الخفاجي عامر العراقي

وواصلت الهجرة الهلالية زحفها إلى أن شارفوا بلاد التركمان، وحاكمها هو الملك الغطريق الملقب بالغضبان الذي طالبهم كالعادة بعشر نسائهم، ودفع الجزية مهددًا، فرد عليه أبو زيد منشدًا:

يقول أبو زيد الهلالي سلامة
ونيران قلبي زايدات وقيد
يا غاديًا مني على متن ضامر
تقطع فيافي برها وتعيد
إذا جيت إلى الغضبان بلغ سلامي
إللي خاطبتنا بالغيظ والتهديد
طالب بنات مكحلات نواعس
بنات الإمارة مثل ورد اللبيد
أما كنت تعلم يا خميس وراءهم
أسود قروم هلال وكل حسيد
وراءهم حسن أمير قيس
حامي الزناتي من كل قوم عنيد
وراءهم أبو لكسايدير بن فايد
على متن ضامر مثل نار وقيد
ورارهم أبو موسى دياب بن غانم
على ظهر خطر الغزال تصيد
وراءهم أبو ضرغام شيخ شبابنا
ستة آلاف قومه وتزيد
أنا أبو زيد الهلالي سلامة
لخلي الفوارس على التراب مديد
وأُفني أكابركم وكل رجالكم
وأجعل دماكم على التراب تزيد

وفي هذه الحرب التي حسمها فارس الخضرا دياب بن غانم بقتله للغضبان، وفتح بلاده «وولى بنو هلال ابنه» بدلًا منه، على أن يدفع لهم الجزية، وواصلوا زحفهم إلى أن نزلوا العراق، وعرف حاكمها واشتهر بالكثير من الفضائل والفروسية والمآثر يقال له الخفاجي عامر — يحكم على البصرة وبغداد والموصل والعراق وما يلي تلك البلاد — عنده من الأبطال والفرسان نحو مائتي ألف عنان، فبينما هو جالس في الديوان وحوله الوزراء والأعيان، إذ قد دخلت عليه الرعيان، وقالوا له: «اعلم يا ملك الزمان أن بني هلال قد دخلت ديارنا وأكلت من ثمار بساتيننا وأشجاره، وهم كالجراد المنتشر لم يعرف لهم أول من آخر وقد هربت من أمامهم الرعيان.»

إلا أن رأس التحالف الهلالي السلطان حسن بن سرحان عرف كيف يخاطب الخفاجي عامر ويخبره بغرضهم، وهو مجرد المرور عبر بلاده في طريقهم إلى المغرب العربي، وهو يكتب له منشدًا ومحييًا جوده وسخاءه ومعشره الطيب قائلًا:

ونحن يا أمير لنا بالغرب سادة
بأرض الزناتي يا ملك بالجنازر
وجينا جميعًا يا أمير لأجلهم
لكي نخلصهم بضرب البواتر
ونحن ضيوفك يا خفاجى اهتدى
بجاه النبي فخر الورى والعشاير
فدعنا نثني الخير بدربنا
حتى نصل للغرب وأرض الجزاير
يا أمير نحن تحت حكمك وطاعتك
فافعل بأصلك يا خفاجي عامر

«قال الراوي: فلما فرغ الأمير حسن من هذا الشعر والنظام طواه، وأعطاه إلى الوزير سلام، فأخذه وسار حتى أشرف على الخفاجي عامر في آخر النهار، فأعطاه الكتاب ففتحه وقرأه وعرف فحواه، وقال له أبوه درغام: جواب بني هلال أحلى من الماء الزلال، فقم اعزمهم ورحِّب بهم، فقام الخفاجي عامر الملقب بالنجع بالترحيب بهم.»

«فانشرح خاطر الخفاجي عامر وتقدم بعده الأمير درغام، وأشار بترحيب بنو هلال، ثم ركب بنو هلال مطاياهم والخفاجي عامر ودخلوا للبلد، وتفرقت عرب بني هلال في تلك الأراضي، وأما الأمير حسن والسادات، فبقوا عند الخفاجي عامر على أمل طعام وشرب مدام وفرح وسرور مدة ثلاثة شهور.»

«فاتفق في بعض الأيام أن الخفاجي أولم وليمة عظيمة دعى إليها الأمير حسن وسادات بنو هلال الأكابر حضرتها النساء والبنات، وبعد أن أكلوا ولذوا ودارت كاسات المدام على من حضر في ذلك المقام، وكانت البنات والنساء الحراير يشربن على اسم الخفاجي، إلى أن انتهت النوبة على الجازية، وكانت بديعة الجمال فصيحة المقال، تقدمت إلى الخفاجي تصف له محاسن بني هلال، فأشارت:

تقول فتاة الحي الجازية
ونيران قلبي زايدات إشعال
إن الأمارة يا أمير لبناتهم
من الظبا والحسن والأشكال
أما جمال الطعن بنت سلامة
الوجه منها مثل بدر تمام
بنت أبو موسى دياب الماجد
فعيونها يا أمير كعين غزال
بنت قاضينا بدير الفايد
تشبه غزالًا بالفلاة جفال
بنت أمير البوادي أبي علي
شبيهة البدر في بهاء وجمال»

«وأكلت قوم الخفاجي وهلال من موائد الطعام، وأمر حسن بالرحيل بعد ثلاثة أيام، فقال الخفاجي: لا بد من مسيري معكم إلى تونس، وأبذل معكم المجهود في استخلاص مرعي ويحيى ويونس. فلما سمع أبوه الضرغام منه هذا الكلام لم يهن عليه الأمر، وقد اشتعل قلبه بلهيب الجمر؛ لأنه كان يحبه محبة زائدة وليس له صبر على فراقه، فلم يقبل الخفاجي وطلب من ابنته وزوجته أن يذهبا معًا في تلك الديار، ويتركا الحي، فامتنعا عن المسير وبكيا بدمع غزير ثم تقدمت ابنته ذوابة، وأشارت تنهيه عن السفر، وتقول:

تقول ذوابة يا أبي لا تسافر
فتترك الأهل في عنا ومصاعب
فما لك يا أمير في الغرب حاجة
ولا لك فيها مال ولا أسباب
ولا أثار عندك للزناتي خليفة
ولا دم لك ولا أصحاب
فكيف تشتتنا وتطلب بعادنا
وتبقى ضواحي في عنا وحساب
وتبقى الهلاليين مجموع شملهم
ونحن بلا أهل ولا أصحاب

فلما فرغت ابنته من كلامها زاد البكاء والنحيب من الفراق:

تقول فتاة الحي هي التي شكت
ولي قلب من كثر الغباين داب
روحك ألا يا أمير ما فيه فايدة
وقصدك بلاد الغرب ليس صواب
فدع أبو زيد الهلالي سلامة
وحسن الهلالي والأمير دياب
فكيف تخلي يا أمير بلادك
وتبقى قصورك خاليات خراب؟»

وبعد ذلك حضرت جميع الولاة وسادات العشائر لوداع الخليفة عامر.

وبعد ثلاثة أيام أمر الأمير حسن بدق طبل الرحيل والاستعداد للسفر من تلك البلاد، فعند ذلك مدت المضارب، وركبت الفرسان ظهور الجنايب واعتقلوا بالسيوف والنصول، وقد ملئوا بكثرتهم تلك السلول، وركبت النساء والبنات في الهوادج قاصدين بلاد الغرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤