الفصل الثاني

الجنس والمخدِّرات وموسيقى الروك

تُشكِّل الخبرات التي يمكن عدُّها خبراتٍ جماليةٍ مجموعةً متنوِّعة بدرجةٍ كبيرة. فهي لا تقتصر على الاستماع إلى أغنيتك المفضَّلة أو مشاهدة فيلمك المفضَّل، بل تُشكِّل أيضًا مشاهدةَ تجميعةٍ من «أعظم الأهداف» على موقع «يوتيوب»، والاستقرار على زَوجَين من الأحذية، واختيار المكان الأنسب لوضعِ آلةِ إعداد القهوة على منضدة المطبخ. ومن الصعب للغاية إيجادُ شيءٍ مشترك بين هذه الأمور جميعها.

ويجب بالطبع ألا يكون التعريف شاملًا للغاية. فغالبًا ما يفرِّق الفلاسفة بين اختبار الفن والخبرات الحسية الناتجة عن تأثيرِ المخدِّرات أو الإثارة الجنسية (وأيضًا خبرات اللذة في العموم، مثل الحفلات الصاخبة، التي من المفترَض أن تشملها عبارة «موسيقى الروك آند رول»). لذلك فإن الطريقةَ التقليدية للتفكير في الجماليات أنه يتعيَّن علينا بطريقةٍ ما رسمُ خطٍّ بين ما هو جمالي وما هو غير جمالي، بحيث يخرج الجنس والمخدِّرات من نطاق الجمالي، بينما تظل تصفيفاتُ الشَّعر والموسيقى ضمن هذا النطاق. فكيف يمكن ذلك؟

إنني أستخدم معضلةَ الجنس والمخدِّرات وموسيقى الروك خلفيةً لتقديمِ أهمِّ النُّهُج في علم الجمال. لكني لا أعتقد في الواقع أنه يُمكِننا الحفاظُ على التمييز بين الخبرات الجمالية من ناحية، والجنس والمخدرات وموسيقى الروك من ناحيةٍ أخرى. فجميع الأمور يمكنها أن تُكسِبنا خبرةً جمالية، ومن الممكن جدًّا أن تُعَد بعض الخبرات الناتجة عن تأثيرِ المخدِّرات على سبيل المثال، خبراتٍ جمالية. لكن التعرُّف على هذه النُّهُج يساعدنا على معرفة مدى صعوبة الحفاظ على تصنيفِ ما هو جمالي وما هو غير جمالي.

سأتحدَّث عن أربعة مفاهيم مؤثِّرة في علم الجمال، يمكن تلخيصُها في الجمال، والمتعة، والعاطفة، و«تقدير الشيء لذاته». ولن تكون المناقشة بغرض رفضها أو إظهار عدم جدواها، ولا للسخرية منها أيضًا. وإنما سأتحدَّث عنها لأن كلًّا منها يشتمل على بعض المؤشِّرات المهمة حقًّا للكيفية التي يجب أن نفكِّر بها والتي يجب ألا نفكِّر بها في نطاق الجماليات.

ماذا عن الجمال؟

أكثرُ ما يشيع عن علم الجمال أنه يتعلَّق بالجمال. فلتُلقِ نظرةً من حولك في الشارع، وستظهر كلمة «جماليات» بانتظام في صالونات التجميل. ومن المغري تبنِّي نهجٍ كنهج صالونات التجميل عند محاولةِ شرح علم الجمال، كتخصُّصٍ فلسفي. وتتمثَّل الفكرة العامة لهذا النَّهج في أن بعض الأشياء جميلة، وبعضها الآخر ليس كذلك. ويساعدنا علم الجمال في التفريق بين هذه وتلك، وربما حتى شرح السبب في جمالِ ما هو جميل.

إنني أسمي هذه الطريقةَ في التفكير ﺑ «نهج صالونات التجميل» لأنَّ مجالًا كجراحة التجميل أو العناية بالأظافر به مفاهيمُ واضحة إلى حدٍّ ما لما هو جميل وما ليس بجميل. حقيقة الأمر أنَّ الهدف الرئيسي لمثل هذه المجالات هو تحويلُ شيءٍ ليس بالجمال الكافي إلى شيءٍ أكثرَ جمالًا. وكثيرٌ ممن يعتقدون أن علم الجمال يتعلَّق بالجمال يتبنَّون افتراضاتٍ مماثلة حول وجود خَطٍّ فاصل في العالم بين الأشياء الجميلة والأشياء غير الجميلة.

يحلُّ نهج صالونات التجميل معضلةَ الجنس والمخدِّرات وموسيقى الروك دون عناءٍ كبير. الخبرات الجمالية هي خبراتٌ مع الأشياء التي تُوصف بالجميلة. الخبرات الناتجة عن تأثير المخدِّرات أو الخبرات الجنسية أو خبرات الاستماع إلى موسيقى الروك ليست خبراتٍ لأشياءَ جميلة. وبناءً على هذا، لا تُعَد خبراتٍ جمالية.

سيكون من السهل للغاية الاستهزاء بهذا الرأي لِما يحمله من نغماتٍ غارقةٍ في الوعظية والحِكَمية (موسيقى الروك هي موسيقى الشيطان، والماريجوانا هي حصاد الشيطان، والجنس، حسنًا، هو الجنس)، غير أنه من المهم التنويهُ إلى أن المشكلة الحقيقية في نهج صالونات التجميل ليست في أنه يضع الخط الفاصل بين ما هو جميل وما هو غير جميل بطريقةٍ نُخْبوية أو تحفُّظية. المشكلة الحقيقية هي أنه يضع خطًّا فاصلًا من الأساس.

إنَّ كونَ الشيء جميلًا يختلِف تمامًا عن كونه أحمرَ مثلًا. إننا نستطيع تصنيفَ جميع الأشياء الموجودة في العالم إلى كَومتَين؛ أشياء حمراء، وأشياء غير حمراء. ربما يكون هذا غيرَ منطقي أو مُجدٍ، لكنه ممكن على أي حال. لكننا لا نستطيع تصنيفَ جميع الأشياء الموجودة في العالم إلى كَومة الأشياء الجميلة والكَومة الأخرى، الأشياء غير الجميلة. هذا على الأقل إذا أردنا أن يكون للجمال مكانٌ في الجماليات. ومثلما يقول أوسكار وايلد (١٨٥٤–١٩٠٠)، «ما من شيءٍ قبيح بالدرجة التي تجعله لا يبدو جميلًا في ظروفٍ معينة من الضوء والظل أو بالقرب من أشياءَ أخرى؛ وما من شيءٍ جميل بالدرجة التي تجعله لا يبدو قبيحًا في ظروفٍ معيَّنة.»

المقصد هو أن الجمال ليس سِمة من سِمات الأشياء، تظل على حالتها في جميع الأوقات، وجميع السياقات، وفي نظر جميع المشاهدين. إذا كان لهذا المفهوم أن يكون مفيدًا لعلم الجمال ولو من بعيد، فينبغي أن يكون قادرًا على استيعاب الطبيعة المتفلتة للجمال وحقيقة أننا، كما أصاب أوسكار وايلد في قوله، نرى شيئًا جميلًا في بعض الأحيان، وفي أحيانٍ أخرى لا نراه كذلك. ولا علاقةَ لهذا بالجدل المتعلِّق بما إذا كان الجمال في عين الرائي أم لا، وهو موضوع سأناقشه في الفصل الخامس. حتى لو لم يكن الجمال في عين الرائي؛ حتى لو كان «موضوعيًّا» بشكلٍ ما، فهو يتأثَّر كثيرًا بالسياق الذي نجده فيه. ولا يمكن لنهج صالونات التجميل تفسيرُ هذا الارتباط بالسياق.

على الرغم من أن نهج صالونات التجميل كان هو السائد على مدارِ فترةٍ طويلة من تاريخ الجماليات «الغربي»، فهو ليس بالنهج الوحيد عندما يتعلَّق الأمر بالجمال. إليك أحدَ البدائل، الموجَز في هذا الشعار الفصيح، والمنسوب خطأً (وباستمرار) إلى كونفوشيوس (٥٥١ قبل الميلاد–٤٧٩ قبل الميلاد): «لكل شيءٍ جمالُه وما كل أحدٍ يراه.» ليس لدينا إذن كَومتان؛ واحدة للأشياء الجميلة، والأخرى للأشياء غير الجميلة. لدينا كَومةٌ واحدة فقط.

ثمَّة تياراتٌ متنوِّعة أيضًا من الطليعيِّين قد أيَّدَت نُسخًا من هذا الرأي. بالرجوع إلى ليجر، نجده أيضًا يعارض أيَّ شكلٍ من أشكال «التسلسلات الهرمية للجمال». إليك اقتباسًا معبِّرًا من كلماته:

الجمال في كل مكان؛ ربما يكون أكثرَ حضورًا في تنسيقك أوعيةً على الجدران البيضاء لمطبخك، مما هو عليه في غرفة معيشة منزلك على طراز القرن الثامن عشر، أو في المتحف الرسمي.

إذن فالرأي هنا هو أنَّ أيَّ شيءٍ يمكن أن يبدوَ جميلًا، والجماليات أمرٌ يتعلَّق تحديدًا بتلك الخبرات الجميلة. غير أنَّ ما يجعل خبرةً ما جماليةً ليس كون الشيء المُختبَر جميلًا، بل إنَّنا نختبره بطريقةٍ معينة (أي أن تكون خبرتُنا مع الشيء أنه جميل). الأمر لا يتعلَّق بالشيء المُختبَر بل بالشكل الذي تتخذه خبرتُنا.

إنَّ هذا النهج يُجسِّد التوجُّه المخالِف للنُّخبوية والمخالف لإصدار الأحكام الذي بدأتُ به حديثي، لكن ثمَّة خدعة في الأمر هنا. فهذه الطريقة للربط بين الجَمال والجماليات في واقع الأمر تجعل مفهوم الجَمال أمرًا زائدًا عن الحاجة. فنحن نستطيع أن نرويَ هذه القصة دون الحديث عن الجَمال على الإطلاق. فليس الجَمال هنا سوى ممثلٍ لطابع خبرتنا، وهو ليس حتى ممثلًا ذا نفعٍ كبير. إذا كان عِلم الجمال يتعلق باختبارنا أشياءَ، أيًّا ما كانت، على أنها أشياءُ جميلة، فسنرغَب في معرفةِ ما يعنيه هذا. كيف يحدُث الأمر؟ أنظر إلى لوحة في المتحف، ولا يسعُني أن أصفَ هذه الخبرة سوى بأنها أبعدُ ما تكون عن كونها خبرةً جمالية. كيف لي أن أجعلها خبرةً جمالية؟ هل أختبرها كما لو كانت جميلة؟ لا تُعينُني هذه النصيحة كثيرًا.

يعطينا نهج صالونات التجميل على الأقل طريقةً للتمييز بين الخبرات الجمالية والخبرات غير الجمالية (مثل خبرات الجنس، والمخدِّرات، وموسيقى الروك، كما يُزعَم). ليست طريقةً جيدة جدًّا، ولكنها طريقةٌ على أي حال. أما النهج الأكثرُ ديمقراطية، والذي ربطتُه بكونفوشيوس وليجر، فهو لا يُخبرنا في حد ذاته بالكثير عن الخبرات الجمالية. إذا سلَكنا هذا الطريق، فسيظل علينا أن نفسِّر الكثيرَ عما يجعل بعض الخبرات (دونًا عن غيرها) خبراتٍ للشيء على نحوٍ جميل. وإذا تمكنَّا من هذا التفسير، فستكون أيُّ إشارة إلى «الجمال» في كل هذا مجرَّد تصنيفٍ غير مفيد.

على الرغم من ذلك، فقد علمَتْنا النسخة الديمقراطية لمفهوم الجمال شيئًا مهمًّا حقًّا. ليس الأمر أن بعض الأشياء جماليةٌ وبعضها الآخر ليس كذلك. فكل الأشياء (حسنًا، كل الأشياء تقريبًا) يمكنها أن تحفِّز تجربةً جمالية. ولا يُوجَد شيءٌ من شأنه أن يحفِّز ذلك الانخراط في التجربة الجمالية على الدوام، حتى لو كان أعظمَ الأعمال الفنية. يتعلَّق السؤال المهم، إذن، بكيفيةِ تفسيرنا لهذا النوع من التجربة الجمالية، وكيفية تحفيزها. يُمكِننا استخدامُ العبارة: «اختبار الشيء على أنه جميل» كتذكيرٍ مفيد لطابع هذه الخبرة. لكن ذلك ليس تفسيرًا لهذه الخبرة.

يمكننا أن نختبرَ الشيء نفسه جميلًا وغير جميل في الوقت ذاته. في الحالة الأولى تكون الخبرة جمالية، وفي الحالة الثانية لا تكون كذلك. ولهذا، من المفترض أن نجدَ في مفهوم الجَمال شرحًا تفصيليًّا لهذا الاختلاف. ومن المفترض أن يكون لهذا التفسير علاقةٌ بكيفية تطوُّر هذه الخبرة، أو ربما بكيفية تجسُّد انتباهنا أو عواطفنا. ولكنه ليس له علاقةٌ كبيرة بالجَمال.

ماذا عن المتعة؟

من المفاهيم الأخرى المهمةِ التي غالبًا ما تُستخدَم عند الحديث عن الفَرق بين ما هو جمالي وما هو غير جمالي، مفهومُ المتعة. والفكرة العامة هي أن الجماليات تتصل بالمتعة. أما ما هو غير جمالي، فليس كذلك. فالخبرات الجمالية هي خبراتٌ ممتعة (في الغالب بالطبع وليس دائمًا)؛ ولهذا نُحب أن نخوضها. وما نرجوه أن نفهمَ ما يجعل خبرةً ما جمالية إذا فهمنا المتعةَ التي تنطوي عليها.

ليست متعةً جمالية. كان إيمانويل كانط (١٧٢٤–‏١٨٠٤) يرى أن ما يميِّز المتعةَ الجمالية هو أنها لا غائية. وقد كُتِبَت ملايين الصفحات حول ما قد تعنيه هذه «المتعة اللاغائية». وبدلًا من البدء بالمزيد من الدراسات العلمية حول كانط، سأبدأ بعلم نفس المتعة.

يميِّز علماء النفس بين نوعَين من المتعة. النوع الأول هو ما تشعر به عند توقُّف شيءٍ غير سارٍّ. سأسميها «متعة الارتياح» لأنها تُحفَّز بعودة الجسم إلى حالته الطبيعية بعد فترةٍ من الاضطراب. لذلك إذا كنتَ تتضور جوعًا وتمكَّنتَ من تناول شيء أخيرًا، فإن المتعة التي تشعر بها هي متعةُ الارتياح؛ فقد عاد جسمك إلى حالته الطبيعية قبل الجوع.

متعة الارتياح قصيرة الأجل؛ إذ تكون الأشياء غيرُ السارة قد انتهت، وتتشكَّل المتعةُ في لحظة الارتياح. لكنها لحظة فحسب. ومتعة الارتياح لا تحفِّزنا لشيءٍ آخر. ربما تكون نتيجةً لشيء نفعله، لكنها لا تجعلنا نفعل أشياءَ أخرى.

وسنقارن هذا مع ما سأسميه «المتعة المستديمة». تحفِّزنا المتعةُ المستديمة على الاستمرار في فعلِ ما نفعله؛ فهي تدعم نشاطنا. إننا نسير على طول الشاطئ ونجده أمرًا ممتعًا للغاية. ليس ذلك ارتياحًا من أيِّ شيء. كلُّ ما هنالك أنه يمنحنا شعورًا جيدًا. ويمكن لذلك أن يستمرَّ فترةً طويلة، على عكس متعة الارتياح. كما يحفِّزنا على مواصلة السير.

كما أشار الفيلسوف الكندي موهان ماتثان (١٩٤٨)، استنادًا إلى هذه الفروق النفسية، فإن من شأنِ نشاطٍ واحد، بل ربما النشاط نفسه، أن يمنحك متعةَ الارتياح في بعض السياقات والمتعة المستديمة في سياقاتٍ أخرى. تناوُل الطعام مثالٌ جيد على ذلك. إذ يمكنه أن يمنحك متعةَ الارتياح عندما تأخذ أولَ قضمة بعد عدم تناول الطعام يومًا كاملًا. لكنه قد يمنحك متعةً مستديمة أيضًا إذا كنت تستمتع بتناولِ وجبةٍ فاخرة.

عادةً ما تكون المتعة الجمالية متعةً مستديمة. تنظر إلى إحدى اللوحات الفنية، وتُحفِّزك المتعة التي تشعُر بها على الاستمرار في النظر إليها. إنه نشاطٌ مستمر تمامًا كالسير على طول الشاطئ. تُديم متعتُنا تجربتَنا المستمرة مع اللوحة، حتى إنه يصعُب علينا في بعض الأحيان أن ننصرفَ عن التجربة.

يعطينا هذا صورةً معقَّدة فيما يتعلَّق بمعضلة الجنس، والمخدِّرات وموسيقى الروك. فيمكن لبعض الأنشطة الجنسية والأنشطة الناتجة عن تأثيرِ المخدِّرات أن تمنحنا متعةً مستديمة. لذلك لا يمكننا ببساطة رفضُ الجنس والمخدرات بشكلٍ عام واستبعادُهما من الدائرة المتميزة للأنشطة الجمالية. أعتقد أن هذه إحدى مميزات هذا المفهوم؛ فلا أرى سببًا يمنعُنا من تضمين بعض الخبرات الجنسية والناتجة عن تأثير المخدرات في نطاق الخبرات الجمالية. الحق أن مفهومَ المتعة يعطينا مؤشرًا عمَّا يجعل بعض الخبرات الجنسية والناتجة عن تأثير المخدرات دون غيرها تستحق، على وجهِ الخصوص، أن تُوصَف بالمتعة المستديمة.

يُوجَد قَدْر لا بأس به من الأبحاث النفسية عن كيفية تحفيز المتعة المستديمة لاستمرار الأنشطة ومساعدتها في ذلك. من الأمثلةِ على ذلك تناوُل المشروبات. إذا تناولتَ كميةً كبيرة نوعًا ما من نوعٍ تُحبه من المشروبات، يمكن أن يؤديَ هذا إلى متعةٍ مستديمة. يمكنك الشعورُ بالمتعة عند الارتشافِ منه، وربما تحريكه في فمك، ثم ابتلاعه، وأخذ رشفةٍ أخرى، وهكذا. هناك إيقاعٌ معيَّن لها، والمتعة التي تحصُل عليها في هذا النشاط تحافظ على هذا الإيقاع، وتضبطه بدقةٍ أيضًا.

نحن نعرف الكثيرَ عن الآليات الفسيولوجية المتضمَّنة في فعلِ الشرب في هذا السياق؛ كيف يؤدي تزامُن عمل العضلات المختلفة إلى التنسيق السلس للعمليات المشارِكة في عملية الشرب. ولكن كيف يحدُث ذلك في حالةِ التجربة الجمالية؟ ماذا سيكون المعادل لعمل عضلات الرقبة لدينا؟ فما من عضلاتٍ تشترك بشكلٍ مباشر في التجربة الجمالية، في نهايةِ المطاف.

تُحفِّز المتعة المستديمة استمرارَ تجربتنا الجمالية وتضبطها بدقةٍ عن طريق التحكُّم في انتباهنا. وصحيحٌ أنَّه ما من عضلاتٍ تشترك بشكلٍ مباشر في أغلب حالات التجارب الجمالية، لكن الانتباه يُسهِم في هذه العملية بدرجةٍ كبيرة. عندما تنظر إلى تلك اللوحة، فإن المتعة التي تحصُل عليها من ذلك الفعلِ تدفع انتباهك لمواصلة الاندماج. وبناءً على هذا، ينبغي لمفهوم المتعة الجمالية باعتبارها متعةً مستديمة أن يقدِّم لنا تفسيرًا بشأنِ كيفية عمل انتباهنا في تجربتنا الجمالية.

يأتي أحدُ الأسباب المهمة التي تجعل من اللازم حقًّا توضيح شكل الانتباه الذي تُحافِظ عليه المتعة المستديمة من نظرية السينما النسوية. تشير المُنظِّرة السينمائية البريطانية لورا مولفي (١٩٤١–…) في مقالها المؤثِّر للغاية «المتعة البصرية والسينما السردية» إلى أن الأفلام السائدةَ تسعى في معظم الأحيان إلى إثارة «المُتَع البصرية» التي تتمثَّل عادةً في مُتَع التحديقِ واستراقِ البصر لدى الذكور. وعادةً ما تكون الشخصية الرئيسية التي يُشجَّع الجمهور على التعاطف معها ذكرًا، وغالبًا ما يتم تشجيعنا على رؤيةِ النساء اللاتي يظهرن في هذه الأفلام من وجهةِ نظر البطل الذكَر. وهذه «النظرة الذكورية المحدِّقة» male gaze المُشبَّعة بالجوانب الجنسية كما تسمِّيها مولفي، هي ما يُشكِّل المتعة البصرية للسينما السردية.

هذه «المتعة البصرية» هي متعةٌ مستديمة بكل المقاييس (إنها تشجِّعنا على الاستمرار في النظر)، لكن من الواضح أنها تختلف تمامًا عن ذلك النوع، من المتعة الجمالية اللاغائية، الذي يتحدَّث عنه عِلم الجمال. ولهذا، يحتاج مفهوم المتعة في الواقع إلى أن يقدِّم لنا المزيدَ للتفريق بين المُتَع الجمالية وغير الجمالية. ومرةً أخرى، سيتعيَّن أن يكون لجزءٍ كبير من هذا التفسير علاقةٌ بالنشاط العقلي الذي تستديمه المتعة، والذي سيتعيَّن بدوره أن يكون وثيقَ الصلة بما يسترعي انتباهنا (وبكيفية انتباهنا له).

ماذا عن العواطف؟

يركِّز النهج الثالث لتحديد نطاق علم الجمال على العواطف. الفكرة العامة لهذا النهج أن الخبرات الجمالية خبراتٌ عاطفية. لذا فإن فهْم ما يجعل الخبرات الجمالية مختلفةً عن أنواع الخبرات الأخرى يعني فهْم نوع العاطفة المثارة.

فقد كانت آيريس مردوك (١٩١٩–١٩٩٩)، الروائيةُ الأيرلندية، ترى الأدب (والفن بشكلٍ عام) «نوعًا من التقنية المنضبطة لإثارة مشاعرَ بعينها». وأشار جورج كوبلر (١٩١٢–١٩٩٦)، أحدُ أكثرِ المؤرخين الفنيِّين تأثيرًا في القرن الماضي، إلى أن إحدى الطرق البسيطة للتفكير في الفن هي اعتبارُه «شيئًا مصنوعًا لإثارة الخبرات العاطفية». وربما بدا هذا الرأي، بصفته تقييمًا اجتماعيًّا للفن، أكثرَ إقناعًا في عام ١٩٥٩، عندما كتبه كوبلر، منه في عام ٢٠١٩. ذلك أنَّ القَدْر الكبير من الفن المعاصر يحاول الابتعادَ إلى أقصى حدٍّ عن عواطفنا، مُفضِّلًا تجربةً فكريةً بحتةً أو تجربةً إدراكيةً بحتةً في بعض الأحيان (كما في حالة الفن المفاهيمي والفن البصري). لكن إذا اعتبرنا أن مزاعمَ مردوك وكوبلر خاصةٌ بالتجربة الجمالية وليس بالفن، فإن ذلك سيعني أن الخبرات الجمالية خبراتٌ عاطفية.

يصبح السؤال هنا إذن: ما أنواعُ العواطف التي تضُمها الخبرات الجمالية؟ أهو النوع نفسه من العواطف دائمًا في كل تجربةٍ جمالية؟ أم هي عواطفُ مختلفة، حسب التجربة التي نندمج فيها وكيفية اندماجنا؟

وجهةُ النظر الأكثر تطرفًا أننا نشعر دائمًا بالعاطفة نفسِها في جميع حالات التجربة الجمالية. إذا كان لدينا تلك العاطفة، فالأمر يُصنَّف على أنه تجربةٌ جمالية، وإذا لم تكن لدينا فلا يُصنَّف كذلك. ولكن ماذا عساها أن تكون هذه «العاطفة الجمالية»؟ كثيرةٌ هي العواطف المرشَّحة للإجابة عن هذا السؤال؛ فمنها الدهشة والتأثُّر وتأمُّل السِّمات الشكلية. بالرغم من ذلك، فمن السهل الإتيان بأمثلة، على التجربة الجمالية، لا تتضمَّن أيًّا من هذه العواطف.

إحدى السِّمات البارزة في التجارب الجمالية هي تنوُّعها؛ فستنطوي خبرتُنا الجمالية للأخدود العظيم ولإحدى أغنيات المغنية بيلي هوليدي كلٌّ منها على عواطفَ مختلفةٍ تمامًا. إن البحثَ عن عاطفةٍ واحدةٍ شاملة نشعُر بها في جميع هذه الحالات يعني تجاهُل تنوُّع الجماليات أو إخفاءه.

وحتى الشيء نفسه يمكنه أن يثيرَ عواطفَ مختلِفة للغاية باختلاف الظروف. فمن أغربِ القصص التي سمعتُها عن الفن كانت من صديقةٍ مقرَّبة لي للغاية كانت تذهب إلى مُتحَف سان فرانسيسكو للفن الحديث بعد كل مواعدةٍ أولى لها، وتجلس أمامَ لوحةٍ كبيرة جدًّا لمارك روثكو لتتعرَّف على شعورها تجاه الشريك الرومانسي المحتمل الجديد. لم يكن ذلك بمثابةِ بيئةٍ لها للتفكير في شخصٍ ما، بل كان ردُّ فِعلها تجاه اللوحة يتأثَّر بلقائها السابق. كانت العواطف التي أثارَتْها هذه اللوحة التجريدية الكبيرة في هذه المناسبات، كما أخبرَتْني، مختلفةً تمامًا. إذا كان بإمكان الخبرة الجمالية للوحةٍ واحدة أن تحفِّز عواطفَ بمثل هذا القَدْر من التنوُّع، فكيف يمكن وضْع جميع التجارب الجمالية تحت مظلةِ نوعٍ واحد فقط من «العاطفة الجمالية» الخاصة؟

على الرغم من ذلك، لا يمكن إنكارُ أن التجربة الجمالية يمكن أن تكون أمرًا عاطفيًّا، وهي غالبًا ما تكون كذلك. فقد يبكيك الفن، والطبيعة أيضًا. إنَّ الرابط بين الجماليات والعواطف هو شيءٌ تتحدَّث عنه جميع التقاليد الجمالية، من الجماليات الإسلامية والسنسكريتية إلى اليابانية والصينية.

لا بد لأي فهْم للخبرات الجمالية أن يأخذَ العواطف على محمل الجِد. لكن هذا لا يعني أن العواطف هي العنصر الحاسم في الخبرة الجمالية. هل التجربة الجمالية هي التجربةُ العاطفية الوحيدة؟ بالطبع لا. فتجارب الجنس والمخدرات وموسيقى الروك يمكن أن تكون تجاربَ عاطفية للغاية؛ ربما أكثر عاطفيةً حتى من بعض الأمثلة الجمالية التي استخدمتُها. ويمكن الزعم بأن كلَّ ما نقوم به تقريبًا مُشبَّع بالعواطف بشكلٍ ما. لذا فإن التركيز على العواطف لن يكون ذا فائدةٍ كبيرةٍ في البحث عما يميِّز ما هو جمالي.

وعلى العكس من ذلك، هل التجربة الجمالية عاطفيةٌ على الدوام؟ عندما يصف فيرناندو بيسوا (١٨٨٨–١٩٣٥)، الشاعرُ والكاتب البرتغالي، خبرتَه الجماليةَ على النحو التالي «أنجرف بلا أفكارٍ ولا مشاعرَ، منتبهًا إلى حواسِّي فحسب»، يبدو لنا هذا نوعًا مألوفًا من التجربة الجمالية ليس للعواطف فيه سوى دورٍ ثانوي. في بعض حالات الخبرة الجمالية على الأقل، يكون الحسِّي هو المهيمن، لا العاطفي.

حتى تأمُّل السِّمات الشكلية، وهو أحدُ الأمثلة المزعومة على «العاطفة الجمالية»، يمكن اعتباره أمرًا إدراكيًّا وليس عاطفيًّا. فنجد على سبيل المثال أنَّ سوزان سونتاج (١٩٣٣–٢٠٠٤)، الناقدةَ الفنية الأمريكية، تصفُ الخبرة الجمالية بأنها «مُتَجَرِّدة، ومُرِيحة، وتأمُّلية، وخالية من العواطف، وتتجاوز الاستياء والاستحسان».

ربما لا تكون العاطفة هي ما يجعل الخبرات الجمالية جمالية. لكن الجوانب العاطفية للجماليات لا تزال مهمةً بقَدْر ما تُسلِّط الضوء على مدى أهمية العواطف في الخبرات الجمالية. وينبغي لأي حديثٍ عن الجماليات أن يعالجَ ما قد تكون عليه الخبرات العاطفية والجمالية من تداخُل، وهي الحال في معظم الأحيان.

ماذا عن تقدير الشيء لذاته؟

تتحدَّث سوزان سونتاج عن الخبرات الجمالية باعتبارها خبرةً مُتَجَرِّدة. ليست مُتَجَرِّدة من العواطف فحسب، بل من الاستياء، والاستحسان، والاعتبارات العملية أيضًا. وهذا هو أقلُّ الجوانب المحتملة رواجًا في مسألة الفصل بين ما هو جمالي وما هو غير جمالي؛ الانخراطُ في التجربة الجمالية يكون للتجربة ذاتها. إننا لا ننخرط في التجربة من أجل تحقيقِ هدفٍ آخر. إننا ننخرط فيها من أجل الوصول إلى النشوة الجمالية.

يأتي هذا الاقتراح بأشكالٍ متعددة. يتحدَّث البعض عن تقديرِ الشيء لذاته؛ فعندما يثير شيءٌ ما فينا خبرةً جمالية، نُقدِّر ذلك الشيءَ المُختبَر (أو ربما الخبرة نفسها) لذاته. لن أقول الكثيرَ عن هذا المنطق؛ لأنني لست على يقينٍ حتى من أننا نُقدِّر أيَّ شيءٍ عندما نستشعر خبرةً جمالية، فضلًا عن تقدير الأشياء لذاتها. على أي حال، سيتوقف ذلك على مفهوم المرء للقيمة، وأنا لن أتطرَّق إلى هذا الموضوع الشائك هنا بالطبع. ما الذي أقدرِّه عندما أحدِّق في ذرَّاتٍ من الغبار تتمايل في شعاع للشمس؟ أهي ذرَّاتُ الغبار؟ أم إنني أقدِّر خبرتي الخاصة؟ ما الذي يعنيه أصلًا أن يقدِّر المرء خبرته الخاصة؟ أيعني أنه يُعجِبني أن أمُر بها؟ أم إنني أمنحُها إشارةَ إعجاب؟ إذا كنا قادرين على صياغةِ مفهوم «تقدير الشيء لذاته» دون الاعتماد على مفهومِ إعلاءِ القيمة، فعلينا حقًّا أن نحاول ذلك.

بالرغم من ذلك، يمكننا تجنُّب الحديثِ عن القيم والتركيز على سببِ قيامنا بما نقوم به في حالة الاندماج الجمالي. هل نحاول تحقيقَ شيءٍ آخر أم إننا نفعل ما نفعله لذاته فحسب؟ إذا قرأتُ روايةً كي أتمكَّن من اجتياز اختبار في مادة الأدب، فأنا أفعل شيئًا (وهو قراءة الرواية) من أجل تحقيق شيءٍ آخر (اجتياز الاختبار). أما إذا قرأتُها لقراءتها فحسب، فهذا أقرب إلى النطاق الجمالي. لكن الخبرة الجمالية قد تبدأ فور بدئي في القراءة، وإن كان ذلك من أجل اجتياز مادة الأدب. في تلك الحالة، أنا لا أفعل ذلك لذاته «تمامًا»، ولكني على الرغم من ذلك أندمج معه في خبرةٍ جمالية. وهذا لا يعني أن تجربتي الجمالية أقلُّ درجة. تُظهِر هذه الحالات الوسيطة أن «القيام بالشيء لذاته» ليس بالغاية النهائية للجماليات.

لنُوضِّح طريقةً أخرى لفهم «تقدير الشيء لذاته». بعض الأنشطة لن يكون لها أيُّ معنًى إلا إذا وصلَت إلى نقطة نهاية أو هدف. فنحن نقوم بها من أجل تحقيقِ شيءٍ ما. وينبغي إكمالها. لا يمكنك الاكتفاء بالقليل منها. مثل اجتياز أحد سباقات الماراثون في أقلَّ من أربعِ ساعات.

في حالةِ الأنشطة من هذا النوع، يُوجَد خياران؛ إما أن تحقِّق الهدف أو لا تحقِّقه. إذا لم تحقِّقه، فإنَّ رغباتك المُحبَطَة تؤدي إلى رغباتٍ أقوى من المحتمل أن تُحبَط كذلك. إذا حقَّقتَ الهدف، حسنًا، فسيُصبِح هدفُ الساعات الأربع هو هدف الفاشلين، وسيُصبِح الهدفُ الجديد ثلاثَ ساعات وخمسًا وأربعين دقيقة. وسيُصبِح بعد ذلك ثلاثَ ساعات ونصف الساعة. وهكذا. دائمًا ما يُوجَد هدفٌ أعلى لبلوغه.

من حُسن الحظ، أنَّ الأنشطةَ ليست كلها من هذا النوع. تُوجَد أنشطةٌ أخرى يمكنك الاكتفاءُ بالقليل منها. فهي منطقية وإن لم تُكملها. إنك لا تقوم بها من أجل تحقيقِ هدفٍ ما. ومنها على سبيل المثال، الركضُ من أجل الركض.

تُوجَد أشياءُ نفعلها من أجل الحصول على مكافأة، وأشياءُ أخرى نفعلها من أجل الفِعل في حدِّ ذاته. ونحن نحتاج إلى النوعَين. قلةٌ قليلة من الناس فقط يعملون في وظائفَ يمكنهم فيها الاستمتاعُ بما يقومون به دون أيِّ ضغط لتحقيق أي شيء. هناك دائمًا أهداف، ومواعيدُ نهائية، ومعاييرُ للترقية.

وحتى في أوقاتِ فراغنا، فإن الكثيرَ مما نقوم به مُوجَّه نحو بعضِ الأهداف المحدَّدة للغاية. نحن نطهو وجبةً بهدف تقديمها لأصدقائنا، وليس من أجل طهي الطعام بلا هدف. لذلك لا يمكننا تجنُّب الأنشطة التي نقوم بها لتحقيق الإنجاز. لكننا نحتاج إلى توازُنٍ صحي بين الأنشطة التي نقوم بها من أجل الإنجازات والأنشطة التي نقوم بها من أجل القيام بها في حدِّ ذاته.

لكن التجربة الجمالية ليست نشاطًا بهدف الحصول على مكافأة. إنها، في الوضع المثالي، نشاطٌ يُقام به من أجل الفعل في حدِّ ذاته. وأنت لا تفعله من أجل الحصول على مكافأة. إنه يعني لك شيئًا أن تقوم به حتى لو لم تستمرَّ فيه حتى بلوغ هدفه أو نقطة نهايته؛ لأنه ليس له هدفٌ أو نقطة نهاية. يمكنك النظر إلى لوحةٍ بعضَ الوقت فحسب. وليس لهذا النشاطِ نقطةُ نهايةٍ طبيعية (أو غير طبيعية). التجربة الجمالية نشاطٌ غير مُقيَّد.

أيُّ حديثٍ عن التجربة الجمالية ينبغي أن يشرح هذه السِّمة المهمة، وهي أنها نشاطٌ غيرُ مُقيَّد يُجرى من أجل الفعل في حدِّ ذاته وليس من أجل الحصول على مكافأةٍ ما. بالرغم من ذلك، فليس هذا أيضًا هو الحد الفاصل بين ما هو جمالي وما هو غير جمالي. لقد كنتُ أركِّز على أمثلةٍ مثل النظر إلى لوحة؛ حيث لا تُوجَد حقًّا أيُّ نقطة نهاية للنشاط. لكن ثمة أمثلة أخرى للتجارب الجمالية توجد فيها نقطةُ نهاية. الأغنيات والأفلام لها نقطة نهاية طبيعية للغاية؛ أي عندما تنتهي. صحيح أننا نستطيع التفكير فيها بعد انتهائها، لكنَّ الخبرة نفسَها لها نهاية معينة من جانب في غاية الأهمية. وهذه الأنشطة الجمالية تختلف في هذا الشأن إلى حدٍّ كبير عن التأمل اللانهائي للوحات.

إذن، فعلى الرغم من أن النشاط من أجل الفعل نفسه هو جانب مهمٌّ لبعض حالات التجربة الجمالية، فهو ليس سِمةً عامة لكل تجربة جمالية. يمكننا التمييز «داخل» فئة التجربة الجمالية؛ بعض منها موجَّه لهدف، وبعضها الآخر ليس كذلك. لكن غياب التوجُّه لهدف ليس هو ما يميِّز هذه الفئة.

فكيف ينعكس هذا على نظرتنا للجنس، والمخدرات، وموسيقى الروك؟ كما في حالة المفهوم المتمركز على المتعة، فإن التركيز على فعلِ الأشياء لذاتها يقسِّم أيضًا فئةَ الخبرات الجنسية والناتجة عن تأثير المخدرات. لقد كتب ألدوس هكسلي (١٨٩٤–١٩٦٣) كتابًا كاملًا يوضِّح فيه كيف أنَّ تجربته مع المخدرات كانت مُتجرِّدة مثلما كانت خبراته الجمالية. مرةً أخرى، أعتبر أن هذا هو النهجُ الصحيح للنظر إلى تجاربِ الجنس والمخدِّرات؛ إذ ينبغي أن يكون بعضها جزءًا من نطاق الجماليات. على الرغم من ذلك، لا تزال النُّهُج القياسية الأربعة للجماليات عاجزةً عن إعطائنا فهمًا واضحًا ومحدَّدًا لنقطة بداية هذا النطاق ونقطة نهايته.

لا شك أنَّ مفهوم «تقدير الشيء لذاته» يعبِّر عن جانبٍ مهم في الخبرات الجمالية، لكنه ليس الجانبَ المهم الوحيد. وأيًّا ما كان الفهم النهائي للفرق بين ما هو جمالي وما هو غير جمالي، ينبغي أن يعكسَ أهمية فِعل الأشياء لذاتها على نحوٍ غير مُقيَّد.

ماذا عن الانتباه؟

ما تعلَّمناه من مفاهيم الجمال هو أننا إذا تخلينا عن نهج صالونات التجميل، فسنجد أن الجماليات تتعلَّق غالبًا باختبارنا للأشياء على أنها جميلة؛ حيث تمثِّل عبارة «على أنها جميلة» إحدى سِمات خبراتنا التي ينبغي تعريفُها وفقًا لأي مفهوم من مفاهيم الجماليات. تُبرِز المفاهيم المتمركزة على العاطفة أهميةَ العواطف في خبرتنا، ولكنها تحتاج إلى مزيدٍ من الدراسة عن كيفية تأثُّر الخبرات الجمالية بالعواطف.

وأكَّدَت المفاهيم القائمة على المتعة أهميةَ المتعة المستديمة، لكنها لا تكون كاملةً إذا فشِلَت في تحديد شكل الانتباه الذي تنطوي عليه مثل هذه المتعة المستديمة. وبالنسبة إلى مفهوم «تقدير الشيء لذاته»، فهو يؤكد أهميةَ الأنشطة غير المقيَّدة، والمُتَجَرِّدة، والتي تستهدف عمليةَ الفعل نفسها، ما دمنا نتخلى عن مفهوم إعلاء القيمة.

سأزعُم أن جميع هذه المفاهيم تصُب في الاتجاه نفسه، وهو أن ما يميِّز الجماليات هو كيفيةُ تطبيق انتباهنا في الخبرات الجمالية. يمكن لهذا أن يساعدنا في شرح السبب وراء تصنيف اختبار جمال شيءٍ ما على أنه خبرةٌ جمالية، وهو أيضًا ما يجعل هذه الخبرات مُشبَّعة بالعواطف. لقد كان الانتباه هو الحلقة المفقودة في المفاهيم المستندة إلى المتعة، كما أن الحديث عن ممارسةِ الانتباه المُتَجَرِّد وغير المُقيَّد يجسِّد الكثيرَ من مفاهيم «تقدير الشيء لذاته». كما قال مارسيل بروست (١٨٧١–١٩٢٢)، «يمكن للانتباه أن يتخذَ أشكالًا مختلفة، ووظيفة الفنان هي استحضار أرقاها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤