في ذلك الوقت، في حين أن ثمة أشخاصًا آخرين توقَّفوا في اللحظات الأخيرة ليشتروا القهوة، أو أخذوا يوم عطلة أو غيَّروا رحلتهم، وكُتبت لهم النجاة بسبب ذلك القرار البسيط؟ لماذا يُصاب شخص صالح وطيب بداء ألزهايمر بينما يتمتَّع شخص آخر، يقطن غير بعيدٍ عنه، يتصف باللؤم والخداع ويصيح في أطفال الجيران، بصحةٍ مثالية؟ أين المنطق في كل هذا، أم إن هذا كله عشوائي فحسب؟ أخبرت أولئك الذين أتوا ليستمعوا إليَّ بأنني لا أملك أي إجابة عن أيٍّ من هذه الأسئلة، وأن أناسًا أكثر حكمةً مني لا يملكون أيضًا إجاباتٍ عنها. إنه سؤالٌ لا يمكن الإجابة عنه أبدًا، ليس على هذا الجانب من الحياة على أية حال. ثمة سؤال آخر أفضل بكثير هو: ماذا يمكنني أن أتعلَّم من هذا؟ إذا قلت لنفسك: أنا لا أفهم هذا ولا يمكنني أن أجده منطقيًّا، لكنني على استعداد لأن أكون منفتحًا على الدروس التي ينطوي عليها هذا الموقف أيًّا ما كانت، فإنك بذلك تغيِّر من طريقة اختبارك للتجربة، على الأقل في نواحٍ بسيطة.

وقد بدا أن الناس الذين كنت أتحدَّث إليهم يفهمون هذا ويدركونه، وأدركتُ أنني كنت أقول ذلك في محاولةٍ مني لإبقاء نفسي على مسار التعلُّم والانفتاح. كنت بحاجةٍ لتعزيز هذا في نفسي. ليس من السهل أن تلطمَك الحياةُ وتجد أنك تشقُّ طريقك عبر الحزن. من الصعب التخلِّي عن طرح سؤال لماذا، من الصعب التخلي عن محاولة إضفاء معنًى لما لا معنَى له. ومع داء ألزهايمر وكذا مع تجربةٍ مدمِّرةٍ كأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومع أي مأساةٍ ساحقة، لا توجد علاماتٌ إرشاديةٌ واضحة ترشدنا عبر الضباب. حين لا يتمكَّن الطيارون من رؤية مسارهم بسبب الغيوم أو الضباب، يعتمدون على أدوات. ونحن لدينا أدوات داخلية؛ مَواطن قوة لم نعرف أننا نملكها، بصائر وإيمان، يمكن لها أن تساعدنا على إخراجنا من المأزق. ظلَّت ذكرى موعد تلك المحاضرة تلازمني، ليس فقط بسبب تاريخها لكن أيضًا لأنني رأيت أناسًا أذرعُهم ملفوفة حول رفيق لهم أو ربما غريب عنهم — لم أستطع أن أتأكد — وفكَّرت في حلاوة الحزن وكيف أن بإمكانه شفاءنا في أوقات الجروح الكبيرة والخسارة الفادحة. رأيت وجوهًا تذرف الدموع، لكنها كانت تتحلى بعزيمة، بإصرار على المضي قُدمًا رغم الألم.

كان ذلك درسًا حول قوة مشاطرة الحزن وجمال ذلك. أتت مجموعة من الناس ليستمع أفرادها إلى تجربة شخصٍ آخر مع مرضٍ قوَّض حياتهم وقلبها رأسًا على عقب. ومن الجزء الخاص بالأسئلة والأجوبة عرفت قصةَ أمٍّ يافعة لم يستطع والدها أن يتذكَّر بين الزيارة والتي تليها مَن تلك الطفلة الرضيعة التي تمسك بها ابنته. أرادت تلك الأم لوالدها أن يتمكَّن من حمل حفيدته، لكنها كانت خائفة للغاية من أن يُسقِط الطفلة. وعرفت قصة زوجة لم يَعُد زوجها يتعرَّف عليها، ورجل كان الآن يُحمِّم والده في حوض الاستحمام ويتحدَّث إليه وكأنه طفل صغير. كل مَن كان حاضرًا كانت لديه قصةٌ حملها معه، يستيقظ عليها كل صباح وينتحب بسببها معظم الليالي. ثم كانت تلك القصة الأكبر التي تربط بيننا جميعًا. طائرات اصطدمت بالبرجَين، وآلاف الأشخاص ماتوا صباح يومٍ صافٍ، يوم جعلنا جميعًا نتساءل إن كانت الكراهية في سبيلها لتحقيق النصر، وإن كنا سنُشفى يومًا من تلك الجراح.

ما رأيته في ذلك الحشد، في ذلك اليوم، أن اللين الناتج عن الحزن كان ينتصر. رأيت ذلك مع أن تفاصيل قصة كل واحد من هؤلاء كانت مختلفة، وكان ألمهم يتدفَّق نابعًا من مشاعر الحب لديهم.

•••

وفي الوقت الذي أعقب وفاة والدي، وإذ كانت كلمات الغرباء تجتذبني، لم أتمكن من التخلُّص من الشعور بأن قصتي لم تكن مميَّزة. يمكن للجروح والندوب التي تصيب الأسر أن تُشعِر المرء بالعزلة حتى يدرك أنه جزءٌ من نادٍ كبير جدًّا؛ فعادةً ما يكون التشابه بين قصصنا أكثر من الاختلاف. فقد عرفتُ أنه يوجد عدد لا يُحصى من مقدمي الرعاية ممن يصارعون الأشياء نفسها التي كنت أصارعها. وفيما تعلمت الكثير من العزلة التي اكتسبتها من تجربتي، أردتُ أن أحاول أن أقلل من الشعور بالوحدة لدى الآخرين الذين كانوا يمرون بنفس ما كنت أمرُّ به.

ذات مرةٍ أخبرني أحدهم بأنه يوجد نوعان من الناس في هذا العالم؛ أولئك الذين يمرون من باب ولا يلتفتون أبدًا ليروا إن كان أحدٌ ما يمر منه خلفهم، وأولئك الذين يمسكون بالباب ليبقوه مفتوحًا في حالِ ما إذا كان أحد خلفهم. وأردت أن أكون من النوع الثاني.

لست واثقة من السبب في استغراق الأمر مني ثمانية أعوام بعد وفاة والدي لأبدأ مجموعة الدعم الخاصة بي، «الجانب الآخر من داء ألزهايمر». ربما كان الأمر ببساطة أنني استغرقت كل هذا الوقت لأنظِّم في داخل نفسي كلَّ ما تعلَّمته. أو من المحتمل أنني احتجت تلك السنوات لأدرك أن داء ألزهايمر بمجرد أن يدخل حياتك لا يغادر مطلقًا. طيلة العَقد الذي استغرقه مرضُ أبي، شعرت وكأنني أطفو فوق سطح مياه عميقة، تتقاذفني الأمواج، وتحملني تيارات، لكنني لا أغرق. وكان طوقا نجاتي هما إيماني وتصميمًا لا يلين على أن أتأمل فيما وراء قسوة هذا المرض من أجل أن أتعلَّم منه.

في مرحلةٍ ما، رأيت كيف أن داء ألزهايمر كان في واقع الأمر يمكِّنني من التعرُّف على والدي بصورة أفضل قليلًا. فقد انفتحت أمامي بعض الثغرات. تمكَّنت من رؤية لمحات عن الصبي الذي كان يسرع الخطى إلى المنزل بعد المدرسة، ويُخرِج حذاء التزلج على الجليد من تحت سريره، ويتزلَّج على النهر حتى يبدأ ضوء النهار في الخفوت وتنادي عليه والدته من الباب الخلفي. تمكَّنت من رؤية المراهق الرياضي الذي رفض أن يعوقه قِصر نظره الحاد. كان حارس إنقاذ على الشاطئ في فصول الصيف وقد أنقذ سبعة وسبعين شخصًا (وهذه حقيقة لم يتمكن حتى داء ألزهايمر من محوها من ذاكرته). تمكنت من رؤية الشاب الذي حلم بحياة أكبر من تلك التي حظي بها والداه، والذي أحب والدَه وتعلَّم منه التسامح والنزاهة، لكنه تعهَّد بألَّا يكون مثله أبدًا في جوانب أخرى. فقد ظلَّ جاك ريجان أسيرَ الكحول طويلًا؛ كان النجاح يمثِّل له دائمًا حلمًا بعيدَ المنال يقبع في قاع كأسٍ من الويسكي. يسافر داء ألزهايمر بالشخص عبر الزمن إلى الماضي. وإذا كنت مستعدًّا لاتباعه في ذلك الطريق، فإنك ستعرف أشياءَ ما كنت لتعرفها لولاه.

في عام ٢٠١١ بدأتُ مجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر» في جامعة كاليفورنيا، بلوس أنجلوس. تشاركت مع مُيَسِّر مشارك من المجال الطبي وأدرتها طيلة خمس سنوات، ثم نقلتها إلى مستشفى سانت جون في سانتا مونيكا بعد أن حدث تغييرٌ إداري في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. والمجموعة مسجَّلة الآن في مركز جايزنجر الطبي في سكرانتون بولاية بنسلفانيا وعيادة كليفلاند في لاس فيجاس بولاية نيفادا. ويحدوني الأمل أن تحتضن المزيد من المستشفيات الفكرة وتقدِّم البرنامج لمقدِّمي الرعاية الذين يحتاجون مكانًا آمنًا يمكنهم أن يتحدثوا فيه بحرية وانفتاح. ولكن من المحزن أن في المجتمع الطبي ما زال لا يوجد ما يكفي للاستثمار في الاعتناء بمقدِّمي الرعاية.

حين بدأتُ مجموعة الدعم لم أكن واثقةً تمامًا من أن المبادئ التي توصلت إليها ستُتَرجَم إلى واقع عملي. فخلال جانبٍ كبيرٍ من مرضِ والدي حين كنت أحاضر عن الموضوع، كان الجمهور يتماهى مع ما كنتُ أقول، لكنني كنت قد تعلمت المزيد بمرور السنوات منذ ذلك الحين. ولم أستطع التيقن من أن مَن يأتون إلى مجموعة دعم سيشاركونني في منهجي. من ثمَّ كان هذا بمثابة قفزة ثقةٍ أخرى. لكن مع استمرار المجموعة، بدأت أجد أن الناس يجدون الدعمَ في مشهد يتغيَّر من حولهم كل يوم. ويحدوني الأمل أن هذا الكتاب سيفعل الشيء نفسه. لا يمكن لهذا الكتاب أن يقلل الحزن الذي يشعر به أيُّ أحد أو يُخَلِّصه منه، لكني آمُل أن يكون سراجًا على دربٍ حالك الظلمة في معظم الأحيان.

وليس هذا كتابًا إرشاديًّا، وإن كان بالطبع يحوي بين جنباته بعض الاقتراحات. إنه بالأحرى استكشاف لكل الأشياء التي تصادفك وتحيد بك عن المسار وأنت تعيش برفقة هذا المرض الغامض والمضني. وأحد الأشياء التي لا يوضِّحها أحدٌ في معظم الأحيان هي أن داء ألزهايمر يقع هو وأشكالٌ أخرى منه ضمن تصنيف أمراض الخرف. لكل نوعٍ من الخرف سماته الخاصة، التي سأتطرَّق إلى مناقشتها، لكن معضلة فقدان عزيز لك بهذا الشكل والألم الناتج عن ذلك هما من الثوابت التي توحِّد تجربة الجميع. في هذا الكتاب، أستخدمُ داء ألزهايمر والخرف بالتبادل مترادفَين، وأُضَمِّن كل أشكال المرض فيما أصفه ما لم أحدد خلاف ذلك.

كثيرًا ما أقترح في مجموعة الدعم الخاصة بي أن طرحَ سؤال «كيف ينبغي أن يكون حالي؟» في موقفٍ معينٍ أفضلُ من طرح سؤال «ما الذي ينبغي أن أفعله؟» لأن الأول يحدِّد في نهاية المطاف الإجراءات التي تتخذها. فدائمًا ما يتبع الشكل المحتوى. ذلك لا يعني أن اقتراحات أو أساليب بعينها ليست ذات أهمية — بل على العكس — وسأتطرَّق إلى الكثير منها في هذا الكتاب. لكن حالتك العاطفية بصفتك مقدِّم رعاية هي ما يؤثِّر على المحصِّلة النهائية.

حين بدأتُ مجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر» كنتُ أريد لها أن تكون مجموعة دعم متعمقة، تتوغل فيما يجري تحت السطح؛ في المشاعر التي يحتفظ بها الناس ويترددون في الإفصاح عنها. لا أعرف كيف يمكنك بأي شكل اكتشاف كيفية التعامل مع المواقف المعقَّدة التي يلقيها داء ألزهايمر في طريقك ومعالجتها، إذا لم تلقِ نظرةً متبصِّرةً على أسرتك وعلى ديناميكية العلاقة فيها، وعلى التاريخ الأساسي لها. فكل هذه الأمور ستتضخَّم حين يظهر داء ألزهايمر في الصورة.

في وقتٍ ما بعد أن أعلن أبي أنه مصاب بداء ألزهايمر، كان ثمة لحظة فكَّرت فيها أن هذا المُصاب قد يزيد من لُحمة عائلتي. وأعرف أنني لست الوحيدة التي كان يحدوها ذلك الأمل. فهذا أمرٌ عبَّر عنه كثيرون لي بعد التوصل إلى مثل هذا التشخيص الخطير. ويؤسفني أن أقول إن هذا لا يحدث إلا في الأفلام والقصص الخرافية البهيجة؛ حيث يعيش الجميع في النهاية في سعادة دائمة. أما على أرض الواقع فتنكشف الجروح القديمة وتبدو واضحةً جلية. من المحتمل بالطبع أن تؤدِّي معالجة هذه الجروح في نهاية المطاف إلى اكتشاف روابط جديدة في داخل الأسرة، لكن هذا لا يحدث في اللحظة ذاتها التي يخرج فيها التشخيص النهائي.

من المثير للاهتمام أنه مثلما يتسبب داء ألزهايمر في تدهور ذاكرة المصاب وسمات شخصيته تدريجيًّا، يؤدي أيضًا إلى أن تبرز شيئًا فشيئًا إلى السطح المشاعرُ والصراعاتُ والقضايا الكامنة لدى أفراد أسرته وأحبائه. فجميعنا تنشأ لدينا طبقات واقية لتغطية المسائل العالقة أو مشاعر الاستياء القديمة؛ ونحن نفعل ذلك لنجعل الحياة تمضي بسلاسة، لكننا أيضًا نفعل ذلك لنحاول إقناع أنفسنا بأننا تخلَّصنا من تلك المسائل أو مشاعر الاستياء. وما إن يظهر داء ألزهايمر، حتى يبدأ كل شيءٍ في التكشُّف. إنه أمر مخيف وكاشف في آنٍ واحد أن تواجه أشياء ظننت أنك تعاملت معها، أو كنت تأمُل أنك تخلَّصت منها؛ كالطريقة التي عاملك بها أبوك أو أمك فيما مضى، أو خلافاتك مع إخوتك، أو المآسي التي وقعت لك ولم تبُح بها، أو الطلاق أو الإدمان. يكشف داء ألزهايمر كل الأوراق. فهذا ببساطةٍ أحد مظاهر ذلك المرض. لكن، وكما هو الحال مع أي خبرات نمرُّ بها، دائمًا ما يكون لنا خيارٌ في الكيفية التي نستجيب بها.

وعلى مدار ست سنوات من إدارة مجموعة الدعم الخاصة بي، لا يسعني أن أستحضر في ذهني إلا ثلاث أسرٍ كانت الروابط بين أعضائها قويةً منذ البداية وظلَّت على حالها بمجرد أن علمت أن أحد أفرادها مصابٌ بالخرف. كان الأشقاء والوالد، المقدِّم الأساسي للرعاية، يأتون معًا إلى مجموعة الدعم، وكانت رابطة الحب والاحترام المتبادل بينهم لا تنفصم، مع ما قد يكون بينهم من خلافاتٍ من حين لآخر بشأن ما ينبغي فِعله في مواقفَ بعينها. كان من اللافت للنظر رؤيةُ ذلك، ومن المؤسف أنه كان أمرًا نادرَ الحدوث. ففي معظم الحالات، تكون الأسر كالأرض المحروثة أكثر مما ينبغي؛ فيكون من الصعب زراعة أي شيء جديد فيها.

ولا أظنُّ أني توقَّفت قط عن الأمل في أن تكتشف أسرتي كيف تكون أسرة حقيقية. لكن ذلك لم يحدُث. كان التباعد وعدم الانسجام واقعنا لوقت طويل جدًّا؛ فنحن لم نعرف سبيلًا غير ذلك. وقد بُذِلت الجهود في العلاقات على المستوى الفردي. فقد بدأت أنا وأختي مورين نتحدَّث عبر الهاتف في معظم الأحيان حين كنت لا أزال أعيش في نيويورك، وكنا نلتقي متى عدتُ لرؤية والدنا. خلال ذلك الوقت، كان قد جرى تشخيص إصابة أختي بسرطان الخلايا الصبغية الذي أودى بحياتها في نهاية المطاف، لكن حتى هذا التشخيص لم يغيِّر ما كان واضحًا جليًّا؛ وهو أن أسرتنا تفتقر إلى أسسٍ قوية. كنا نحاول أن نبنيَ بيتًا على الرمال. كان أخي رون قد أسَّس حياته الخاصة في سياتل؛ وكان يزورنا أحيانًا لكن حياته ظلَّت منفصلة، ومجهولة لبقيتنا. أما أخي مايكل فظلَّ يعاني نفورَ أمي منه، الأمر الذي لم يكن ليقلَّ أبدًا. وكنت أنا وأمي عالقتين في الموقف المعقَّد نفسه حيث كنا نجتمع ثم ننفصل ونتباعد. كان نمطًا قديمًا بيننا، وشعرت أنه عتيق ومتوقَّع بصورة مُحزِنة. واحتجتُ إلى سنوات طوال والكثير من الجهد لأستخرجَ من ذاكرتي لحظاتٍ قضيتها مع والدتي كانت فيها مَحَبَّة، بل حتى رقة، وأتمسَّك بها باعتبارها جزءًا حيويًّا وأساسيًّا في قصتنا.

•••

لقد رأيتُ أناسًا كانوا يشعرون فيما مضى بأنهم مكبَّلون باقتحام الخرفِ حياتَهم؛ يتراجعون خطوةً إلى الوراء ويغيِّرون موضع تركيزهم. تعلَّموا أن ينظروا إلى المرض بشكلٍ مختلف وأن يدركوا أنه لا يتعيَّن أن يسرق المرض حياتَهم هم أيضًا. كان هذا يعني إعادةَ تقييم الشخص الذي يختارون أن يكونوا عليه. فما الذي أرشدهم في ذلك، وبماذا تمسَّكوا؟ وشَهِدتُ أناسًا يتقبَّلون دموعهم وآلامهم كأدوات، وليس كعقاب، ويجدون في أنفسهم قوَّة لم يعتقدوا من قبل أنها موجودة فيهم.

عرفت من خبرتي من أين بدءوا، وإلى أين يمكن أن يصلوا إذا ما كانوا يتحلَّون بما يكفي من عزمٍ وتصميم. وهذا التحوُّل ليس بالسهل؛ إذ يتطلب جهدًا، لكنه ممكن. فقبل عدة سنوات من إعلان أبي عن تشخيص مرضه، كنت قد غادرت كاليفورنيا وانتقلت إلى الساحل الشرقي. كان زواجي قد باء بالفشل، وبعدها دخلت في علاقة مسيئة لي، وشعرت بالانهزام وانعدام القيمة. ففعلت ما أنزع إلى فِعله. هربت: بِعت منزلي بأدنى سعر، وفقدت كلَّ شيء تقريبًا، واستمرت دوامة السقوط التي بدا أنها كانت بلا نهاية. لم أستطِع أن أجد مخرجًا من الظلام. وكنتُ أفكِّر بجدِّية شديدة في إنهاء حياتي؛ كانت تلك الخاطرة تأتيني كلَّ يوم، تلفُّ حولي، وتهمس في أذني فتوقظني ليلًا. كانت تلك هي المرة الثانية في حياتي التي أصل فيها إلى شفا تلك الهاوية؛ إذ كانت الأولى عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري وكنتُ متداعية من المخدرات. لكن هذه المرة كانت مختلفة. كان ذلك عبء حياة كاملة رأيتها فاشلة. لم أعرف كيف أحوِّل الأشياء لصالحي، وشعرت أن روحي عارية ومنهكة.

ثم تلقيت المكالمة التي تقول إن والدي سيعلن أنه مصاب بداء ألزهايمر. كان أخي رون قد أخبرني بأمر التشخيص قبل ذلك ببعض الوقت، لكن لم يكن من المفترض أن أعرف. ولا أبي كذلك. أظن أن سريَّة الأمر جعلت الموقف برُمته يعطي شعورًا بالتجرد. وفجأة، تغلَّب المرض وكل ما ينطوي عليه على ألمي الشخصي وَفَاقه. وأتذكَّر اللحظة التي انفتح فيها شيء بداخلي وقرَّرت أن أعيش. كنت قد أنهيت المكالمة لتوي، وكان صوت أمي لا يزال يتردد في رأسي، وهي تخبرني بأن العالم في غضون ساعة سيعرف أن أبي مصاب بداء ألزهايمر. كان بصيص من ضوء الشمس يستقرُّ على كتفي، وكانت ضوضاء شوارع مانهاتن تتسرَّب من النافذة المفتوحة. وعرفت أنني في حاجة لأن أكون مع أبي في مرحلته الانتقالية الأخيرة. وحين ذاع الخبر عصرَ ذلك اليوم وقرأتُ — أنا وأمريكا والعالَم بأسرِه — خطابَه للمرة الأولى، رأيت كيف كان سيتقبَّل بسرور كلَّ لحظة باقية له في الحياة. وإن كان بمقدوره مواجهةُ ضبابيةِ أيامه الأخيرة بهذا الشكل من الشجاعة، فيمكنني أنا أيضًا التطلُّع إلى المستقبل بشجاعة.

لذا حين أتى الناس إلى مجموعة الدعم الخاصة بي يعرضون انكساراتهم بشكل كامل، كنتُ أعرف كيف هو ذلك الشعور بالألم. وكنتُ أعلم أنهم إن ظلُّوا يأتون إلى تلك الحجرة كل أسبوع — حيث الدعم والأمان، وحيث يستمع إليهم أعضاء المجموعة دون أن يصدروا أحكامًا — فسيكون بإمكانهم أن يتحسَّنوا ويتبدلوا ويصوغوا أسلوبًا جديدًا لعيش حياتهم. بطريقة غريبة، أنقذ داء ألزهايمر الذي أصاب والدي حياتي. فقد وضعني على دربٍ لاكتشاف طريقةٍ أكون موجودة من خلالها معه عبر منعطفات المرض المجهولة. وأخيرًا، ألهمني أن أكتشف كيف يمكنني أن أُوجَد من أجل الآخرين.

لم أتشارك قط مع الناس في مجموعة الدعم هذا الفصلَ الحالك من قصَّتي. فلطالما اعتقدت أننا نعرف بصورة غريزية متى يمكن لشخص آخر أن يجد صلةً بينه وبين ما نمرُّ به، وكنتُ على ثقة في أنهم يعرفون هذا عني. وقرَّرت أن أشاركه الآن لأنه قد يقرؤه شخصٌ ما ويكون على شفا الهاوية نفسها. ربما وصل ذلك الشخص إلى شفا تلك الهاوية بتراكم مآسي الحياة وقسوة الأقدار، وربما بتشخيص إصابة عزيز له بالخرف. أريد أن يعرف هؤلاء أن ثمَّة طريقًا للخروج من تلك الهوة السحيقة، وأن حتى إن كان داء ألزهايمر قد وضعهم فيها، فبإمكانه أيضًا إخراجهم منها.

•••

الحقيقة التي لا يمكن نكرانها بشأن فقدِ عزيز لديك بداء ألزهايمر هي أنك في نهاية الرحلة لن تكون نفس الشخص الذي بدأها. لكن الكيفية التي سيكون عليها اختلافك هي مسألة اختيار يعود إليك. إما أنك ستكون أكثرَ لينًا ومرونةً وانفتاحًا، أو ستكون أكثرَ قسوةً وهشاشةً وانتقادًا. يتلخَّص الأمر في الاختيارات التي تتخذها يوميًّا. وهدفي من العمل الذي قمت به — ومن هذا الكتاب — أن أشجِّع الناس على أن يختاروا الباب الأول. فليست هذه فحسبُ طريقةً أسهلَ لعيش الحياة، بل أيضًا ستدرك شيئًا فشيئًا، بقدْر ما يبدو ذلك مخالفًا للمتوقَّع، أن هذا المرض يحمل في طيَّاته فيضًا من الهِبات والعطايا. إن الألم معلِّم بارع إن سمحت له بأن يكون كذلك. إنه الظلمة والنور معًا، إنه العدوُّ والصديق. يمكنه أن يغرقك في أعماقٍ موحلة، ويمكنه أن يرفعك لتسموَ فوق ساحات المعارك الغابرة، وكثيرًا ما سيتركك هائمًا وسط تيارات الإحساس بالضياع.

لا شك في أن داء ألزهايمر، كأي شكل من أشكال الخرف، سيجلِب الفوضى إلى حياتك. لكن في خضم الفوضى، ثمَّة مساحات من الهدوء، ولحظات من السكون تنتظر أن تجدها. تلك المساحات هي حيث تكون قادرًا على النظر إلى ما هو أبعد من الحطام الذي يخلِّفه المرض، أبعد من كلِّ ما فقدتَه، وكل ما تفتقده، لتكتشف أجزاء جديدة من نفسك كانت في انتظار أن تكتشفها.

«في الوقت الحالك، تشرع العين في أن تبصر.»

ثيودور ريتكي، «في الوقت الحالك»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤