الفصل الثالث عشر

الصراع حول الاستحمام (ومعضلات صحية أخرى)

مع كل الشكوك والمفاجآت التي يجلبها داء ألزهايمر إلى عالم السلوك، ثمة شيء واحد يمكنك التعويل عليه؛ عند مرحلةٍ ما، سيتمرَّد الشخص العزيز عليك على فكرة أن يدخل للاستحمام. لن يحدث ذلك في وقت مبكِّر من إصابته بالداء، لكنه سيحدث في نهاية المطاف. وأظنُّ أننا تجنَّبنا الوصول إلى هذه المرحلة مع أبي بسبب سقوطه، الأمر الذي تسبب في كونه طريح الفراش. قبل ذلك، كان قد وُضِع كرسي تحت الدُّش لسلامته، حيث إنه كان قد فقد قوَّته وتوازنه. كان لا يزال يدخل إلى الاستحمام طوعًا، لكنني واثقة جدًّا من أن ذلك كان سيتغيَّر لو لم يسقط ويكسر وركه؛ لأن هذا السلوك شائعٌ للغاية.

لماذا؟ لا يوجد سبب ملموس يمكن لأحد أن يشير إليه. ربما يصبح الماء نفسه مخيفًا، أو ربما هو الحيِّز الضيِّق لمكان الاستحمام. لا أحد يعلم. لقد سمعت قصة تلو الأخرى من مقدمي الرعاية الذين أبدى الأشخاص الأعزاء عليهم فجأةً ردود فعل تنم عن الخوف حين أتى وقت الدخول للاستحمام، مع أنهم كانوا لا يجدون بأسًا في ذلك قبلها بأيام. أميل لتصور أن انهمار الماء عليهم يُصبح مخيفًا لهم. ويمكن للخوف أن يكون باعثًا على انفعالات مفاجئة. أخبرني أحدهم عن أمه التي تبلغ من العمر ستة وثمانين عامًا وتعاني التهابَ المفاصل وداءَ ألزهايمر وترفض الدخول للاستحمام؛ ضربت الأم مقدِّمةَ الرعاية في وجهها فكسرت أنفها؛ واستقالت مقدِّمة الرعاية بعد ذلك.

إن مرضى الخرف الذين يبدو أنهم لا يملكون القوةَ للدخول في نوبة غضب كاملة يمكن لغضبهم أن ينفجر فجأةً بعنف. ويقول الكثيرون إنهم لا يحملون همَّ أن يؤذيَ والدهم نفسه أو أن يؤذي شخصًا آخر؛ لأن والدهم في الثمانينيات أو التسعينيات من العمر ولا يتمتَّع إلا بالقليل من القوة الجسدية؛ لذا «ما الضرر الذي يمكن له أن يُحدثه؟» والإجابة هي الكثير من الأضرار. لا يهم كم يبلغ الشخص من العمر أو كم هو واهن: فحين يكون الشخص في حالةٍ مستحَثَّة بتدفُّق الأدرينالين، لا يزال بإمكانه فِعل أشياء لن يكون قادرًا على فعلها في الظروف العادية. لست واثقةً إن كان بإمكان والدتك البالغة من العمر ثمانين عامًا والمصابة بداء ألزهايمر أن ترفع سيارةً من مكانها، لكنني واثقة أن بإمكانها تحطيمَ مصباح على رأسك إن تدفَّق ما يكفي من الأدرينالين في جسدها. بصفةٍ عامة، يميل الخوف من الدخول للاستحمام إلى أن يكون شديدًا. وبمجرد أن ينشأ هذا الخوف، فإنه لا يزول.

إذن، ما العمل؟ ما لا ينبغي لك فِعله هو تضييع الوقت في محاولة التحدث مع المريض لتقنعه بالعدول عن الرفض والدخول للاستحمام، أو أن تحاول استخدام المنطق بشأن العقود التي أمضاها يتحمَّم ولم يُصَب بسوء مطلقًا. فأنت تواجه جدارًا مصمتًا من الخوف ويتحتم عليك أن تجد سبيلًا لتجاوزه. وإن كنت لا تزال تؤدي كلَّ مهام تقديم الرعاية بنفسك، من دون مساعدة خارجية، فهذا وقت مناسب فعلًا لتغيير ذلك.

أعرف أنه قد تكون ثمة عوائقُ مالية، لكن إن كان باستطاعتك تدبُّر أمر جعل شخص يأتي ويساعدك لفترات قصيرة ويتولى أمر تحميمه وتلبيسه الثياب، فستسدي لنفسك معروفًا كبيرًا. فعلى الأرجح أن الشخص العزيز عليك لن يقاوم غريبًا بنفس قدْر مقاومته لك. فأنت لديك معه تاريخ وماضٍ، وعرف كلٌّ منكما كيف يُثير انفعالَ الآخر في الماضي، وما زلتما تعرفان كيفية فعل ذلك. لا ينبغي أن تكون مَن يحمِّم والدك أو زوجك أو شريك حياتك. وينطبق هذا بصفة خاصة في حالةِ ما كان المعنيُّ هو والدًا كنت قد حظيت بعلاقةٍ صعبةٍ معه. فتحميمه أمرٌ حميمي ومرهق كثيرًا، وسيكون الموقف الذي من المرجح أن يؤدي إلى عراك لا ترغب في أن تحظى به.

كثيرًا ما جلب هذا الموضوع شيئًا من الدفاعية لدى أعضاء مجموعة الدعم. إذ من شأن أحدهم أن يشير إلى أن صديقًا له، تعاني والدته السرطانَ، قد حمَّم والدته حين كانت أضعف من أن تحمِّم نفسها بسبب العلاج الكيميائي، ولم تنشأ مشكلة من ذلك. وقد يطرح آخرُ فكرة أن حميمية الاستحمام هي بالضبط السبب الذي ينبغي لأجله أن يكون فرد الأسرة هو مَن يضطلع به. لكن الخرف عالم مختلف عن عالم السرطان، وله منطق مختلف: وهو أنه لا يوجد منطق في معظم الأحيان. ثمة فوضى ومفاجآت غير متوقعة. ونوبات غضب وتغيرات سلوكية يمكنها أن تجرَّ عليك إصابات.

من الواضح أن مدى مشاركتك هو قرار فردي، لكني سمعت من القصص ما يكفي ورأيت من الدموع ما يكفي لأعرف أن ثمة أشياء من الأفضل تركها لمقدِّم رعاية مدرَّب لا تربطه صلة بالشخص العزيز عليك. إن الاضطلاع بأكثر جوانب تقديم الرعاية حميمية أمرٌ مستنزِف شعوريًّا وجسديًّا. وستمضي أيامك في محاولة معرفة كيف تحمل الشخص العزيز عليك على الاستحمام وارتداء الملابس، وستُصاب بالإنهاك.

•••

بعدما قلت كل هذا، لننتقل إلى تقنيات جعل وقت الاستحمام يمر بسلاسة، بغض النظر عمن يضطلع بالمهمة. أولًا، حاول أن تحصل على مِرَشَّة محمولة، وكرسي استحمام؛ وسيكون لدى أي شركة مستلزمات طبية كراسيُّ لها ظهر بحيث لا يكون الشخص الجالس فيها معرَّضًا لخطر الوقوع على ظهره. وحاول أن تحمِّم الشخص العزيز عليك دون أن تدع الماء ينصبُّ عليه من فوقه، وهذا ما ستسمح به المِرَشَّة المحمولة. فإن كان الخوف متركِّزًا على سقوط الماء عليه، فقد يجدي هذا الحل نفعًا. أما إن كان الخوف من شيء آخر، فستعرف ذلك على الفور.

وإن كانت الطريقة الجديدة للاستحمام لا تجدي نفعًا، فسيتحتم عليك محاولة استخدام حوض استحمام. إن كان الشخص العزيز عليك سيستحم في حوض الاستحمام، فاستبدل بالمِرَشَّة المحمولة منشفة مبللة. ولأحواض الاستحمام تحدياتها، فمن السهل أن ينزلق الشخص أثناء دخولها أو الخروج منها. وهذا سبب آخر يدعو إلى الحصول على مساعدة خارجية. ومقدِّمو الرعاية المدربون يعرفون كيف يُدخِلون الشخص إلى حوض الاستحمام ويخرجونه منه بأمان.

عرفت من ميسِّرين مشاركين في مجموعة الدعم الخاصة بي أهميةَ التوقيت وتهيئة الحالة المزاجية للاستحمام. خَصِّصْ وقتًا معينًا من اليوم للاستحمام. ومن المعتاد أن يتأخر المصابون بداء ألزهايمر في الاستيقاظ حتى ساعة متأخرة من الصباح؛ لذا اختر وقتًا فيما بعد ظهيرة اليوم والتزم به. فحتى لو لم يكن الشخص المصاب يعرف في أي وقت هو الآن، ثمة اتزان بيولوجي لا يزال يعمل. فإن كانت الساعة الثالثة هي وقت الاستحمام، فسيشعر الشخص العزيز عليك بذلك. وإن كنت لا تزال تجد مقاومة منه، فاجعل ذلك كل يومين، لكن التزم بالموعد المحدد.

وتهيئة الحالة المزاجية يمكن أن تُحدِث فارقًا كبيرًا. إحدى الفِكَر بغيةَ ذلك أن تشغِّل الموسيقى، أيًّا كان نوع الموسيقى التي يحبها الشخص العزيز عليك. احرص على أن تكون الموسيقى هي نفسها في كل يوم. وأعدَّ له شيئًا مريحًا يرتديه بعد الاستحمام، كرداءٍ ناعم له ملمس حسن يلهيه (أو هكذا نأمل) عن أي شيء يمكن أن يكون مزعجًا له بشأن الاستحمام. جَرِّب استخدام الزيوت العطرية، كاللافندر الذي له تأثير مهدِّئ، وإن كان معظم المصابين بالخرف لا يتمتعون بحاسة شم جيدة. وتجنَّب الشموع العطرية لسبب واضح وهو أنها تنطوي على خطر نشوب حريق.

أعرف الكثير من الحالات التي نجحت فيها هذه الطقوس. حيث ينشغل المريض بالخرف بالموسيقى، ويغفُل عما يحيط به، وينسى ما كان يزعجه من قبلُ بشأن الماء، أو يتطلَّع إلى ملمس شيءٍ ناعم يدثِّره، أو يعرف أن ساعة معيَّنة من اليوم هي ساعة الاستحمام، ويمكنه التركيز على ذلك. يبدو أن هذه الأنماط الدورية تُبعِد الخوف. لكن الجميع ليسوا محظوظين إلى هذا الحد. فبإمكان مريض الخرف مفاجأتك بما يتذكَّره. قد تظنُّ أنه سينسى أيًّا ما كان يخيفه بشأن الاستحمام، ثم تكتشف أن الخوف لا يزول.

وإن لم تُجدِ أيٌّ من هذه الطرق نفعًا، فسيتعيَّن عليك اللجوء إلى الاستحمام بالإسفنجة، ربما حتى بمناديل الاستحمام المبللة المخصصة للكبار. فقط لا تستسلم. فتدنِّي مستوى النظافة ينتج عنه العديد من المشكلات الصحية، بما في ذلك حالات العدوى البكتيرية، وحالات عدوى المثانة التي يمكن أن تنتقل إلى الكليتَين، والمشكلات الجلدية. وعدوى المسالك البولية هي النتيجة الأشيع لنقص الاستحمام، ومع أن تلك العدوى أشيعُ حدوثًا بين النساء، فإن الرجال أيضًا معرَّضون للإصابة بها. وانتبه لعرَضٍ لا يرتبط عادةً بعدوى المسالك البولية: تظهر عدوى المسالك البولية لدى كبار السن المصابين بالخرف في شكل انهيار حادٍّ وسريع في القدرات الإدراكية. إذ يمكن أن يصبح المريض غيرَ عقلاني على الإطلاق، بل وحتى واهمًا. وعادةً ما يفترض مقدِّمو الرعاية أن الداء قد انحدر إلى مستوًى جديد، لكن يجدُر أن تذهب بالشخص العزيز عليك لتجري عليه فحصًا شاملًا، خاصة إذا جاء التغيير فجأة. لا يمكن لمريض الخرف أن يخبرك بما به من مكروه أو بأعراضه الجسدية؛ واعتمادًا على الكيفية التي تعمل بها نقاط التشابك العصبي في دماغ المريض بالخرف، قد لا يكون المريض واعيًا حتى بأعراضه الجسدية. في الكثير من الحالات، ما يبدو تغييرًا هائلًا في القدرات الذهنية لأحدهم يمكن أن يتبيَّن أنه عدوى مسالك بولية، وبمجرد أن يتناول الشخص المضادات الحيوية، يعود دماغه إلى المستوى الوظيفي الذي كان عليه من قبل. وبديهي أن السيناريو الأفضل هو أن تحاول تجنُّب عدوى كهذه؛ لذا لا يمكنك أن تغض الطرف عن أهمية الاستحمام.

•••

ويمكن لنظافة الأسنان أن تمثِّل مشكلة أخرى، وإن كانت لا تسفِر في العموم عن الهيستيريا نفسها التي يسفر عنها الاستحمام. ويبدو أن المشكلات في هذه المنطقة لها علاقة أكبر بالاضطراب. فقد أخبرتني أمي أثناء المراحل الأولى من إصابة والدي بداء ألزهايمر أنه لم يَعُد يعي كيف يستخدم جهاز وُتَربيك. (كان والداي من أوائل مَن تحوَّلوا لاستخدام جهاز وُتَربيك؛ وكانا يستخدمانه كل ليلة ويسرفان في الحديث بإطراء عن فحوصات أسنانهما التي تطورت نحو الأفضل.) وفجأة أصبح أبي متحيِّرًا بشأن كيفية استخدام الجهاز. وبحكمة، لم تضغط أمي عليه في ذلك. وفي المراحل الأخيرة من المرض، حينما كان أبي طريح الفراش، لم يكن يعي كيفية بصق الماء ومعجون الأسنان؛ لذا كان الممرضون يمسحون أسنانه بمناديل ورقية مبللة بقدرٍ ضئيل من معجون الأسنان.

إننا حين نكون في حاجة لتنظيف أسناننا أو فِعل شيء فيها، نذهب إلى طبيب الأسنان. يمكن لهذا أن يمثل مشكلةً كبيرة لشخص مصاب بالخرف. فهذا مكان مختلف، وثمة أجهزة، وضوضاء، وأصابع طبيب أسنان في فمه، وأوامر قد لا يفهمها. الخبر السار أنه يوجد أطباء أسنان متخصصون في التعامل مع مرضى الخرف. ويوجد أيضًا، في بعض المناطق، أطباء أسنان متنقلون يمكنهم المجيء إلى المنزل. وأقترح أن يُجرى تصوير بالأشعة السينية للمريض في المراحل المبكرة من المرض، بحيث تُتاح لطبيب الأسنان قاعدةٌ مرجعية؛ لأن التصوير بالأشعة السينية في المراحل المتأخرة من المرض يمكن أن يكون صعبًا. ومن الضروري أن تتذكَّر أن المصاب بالخرف قد يكون متألمًا وليس بمقدوره أن يخبرك.

تعلَّمت أسرتي درسًا مشابهًا لذلك في إحدى السنوات حين كان فيروس إنفلونزا سيئ منتشرًا؛ أصيب به كلُّ مَن كانوا في منزل والديَّ، رغم تناولهم لقاحاتٍ مضادة لفيروس الإنفلونزا. ومرضتُ أنا أيضًا؛ لذا لم أكن أزورهم، لكن أمي وصفت لي كم بدا أبي مضطربًا جراء الأعراض التي أصابته. كان واضحًا أنه كان مكروبًا، لكنه لم يكن قادرًا على نقل الأسباب المحددة لذلك. فاستنتجنا أنه لا بد أن أبي لا يملك أي ذكرى عن كونه مريضًا بالإنفلونزا في الماضي؛ لذا كان ذلك جديدًا تمامًا عليه. ولا يسعني سوى أن أتخيَّل أنه لا بد أنه كان مخيفًا أن يشعر بالإعياء الشديد ولا يعي ما يحدث له. أتمنى لو كان بإمكاني أن أخبرك أننا وجدنا طريقة فعالة لتفسير الأمر له، ولكن، مع الأسف، لم نستطِع التفكير في شيء نفعله. كان ذلك من أكثر مشاعر قلة الحيلة التي اختبرناها في تلك السنوات، ونحن نشاهده يعاني أعراضًا لم يستطِع حتى أن يفهمها أو يصفها.

•••

من المعتاد أن يعاني كبار السن الذين يجري تشخيصهم بأي نوع من أنواع الخرف، مرضًا جسديًّا واحدًا آخر على الأقل، ويتناولون له علاجًا. من المهم حقًّا أن نبعد عنهم أدويتهم ونعطيهم ما يحتاجون إليه في الأوقات المناسبة. يمكن أن تحدث نوبات قد تؤدي إلى الموت حين تختلط العلاجات على مريض الخرف، ويأخذ جرعة زائدة من علاج كان مقرَّرًا أن يتناوله مرة واحدة أسبوعيًّا. في المراحل الأولى من الإصابة بداء ألزهايمر، يمكنك محاولة استخدام علب الحبوب التي تحمل علامات بأيام الأسبوع لتنظِّم تناول العلاج في كل أسبوع. لكن راقِبه عن كثَب. فمن السهل جدًّا على أحدٍ ما أن يرتكب خطأ حتى في المراحل المبكرة من الإصابة بالخرف.

وتغيير إجراءات العلاج هو أحد تلك التحولات الصعبة، كإبعاد السيارة أو تغيير طقوس الاستحمام. يميل الناس إلى الشعور بالتملك حيال أدويتهم وقدرتهم على تناولها بأنفسهم. وفي حالة الشخص المصاب بالخرف، من المرجَّح أنه يشعر بالإهانة بسبب سحبِ المسئولية منه. ولكي تتجاوز ذلك، حاوِل شخصنةَ العملية: أخبره أنك أنت أيضًا تختلط عليك الأدوية، واحصل لنفسك على علبة لتنظيم تناول الدواء، واشرح له أنك في حاجة لأشياء تُذَكِّرك أي الحبوب تتناول ومتى تتناولها. وحتى لو لم تكن تتناول أيَّ أدوية، فاخترع قصة واصطنع من الدعائم ما يُؤيِّدها. استخدم حبوب الفيتامينات أو الحبوب التي تُصرف دون وصفة طبية لتملأ علبتك.

وبمجرد أن تُبعِد أدوية الشخص العزيز عليك عنه، خبِّئها منه. فيبدو أن مرضى داء ألزهايمر ينقبون عن الأشياء حين تخبِّئها منهم كما يفعل الأطفال. سيعرف المريض — لبعض الوقت على الأقل — أن شيئًا أُخِذ منه، وسيبحث عنه.

ضع في اعتبارك أن كيمياء الجسم تتغير لدى الأشخاص بتناولهم للأدوية؛ فدرجة تحمُّلهم لدواءٍ ما كانوا يتناولونه لسنوات تتغيَّر مع التقدُّم في السن، وعلى ما يبدو حين يسيطر عليهم مرض كداء ألزهايمر. ويمكن أن يصاب الشخص العزيز عليك برد فعلٍ تجاه أدوية ظل يتناولها عقودًا ولا يكون قادرًا على أن يخبرك بذلك. ومن الصعب أن تذهب بمصاب بداء ألزهايمر إلى عيادة الطبيب ليجري تحليلًا للدم، لكنك إذا ما خلطت ذلك بشيء يحبه — كرحلة بالسيارة إلى الشاطئ أو نزهة سيرًا على الأقدام، أو الخروج لتناول الغداء إن كان لا يزال قادرًا على فِعل ذلك — فإن ذهابك لإجراء تحليل دمٍ لن يكون سوى أحد الأحداث في يوم لطيف.

•••

هذه الاعتبارات هي من أكثر جوانب مرض الخرف مدعاةً للتواضع؛ فهي الحقائق المادية الدالة على كوننا بشرًا. حين يدخل المرض إلى حياتنا في البداية، لا نفكِّر في أننا سنضطر إلى التعامل مع مشاكل الاستحمام أو تنظيف الأسنان؛ بل نركز على التدهور الذهني لدى الشخص العزيز علينا والكيفية التي تبلى بها عواطفه وتنهار. نفكِّر في خسارتنا، وما نشعر به من أسًى، وفي بعض الأحيان نفكِّر في تعقُّد علاقتنا بالمريض. لكن مع تفاقم المرض، نعود إلى أبسط الاحتياجات البشرية. نكون شهودًا على العجز الذي يتولى زمامَ السيطرة على مستوى الجسد، وهو نوع جديد من الألم الممزوج بمشاعر الحرج والقلق.

يظنُّ معظمنا أن بإمكاننا معالجة أي مشكلة تظهر في طريقنا، لكن من المهم أن نتقبَّل أن أفضل ما يمكننا فِعله لأنفسنا في بعض الأحيان أن نتراجع ونترك شخصًا آخر يتولى التعامل مع الأمور. لهذا السبب شدَّدت على أنه لا ينبغي أن تكون أنت مَن يضطلع بالمهام الحميمية كالاستحمام. وإن كانت القيود المادية تمنعك من الحصول على مساعدة خارجية من مقدِّم رعاية، يمكنك جلب رعاية مؤقتة، حيث يأتيك مساعد بصورة مؤقتة ولفترات قصيرة. والرعاية المؤقَّتة متاحة على نطاقٍ واسع، وقد بدأت لأجل مَن لا يستطيعون تحمُّل نفقة مقدِّم رعاية خارجي منتظم.

المسألة الأساسية هنا هي أنك في حاجة لأن ترعى نفسك أيضًا، وأن تهتم بمشاعر الحزن الخاصة بك. إن التعامل مع ما ينطوي عليه تحميم والدك وإلباسه الثياب كما تفعل مع طفل صغير من مشاعر حرج وانزعاج؛ لن يساعدك في حزنك، بل سيكون معوقًا. ومهما فعلت، فستكون ثمة لحظاتٌ ستشهد فيها على ما يُصيب الشخص العزيز عليك من وهنٍ وضعف في بدنه، وسيؤلمك ذلك بصورةٍ مختلفةٍ عن ألم مشاهدتك لتدهور حالته العقلية. فتلك لحظات عميقة الأثر ويلزم أن تسلِّم بها وتقدِّرها حقَّ قدرها. لكن أفضل ما يمكنك فعله هو فرض حدود على ما تطلبه من نفسك.

كانت أسرتي محظوظةً كثيرًا لقدرتها على تعيين مقدِّم رعاية خارجي في وقت مبكِّر جدًّا من إصابة والدي بالمرض. إذ كان الرجل الذي يرعاه في الأيام الأولى لطيفًا ويَنْطِق بِحُلْو الكلام، وحين تأكَّدنا أن والدي لا ينبغي له أن يستحم دون مراقِب، لم يكن ذلك تحوُّلًا دراميًّا في الأحداث. لم أشهد أنا ذلك، لكن أمي أخبرتني أنه كانت ثمة طريقة جديدة في فعل الأمور وأن أبي قد تقبلها.

وأذكر اللحظة التي أدركت فيها أن والدي كان الآن واهنًا، أنهكه التقدم في السن وداء ألزهايمر. كنتُ أسير معه ومع مقدِّم الرعاية في الرواق في منزل والديَّ. كانت ثمة نوافذ على امتداد أحد جانبَي الرواق، وكانت شمس الظهيرة تتحرَّك هبوطًا في السماء، وتتخلل أشعتها الأوراق وفروع الأشجار وهي تمر عبر الزجاج. فجأةً توقف أبي وانحنى ببطءٍ ونزل على ركبتَيه. وبدأ يفرك بقعةً على الأرضية وكأنه يحاول أن يمسح شيئًا عنها. أدركت أنه ظنَّ أن بقع ضوء الشمس الساطعة على الأرض كانت شيئًا قد انسكب وكان يحاول تنظيفه. فساعدناه على النهوض وحاولنا أن نشرح له أن هذا لم يكن سوى ضوء الشمس. ولست واثقةً من أنه فهم، لكن اللحظة مرت عليه. إلا أنها لم تمرَّ عليَّ. فرؤيته يركع على الأرضية بهذا الشكل أصابتني في مقتل. بدا هزيلًا ونحيلًا للغاية، مختلفًا كثيرًا عن الرجل القوي الثابت الذي كنتُ أرفع نظري إليه وأنا طفلة، الرجل الذي كنتُ أظنُّ أن بإمكانه فِعل أي شيء. كانت يداه شاحبتَين وتكادان تكونان شفَّافتَين بينما كان يحاول أن يمسحَ آثار ضوء الشمس. كنت واعيةً تمامًا لأنني كنت أشعر بنوعٍ مختلفٍ من انفطار القلب؛ القساوة المتمثِّلة في رؤية تقلُّص الجسد وضعفه فيما تُشارف الحياة على الانتهاء. وقد أرعبني ذلك، وبقدرِ ما كنت أعرف أن عليَّ أن أتقبَّل هذا الإحساس، أردت أيضًا أن أُوازِنَه بشيءٍ أقل ترهيبًا.

ففكرت في القصة التي أخبرتني بها ممرضة بعد أن تعرَّض أبي لطلق ناري وكان يتعافى في المستشفى. أتت الممرضة إلى غرفته ووجدته راكعًا على الأرض، يمسح شيئًا من ماء كان قد سكبه. أخبرها أبي أنه لا يريد أن يمسحه أحدٌ آخر لأنه هو مَن سكبه. قلت في نفسي إن هذا هو أبي؛ رجل لا يريد أن ينزعج أي أحدٍ من جراء فوضى صغيرةٍ تسبَّب بها هو، رجل حاول أن يمحو بقع ضوء الشمس عن الأرض.

«دع كلَّ شيء يحدث لك. الجميل والمريع. وامضِ قُدمًا فحسب. فلا شعور دائم.»

راينر ماريا ريلكه

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤