الفصل السادس عشر

آراء الآخرين

حين يبلغ الشخص العزيز عليك المراحل المتأخرة من الخرف، قد تدهشك أعداد الناس الذين يريدون أن يعطوك آراءهم حتى لو لم تطلبها. أذكُر أن شخصًا في مجموعة الدعم كان يتحدث عن صديقٍ له اتهمه بأنه في حالة من الإنكار؛ لأنه لم يكن يصحِّح لوالده حين ظنَّه شخصًا آخر. إذ عوضًا عن ذلك جارى ذلك الشخص والده. ظلَّ صديقه يصر قائلًا: «لكن لا بد أن ذلك يؤلمك. لا بد أنه يؤلمك.» كان الأمر وكأن ذلك الصديق أراد له أن يشعر بالألم. للأسف، تلك هي أجندة بعض الناس؛ ربما لا شعوريًّا من جانبهم، لكنَّ جزءًا منهم يكون إما قد انشغل بمحنتك وإما قد حدَّد السيناريو الذي يظن أنه ينبغي لقصة عن داء ألزهايمر أن تتبعه.

من المعتاد في تلك المرحلة، حين يكون مقدِّمو الرعاية قد عملوا بجِد ليستوعبوا ما يحدث، أن تُقتَلَع علاقات أخرى في حياتهم. كثيرًا ما كان أحد أعضاء مجموعة الدعم، الذي قد تغيَّر كثيرًا منذ قدومه إلى مجموعة الدعم أول مرة، يبكي لأن صديقًا له انتقده بقسوة وبشدة؛ فقد عمل جاهدًا لكي يتقبَّل حزنه، واتخذ قرارًا بأن يتعلَّم من تجربة الخرف بدلًا من أن يكون عبدًا لها. لقد تطرَّقت إلى انتقادات الآخرين في المراحل الأولى من الإصابة بالمرض، لكن غالبًا ما تُصبح هذه الديناميكية أكثرَ انتشارًا، حين يتعيَّن اتخاذ قراراتٍ بشأن رعاية شخص عزيز، خاصة حين يُطرح موضوع إيداعه في منشأة رعاية للنقاش.

فقدتُ عددًا من الأصدقاء في العَقد الذي أُصيب فيه والدي بالمرض؛ لم أخسر الكثير منهم في بداية الأمر حين كنت أعاني لأجد طريقي، وغالبًا ما كانت انفعالاتي كامنةً تحت السطح فحسب، لكنني خسرتهم في وقتٍ لاحق، فيما بدأت أجد قوَّتي. ثمة أشخاص يرَوْن أن من حقهم تصنيفك في فئةٍ بعينها. فيما يخصني، كانت الفئة التي كنت فيها فترةً طويلة هي الفتاة الحزينة التي أسرتُها مفككة، الفتاة التي لم تتمكَّن مطلقًا من إتمام الأمور على النحو الصحيح. كان الناس يشعرون بالأسف من أجلي وكانوا يَرَوْنني جريحةً على الدوام، ويتوقَّعون أنني كذلك. لذا، حين بدأت استكشاف طريقي لاجتياز ما ألمَّ بوالدي من مرض، وكنت أُلقي المحاضرات بشأنِ ما كنت أتعلَّمه باعتباري ابنةَ رجلٍ مصابٍ بداء ألزهايمر — باختصار، حين بدأت أتغير وأنضج — كان ثمة أشخاص لم يعودوا يريدون أن تكون لهم علاقةٌ بي. إذ كنتُ قد أفسدت نظام التقسيم لديهم. لم أعُد في المربع الذي كانوا قد وضعوني فيه، ولم يعرفوا أين يضعوني غير ذلك. قد يكون من المبتذل أن أقول إن هؤلاء الناس ليسوا من النوعية التي يحتاجها المرء كأصدقاء، لكن يجدر بي قول ذلك لأننا في حاجة لأن نتذكَّره. فالأصدقاء الحقيقيون هم الذين يريدون لك أن تتألق وتبرز.

كانت لي صديقة من زمن طويل — خلال الكثير من سنوات تمرُّدي — وكانت صداقتها من الأشياء الثابتة في حياتي. كنا جيرانًا في كاليفورنيا؛ كانت شخصًا ألجأ إليه للنصح والإرشاد. في واقع الأمر، كانت تلك هي ديناميكية علاقتنا. كنتُ أنا مَن يحتاجها، وكانت هي الناضجة. حين عُدت إلى لوس أنجلوس من نيويورك، كنتُ بالفعل أتغيَّر. كنتُ أتعلَّم على يد مرض اختار أبي عشوائيًّا، ولم أكن الشخص نفسه الذي كنت عليه. كنتُ أظن أن صداقتي بتلك المرأة ستستمر لدى عودتي، وكنا بالفعل نلتقي، لكن اتضح لي أن شيئًا ما كان مختلفًا. شعرت بالتغيير في سلوكها تجاهي. لم أحلِّل الأمر كثيرًا وقتها؛ لأني كنت أركِّز على أبي. قلت لنفسي إن عليَّ أن أتقبَّل أني لم أعُد أروق لها، وحاولت تخطِّي حقيقة أني كنت أفتقدها. لم أتلقَّ منها أي اتصالٍ حين مات والدي. وقد التقينا مرةً واحدةً بعد وفاته، لكن لقاءنا كان غريبًا ومربكًا.

مرَّت السنون وسمعت من أحدٍ ما أن زوجها قد تُوفِّي. فاتصلت بها بضع مرات وتركت لها رسائل أقول فيها كم كنت أشعر بالأسى من أجلها، وأرجوها أن تخبرَني إذا ما كان ثمة شيءٌ أستطيع فعله، أو إن كان ثمة شيءٌ تحتاج إليه. لكني لم أتلقَّ منها جوابًا مطلقًا. وذات صباحٍ كنت أقود السيارة إلى المنزل، في طريق عودتي من ممارسة رياضة الجري مبكِّرًا على الشاطئ، ورأيتها أمامي على الطريق تسير مع امرأةٍ أخرى. توقفت بالسيارة وخرجت منها، ووقفت في منتصف الشارع أنادي عليها باسمها. ودون أن تُبطئ من وتيرة سيرها، نظرت للخلف وقالت: «سأهاتفكِ، يا باتي» وتابعت مسيرها. لم تتصل بي مطلقًا، ولم أظن أنها ستفعل. أتذكَّر وقوفي في مكاني طويلًا وأنا أدرك أنني لن أتمكن أبدًا من احتضانها، وإخبارها عن كمِّ ما أشعر به من أسًى حيال فقدها لزوجها؛ لن أستطيع أبدًا أن أسألها كيف تتماسك، أو إن كان ثمةَ ما يمكنني فعله لأسهِّل عليها الأمور. سيظل جزءٌ مني واقفًا في ذلك الشارع، يكتنفه الضباب، يُشاهد شخصًا كنت أطلق عليه فيما مضى صديقي وهو يبتعد عني.

استغرقتُ وقتًا لأحلل ما أعتقد أنه حدث حينها. تطلب الأمر أن أسمع قصص الآخرين الذين تحدَّثوا عن أصدقاء لهم تركوهم عند المرحلة التي شعروا فيها أنهم حوَّلوا حياتهم بطرائق صحية. الحقيقة المحزنة أن ليس كل شخص سيتقبَّل التغييرات التي تحدِثها في نفسك. في كل مرة كان أحدٌ ما يروي لي قصة مشابهة، أعود إلى ذلك الشارع وإلى ذلك الشعور بالخواء بداخلي. أتمنى لو كان بحوزتي وصفة أقدِّمها للناس لجعل الأمر أسهل، لكن هذه تجربة عليك وحسب أن تسمح لنفسك بأن تختبرها وتشعر بها. فهي تساعدك على أن تفهم بنفسك وعقلك كيف تتغير الديناميكيات، وما هي القوى المؤثِّرة، لكن من المؤلم أن يهجرك صديقك.

ذات مرة ذهبت إلى منزل معروض للبيع في أحد أيام الآحاد، في حيِّنا. كان حارس أمن واقفًا بالخارج؛ لأن المنزل كان يعج بالممتلكات. بدا أن شيئًا لم يكن قد تحرَّك من مكانه، بما في ذلك التحف الزهيدة والصور الفوتوغرافية المؤطَّرة، وكان من الواضح تمامًا من الديكور أن شخصًا مسنًّا كان يقطن هناك. وتناهى إلى سمعي سؤال شخص لحارس الأمن إن كان مالك المنزل قد مات (لا أعرف لماذا كان يسأل الحارس وليس وكيل العقارات). وفي استهزاء قال الحارس للرجل إن الأسرة نقلت المرأة إلى منشأة رعاية مسنين، حين أُصيبت بداء ألزهايمر، وكان يظنُّ أن تلك فعلة مريعة. أوضح الحارس رأيه بأنه لا ينبغي لأحدٍ مطلقًا أن يُنقل خارج بيته. لديَّ عادةُ إقحام نفسي فيما لا يعنيني، فذهبت إلى حارس الأمن، وأخبرته أنني أدير مجموعة دعمٍ لأسر المصابين بداء ألزهايمر ومقدِّمي الرعاية لهم. وسألته إن كان قد سبق له أن عايَش شخصًا مصابًا بأي نوعٍ من أنواع الخرف. فهزَّ الرجل رأسه نافيًا.

فأخبرته: «إذن ربما لا ينبغي لك أن تنتقد القرارات التي يتخذها أفراد الأسرة. فالبيوت أماكن خطِرة على المصابين بالخرف. كان من الممكن أن تحرق المرأة المنزل، أو تصعقها الكهرباء، أو يصيبها أي شيء آخر.» كنت أعي أني أصحِّح لرجل ضخم الجثة يحمل مسدسًا، لكنه في واقع الأمر فكَّر فيما قلت، ووافق على أنه ربما كان متسرِّعًا في آرائه. تخيَّل شخصًا قريبًا منك يوجِّه لك هذا النوع من الانتقاد. يمكننا أن نحاول رَفْض ما يقوله الناس، أو تجاهله، لكن سوء اختيار الكلمات يجرحنا. من المهم أن نتذكَّر كم يكون المرء حساسًا في هذه المرحلة. فإن لم يدرك الآخرون ذلك ويعاملوك بلطفٍ أكثر، فأنت في حاجةٍ لأن تبتعد عنهم.

«لا يمكن أن نفقدَ ما استمتعنا به من قبل. فكلُّ ما نحب بعمق يُصبح جزءًا منا.»

هيلين كيلر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤