الفصل التاسع عشر

بعد النهاية

بقيت رائحة والدي في الغرفة أحد عشر يومًا؛ لقد أحصيت الأيام. خلال تلك المدة تلاشت الرائحة، لكن كان بالإمكان التقاطها متى مررت بغرفته متوجهة إلى غرفة أمي. في بعض الأحيان كنت أسمح لأفكاري أن تشرد فأفكِّر أن روحه ربما كانت باقيةً في الغرفة، فقط ليرى كيف كان حال أمي. ولست واثقةً إن كنت اعتقدت ذلك حقًّا، حيث كان والدي يتحدث عن العودة إلى الديار عند الرب بثقةٍ مترسِّخة في الإيمان. لذا على الأرجح أنه بأمان في العالم الآخر. لم تكن الرائحة سوى جزيئاتٍ عالقةٍ في الهواء، لكن فكرة أن روحه يمكن أن تكون في الأرجاء جعلتني أبتسم.

اعتاد أبي أن يقص قصة عن جلوسه في جنازة والده وشعوره فجأة بيد جاك عليه، تداعب أذنه؛ كان هذا أمرًا اعتاد جاك فِعلَه حين كان والدي طفلًا. أحببت تلك القصة. واحتفظت بها في مخيِّلتي، متسائلةً عما إن كنتُ سأختبر شيئًا كهذا مع والدي. ربما سيشير لي بإشارةٍ ما بعد رحيله. وحتى يومنا هذا، لا يسعني أن أقول إنه فعل. كان أقرب شعور راودني عن زيارته لي هو حُلمًا رأيته في نومي بعد أيامٍ قليلةٍ من وفاته. في الحلم، كنا في مزرعة ماليبو التي شكَّلت جزءًا كبيرًا من طفولتي. كان الجو كثيف الضباب وكان كلانا على صهوة حصان. نظر إليَّ أبي، وهزَّ رأسه في حزن وقال: «لقد اقترفت الكثير من الأخطاء. ثمة الكثير من الأشياء التي أنا في حاجة لأن تُغفَر لي.» ثم التفت واندفع مباشرةً في ضباب كثيف. بدأت أركض بحصاني خلفه، محاوِلةً أن أراه أمامي، لكن الضباب كان غاية في الكثافة. فكان كلُّ ما رأيته غشاوة بيضاء. لم يَعُد باستطاعتي حتى أن أسمع صوت حوافر حصانه. وقد ظهر أبي في أحلامٍ أخرى منذ وفاته، لكن ذلك الحُلم كان الوحيد الذي ظننت فيه أنه ربما كان يزورني.

أخبرني صديق لي يعمل ممثلًا أن أمه ماتت، وأنه كان جالسًا على الأريكة في شقته المطلة على المحيط، والأبواب المنزلقة مفتوحة على البحر. فجأة أتت حمامة بيضاء تطير، وحطَّت على الأريكة إلى جواره وحدَّقت إليه بعينين هادئتين. كان صديقي واثقًا أنها أمه. في تلك اللحظة، اتصلت به قريبة له وأخبرته أن الحلقة التي ظهر فيها ببرنامج كارول بورنيت يُعاد عرضُها على التلفاز؛ من ثمَّ فتح صديقي التلفاز. وعلى حد وصفه: «جلست أنا وأمي نشاهد ظهوري في برنامج كارول بورنيت، وحين انتهى البرنامج، طارت بعيدًا.»

المغزى من هذه القصص أن أشياءَ غير متوقَّعة يمكن أن تحدث بعد وفاة عزيز علينا. لذا كن منتبهًا. وربما يمكنك أن تنحِّي جانبًا أي أفكار نمطية مسبقة؛ فقط كن منفتحًا على كلِّ ما يأتي أيًّا كان. إن الموت لا يضع نهاية لعلاقةٍ ما؛ لذا من الجيد أن تكون منتبهًا، سواء كنت تعتقد أن الأرواح الراحلة يمكن أن تزورك، أو كنت تظن أن مخيِّلة المرء تذهب به إلى طرق غريبة وسط الضياع.

بعد وفاة أبي بفترة ليست طويلة، أخبرتني أمي أنها استيقظت بضع مرات في ساعة متأخرةٍ من الليل، وأن والدي كان في غرفتها يجلس على حافة السرير. وقد أدهشني ذلك، فسألتها عن عمره وعما كان يرتديه من ثياب. لم تكن أمي مهتمة بالتفاصيل كثيرًا، لكنها أخبرتني أن والدي في تلك الزيارات لم يكن في نفس العمر الذي مات فيه. كان أصغر سنًّا، وطبقًا لما ذكرَت كان يرتدي «ملابس عادية»، فافترضت أنها تقصد ما كان يرتديه في المنزل أو حين يذهب إلى المزرعة. وقد استمرت الزيارات فترةً من الوقت. ذات مساء، كان جالسًا على كرسي ذي ذراعَين وظنَّت أمي أنه بدا وكأنه يشعر بالبرد، فنهضت من السرير ولفَّت حول كتفيه دثارًا.

وقد أشرتُ على أمي أن تُبقي على هذا الأمر سرًّا. فكثيرون لا يؤمنون بمثل هذه الأشياء؛ لذا بينما كنتُ شغوفة للغاية بشأن زيارات والدي ومهتمة بها، قد يكون للآخرين ردة فعل مختلفة. لم تأخذ أمي بنصيحتي، وهذا هو السبب الوحيد الذي جعلني أكتب بشأن ذلك الأمر. فلو أنه بقي سرًّا فيما بيننا، لأبقيته سرًّا في نفسي حتى بعد وفاتها. لكن ولأسباب لا أفهمها، أخذت أمي الأمر إلى العلن. وكان من بين الكثيرين الذين أخبَرَتْهم بيلي جراهام. حين أخبرتني أنها تحدثت إلى القس جراهام على الهاتف وأخبرته أن أبي كان يزورها في الليل، كانت أولى الفِكَر التي راودتني أنه في الواقع شخصٌ من الجيد أن تخبره بالأمر. لكنها بدت مكتئبة حين سألتها عن ردَّة فعله: إذ قالت إن القس جراهام كان مستهينًا بالأمر ويكاد يكون متعاليًا. فعلى حد قولها إنه قال: «حسنًا، أنا واثق يا نانسي أن ذلك يشعركِ بشعور أفضل؛ أن تظني أن روني يزوركِ، لكن ليس ثمة ما يدعم ذلك في الكتاب المقدَّس.»

وقد أذهلني هذا. قلت لها: «ماذا؟ أظن أن ثمة قصة شهيرة للغاية في الكتاب المقدَّس حول هذا بالتحديد. لقد مات المسيح على الصليب، وبعد ثلاثة أيام عاد إلى الحياة.»

فقالت، وهي تفكِّر مليًّا: «أوه، هذا صحيح.» للأسف، لا أظن أن كلماتي كانت بثقل كلمات بيلي جراهام، وأتمنى لو كان بمقدوري أن أقول إن خيبة أملها في ردة فِعله جعلتها أكثر تحفظًا مع الآخرين بشأن تلك الزيارات، لكن ذلك لم يحدث.

أتمنى أن تكون هذه الحكاية بمثابة تنبيه. اختر بعناية مَن تشاركهم المعلومات. فسواء كنت تعتقد أن الشخص العزيز عليك قريب منك بعد وفاته، أو يزورك في أحلامك، أو حتى يهمس لك في بعض الأحيان، احتفظ بذلك لنفسك أو اختر شخصًا هو موضع ثقة تامة، شخصًا لن يستهين بما تخبره به أو يستبعده.

بعد وفاة عزيزٍ لنا نكون غاية في الضعف. ويمكن لما يقوله الناس لنا، أو ما لا يقولونه، أن يجرحنا عميقًا. سأذكر دائمًا أولئك الذين مدُّوا لي يد العون بعد وفاة والدي، وسأذكر أيضًا أولئك الذين كنت أعتبرهم أصدقاءَ لي ولم يمدوا لي يد العون على الإطلاق. أنا أعي أن صمتهم كان أكثر إيلامًا لأنني كنت غرة، لكن ذلك ما يفعله الموت؛ يزيل عنا طبقات الحماية الخاصة بنا.

إحدى السمات الفريدة لتجربة فقدِ عزيزٍ عليك بداء الخرف أنك تظن أنك اعتدت غيابه على مدار سنوات إصابته بالداء. ففي نهاية المطاف، لم يَعُد الشخص العزيز عليك هو الشخص الذي كان عليه فيما سبق. لم يعد يشغل المساحة نفسها، ولم يعد يشارك في الحياة كما كان يفعل فيما مضى. وبدرجةٍ ما تجتاز الأسرة ويجتاز الأصدقاء هذا ويواصلون من دونه. أعياد الميلاد، والعطلات، وحفلات التخرج والزواج، هذه كلها أحداث تجري دون حضوره. لكنه حين يموت، تدرك فجأة أنه كان، في واقع الأمر، يشغَل مساحة كبيرة للغاية. كان فراغ غرفة والدي يجذبني متى مررت بها في الرواق. حينها فهمت كم أصبحت تلك الغرفة هي مركز منزل والديَّ. لم يعد والدي يشارك في حياة المنزل، لكن حضوره كان ضخمًا، حتى حين كان حبيس سرير طبي.

•••

إن ماضينا مع الشخص العزيز علينا لا يموت بموته. فكل المشاعر التي راودتنا من قبل تجاهه — الطيبة منها والسيئة — تظل تلازمنا، وتشغل مساحة طيلة ما بقي من وقت لنا في هذا العالم. إذا كنا من المحظوظين، نتعلم من تلك المشاعر. فقدْر كبير مما عرفت عن والدي عرفته بعد أن قد بدأ داء ألزهايمر يسلبه منا. رأيت منه أشياءَ ما كان ليسمح لي من تلقاء نفسه أن أراها؛ رأيت الصبي الذي كان عليه فيما مضى، ورأيت المراهق الرياضي النحيف، والشاب الذي تجاوز بطموحه طبيعة الغرب الأوسط السهلية وتطلَّع نحو أضواء المدينة والغايات السامية، الشاب الذي قرر أن له مصيرًا يحققه، وقد كان مصيره على المسرح العالمي.

في مرحلة بعينها، تستولي عليك ذكريات عن الشخص العزيز عليك من فترة ما قبل داء ألزهايمر وتُصبح تلك الذكريات هي الأبرز. وقد لا تصدِّق هذا في بداية الأمر. تُصبح الصور الحديثة في غاية الوضوح؛ أحد الوالدين أو الأشقاء أو شريك الحياة يتلاشى بفعل الخرف، متطلِّعًا بعينين باردتين وفي بعض الأحيان قلقتين. فأنَّى لتلك الصور أن تتلاشى أبدًا؟ لكن ثمة حركة يَتَّبِعها الحزن. فهو يغيِّر ذكرياتنا، ويعيد ترتيب الصور في أذهاننا. وبمرور الوقت، سيبرز من تلك الصور ما يعود إلى أوقات الصحة الأفضل. ولن تزيل تلك الصور ذكريات المرض تمامًا، لكن بإمكانها أن تبعدها عن الطريق بالقوة. لقد سمعت عن الأمر مرات عديدة حتى الآن؛ حيث يؤكِّد الناس أن الذكريات المزعجة تتنحى جانبًا بمرور الشهور، وتبرز إلى السطح مكانها ذكرياتٌ أقدمُ وأفضل.

حين يتبادر والدي إلى ذهني، أراه طويلًا وقويًّا، يمتطي صهوة جواده وينطلق به عبر الحقول الشاسعة، ليعبر فوق حواجزَ بناها هو وعامل المزرعة من أعمدة الهاتف القديمة. أرى عينَيه زرقاوَين ولامعتَين وهو يتحدث إليَّ — أنا ابنته اليافعة السمينة — عن كائنات الليبريكان الأسطورية والغابات المسحورة، وعن التلال المنحدرة في السماء والمياه الطاهرة فيها. توقَّف أبي عن سرد تلك القصص حين كبرت في العمر، وأظن أنه رأى أنها أصبحت طفولية وسخيفة للغاية. وما لم يعلمه مطلقًا أنني كنت ما زلت أتوق إلى سماع تلك القصص، في عمرٍ كان لا بد فيه أنني لم أعُد أرغب في سماع مثلها. وأراه ينصحني بشأن كيفية تجاهل المتنمرين، حين كان أحد الأطفال في المدرسة يخيفني وكنت أدَّعي المرض لأمكث في البيت. أراه متألقًا في ضوء الشمس وماء البحر، ينتظر الموجة التي ستقدِّم له أفضل مطيَّة إلى الشاطئ. ولا أرى والدي أبدًا في مناصبه العامة — كحاكم أو رئيس — وإن كان لا مهرب من ذلك الجانب من حياته. لكن تلك الصور لا تبرز إلى السطح حين تتحوَّل أفكاري إليه. فقد كانت تلك حياته العامة، حياته الأخرى. وأجد صعوبة في إيجاد أبي حين أنظر إليه في تلك السياقات. يعود لي والدي بصفته الرجل الذي يستطيع إصلاح كل شيءٍ بيديه، والذي تُشعرني خطواته بأن الأمور ستكون على ما يرام.

أمضيت حياتي أبحث عن بيت؛ لأني لم أكن أشعر على الدوام بذلك تجاه منزلنا. ولم أستطِع أن أقول إن هذا المنزل كان بيتي على الدوام إلا بعد أن مات والدي، حين تمكنت من التأمل في سنوات المرض العشر، سنوات فَقْده قطعةً تلو قطعة. أحيانًا ما تكون بيوتنا مبنيةً بظلال مظلمة وقطع ناقصة. وأحيانًا ما تكون ثمة غرفٌ لم تُفتح مطلقًا. وفي فترة الحزن والحسرة التي تلت رحيله، أدركت أني كنت في حاجةٍ لتقبُّل أوجه النقص والغموض في الحياة التي وُلدت فيها. وكان السبب في أني تعلَّمت الكثير من سنوات مرضه ومن جلوسي إلى جوار فراشه، سواء كنا نجري محادثات هادئة، أو كنا نجلس في صمت تام، أنني لم أكن أبحث عن أي شيء يتجاوز ما يمكن للحظة أن تريني إياه.

إن درس التقبل يعلو كل الدروس التي علمني إياها داء ألزهايمر. وفي صلاة السكينة نقول: «ربي امنحني السكينة لتقبل الأشياء التي لا يمكنني تغييرها.» لقد علمني داء ألزهايمر أن أتوقف عن مجابهةِ ما لا يمكن تغييره، وأن أسأل عوضًا عن ذلك: «ماذا يمكنني أن أتعلم من هذا؟» ولم أدرك كم كانت عميقةً تلك الدروس إلا بعد وفاة والدي، حين كان بإمكاني أن أتطرَّق إلى الماضي، وأرى أن كل شيء مررت به كان مثل تعميدٍ لي. لن أكون أبدًا كما كنت قبل أن يدخل داء ألزهايمر حياتي.

لا أعرف لماذا نُولد من الأشخاص الذين وُلِدْنا منهم. ولا أعرف لماذا يصاب بعض الناس بمرض مثل داء ألزهايمر بينما لا يُصاب به آخرون. لم أعُد أسأل عن السبب. بل أسأل عما يمكنني أن أتعلمه. حين كنت صغيرة، أخبرني أبي أني لست في حاجةٍ لأن أقف على أطراف أصابعي وأمد يدي إلى السماء لأجد الرب؛ قال لي أبي إنه في كل مكان، وقريب على الدوام. أتمنى لو كنت قبلت بتلك العطيَّة الحكيمة في وقت أسبق من حياتي.

منذ زمن بعيد تبعت أبي إلى المحيط، إلى داخل المياه العميقة، ننتظر الأمواج التي ستحملنا إلى الشاطئ. وبعد ذلك بسنوات كثيرة، حين أصبح كلانا أكبر سنًّا بكثير، حاولت أن أتبعه مجددًا فيما حملته الأمواج نحو آفاق لم يكن يحق لي الذهاب إليها. فانتهى بي المطاف طافية في مياه عميقة فيما يبتعد هو أكثر فأكثر. انجرفت الذكريات والأسى والأمل من حولي، لكن الإيمان الذي غرسه بداخلي كان هو الذي حال بيني وبين الغرق. إن من يسكنون قلوبنا لا يرحلون أبدًا، حتى حين يواصلون طريقهم. حتى حين يموتون.

في عام ١٩٩٤، حلَّ على حياتنا مرض لم تكن تعرف أسرتي بشأنه إلا قليلًا جدًّا وبدا أنه سيغيِّر كل شيء. كان مرضًا قاسيًا وطاغيًا؛ كان قرصانًا لا نظير له ولا مثيل. لكن وبمرور السنين تبيَّن أن داء ألزهايمر لا يستطيع سرقةَ ما تتمسك به القلوب. أحيانًا يكون الفقد والأسى هما أعظم معلمينا. فنحن نفقد قِطَعًا من أحبائنا حين يصيبهم داء ألزهايمر، لكننا أيضًا نجد تلك القِطَع بطرق غامضة وغير متوقَّعة. والأهم من ذلك أن بإمكاننا أن نجد قِطَعًا من أنفسنا كانت تنتظرنا.

أحيانًا أسير على الشاطئ في الصباح الباكر. أستمع إلى النوارس، وإلى تلاطم الأمواج، وأتخيل كيف سيكون شعوري لو كان والدي يسير إلى جواري. أتخيل خطواته تغوص في الرمال وأنه على الأرجح كان سينظر إلى الماء، يعاين الأمواج ليرى إن كانت تصلح لأن يركبَها دون لوح. فأشعر بالأسى يزداد بداخلي حتى أتذكَّر أن أبي ترك بصمته في أعماق روحي. لقد تطلَّب الأمر سنواتٍ طويلةً ومرَضًا عُضالًا من أجل أن أدرك ذلك، لكن ما إن فعلت، حتى لم يعد شيء كما كان.

«البشر جميعهم مؤلَّف واحد لمؤلِّفٍ واحد. وحين يموت إنسان، لا يُمزَّق فصلُه من المؤلَّف، لكنه يُترجم إلى لغة أفضل.»

جون دون

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤