المقالة السابعة

الوفاء مليح، والعذر قبيح

اتفق لرجل مكين، من مدينة بكين، أنه ساح في الأمصار وطاف بمدينة الأنصار، فصادف في الروضة النبوية، رجلًا من فقراء البرية، تلوح عليه سيمة الأتقياء، مع أنه من الفجرة الأشقياء، الذين لا يحفظون لأحد ذمة، ولا يرعون له حرمة.

شخص خبيث لو طلبت اسمه
من أحد يوصف بالضنِّ
بادر في الحال إلى كشفه
وقال عفريت من الجنِّ

ففرح به بعد المُسَامرة غاية الفرح، واتسع صدره لمرافقته وانشرح.

لا تعاشر كل من أبصرته
ربما استأمنت جهلا من يخون
ولكَم غركَ سمتٌ ظاهرٌ
تحته من قلة العقل فنون

وبعد أن فاز بزيارة سيد الأنام، ونال من البركات النبوية فوق المرام، وتمثل في مدحه عليه صلوات ذي الجلال، بعد لثم أعتابه بقول من قال:

ألا يا رسول الله يا أشرف الورى
ويا بحر فضل سببه دائم المد
لأنت الذي فقت النبيين رفعة
من الله رب العرش مستوجب الحمد
يناجيك عبد من عبيدك نازح
عن الدار والأوطان والأهل والولد
ويسأل قربا من حماك فجد له
بقرب فقرب الدار خير من البعد
ليلثم أعتابًا لمسجدك الذي
به الروضة الفيحاء من جنة الخلد

ثم قفل من المدينة المنيفة، إلى مكة الطاهرة الشريفة.

فارقت طيبة مشتاقًا لطيبها
وجئت مكة في وجد وفي ألم
لكن سررت بأني بعد فرقتها
ما سرت من حرم إلا إلى حرم

وكان قد استأنس بهذا الشيطان، وغمره من بحر كرمه بالإحسان، ونشله من أوحال الشقاء والامتهان، واتخذه صديقًا له وقدمه على سواه من الإخوان.

ألا رب من تحنو عليه ولو ترى
طويته ساءتك تلك الضمائر
فلا تأمننْ خِلًّا ولا تغترر به
إذا لم تطب منه لديك المخابر

فلمَّا خرج من طيبة في يوم الخميس، تعلق بأذياله هذا الخسيس، فأخذه برفقته، وحله من قيد الفقر وربقته، وكان هذا الرجل حافيًا، مكشوف الرأس عاريًا، فاكتسى وانتعل، وامتطى متن جمل.

قالت أراك مع الأنذال تصحبهم
ومن يصاحبهم في عمره يهن
لا يصحب المرء إلا من يوافقه
متى رأيت الظبا والأسد في قرن
أجبتها مظهرًا عذري ومنشدها
بيتًا به تضرب الأمثال في الزمن
يُقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

لكن لاتصاف اللئيم ابن الغبية، بخبث الطوية، كان لا يغفل على الدوام، عن إضرار ما تقع عليه عينه من الخاص والعام، ولا غرابة في ذلك ممن ليس له عهد ولا ذمام؛ لأنَّ أصل العداوة اصطناع المعروف إلى اللئام.

كل امرئ راجع يومًا لشيمته
وإن تخلَّق أخلاقا إلى حين

فأضمر في نفسه الغدر لهذا السيد الجليل القدر.

أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخل
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل

وعوَّل على قتله؛ لأجل الاحتواء على ما في رحله.

لعمرك ما المعروف في غير أهله
وفي أهله إلا كبعض الودائع
فمستودع ضاع الذي كان عنده
ومستودع ما عنده غير ضائع
وما الناس في شكر الأيادي وشكرها
إلى أهلها إلا كبعض المزارع
فمزرعة أجدت فضوعف زرعها
ومزرعة أكدت على كل زارع

وكيف يثمر غرس المعروف، في أرض لئيم بالغدر موصوف!

ومن يصنع المعروف في غير أهله
يلاقي كما لاقى مجيرُ امِّ عامر
أعد لها لما استجارت ببيته
أحاليب ألبان اللقاح الدوائر
وأسمنها حتى إذا ما تمكنت
فَرَتْه بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من
يجود بمعروف على غير شاكر

فلما جنَّ الليل، وصمم الخبيث على طرحه في حفائر الويل، تفرس فيه الخادم، أنه على الشر عازم، فتدبر بعقله أنه ينبغي لمثله، أن لا يتركه يركض في مضمار جهله، بل يُجاريه في ميدان جده وهزله، ويوهمه أنه موافق له على ما أراد؛ حتى يقف منه على حقيقة ما دار في خلده من الفساد، فَلمَّا عرف كُنه ما نوى عليه، وجنح قلبه إليه، اختلى بمولاه وأخبره بالواقع، وجاءه في إخلاصه بالبرهان القاطع.

أخلق بمن رضي الخيانة شيمة
أن لا يُرى إلا صريع حوادث
ما زالت الأرزاء تلحق بؤسها
أبدًا بغادر ذمة أو ناكث

فشكر السيد غلامه، وأثنى على أخلاقه، ووعده بمضاعفة مرتباته وأرزاقه، وقال له: يا بني، لا تجزع، فالباغي له مصرع، وإنه سيرمي بسهام كيده في نحره، ويلقى عما قليل عاقبة شره.

ثم أخذ حذره من هذا الوغد الزنيم، والعدو الأحمق اللئيم، وأظهر له أنه نام، فصبر حتى انسدلت أستار الظلام، وثار هذا المهين، ثورة أسد العرين، واستلَّ بيده خنجره، وقصد من المنعم عليه الحنجرة، ودنا منه وكاد أن يطعنه، ولم يعلم أنه لم تأخذه سِنة، فوثب عليه وثبة الهاصر، وهو لسيفه من غمده شاهر، وهجم عليه وضربه به صفحًا على صدره، فسقط منه الخنجر وانقلب على ظهره، هنالك انقض عليه الخادم، قبل استوائه على قدميه، وربط بعمامته من ورائه يديه، وعوَّل على إتلاف مهجته، قبل نهوضه من وقعته، ونوى على أنه يعدمه الحياة، ولا ينتظر فيه أمر مولاه، ويعمل بضد ما قال القائل، في هذا الخائن الجاهل:

إذا ما الظلوم استحسن الظلم مذهبًا
ولجَّ عتوًّا في قبيح اكتسابه
فكِله إلى صرف الزمان فإنَّه
سيُبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالمًا متمردًا
يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابه
فعمَّا قليل وهو في غفلاته
أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى
ولا حسنات سطرت في كتابه
وقابله الجبار منه بفعله
وصب عليه الله سوط عذابه

فنهاه سيده عما عليه عزم، وقال له: لا تعجل على هذا البرِم — البرم بالتحريك اللئيم — ثم التفت إلى هذا اللعين، وقال له: ما الباعث لك على هذه الخيانة وأنت أمين؟! فقال مجيبًا له بلعثمة وتلجلج لسان: يا مولاي، ما حملني على هذا إلا وسوسة الشيطان، وهو الذي أنساني ذكر ما أسديت من الحسنات، وكاد لولا رجاء عفوك يسوقني إلى الممات.

أتيت ذنبًا عظيمًا
وأنت للعفو أهلُ
فإن عفوت فمنٌّ
وإن جزيت فعدلُ

ثم رفع إليه رأسه وهو في خجل من خيانته، وقال متمثلًا بقول من اعتذر عن جنايته:

يا من أسأت وبالإحسان قابلني
وجوده لجميع الناس مبذول
قد جاء عبدك يا مولاي معتذرًا
وأنت للعفو مرجوٌّ ومأمول

وبعد ذلك أرسل العبرات، وأنشد وهو مصعد الزفرات:

أسأتُ ولم أحسن وجئتك هاربًا
وأين لعبد من مواليه مهربُ
يُؤمل غفرانًا فإن خاب ظنه
فما أحدٌ منه على الأرض أخيب

فَلَمَّا سمع ما جاء به من مقاله، أمر بإطلاقه ورثى لتذﻟـلّـَهُ في سؤاله، وأعطاه ما تيسر من النقود، وقال له: اذهب من حيث أتيت يا كنود (الكنود كافر النعمة) وإياك بعد هذه المرة، أنْ تُضمر الغدر لابن أَمَة ولا حرة، واحمد مولاك على السلامة، واعمل من الآن فصاعدًا إلى يوم القيامة، ثم أشار إلى غلامه فزوده بطعام، وقال له: انصرف عنا بسلام؛ فقَبَّل يده ومضى، وفي قلبه من عدم نجاحه جمر الغضا، ولما غاب عن الأبصار، وانفرد في البيداء عن العبيد والأحرار، حدثته نفسه الأمارة، بأن يشن على منقذه من الهلاك الغارة، وبينما هو يجول كالمجنون في القفار، ويميل تارةً ذاتَ اليمين وطورًا ذات اليسار، إذا رأى على باب مضيق ثلاثة من قطاع الطريق.

إن ضاق بي بلد يمَّمت لي بلدًا
وإن نأى منزل بي كان لي بدل
وإن تغير لي عن وده رجل
أصفى المودة لي من بعده رجل
لم يقطع الله لي من صاحب أملا
إلا تجدد لي من صاحب أمل

فدنا منهم بلا خوف ولا وجل، وقال لهم: اقتفوا أثري على عجل؛ لتحظوا بالمال الجزيل، بعد قتل رجل جليل، تركته في البيداء مع خادم جبان، وسبعة من الجمال وبغلة وحصان. فطاروا إليه معه، طمعًا في الاكتساب والسعة، وكان الليل قد أقبل بغياهبه، والنهار تحول بكواكبه، عن تنوير مشارقه ومغاربه، وقد نزل السياح مع خادمه على رأس الدرب؛ للراحة من التعب وعبادة الرَّب، فقبل استراحته هجموا عليه، وزعموا أنهم وصلوا إليه، فلم يأخذه منهم فزع، ولا خوف ولا جزع؛ لأنَّه كان فارس الأرض في طولها والعرض، بل ثار عليهم ثورة الأسد، ووقف لهم كالسدِّ في الطريق الأسدِّ، فقرب منه الأول، وهو على قتله قد عوَّل، فلاقاه بدون اكتراث ولا وجل، وضربه بالسيف على رأسه فكاد يصرم منه الأجل، ففر هاربًا من بين يديه، ولو ثبت أمامه لقضى عليه، ثم عطف على الثاني، بلا مهل ولا تواني، ووكزه برمحه في أحشاه، فتبدَّدت أمعاه، ومال إلى الثالث كأبي الحارث (كنية السبع) وطعنه في إحدى عينيه بالعسال، فتركه عبرة للأمثال، وأراد الخائن أن يلفت العنان، وينفلت من قبضة الهوان، فلم يدعه الخادم دون أن حمل عليه، وقبض بيديه على إحدى رجليه، وأدركه مولاه، فألقاه على قفاه، وربط أطرافه بعمامته، وتمكن منه الخادم فأفرط في صفعه وملامته، واستأذن سيده في جذ رأسه، واستئصال شأفته وخلع أضراسه.

الشر مصراع له سطوة
تستنزل الجبار من عرشه
وأنت إن لم ترج أو تتقِ
كالمَيْت محمول على نعشه
لا تنبش الشر فتبلى به
فقلما تسلم من نبشه
إذا طغى الكبش بلحم الكلى
أدرج رأس الكبش في كرشه
لله في قدرته خاتم
تجري المقادير على نقشه

فقال له: اصبر ولا تعجل، وعن منهج الحلم لا تتحول، ثم نظر إلى هذا الأسير، المهين الغدار الحقير، نظرة غضب، وعبس في وجهه وقطب، وقال له: ويلك يا نسل الأوغاد، وحثالة غير الأمجاد، كيف قابلت الحسنة بالسيئات، ونسيت ما فات؟! لأقتلنَّك شر قتلة، ولأجعلنَّك لقطاع الطريق مثلة، ولأصلبنَّك بين الوهاد؛ ليعتبر بك الرائح والغاد.

فقال له: يا مولاي، ذنبي عظيم، وجرمي بلا شك جسيم، وإني بما فرط مني مستحق لعدم الصفح عني، إلا أن طمعي في مكارم أخلاقك وحلمك، وثقتي برأفتك وحزمك، حملاني على التمسك منك بأسباب الخلاص، مما ليس عنه محيص ولا مناص.

لا شيء أعظم من ذنبي ومن أملي
لعفوك اليوم عن ذنبي وعن زللي
فإن يكن ذا وذا عندي قد اجتمعا
لأنت أعظم من ذنبي ومن أملي

فبالله يا حميد الأوصاف، ويا محيي سنة الأشراف، إلا ما عفوت في هذه الكرَّة، عمن وسوس له أبو مرة.

أنا المذنب الخطاء والعفو واسع
ولو لم يكن ذنب لما عُرِف العفو

فقال الغلام: اقطع من الحياة حبل الرجا، فليس لك بعد هذا سبيل إلى النجا، وامتشق خنجره وعليه صال، وكاد يجرعه كأس الوبال، لولا أن سيِّده أشار إليه بالكف، عن التعجيل عليه بالحتف، وقال: يا عدو نفسك، قد عفونا في هذه الدفعة عن جنايتك، وأغضينا عن خيانتك، فاذهب إلى حيثُ أردت من البلاد، وإياك والتعرض لضرر أحد من العباد، ثم أمر بإطلاقه من وثاقه، وقال له: إن عدتَ إلى سوء فعلك، ورجعت إلى خسة أصلك، محوت منك الأثر، وجعلتك عبرة لمن اعتبر، فقبَّل بين يديه التراب، وانساب انسياب الماء من السحاب، وبعد انصرافه بنحو ساعة من النهار، امتطى السياح متن الطريق في القفار، وواصل السير، بلا نصب ولا ضير، حتى إذا لم يبق بينه وبين مكة الشريفة، سوى مرحلة عزم على أخذ راحة خفيفة، فَلَمَّا نزل وضُربت خيامه، وهيَّأ له الطعامَ غلامه، مدَّ بصره إلى جهة الأمام، فرأى خمسة من قطاع الطرق اللئام، وممن وراءهم الخبيث، الذي سلف في حقه الحديث، فأفرغ على نفسه لامته، وأحضر له خادمه كنانته، وأَوْتر قوسه في الحال، وكان أرمى خلق الله بالنبال، فطلب القوم على الفور كأنه عنترة أو أبو ثور، ورمى أول الخمسة في فؤاده، فهوى قتيلًا من صهوة جواده، وألحق بالثاني الثالث، وأصاب الرابع المسمى بالحارث، وهرب الخامس وهو من الحياة يائس، وسمعه الخادم وهو يذم الزمان، ويبكي على فقد الإخوان، ويقول: ليت هذا المشئوم، اللعين المذموم، ما التقى معنا في الفدفد، وساقنا إلى هذا الفارس الأوحد، وليتنا عصيناه ولا أطعناه، وكنا عند مقابلته قتلناه، وأما الخائن الغدار، فبينما هو معول على الفرار، إذ انقض عليه الغلام، ورماه ببعض السهام، فأورده موارد الحِمام، وصرم عمره وانقطع الخصام، ووقف على مصرعه، فسمعه يقول من فمه، وهو مضرج على الثرى بدمه، صرعني البغي الوخيم، وهوى بي في مهاوي العذاب الأليم؛ لأني عدلت عن قول القائل من حكماء الأوائل: «الوفاء مليح، والعذر قبيح.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤