المقالة الثانية عشرة

في التخلص من الخطب، بالعقل والصارم العضب

قال لي أبو الحزم: انفرد أمير الجيوش أبو العزم، عن رجاله والجنود، عقب بروق ورعود؛ لانتهاز الفرص في الصيد والقنص، فلاحت له على بعد نعامة، كأنها لجسامتها وارتفاعها دعامة، فاقتفى أثرها بلاحق، لا يفوته في مجاله سابق، وجدَّ في طلبها؛ ليسوقها إلى عطبها، وعندما دنا منها وهمَّ بالقبض عليها، سبقه ليث هاصر إليها، وضربها بأظافر، كأنها الخناجر، فقدَّها نصفين، وشطرها شطرين، فلمَّا رأى ذلك أمير الجيوش، صاحب الوجه البشوش، عبس وبسر، وزاغ منه البصر، وجال على أبي الأشبال جولة الأبطال، وهو يترنم بقصيد، للطائي أبي زبيد:

أفاطم لو شهدت ببطن خَبْتٍ
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذنْ لرأيت ليثا رامَ ليثا
هزبرًا أغلبا يغشى هزبرا
تبهنس إذ تقاعس عنه مهري
مُحاذرة فقلتُ عقرت مهرا
أنل قدميَّ ظهر الأرض إني
وجدت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا
محدَّدة ووجهًا مكفهرًا
تدلُّ بمخلف وبحدِّ ناب
وباللحظات تحسبهن جمرًا
وفي يمناي ماضي الحد أبقى
بمضربه قراع الخطب أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباهُ
بكاظمة غداة لقيت عمرًا
وقلبي مثل قلبك لست أخشى
مصاولة ولست أخاف ذعرًا
وأنت تروم للأشبال قوتًا
ومطَّلبي لبنت العم مهرًا
ففيم تروم مثلي أن يولِّي
ويترك في يديك النفس قسرًا
نصحتك فالتمس يا ليث غيري
طعامًا إن لحمي كان مرًّا
فلما ظن أن الغش نصحي
فخالفني كأني قلت هُجرا
مشى ومشيت من أسدين راما
مرامًا كان إذ طلباه وعرا
يكفف غيلة إحدى يديه
ويبسط للوثوب عليَّ أخرى
هزرت له الحسام فخلت أني
شققت به لدى الظلماء فجرا
وجدت له بطائشة رآها
لمن كذبته ما منَّته قدرا
بضربة فيصل تركته شفعًا
وكان كأنه الجلمود وترا
فخر مضرجًا بدم كأني
هدمت به بناء مُشْمَخِرا
وقلت له يعز عليَّ أني
قتلتُ مناسبي جلدًا وقهرًا
ولكن رمت شيئًا لم يرمه
سواك فلم أطق يا ليث صبرًا
تُحاول أن تعلمني فرارًا
لعمر أبي لقد حاولتَ نكرًا
فلا تبعد فقد لاقيت حرًّا
يحاذر أن يُعاب فمُتَّ حرا

ولما عاين أسد العرين، استعداد هذا القرين، حمل عليه وكشر، وصاح وزمجر، فأجابه بصوت يصدع الصخور، ويقلع الرصين من القصور، وضربه بالسيف في جبهته، فشقه إلى صرته، وأنشد بعد انجلاء الغبار، وهو على مصرعه في القفار:

لقد علمت ليوث الغاب أني
أهدِّد كل جبار شجاع
وأمنع جانبي وأذبُّ عنه
وأروي بالدِّما كل البقاع
وأني في اللقاء لهيب نار
وأن الأسد تُحرق من شعاعي
وسيفي صارم عضب صقيل
يُدَاوي الرأس من ألم الصداع

وبعد انتقامه من هذا الغريم، وانتظامه في سمط الدارس الرميم، التفت ذات اليمين، وليس معه ناصر ولا معين، فرأى غابة ملتفة الأشجار، تجري بالقرب منها أنهار، فانتجعها على جواده الأدهم، وهو صامت لا يتكلم، وبمجرد دنوه منها خرج عليه من فجوة، أربعة أشبال ولبوة، وهجمت دفعة واحدة عليه، وتوجهت بأنيابها إليه، فترك صهوة جواده بلا مهل، واخترط حسامه من غمده على عجل، وانحط على اللبؤة القاتلة، فضربها ضربة هائلة، أطاح رأسها عن البدن، وأخلى منها الرُّبوع والدِّمن، وسطا على أحد الأشبال واقتلعه من الأرض، ورمى به آخر فاختلط طولهما في العرض، وأطاح بسيفه القاطع، رأسي الثالث والرابع، ثم جرى على قدميه حتى أدرك ابن النعامة، وتناول بيده اليسرى زمامه، وقصد الأجم وهو يترنم بأوزان، مأثورة عن أبي الطمحان:

وإني من القوم الذين هُمو هُمو
إذا غاب منهم سيدٌ ناب صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب
بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظَّم الجزع ثاقبه

فَلمَّا انتهى إليها، وأشرف عليها، دخلها والجواد من خلفه؛ لأنه كان بمنزلة أنيسه وإلفه، ثم خلع عنه سرجه واللجام، وبلغه من الماء والمرعى المرام، وأوى إلى شجرة وارفة الظلال، واضطجع تحتها من التعب على الرمال، وكان الليلُ قد أقبل بسواده الحالك، وعاق جيوشه عن استكشاف ما سلكه من المسالك، فرجعوا بالخيبة إلى الخيام، وأبوا أن يمتعوا أجفانهم بما يتمتع به النيام، وقال نائبه، كأنَّه يُخاطبه، مُتَمِثِّلا بقول مُسلم بن الوليد، في ممدوحه الأمير يزيد:

ينال بالرفق ما تعيا الرجال به
كالموت مستعجلًا يأتي على مهلِ
يكسو السيوفَ دماءَ الناكثين به
ويجعل الهام تيجان القنا الذبلِ
حذار من أسد ضرغامة بطل
لا يُولغ السيف إلا مهجة البطلِ
موفٍ على مُهج في يوم ذي رَهج
كأنَّه أجل يسعى إلى أملِ
قد عوَّد الطير عادات وثقن بها
فهن يتبعنه في كل مرتحلِ
تراه في الأمن في درع مضاعفة
لا يأمن الدهر أن يُدعى على عجلِ
فالدهر تغبط أولاه أواخره
إذ لم يكن كان في أعصاره الأُوَلِ
فعد سليمًا فما في الملك من وهن
إذا سلمت وما في الدين من خللِ
ما كان جمع العدا لما لقيتهمُ
إلا كرجل جراد ريع منجفلِ

هذا ما كان من أمر الجيوش والنائب، وأمَّا أميرهم القسورة أبو العزم الغائب، فإنَّه لما غرق في بحار الكرى، بعد الظفر بأسد الشرى، انقضَّ عليه خمسة من اللصوص، وأحاطوا به على الخصوص، وأوثقوه بالكتاف، وكادوا يطرحونه في مهاوي التلاف، وكان قد استشعر بهذا الأمر المُنكر وهمَّ بالوثبة عليهم بالسلاح، فلم يجد له سبيلا إلى الكفاح؛ لأنهم مالوا عليه قبل أن يثور من رقدته، واستحوذوا على لَأْمَته وعدته، وقال له كبيرهم: أيها الرجل المغرور، ما ساقك إلى هذا المكان غير المعمور، إلا أمر يفضي بنفسك، إلى هلاكك وحلولك برمسك، فقلت له وقد أظهرت البشاشة بعد العبوس: كيف تقتلون من زالت عنه بسعودكم النحوس؟! على أني أعلم أنكم لو وقفتم على حقيقتي، وعرفتم ما أنا عليه لسلكتم طريقتي، ولاتخذتموني لكم من الأصحاب، ولآثرتموني بالود على جميع الأحباب، فقالوا له: وما هي حقيقتك يا نظيف الثياب؟ وما هي طريقتك التي اتباعها عين الصواب؟ فقال: أما حقيقتي فإني لص مُحتال، صاحب إقدام على الأهوال، وأما طريقتي فهي اختلاس الأرواح والأموال، ونهب أثاث القصور في غالب الأحوال، وعندي سرٌّ لو عرفتموه لانتفعتم به في كل ملمة، ولنجوتم به من الغوائل في كل ليلة مدلهمة؛ فقالوا له: وما هذا السر أيها الساحر؟ وهل تعلمته من الأوائل أو من الأواخر؟

فقال لهم: إنَّه لا يسوغ لإنسان، أن يتفوه به وهو في حالة الذل والامتهان، فإن أردتم الفوز بمعرفته، والوقوف على كنه صفته، فأطلقوا مني السراح، وردوا علي الجواد والسلاح، ثم اسمعوا مني، ما تتلونه في الشدة عني، وكانوا من غير الأشراف، الذين هم سكان الأطراف، وكانوا لا يميزون بين الحق والباطل، ولا يفرقون بين الصحيح والعاطل، ولا يتوهمون أنَّ أحدًا من الرِّجال، يخدع عند الضرورة بزخارف المحال، فصدقوني فيما أتيتهم به من الاختلاق، ومنُّوا عليَّ بالإطلاق من الوثاق، وتقدم أحدهم إليَّ وناولني سيفي الصقيل، وقرب مني الجواد الأدهم الأصيل، فركبته وخرجت من الغابة، بوقار وسكينة ومهابة، وتبعوني طمعًا في معرفة السر، الذي هو على حسب وهمهم ضرب من السحر، وهنالك امتشقتُ الحسام، وقلت لهم: ارجعوا من حيثُ أتيتم يا بني اللئام، فهذه حيلة ابتدعتها، وخديعة اخترعتها؛ لأتخلص بها من ورطة الارتباك، وأنجو من حبائل الهلاك، والآن ليس لكم عندي سوى قطع الرِّقاب، وترك جيفكم لغذاء الوحوش والكلاب، فإنْ أردتم لأنفسكم السلامة، فاذهبوا قبل أن تحل بكم النَّدامة، وإلا فابرزوا جملة واحدة، حتى أهدم من أجسامكم الأساس والقاعدة؛ فَلَمَّا تحققوا مقالي، وعرفوا سؤالي، حملوا عليَّ بالسيوف، وعوَّلوا علي تجريعي كأس الحتوف، فصدمتهم صدمة تهد راسيات الجبال، وقتلت منهم في أقل من لمح البصر ثلاثة رجال، وكان النائب قد نشر البنود، ونادى بالرحيل في الجنود؛ لعله يقص الأثر، أو يقع على خبر، فلمَّا انتصف النهار، نزل للراحة في القفار، وأرسل الجواسيس والعيون؛ ليكشفوا الطرق والمناهل والعيون، فغابوا ساعة من الزمان، ثم عادوا وأنا معهم على ظهر الحصان، متمثلا في الأول بقول السموأل:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميلُ
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيلُ
تعيِّرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليلُ
وما قلَّ من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلا وكهولُ
وما ضرنا أنَّا قليلٌ وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليلُ
لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليلُ
رسا أصله تحت الثرى وسما به
إلى النجم فرع للوفاء طويلُ
وإنا أناس لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلولُ
يقرب حب الموت آجالنا لنا
وتكرهه آجالهم فتطولُ
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل منا حيث كان قتيلُ
تسيل على حد الظبات نفوسنا
وليست على غير الظبات تسيلُ
ونحن كماء المُزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يُعدُّ بخيلُ
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقولُ
إذا سيد منا خلا قام سيد
قئول بما قال الكرام فعولُ
وما خمدت نار لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيلُ
وأيامنا مشهورة في عدونا
لها غرر مشهورة وحجولُ
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
بها من قراع الدارعين فلولُ
معودة أن لا تسل نصالها
فتغمد حتى يستباح قتيلُ
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهمو
فليس سواء عالم وجهولُ
فإنا بني الرَّيان قطب لقومهم
تدور رحاهم حولهم وتجولُ

ولما دنوت من العسكر، ورآني من الجنود كل قَسْوَر، هرعوا إلي وسلموا بالاشتياق عليَّ، وسألني النائب المهاب، عن هذا الغياب، فقصصت عليه ما وقع لي من اللصوص والأسود، وكيف استعملت الحيلة في الانفكاك من القيود، فسجد شكرًا لله على سلامتي، بعد أن أثنى على صرامتي، وتخلصي من الخطب، بالعقل والصارم العضب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤