خاتمة

ذات ليلة في عام ٢٠١١، استيقظتُ في الثالثة صباحًا. كانت عاصفة قد هبَّت. وكان المطر ينهال على جذوع الأشجار خارج نافذتي، ولم يكن ثمة صوت آخر سوى صوت العاصفة. لا أعرف إن كنت قد حلمت بالأمر أولًا ثم استيقظت بفكرتي عنه، أو أنه أتى مع المطر، لكني رأيت نفسي أدير مجموعة دعمٍ لأولئك الذين يفقدون عزيزًا لهم جراء داء ألزهايمر. فنهضت، وتوجهت إلى الكمبيوتر وبحثت عن مجموعات دعم داء ألزهايمر، لأرى إن كان مجالًا مزدحمًا. ولم أجد مجموعاتٍ كثيرةً جدًّا؛ لم أجد سوى بضع منها.

وقبل نهاية الشهر، كنت جالسةً في مكتب الدكتور ديفيد فاينبيرج بالمركز الطبي لجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، أشرح له ما أردت فِعله. وديفيد فاينبيرج هو أحد أولئك الأشخاص النادرين الذين يستمعون، وهو يستمع بإنصات. وتحت إشرافه، أولى المركز الطبي بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس اهتمامه لجعل رفاهية المرضى وصالحهم على رأس الأولويات. وبحلول نهاية لقائنا، عرفت أن مجموعة الدعم الخاصة بي قد وجدت بيتًا لها.

وطوال السنوات الخمس التي أدرتُ فيها المجموعة في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، عرفت دومًا أنه يُساندني. وكنت لسذاجتي غافلةً عن أن المستشفيات، مثلها في ذلك مثل معظم المرافق، يمكن أن تكون تنافسية بصورة شرسة ومُسَيَّسة بطبيعتها إلى حدٍّ كبير (ليس المقصود بالسياسة هنا السياسة الحزبية للجمهوريين والديمقراطيين، بل أقصد سياسة أماكن العمل). وحين رحل ديفيد عن جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس متجهًا إلى مركز جايزنجر الطبي في بنسلفانيا، سرعان ما اكتشفت أن حمايته لي كانت قيِّمة للغاية. وعليَّ أن أقرَّ بأني صُدِمتُ من الخيانات التي واجهتها فجأةً من البعض. لكن كان أهم شيء هو الإبقاء على استمرارية مجموعة الدعم. وحيث إنه تبيَّن أن المجموعة لم تعُد تجد في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس بيتًا لها، نقلتها إلى مستشفى سانت جونز في سانتا مونيكا. وسأظل ممتنةً دائمًا للدكتور جون روبرتسون لتحقيق ذلك، ولكيت جونسون ولمؤسسة دين إف جونسون لأبحاث داء ألزهايمر، لمساعدتي في جَمْع التبرعات اللازمة لاستمرارها في العمل.

وفي عام ٢٠١٧، تعيَّن عليَّ اتخاذ القرار الصعب بإنهاء مجموعة الدعم. كنت أديرها مرتَين أسبوعيًّا مدة ست سنوات، وكنت أقضي الكثير من الوقت أبحث بين المنشآت ومرافق الرعاية النهارية، إضافةً إلى البحث في أشياءَ أخرى كانت تطرأ في المجموعة. وكان عملي كمؤلِّفة يتراكم عليَّ. كنت قد نشرت رواية واحدة أثناء فترة إدارتي للمجموعة، لكن كتابي التالي كان يقبع في الكمبيوتر الخاص بي غير منتهٍ وفي حالة يرثى لها. كما كنت أحاول أن أجمع مادة لفيلم وثائقي، لكني لم أكن أجد الوقت لذلك. أَضِف إلى ذلك أنه، بمجرد أن انتقلنا إلى مستشفى سانت جونز، تعيَّن عليَّ إدارة المجموعة اعتمادًا على التبرعات. كانت جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس تموِّل المجموعة حين كانت هناك، لكن الحال لم يكن كذلك في مستشفى سانت جونز. لم يحدث مطلقًا أن دفع أحدٌ أموالًا للمجيء لمجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر»، لكن ثمة تكاليف ينطوي عليها الأمر. فقرَّرت العمل على ترخيص البرنامج للمستشفيات.

وفي مناسبات كثيرة كنت أصطدم بإدراك مُحزن مُفاده أن بعض المستشفيات لا ترى قيمةً لمساعدة مقدِّمي الرعاية. لحسن الحظ، كان مركز جايزنجر الطبي في بنسلفانيا وعيادة كليفلاند في لاس فيجاس استثناءَين من ذلك، وقد اعتُمِدَت المجموعة فيهما. وما زلت يحدوني الأمل في أن يرى المزيد من المستشفيات أهمية تقديم الدعم لمقدِّمي الرعاية للمصابين بداء ألزهايمر وأنواع الخرف الأخرى، حتى لا يصبحوا هم أنفسهم مرضى بفعلِ ما تنطوي عليه تجربتهم من ضغط وتوتر. يحتاج مقدِّمو الرعاية إلى مكان يذهبون إليه حيث يمكنهم أن يتحدثوا، وينفِّسوا عن أنفسهم، ويبكوا، بل ويضحكوا حتى في بعض الأحيان. راودني دومًا شعورٌ قويٌّ بأن مجموعة الدعم الخاصة بي تنتمي إلى المستشفيات؛ ففي المستشفيات عادةً ما يُجرى التشخيص المريع لأحبائهم؛ لذا ينبغي أن يكون المستشفى أيضًا مكانًا يمكن لمقدِّمي الرعاية وأفراد الأسرة أن يذهبوا إليه؛ ليساعدهم في علاج أنفسهم.

إن من أقسى وقائع جائحة كورونا أن أفراد الأسرة لم يكونوا قادرين على زيارة أحبائهم المصابين بالخرف، والذين يقيمون في منشآت الرعاية. ليس بمقدور هؤلاء أن يكونوا حاضرين فيما يسلب الداء المزيد والمزيد من الشخص الذي يحبونه. وليس بمقدورهم أن يكونوا حاضرين في لحظة النهاية. وقد تسبَّب هذا في تحويل الموقف من مؤلم إلى أشد إيلامًا. وهذا يعني أن ثمة أشخاصًا أكثر في حاجةٍ إلى الدعم والمساندة الوجدانية.

شددت دومًا على أهمية السرية في مجموعة الدعم، وقد بذلت قصارى جهدي لتحرِّي ذلك في هذا الكتاب. فأثناء سردي لقصصٍ بعينها، محوت ضمائر المذكر والمؤنث واستخدمت الضمير المحايد عوضًا عن ذلك، بنية طمس هُوية مَن أشير إليه. كما خلطت أيضًا بعض القصص التي كانت متشابهةً لتوضيح الأفكار التي أردت توضيحها. وحسبما أوضحت، فقد غيَّرت في قصة واحدة بعينها اسمَي الصديقَين اللذَين سمحا لي أن أستخدم قصتهما؛ والآن شخصيتاهما البديلتان هما كارا وتوماس.

سأحترم وأُجلُّ دائمًا كلَّ من حضر مجموعة الدعم خلال السنوات التي كنت أديرها فيها. فهؤلاء من أشجع مَن قابلت من الناس. وتعلمت منهم دروسًا قَيِّمة، ويحدوني الأمل في أن تكون المجموعة قد هوَّنت رحلتهم.

إننا ننضج خلال الأوقات الصعبة، وخلال أوقات الحزن نتعلَّم أن نقدر البهجة حقَّ قدرها؛ عادةً ما تكون البهجة التي نجدها في اللحظات العابرة والأحداث التي ربما كانت ستبدو غير ذات أهميةٍ في أوقات أخرى. لقد وضعني مرض والدي على درب مشاركة هذه التكشُّفات مع آخرين ممن وجدوا أنفسهم يتفرَّسون في واقع الخرف.

لقد استمعت حتى الآن إلى ما يكفي من القصص، وقدمت المشورة لما يكفي من الناس؛ ليعرفوا أن الخرف لا يتعيَّن أن يدمِّر حياة مقدمي الرعاية. إنه درب عسير، وفي بعض الأحيان يبدو أنه لا يوجد درب، وإنما مجرد ظلمة. حينها تكون في حاجةٍ إلى رفاق سفر. حينها تكون في حاجة لأناسٍ آخرين سيمدون لك أيديَهم ويقولون: «ها هنا … انعطف إلى هنا. ستكون على ما يرام.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤