أحمد شوقي شاعر الوطنية الأكبر

١٨٧٠–١٩٣٢
figure

بلغ الشعر الوطني ذروته على لسان شوقي وحافظ؛ فلقد حملا لواء النهضة الشعرية في العصر الحديث، وتغنَّيا بالوطنية، وكان للحوادث الكبرى التي وقعت في مصر والشرق صداها في شعرهما، وكلاهما كان له أثره وفضله في تغذية الحركة الوطنية بعيون الشعر الوطني، سطع نجمهما في عصر واحد، وغرَّدا في جيل واحد، وانتقلا إلى جوار ربهما في عام واحد (١٩٣٢)، ولم تمضِ على وفاة حافظ ثلاثة أشهر حتى لحق به شوقي في الرفيق الأعلى.

سُمِّي شوقي أمير الشعراء، ولقب الأمير لم يعد يتفق والروح الديمقراطية، ولم تعد الإمارة تُضفي على صاحبها منزلة محترمة، هذا إلى أن شوقي أكبر من أن يُمجَّد بهذا اللقب، فهل نُسمِّيه «سيد الشعراء»؟ إن كلمة السيادة لغير الأمة لم تعد أيضًا تتفق والأوضاع الديمقراطية، فهل نُسمِّيه «زعيم الشعراء»؟ إنه ولا ريب أقدر شعراء عصره، ولم يكن يُنازِعه في زعامة الشعر أحد من أنداده ومُعاصِريه؛ فلقد عقدوا له لواء الزعامة وبايعوه عليها في المهرجان الذي أُقيمَ له بمصر سنة ١٩٢٧ وجمع أقطاب الشعراء من العالم العربي وخاطبه فيه صنوه حافظ بقوله:

أميرَ القوافي قد أتيتُ مُبايِعًا
وهذي وفود الشعر قد بايعَت معي

على أن لقب «زعيم الشعراء» لا يكفي للتعريف به والتنويه بمكانته، وخير لقب له أن يُسمَّى «شاعر العربية الأكبر» وأن نُسمِّيه في هذا الكتاب «شاعر الوطنية الأكبر».

وُلِد أحمد شوقي في ١٦ أكتوبر سنة ١٨٧٠١ وتعلَّم في المدارس النظامية، ودخل مدرسة الإدارة (الحقوق)، في أوائل عهد الاحتلال، وفي سنة ١٨٧٧ سافر إلى فرنسا لدارسة الحقوق والأدب، وأتم دراسته سنة ١٨٩٣.

أدرك شوقي الاحتلال الإنجليزي وهو شابٌّ مُهذَّب مُثقَّف، وعرف كيف عصف الاحتلال باستقلال البلاد، وإذ كانت عبقريته الشعرية قد خُلقَت ووُلدَت معه ولازمته منذ صِباه، فقد اقترنت بشعوره الوطني الذي تولَّد في نفسه بالفطرة، وزاده توهُّجًا ورسوخًا رؤيته الاحتلال الأجنبي يجثم على صدر البلاد، فامتزجت شاعريته بوطنيته، وكان لمصر وآلامها صدًى بعيد وأثر عميق في شعره، وظل حبه للوطن يُوجِّهه في قصائده ويُلهِمه التغريد له والحنو عليه.

التحق منذ عودته إلى مصر بديوان المعية الخديوية، وعلَت مكانته لدى الخديو عباس الثاني حتى سُمِّي «شاعر الأمير»، لكن روحه الوطنية لم تتأثر كثيرًا من صلته بالقصر، هذا إلى أن الخديو عباس كان في أول عهده بالعرش يُناوئ الاحتلال، والاحتلال يُناوئه، حتى إذا جنح لمهادنة الاستعمار، لم يكن لهذا التحول أثر كبير في شعر شوقي، اللهم إلا هدأة وقتية في الحرب المشبوبة بين الأمة والاحتلال، على أن تأصُّل روح الوطنية في نفسه جعله لا يُجاري الخديو عباس في انصرافه عن الحركة الوطنية، ثم في تنكُّره لها؛ فبقي شعره ينهل من منبع الوطنية الصافي.

وانفصل عن منصبه في القصر بعد خلع الخديو عباس عن العرش في ديسمبر سنة ١٩١٤ وتحرَّر من المنصب الحكومي؛ فزادته الحرية قوة وإنتاجًا، وتحليقًا في سماء الشعر والفن والخيال، واستُهدف لاضطهاد السلطة العسكرية البريطانية؛ إذ قرَّرَت نفيه وتركت له اختيار البلد الذي يُنفى إليه، فاختار إسبانيا «الأندلس»، وبقي على عهده للوطن، ثم عاد من منفاه في فبراير سنة ١٩٢٠، والبلاد في غليان الثورة، فاستقبلت مصر شاعرها المُلهَم استقبالًا حافلًا رائعًا.

ويمتاز شعر شوقي بقوة البيان، وروعة الموسيقى الشعرية، وسعة الأفق، والتعمق في استيعاب الحوادث التاريخية، قديمها وحديثها، ولقد جارى فحول الشعراء المُتقدِّمين، وبزَّهم في كثير من قصائده، وجدَّد بعض التجديد في الشعر العربي بما اقتبسه عن شعراء الغرب، وعن الثقافة الأوروبية، وسار في التجديد شوطًا بعيدًا وخاصة بعد عودته من المنفى؛ إذ وضع عدة مسرحيات شعرية بلغت مبلغًا عظيمًا من الفن والموسيقى والجمال، كمصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، وعنترة، وغيرهما، وظل يُنتِج ويشدو ويُبدِع، إلى أن تُوفي في ١٤ أكتوبر سنة ١٩٣٢.

الوطنية في شعر شوقي

في قصائد شوقي يسطع نور الوطنية، ويتأجج لهيبها، وهو أغزر الشعراء مادة وأوسعهم إنتاجًا من هذه الناحية، ولقد ظل يستلهم روح الوطنية طول حياته، شابًّا وكهلًا وشيخًا، بل إن شعره الوطني في شيخوخته كان أقوى منه في شبابه، وقد يكون مرجع ذلك إلى تجرُّده من الاتصال بالقصر بعد خلع الخديو عباس حلمي، كما أسلفنا، ثم إلى نفيه من مصر في أوائل الحرب العالمية الأولى، فأثار البعد عن الوطن شاعريته، وجاد بأبدع قصائده في الحنين إلى مصر وحبه لها والهيام بها إلى درجة التقديس، ومرجع ذلك أيضًا إلى تأصُّل عبقرية الشعر في نفسه، فلم تُضعِفها السن، ولم ينَل منها الزمن، وظلت قوية تتدفق حيوية ونشاطًا.

والوطنية في شعر شوقي هي فيض الفطرة والإلهام، وليست من صنع الظروف أو التكلف؛ ولذلك جاءت قوية جارفة، عميقة رائعة.

فتأمل في أول قصيدة له في ديوانه وهي التي قالها في المؤتمر الشرقي الدولي المنعقد بمدينة جنيف عام ١٨٩٤ ومطلعها:

همَّت الفُلك واحتواها الماءُ
وحداها بمن تُقِل الرجاءُ

تجدها آية في شعر الملاحم أو الشعر التاريخي، وتُحِس وأنت تقرؤها أنها قبس من نور الوطنية؛ فهي سجل ناطق ﻟ «كبار الحوادث في وادي النيل»، وقد بلغ عدد أبياتها ثلاثمائة بيت إلا قليلًا (تسعين ومائتَي بيت)، عرض فيها عرضًا أخَّاذًا بديعًا تاريخ مصر من أقدم العصور إلى عام نظمها، أشاد بعظمتها ومجَّد مفاخرها، وحنا عليها في كبواتها، واستنزل السخط على كل من اعتدى عليها.

فانظر إلى قوله عن عظمة مصر:

قُل لبانٍ بنى فشاد فغالى
لم يجُز مصرَ في الزمان بناءُ
ليس في الممكنات أن تُنقَل الأجـ٢
ـبال شُمًّا وأن تُنال السماءُ

ولما انتهى في سرد الحوادث إلى الحملة الفرنسية سجَّل إخفاقها وارتدادها عن مصر، قال:

وأتى النسر٣ ينهب الأرض نهبًا
حوله قومُه النسور ظِماءُ
يشتهي النيل أن يشيد عليه
دولةً عرضُها الثرى والسماءُ
حلُمَت رومةٌ بها في الليالي
ورآها القياصر الأقوياءُ
فأتت مصرَ رُسلُهم تتوالى
وترامت سودانَها العلماءُ
ولو استشهد الفَرنسيس روما
لَأتَتهم من رومةَ الأنباءُ
علمَت كل دولة قد تولَّت
أننا سمُّها وأنَّا الوباءُ
قاهرُ العصر والممالكِ نابلـ
ـيون ولَّت قُواده الكبراءُ
جاء طيشًا وراح طيشًا ومن قبـ
ـلُ أطاشَت أناسَها العلياءُ

وانظر كيف يصور في البيتَين الآتيَين سكوت الأهرام وهي تُواجِه نابليون بأنه سكوت السخرية والاستهزاء، وكأنها تتنبأ له بالهزيمة في ختام معاركه. قال:

سكتَت عنه يومَ عيَّرها الأهـ
ـرامُ لكن سكوتها استهزاءُ
فهْيَ تُوحي إليه أن تلك «واتر
لو» فأين الجيوش أين اللواءُ؟

وتأمل كيف يُعبِّر عن قناة السويس بأنها نكبة على مصر قال:

جمع٤ الزاخرَين كَرهًا فلا كا
نا ولا كان ذلك الإلتقاء
أحمرٌ عند أبيضٍ للبرايا
حصة القُطر منهما سوداءُ

والقصيدة كلها على هذا الغرار في الإجادة والإبداع، ولقد نظمها وهو في الرابعة والعشرين، وكأنما رسم فيها منهجه في الشعر، فهو يقتبس من عبقريته الشعرية، ومن روحه الوطنية معًا، وقد لازمه هذا الامتزاج في شتى قصائده.

شوقي ومصطفى كامل

سارت نهضة الشعر في مصر إلى جانب النهضة الوطنية التي هبَّت لمقاومة الاحتلال؛ ومن هنا جاءت صلة الزعيم مصطفى كامل بشعراء عصره، وكانت دعوته الوطنية تلقى صدًى وتأييدًا في قصائدهم الغُر، بحيث يمكن القول بأن الشعر لم يتألق في سماء مجده مثلما تألق في عهد مصطفى كامل ومحمد فريد.

وقد ظهر التجاوب بين دعوة مصطفى كامل وشعر شوقي، وزاد في هذا التجاوب أن شوقي كان صديقًا حميمًا لمصطفى، وكلاهما مُعجَب بصاحبه أيما إعجاب، ولا غَرو فهما صنوان، وفرسا رهان؛ هذا في ميدان الوطنية والجهاد، وذلك في دولة الشعر والبيان، وكان شوقي يعتز بصداقته لمصطفى ومشاركته إياه في تعهده بالروح الوطنية وغرسها في نفوس الجيل، وإلى ذلك يُشير في قصيدته عن ذكرى مصطفى سنة ١٩٢٥ إذ يقول فيها مُخاطِبًا الفقيد:

أتَذكُر قبل هذا الجيل جيلًا
سهرنا عن مُعلِّمهم وناما؟
مِهارُ الحق بغَّضْنا إليهم
شكيمَ القيصرية واللجاما٥
«لواؤكَ» كان يَسقيهم بجامٍ
وكان الشعر بين يديَّ جاما
من الوطنية استبَقوا رحيقًا
فضَضْنا عن مُعتَّقها الختاما

وكان مصطفى يصف شوقي بأنه «الغدير الصافي في القاف الغاب، يسقي الأرض ولا يُبصِره الناظرون»، وكان يُخصِّص لقصائده أسمى مكان في «اللواء»، وفي ذلك يقول شوقي في مرثاته الخالدة:

قد كنتَ تهتف في الورى بقصائدي
وتُجِل فوق النيِّرَين مكاني

وزاره وهو على فراش مرضه الأخير، فطلب إليه مصطفى أن يرثيه إذ أحس دنو أجله؛ وفي ذلك يقول شوقي:

وجعلتَ تسألني الرثاء فهاكه
من أدمعي وسرائري وجَناني

ويبدو الانسجام بين دعوة مصطفى كامل وشعر شوقي في كثير من قصائده.

قصيدة شوقي في وداع اللورد كرومر

فمن ذلك قصيدته المشهورة في وداع اللورد كرومر سنة ١٩٠٧ حين اضطر إلى الاستقالة على أثر حادثة دنشواي؛ ففي أبياتها الروح الوطنية والنقمة على الاحتلال. قال:

أيامُكم أم عهد إسماعيلا
أم أنت فرعونٌ يسوس النيلا
أم حاكمٌ في أرض مصر بأمره
لا سائلًا أبدًا ولا مسئولا؟
يا مالكًا رقَّ الرقاب ببأسه
هلَّا اتخذت إلى القلوب سبيلا؟
لما رحلتَ عن البلاد تشهَّدَت
فكأنك الداءُ العياء رحيلا
أوسعتَنا يومَ الوداع إهانةً
أدبٌ لعمرك لا يُصيبُ مثيلا٦

إلى أن قال:

أنذرتَنا رقًّا يدوم وذلة
تبقى وحالًا لا ترى تحويلا
أحسبتَ أن الله دونك قدرةً
لا يملك التغيير والتبديلا؟
الله يحكم في الملوك ولم تكن
دولٌ تُنازِعه القوى لتدولا
فرعونُ قبلك كان أعظم سطوة
وأعز بين العالمين قبيلا

•••

اليوم أخلفَت الوعودَ حكومةٌ
كنا نظن عهودها الإنجيلا
دخلَت على حُكم الوداد وشرعه
مصرًا فكانت كالسلال دخولا
هدمت معالمها وهدَّت ركنها
وأضاعت استقلالها المأمولا

وقال:

قد مدَّ إسماعيل قبلك للورى
ظِل الحضارة في البلاد ظليلا
إن قِيسَ في جود وفي سرف إلى
ما تُنفِقون اليوم عُدَّ بخيلا
أو كان قد صرع «المفتشَ» مرة
فلكَم صرعتَ بدنشواي قتيلا
لا تذكر الكرباج في أيامه
من بعد ما أنبتَّ فيه ذيولا

قصيدته في ذكرى دنشواي

وقصيدته سنة ١٩٠٧ أيضًا عن «ذكرى دنشواي»، بعد مرور عام على حادثتها، في سبيل طلب العفو عن سجنائها، وفيها وصف مُؤثِّر لهذه المأساة.

قال:

يا دنشوايَ على رُباكِ سلامُ
ذهبت بأُنس رُبوعكِ الأيامُ
شهداءُ حُكمكِ٧ في البلاد تفرَّقوا
هيهات للشمل الشتيت نظامُ
مرَّت عليهم في اللحود أهلَّة
ومضى عليهم في القيود العامُ
كيف الأرامل فيكِ بعد رجالها
وبأي حال أصبح الأيتامُ؟
عشرون بيتًا أقفرَت وانتابَها
بعد البشاشة وحشة وظلامُ
يا ليت شعري في البروج حمائم
أم في البروج مَنية وحِمامُ؟
«نيرونُ» لو أدركتَ عهد «كرومر»
لعرفتَ كيف تُنفَّذ الأحكامُ!

•••

نُوحِي حمائمَ دنشوايَ وروِّعي
شعبًا بوادي النيل ليس ينامُ
إن نامت الأحياء حالت بينه
سحَرًا وبين فراشه الأحلامُ
مُتوجِّعٌ يتمثل اليوم الذي
ضجَّت لشدة هوله الأقدامُ
السوط يعمل والمَشانق أربع
مُتوحِّدات والجنود قيامُ
والمستشار٨ إلى الفظائع ناظرٌ
تدمى جلودٌ حوله وعظامُ
في كل ناحية وكل مَحِلة
جزعًا من الملأ الأسيف زِحامُ
وعلى وجوه الثاكلين كآبة
وعلى وجوه الثاكلات رُغامُ

رثاؤه لمصطفى كامل

ولما تُوفي مصطفى كامل سنة ١٩٠٨ رثاه شوقي بقصيدته الخالدة التي تُعَد أكبر مرثاة في تاريخ الأدب العربي، ترجم فيها شعوره بالحزن والألم بآيات بينات تجلَّت فيها حكمة الشعر وقوة الوطنية وروعة البيان، وقد نُشرَت يوم ٢٣ فبراير سنة ١٩٠٨ عقب وفاة الزعيم بثلاثة عشر يومًا، فأثَّرَت في النفوس تأثيرًا عميقًا، وجدَّدَت أحزان الأمة، وحفظناها وحفظها الشباب وقتئذٍ عن ظهر قلب؛ لأنها عبَّرَت عن شعورنا جميعًا في الرزء الفادح، ننشرها كاملة لأنها قطعة من الشعر الوطني الخالد، قال في مطلعها:

المشرقانِ عليك ينتحبانِ
قاصيهما في مأتم والداني
يا خادم الإسلام أجر مُجاهِد
في الله من خلد ومن رضوانِ
لما نُعيتَ إلى الحجاز مشى الأسى
في الزائرين ورُوِّع الحرَمانِ
السكة الكبرى٩ حيال رباهما
منكوسة الأعلام والقضبانِ
لم تألُها عند الشدائد خدمةً
في الله والمختار والسلطانِ
يا ليت مكة والمدينة فازتا
في المحفلَين بصوتك الرنانِ
ليرى الأواخر يومَ ذاك ويسمعوا
ما غاب من قس ومن سحبانِ١٠
جارَ التراب وأنت أكرم راحل
ماذا لقيتَ من الوجود الفاني؟

وقال عن مرضه الذي أودى بحياته:

أبكي صِباك ولا أُعاتِب من جنى
هذا عليه كرامةً للجاني١١
يتساءلون أبِالسُّلال قضيتَ أم
بالقلب أم هل مت بالسرطان؟
الله يشهد أن موتك بالحِجا
والجِد والإقدام والعرفانِ

وقال يُشيد بأخلاق الفقيد:

إن كان للأخلاق ركن قائم
في هذه الدنيا فأنت الباني
بالله فتِّش عن فؤادك في الثرى
هل فيه آمال وفيه أماني
وجدانُك الحي المُقيم على المَدى
ولَرُب حي ميِّتِ الوجدانِ

وقال في فلسفة الحياة:

الناس جارٍ في الحياة لغاية
ومُضلَّل يجري لغير عنانِ
والخلد في الدنيا وليس بهيِّن
عُليا المراتب لم تُتَح لجبانِ
فلو ان رُسلَ الله قد جبنوا لما
ماتوا على دين ولا إيمانِ
«المجد والشرف الرفيع صحيفة
جُعلَت لها الأخلاق كالعنوانِ»
وأحَبُّ من طول الحياة بذلة
قِصرٌ يُريك تقاصرَ الأقرانِ
«دقَّاتُ قلب المرء قائلةٌ له
إن الحياة دقائق وثواني»
«فارفع لنفسك بعد موتك ذِكرها
فالذِّكر للإنسان عمر ثاني»
للمرء في الدنيا وجم شئونها
ما شاء من ربح ومن خسرانِ
فهيَ القضاء لراغب مُتطلِّع
وهي المَضيق لمُؤثِر السلوانِ

•••

الناس غادٍ في الشقاوة رائحٌ
يشقى له الرحماء وهو الهاني
ومُنعَّم لم يلقَ إلا لذة
في طيها شجَنٌ من الأشجانِ
فاصبر على نُعمى الحياة وبؤسها
نُعمى الحياة وبؤسها سيانِ

وقال مُخاطِبًا الزعيم:

يا طاهرَ الغدوات والرَّوحات والـ
ـخطرات والإسرار والإعلانِ
هل قام قبلك في المدائن فاتح
غازٍ بغير مُهنَّد وسِنانِ؟
يدعو إلى العلم الشريف وعنده
أن العلوم دعائم العمرانِ

وقال في وصف الجنازة:

لفُّوك في عَلم البلاد مُنكَّسًا
جَزَع الهلالُ على فتى الفتيانِ
ما احمرَّ من خجل ولا من ريبة
لكنما يبكي بدمع قاني١٢
يُزجُون نعشك في السَّناء وفي السَّنا
فكأنما في نعشك القمرانِ
وكأنه نعش «الحسين» ﺑ «كربلا»
يختال بين بُكًى وبين حنانِ
في ذمة الله الكريم وبره
ما ضم من عُرف ومن إحسانِ
ومشى جلال الموت وهو حقيقة
وجلالك المصدوق يلتقيانِ

•••

شقَّت لمنظرك الجيوبَ عقائلٌ
وبكَتك بالدمع الهَتون غواني
والخَلق حولك خاشعون كعهدهم
إذ يُنصِتون لخطبة وبيانِ
يتساءلون بأي قلب تُرتقى
بعدُ المنابرُ أم بأي لسانِ
فلو ان أوطانًا تُصوَّر هيكلًا
دفنوك بين جوانح الأوطانِ
أو كان يُحمَل في الجوارح ميت
حملوك في الأسماع والأجفانِ
أو صِيغَ من غُر الفضائل والعُلى
كفَنٌ لبستَ أحسن الأكفانِ
أو كان للذكر الحكيم بقية
لم تأتِ بعدُ رُثيتَ في القرآنِ

وقال يصف الفقيد في مرضه الأخير:

ولقد نظرتُك والردى بك مُحدِق
والداء ملء معالم الجثمانِ
يبغي ويطغى والطبيب مُضلَّل
قنِطٌ وساعات الرحيل دواني
ونواظر العُواد عنك أمالَها
دمعٌ تُعالِج كتمَه وتُعاني
تُملي وتكتب والمشاغل جمة
ويداك في القرطاس ترتجفانِ
فهشَشتَ لي حتى كأنك عائدي
وأنا الذي هدَّ السقام كياني
ورأيتُ كيف تموت آساد الشَّرى
وعرفتُ كيف مَصارع الشجعانِ
ووجدتُ في ذاك الخيال عزائمًا
ما للمنون بدكِّهن يدانِ

•••

«وجعلتَ تسألني الرثاء فهاكه
من أدمعي وسرائري وجَناني»
لولا مُغالَبة الشُّجون لخاطري
لنظمتُ فيك يتيمة الأزمانِ
وأنا الذي أرثي الشموس إذا هوت
فتعود سيرتها من الدورانِ

•••

قد كنتَ تهتف في الورى بقصائدي
وتُجِل فوق النيرات مكاني
ماذا دهاني يومَ بِنتَ فعقَّني
فيك القريضُ وخانني إمكاني
هوِّن عليك فلا شمات بميت
إن المنية غاية الإنسانُ
من للحسود بميتة بُلِّغتَها
عزَّت على كسرى أنوشروانِ
عُوفيتَ من حَرَب الحياة وحرْبها
فهل استرحت أم استراح الشاني؟

وقال في ختام القصيدة يذكر فضل مصطفى على مصر:

يا صبَّ مصر ويا شهيدَ غرامها
هذا ثرى مصرٍ فنمْ بأمانِ
اخلع على مصر شبابك غاليًا
والبس شباب الحور والولدانِ
فلعل مصرًا من شبابك ترتدي
مجدًا تتيه به على البلدانِ
فلو ان بالهرمَين من عزَماته
بعض المُضاء تحرَّك الهرمانِ
علَّمتَ شبان المدائن والقُرى
كيف الحياة تكون في الشبانِ
مصر الأسيفة ريفها وصعيدها
قبرٌ أبرُّ على عظامك حاني
أقسمتُ أنك في التراب طهارةٌ
مَلكٌ يهاب سؤاله المَلَكانِ

شهيد الحق

وكان شوقي لا يفتأ يذكر مصطفى بعد وفاته.

فمن ذلك قصيدته التي نظمها سنة ١٩٢٥ لمناسبة ذكراه بعنوان «شهيد الحق»، تناوَل فيها ما أصاب البلاد من انقسام وتشاحن وتناحر، ثم انتقل من ذلك إلى ذكرى مصطفى كامل، فوفَّاه حقه من التمجيد، قال في مطلعها:

إلامَ الخُلف بينكمو إلاما؟
وهذي الضجة الكبرى علاما؟
وفيمَ يكيد بعضكمُ لبعض
وتُبدون العداوة والخصاما؟
وأين الفوز؟ لا مصر استقرت
على حالٍ ولا السودان داما

إلى أن قال:

«وَلِينا الأمرَ حزبًا بعد حزب
فلم نكُ مُصلِحين ولا كراما»
جعلنا الحُكم توليةً وعَزلا
ولم نعدُ الجزاء والانتقاما
وسُسنا الأمر حين خلا إلينا
بأهواء النفوس فما استقاما

وقال ذاكرًا مناقب الفقيد:

شهيدَ الحق قُم تَره يتيمًا
بأرض ضُيِّعت فيها اليتامى
أقام على الشفاه بها غريبًا
ومرَّ على القلوب فما أقاما١٣
سقمتَ فلم تَبِت نفسٌ بخير
كأن بمهجة الوطن السقاما
ولم أرَ مثل نعشك إذ تهادى
فغطَّى الأرض وانتظم الأناما
تحمَّل همةً وأقلَّ دِينًا
وضمَّ مروءة وحوى زماما
وما أنساك في العشرين لما
طلعتَ حيالها قمرًا تماما
يُشار إليك في النادي وتُرمى
بعينَي من أحبَّ ومن تعامى
إذا جئتَ المنابر كنت «قسًّا»
إذا هو في عكاظ عَلا السناما
وأنت ألذُّ للحق اهتزازًا
وألطف حين تنطقه ابتساما
وتحمل من أديم الحق وجهًا
صراحًا ليس يتخذ اللثاما

•••

أتَذكُر قبل هذا الجيل جيلًا
سهرنا عن مُعلِّمهم وناما؟
مِهارُ الحق بغَّضْنا إليهم
شكيمَ القيصرية واللجاما
لواؤك كان يَسقيهم بجامٍ
وكان الشعر بين يديَّ جاما
من الوطنية استبَقوا رحيقًا
فضَضْنا عن مُعتَّقها الختاما
غرسنا كَرمها فزكا أصولًا
بكل قرارة وزكا مُداما
جمعتهمُ على نبرات صوت
كنفخ الصور حرَّكَت الرجاما١٤
لك الخُطب التي غص الأعادي
بسَورتها وساغت للنَّدامى١٥
فكانت في مرارتها زئيرًا
وكانت في حلاوتها بغاما١٦

•••

«بكَ الوطنية اعتدلك وكانت
حديثًا من خرافةَ أو مناما»
«بنيتَ قضية الأوطان منها
وصيَّرتَ «الجلاء» لها دِعاما»

وله قصيدة في ذكراه سنة ١٩٢٦ قال:

لم يمُت من له أثَرْ
وحياةٌ من السيَرْ
أدعه غائبًا وإن
بعدَت غاية السَّفرْ
آيب الفضل كلما
آبت الشمس والقمرْ١٧
رُب نور مُتمِّم
قد أتانا من الحُفرْ
إنما المْيت من مشى
ميِّتَ الخُبر والخَبرْ
من إذا عاش لم يُفِد
وإذا مات لم يضرْ
ليس في الجاه والغنى
منه ظلٌّ ولا ثمرْ
قبُحَ العز في القصو
ر إذا ذلَّت القُصرْ

•••

أعوَزَ الحقَّ ذائدٌ
وإلى «مصطفى» افتقَرْ
وتمنَّت حِياضه
هبَّةَ الصارم الذكرْ
الذي يُنفِذ المُدى
والذي يركب الخطرْ
«أيها القوم عظِّموا
واضع الآس والحجرْ»
اذكروا الخُطبة التي
هيَ من آية الكُبَرْ
لم يرَ الناس قبلها
منبرًا تحت مُحتضَرْ
لستُ أنسى لواءه
وهو يمشي إلى الظفَرْ
حشَر الناسَ تحتَه
زُمَرًا إثرُها زمرْ
وترى الحق حوله
لا ترى البيض والسُّمرْ١٨
كلما راح أو غدا
نفخ الروح في الصوَرْ

•••

يا أخا النفْس في الصبا
لذة الروح في الصِّغرْ
وخليلًا ذخرتُه
لم يُقوَّم بمُدخَرْ
حالَ بيني وبينه
في فُجاءاته القَدرْ
كيف أجزي مودةً
لم يشُب صفوَها كدَرْ
غير دمع أقوله
قَل في الشأن أو كثُرْ
وفؤادٍ مُعلَّل
بالخيالات والذِّكَرْ
لم ينَم عنك ساعة
في الأحاديث والسَّمرْ
قُم ترَ القوم كتلة
مثل ملمومة الصخرْ
جدَّدوا أُلفة الهوى
والإخاء الذي شطرْ
ليس للخُلف بينهم
أو لأسبابه أثرْ
ألَّفَتهم روائحٌ
غاديات من الغِيَرْ
وصَحوا من مُنوَّم
وأفاقوا من الخَدرْ١٩
أقبلوا نحو حقهم
ما لهم غيره وطرْ
جعلوه خلية
شرعوا دونها الإبرْ
وتواصَوا بخطة
وتداعوا لمؤتمرْ
وقصارى أُولي النهى
يتلاقَون في الفكَرْ
آذنونا بموقف
من جلال ومن خطرْ
نسمع الليث عنده
دون آجامه زأرْ
قل لهم في نديِّهم٢٠
مصر بالباب تنتظرْ

شوقي وفريد

لم تكن صلة شوقي بفريد كصلته بمصطفى، وعندما تولَّى فريد زعامة الحركة الوطنية سنة ١٩٠٨، بعد وفاة الزعيم الأول، كانت سياسة «الوفاق» بين الخديو عباس الثاني والمعتمد البريطاني قد ثبتت قواعدها، وتنكَّر عباس للحركة الوطنية، ومع صلة شوقي بالقصر واشتداد الجفاء بين الخديو وفريد، فإنه لم يتعرض له بسوء في أي قصيدة له، وكان هذا منه نعم الوفاء للوطنية.

وبدا حب شوقي للحزب الوطني وتأييده له من رثائه لعمر بك لطفي أحد أقطاب هذا الحزب ومُؤسِّس التعاون في مصر، فقد نظم سنة ١٩١١ في رثائه قصيدة بديعة قال في مطلعها:

قِفُوا بالقبور نُسائلْ عمرْ
متى كانت الأرض مَثوى القمرْ؟

وفيها يقول:

«نِقاباتك» الغُر تبكي عليكَ
ويبكي عليك النديُّ الأغَرْ٢١
ويبكي التعاون مَن سنَّه
عشية ليس له من أثرْ
ويبكيك «حزبٌ» تخيَّرتَه
شريف المَرام شريف الوطرْ
ويبكي الأُلى أنت علَّمتَهم
وأنت غرستَ فكانوا الثمرْ

رثاؤه لفريد

ولما تُوفي فريد سنة ١٩١٩ رثاه بقصيدة من عيون شعره، ظهر فيها تقديره للزعيم الشهيد. قال:

كل حي على المنية غادي
تتوالى الركاب والموت حادي٢٢
ذهب الأولون قرنًا فقرنًا
لم يدُم حاضر ولم يبقَ بادي٢٣
هل تَرى منهمُ وتسمع عنهم
غير باقي مآثر وأيادي؟

•••

كرة الأرض كم رمَت صولجانًا
وطوَت من ملاعب وجيادِ
والغُبار الذي على صفحتَيها
دوران الرحا على الأجسادِ
كل قبر من جانب الفقر يبدو
عَلَم الحق أو مَنار المعادِ
وزمام الركاب من كل فَج
ومَحط الرحال من كل وادي
تطلع الشمس حيث تطلع نضجًا
وتُنحَّى كمِنجل الحصَّادِ

إلى أن قال:

أسألتُم حقيبة الموت ماذا
تحتها من ذخيرة وعتادِ؟
«إن في طيها إمامَ صفوف
وحواريَّ نية واعتقادِ»
لو تركتم لها الزمام لجاءت
وحدَها بالشهيد دارَ الرشادِ
انظروا هل ترَون في الجمع «مصرًا»
حاسرًا قد تجلَّلَت بسوادِ
تاجُ أحرارها غلامًا وكهلًا
راعها أن تراه في الأصفادِ
وسِّدوه التراب نِضوَ سِفار
في سبيل الحقوق نِضوَ سُهادِ
واركِزوه إلى القيامة رمحًا
كان للحشد والندى والطِّرادِ
وأقِرُّوه في الصفائح عَضبًا
لم يَدِن بالقرار في الأغمادِ

وقال مُشيرًا إلى موته في منفاه:

نازحَ الدار أقصرَ اليومَ بَينٌ
وانتهت محنة وكفَّت عوادي
وكفى الموت ما تخاف وترجو
وشفى من أصادقٍ وأعادي
من دنا أو نأى فإن المنايا
غاية القرب أو قُصارى البعادِ
سِر مع العمر حيث شئت تأوُّبًا
وافقِد العمر لا تؤب من رقادِ
ذلك الحق لا الذي زعمُوه
في قديم من الحديث مُعادِ
وجرى لفظُه على ألسُن النا
س ومعناه في صدور الصِّعادِ
يتحلى به القويُّ ولكن
كتحلِّي القتال باسم الجهادِ

•••

هل ترى كالتراب أحسنَ عدلًا
وقيامًا على حقوق العبادِ
نزل الأقوياء فيه على الضَّعـ
ـفَى وحل الملوك بالزُّهادِ
صفحات نقية كقلوب الرُّ
سل مغسولة من الأحقادِ

•••

قُم إن اسطعت من سريرك وانظر
سِرَّ ذاك اللواء في الأجنادِ
هل تراهم وأنت مُوفٍ عليهم
غير بُنيان أُلفة واتحادِ
أمةٌ هُيِّئت وقوم لخير الد
هر أو شره على استعدادِ
مصر تبكي عليك في كل خِدر
وتصوغ الرثاء في كل نادِ
لو تأملتَها لراعَك منها
غُرة البِر في سواد الحِدادِ
مُنتهى ما به البلاد تُعزَّى
رجلٌ مات في سبيل البلادِ
أمهات لا تحمل الثُّكل إلا
للنجيب الجريء في الأولادِ
«ﮐ«فريد» وأين ثاني فريد
أي ثانٍ لواحد الآحاد؟»
الرئيسِ الجوادِ فيما علِمْنا
وبلَونا وابنِ الرئيس الجوادِ
أكلَت مالَه الحقوقُ وأبلى
جسمَه عائدٌ من الهم عادي
لك في ذلك الضنى رقة الرُّو
ح وخفقُ الفؤاد في العُوادِ
علةٌ لم تَصِل فراشَك حتى
وطئَت في القلوب والأكبادِ
صادفت قرحة يُلائمها الصـ
ـبر وتأبى عليه غير الفسادِ
وعَد الدهر أن يكون ضِمادًا
لك فيها فكان شر ضمادِ
وإذا الروح لم تُنفِّس عن الجسـ
ـم «فبقراط»٢٤ نافحٌ في رمادِ

قصيدته في ذكراه

وفي سنة ١٩٢٤ نظم قصيدة في ذكراه الخامسة، وهي من أبلغ شعره وأروع ما قيل في تمجيد فريد ووطنيته وتضحياته. قال:

نُجدِّد ذكرى عهدكم ونُعيدُ
ونُدني خيال الأمس وهو بعيدُ
وللناس في الماضي بصائرُ يهتدي
عليهن غاوٍ أو يسير رشيدُ
إذا الميْت لم يكرُم بأرضٍ ثناؤه
تحيَّر فيها الحيُّ كيف يسودُ
ونحن قضاة الحق نرعى قديمه
وإن لم يفُتنا في الحقوق جديدُ
ونعلم أنَّا في البناء دعائم
وأنتم أساس في البناء وطيدُ
«فريدٌ ضحايانا كثيرٌ وإنما
مجال الضحايا أنت فيه فريدُ»
«فما خلفَ ما كابدتَ في الحق غاية
ولا فوق ما قاسيتَ فيه مزيدُ»
تغرَّبتَ عشرًا أنت فيهن بائس
وأنت بآفاق البلاد شريدُ
تجوع ببلدان وتعرى بغيرها
وترزح تحت الداء وهو عتيدُ
«ألا في سبيل الله والحقِّ طارفٌ
من المال لم تبخل به وتليدُ»
«وجُودك بعد المال بالنفس صابرًا
إذا جزَع المحضور وهو يجودُ»

•••

فلا زلت تمثالًا من الحق خالصًا
على سرِّه نبني العلا ونشيدُ
يُعلِّم نشءَ الحي كيف هوى الحِمَى
وكيف يُحامي دونه ويذودُ

حبه وتقديسه للوطن

إن حب شوقي للوطن يتمشى في معظم قصائده، مما تراه في ديوانه، وقد اقتبسنا طرفًا منها، وله فوق ذلك أبيات بلغ فيها حبه للوطن درجة التقديس والعبادة؛ مما يجعلها تسير مَسرى الحِكَم والأمثال، على تعاقب السنين والأجيال، وتبعث في نفوس المواطنين روح الإخلاص العميق للوطن والفناء فيه.

كقوله سنة ١٩٢٠ بعد عودته إلى مصر من منفاه:

ويا وطني لقيتُك بعد يأس
كأنيَ قد لقيت بك الشبابا
ولو أني دُعيتُ٢٥ لكنتَ ديني
عليه أُقابِل الحَتم المُجابا٢٦
أُديرُ إليك قبل البيت وجهي
إذا فُهتُ الشهادةَ والمَتابا

ففي هذه الأبيات يُقدِّم شوقي الوطن على الدين ويُدير وجهه إلى الوطن قبل الكعبة عندما يلقى ربه.

وقوله سنة ١٩٢٤ مُخاطِبًا الشباب:

وجهُ الكنانة ليس يُغضِب ربَّكم
أن تجعلوه كوجهه معبودا
ولُّوا إليه في الدروس وجوهكم
وإذا فرغتم فاعبدوه هجودا
إن الذي قسَم البلادَ حباكمُ
بلدًا كأوطان النجوم مَجيدا
قد كان — والدنيا لُحودٌ كلها —
للعبقرية والفنون مُهودا

وقوله وهو في منفاه:

«وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي»

أي أنه لو شغل عن الوطن بجنة الخلد وسكنها، لبقيت نفسه تهفو إلى الوطن وتنزع إليه. وقوله من قصيدته سنة ١٩٢٦ في نكبة دمشق من الاستعمار الفرنسي:

وللأوطان في دم كل حُر
يدٌ سلفَت ودَينٌ مُستحَقُّ
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مُضرَّجة تُدقُّ

وقوله:

لا تلوماها أليست حرة
وهوى الأوطان للأحرار دين؟

وقال سنة ١٩٠٤:

أحبك مصر من أعماق قلبي
وحبك في صميم القلب نامي

وبلغ حبه لمصر أن جعلها كعبة أشعاره قال:

وإني لَغِرِّيد هذا البطاح
تغذَّى جَناها وسلسالَها
ترى مصرَ كعبة أشعاره
وكل مُعلَّقة قالَها

ثورة سنة ١٩١٩

قال من قصيدة له بعنوان «الحرية الحمراء» يُمجِّد ثورة ١٩١٩:

يومُ البطولة لو شهدتُ نهاره
لَنظمتُ للأجيال ما لم يُنظَمِ
غُبنَت حقيقته وفات جمالُها
باع الخيال العبقري المُلهَمِ
لولا عوادي النفي أو عقبانه
والنفي حالٌ من عذاب جهنمِ
لَجمعتُ ألوان الحوادث صورةً٢٧
مثَّلتُ فيها صورة المُستسلِمِ
وحكيتُ فيها النيل كاظمَ غيظه
وحكيتُه مُتغيِّظًا لم يكظمِ
دعَت البلادَ إلى الغمار فغامرت
وطنيةٌ بمُثقَّف ومُعلِّمِ
ثارت على الحامي العتيد وأقسمت
بسواه جل جلاله لا تحتمي

•••

يومَ النضال كسَتك لونَ جمالها
حريةٌ صبغَت أديمك بالدمِ

تعلقه بالجلاء

ويبدو في شعره مبلغ تعلقه بالجلاء، وإيمانه به، وهذا ولا ريب من فيض الوطنية التي يستلهم منها شعره.

قال في سنة ١٩٢٤ يُخاطِب الشباب الذين أُفرِج عنهم بعد الحكم عليهم في قضية المؤامرة الكبرى:

لمَّا بَنى اللهُ القضيةَ٢٨ منهمُ
قامت على الحق المُبين عمودا
جادوا بأيام الشباب وأوشَكوا
يتجاوزون إلى الحياة الجودا
طلبوا «الجلاء» على الجهاد مَثوبةً
لم يطلبوا أجر الجهاد زهيدا
«واللهِ ما دون الجلاء ويومه
يومٌ تُسمِّيه الكنانة عيدا»
وجَد السجين يدًا تُحطِّم قيده
من ذا يُحطِّم للبلاد قيودا؟

وحدة وادي النيل

وقال في يوليو سنة ١٩٢٤ عن وحدة وادي النيل من قصيدة له في استنكار حادث الاعتداء على المرحوم سعد زغلول ونجاته من محاولة اغتياله:

ولن نرتضي أن تُقَد القناة
ويُبتَر من مصر سودانُها
فمصر الرياض، وسودانها
عيون الرياض وخلجانُها
وما هو مالًا ولكنه
وَريد الحياة وشريانُها
تُتمِّم مصرَ ينابيعُه
كما تمَّم العينَ إنسانُها
وأهلوه منذ جرى عذبُه
عشيرة مصر وجيرانُها

مشروع ملنر

هو مشروع المعاهدة الذي انتهت إليه مفاوضات سعد–ملنر سنة ١٩٢٠ ويحمل في طياته عناصر الحماية، وكان ممن عارضوه المرحوم الدكتور عبد الحميد أبو هيف، فلما تُوفي سنة ١٩٢٦ رثاه شوقي في قصيدة أشار فيها إلى هذه المعارضة وأيَّدها. قال:

بالأمس كانت لابن هيف غَضبة
للحق نذكرها يدًا بيضاءَ
مشت البلاد إلى رسالة «ملنر»
وتحفَّزت أرضًا لها وسماءَ
فلمحتُ أعرجَ في زوايا الحق لم
أعلم عليه ذمة عرجاءَ٢٩
ارتدَّت العاهات عن أخلاقه
لسمُوِّهن وحلَّت الأعضاءَ
لما رأى «التقرير» ينفث سمه
سبق الحواة فأخرج الرقطاءَ٣٠
هتك الحمايةَ والرجال وراءها
يتلمسون لها الستور رياءَ

تصريح ٢٨ فبراير

وقال عن تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢:٣١
ربحَت من «التصريح» أن قيودها
قد صِرن من ذهب وكنَّ حديدا
أوما ترَون على «المنابع»٣٢ عُدة
لا تنجلي وعلى «الضفاف» عديدا
يا فتية النيل السعيد خُذوا المدى
واستأنفوا نفَس الجهاد مديدا

يدعو إلى التضحية ويُهاجِم الاستعمار

قال يدعو إلى الجَلَد والتضحية:

والمرء ليس بصادق في قوله
حتى يُؤيِّد قوله بفعالِهِ
والشعب إن رامَ الحياة كبيرةً
خاضَ الغِمار دمًا إلى آمالِهِ

ومن قصيدته سنة ١٩٢٦ في نكبة دمشق من الاستعمار الفرنسي:

لَحاها اللهُ أنباءٌ توالَت
على سمع الولي بما يَشقُّ٣٣
يُفصِّلها إلى الدنيا بريد
ويُجمِلها إلى الآفاق بَرقُ
وللمُستعمِرين وإن ألانوا
قلوبٌ كالحجارة لا تَرِقُّ
رماك بطيشه ورمى فرنسا
أخو حرب به صلَفٌ وحُمقُ
إذا ما جاءه طُلاب حق
يقول عصابةٌ خرجوا وشقُّوا
دمُ الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه نور وحقُّ

إلى أن قال:

نصحتُ ونحن مُختلِفون دارًا
ولكن كلُّنا في الهم شَرقُ
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مُختلِف ونُطقُ
وقفتم بين موت أو حياة
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
«وللأوطان في دم كل حر
يدٌ سلفَت ودَينٌ مُستحَقُّ»
ومن يسقي ويشرب بالمنايا
إذا الأحرار لم يُسقَوا ويَسقُوا؟
ولا يبني الممالكَ كالضحايا
ولا يُدني الحقوق ولا يحقُّ
ففي القتلى لأجيال حياة
وفي الأسرى فِدًى لهمُ وعتقُ
وللحرية الحمراء بابٌ
بكل يد مُضرَّجة يُدقُّ

يشفق على الوطن

من قصيدة له في استقبال عيد الفطر يُشفِق على مصر ويقول أن لا عيد حتى تتحقق أهدافها:

وطني أَسفتُ عليك في عيد الملا
وبكيتُ من وَجد ومن إشفاقِ
لا عيدَ لي حتى أراك بأمة
شمَّاء راوية من الأخلاقِ
ذهب الكرام الجامعون لأمرهم
وبقيتُ في خَلَف بغير خلاقِ٣٤
أيظلُّ بعضُهم لبعض خاذلًا
ويقالُ شعبٌ في الحضارة راقي؟
وإذا أراد الله إشقاء القُرى
جعل الهُداة بها دعاة شقاقِ

يدعو إلى الأخلاق

إن بيته المشهور عن الأخلاق هو ديوان من الشعر تتجلى فيه الحكمة الأزلية في أن الأخلاق هي أساس حياة الأمم وسبيلها إلى العظمة والمجد:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقد أكَّد هذا المعنى الرائع في غير موضع.

قال:

وإذا أُصيبَ القوم في أخلاقهم
فأقِم عليهم مأتمًا وعويلا

وقال:

وما السلاح لقوم كل عُدتهم
حتى يكونوا من الأخلاق في أُهبِ

وقال أيضًا:

على الأخلاق خُطُّوا الملك وابنوا
فليس وراءها للعز ركنُ

وقوله:

المجدُ والشرفُ الرفيعُ صحيفةٌ
جُعلَت لها الأخلاق كالعنوانِ

وقوله:

وإذا ما أصاب بُنيانَ قوم
وَهيُ خُلقٍ فإنه وَهيُ أُسِّ

وقوله:

كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم
ويذهب عنهم أمرهم حين تذهبُ

وقوله:

ولقد يُقام من السيوف وليس من
عثرات أخلاق الشعوب قيامُ

ومن قصيدته «نهج البردة»:

صلاح أمرك للأخلاق مَرجعه
فقوِّم النفس بالأخلاق تستقِمِ
والنفس من خيرها في خير عافية
والنفس من شرها في مرتع وخمِ

وقوله:

وكان جنابُهم فيها مَهيبا
ولَلأخلاقُ أجدرُ أن تُهابا

وقال في هذا المعنى من قصيدة له سنة ١٩٢٠:

وليس بعامرٍ بنيانُ قوم
إذا أخلاقهم كانت خرابا

وقوله:

ولا المصائب إذ يُرمَى الرجال بها
بقاتلات إذا الأخلاق لم تُصَبِ

يدعو إلى الوحدة الوطنية

من قصيدة له في رثاء بطرس غالي سنة ١٩١٠:

الحق أبلج كالصباح لناظر
لو أن قومًا حكَّموا الأحلاما
أعَهدتَنا والقِبطَ إلا أمة
للأرض واحدةً تروم مَراما
نُعلِي تعاليم المسيح لأجلهم
ويُوقِّرون لأجلنا الإسلاما
الدين للديَّان جل جلاله
لو شاء ربك وحَّد الأقواما
يا قومِ بانَ الرشد فاقضوا ما جرى
وخذوا الحقيقة وانبذوا الأوهاما
هذي ربوعكمُ وتلك ربوعنا
مُتقابِلين نُعالِج الأياما
هذي قبوركمُ وتلك قبورنا
مُتجاوِرِين جماجمًا وعظاما
فبِحرمة الموتى وواجب حقهم
عيشوا كما يقضي الجِوار كراما

وقال من قصيدة أخرى له في هذا المعنى سنة ١٩١٠:

تعالَوا عسى نطوي الجفاء وعهده
وننبذ أسباب الشِّقاق نواحيا
ألم تكُ «مصرٌ» مَهدَنا ثم لحدنا
وبينهما كانت لكلٍّ مغانيا
ألم تكُ من قبل «المسيح بن مريم»
و«موسى» و«طه» تعبد النيل جاريا
فهلَّا تساقَينا على حبه الهوى
وهلَّا فدَيناه ضفافًا وواديا
وما زال منكم أهل ود ورحمة
وفي المسلمين الخير ما زال باقيا
فلا يَثنكم عن ذمة قتلُ «بطرس»
فقِدمًا عرفنا القتل في الناس فاشيا

القوة في الاتحاد

صوت الشعوب من الزئير مُجمَّعًا
فإذا تفرَّق كان بعض نباحِ

يستحث الشباب على العلم والجهاد

قال مُخاطِبًا الشباب في قصيدة نظمها سنة ١٩٢٤:

يا شباب الغد وَابْناي الفدى
لكمُ أكرِمْ وأعزِزْ بالفداءِ
هل يمد الله لي العيش عسى
أن أراكم في الفريق السعداءِ
وأرى تاجكمُ فوق السُّها
وأرى عرشكمُ فوق ذُكاءِ
من رآكم قال مصر استرجعت
عزها في عهد «خوفو» و«مناءِ»
أمة للخلد ما تبني إذا
ما بنى الناس جميعًا للعفاءِ
إنما مصر إليكم وبكم
وحقوق البر أولى بالقضاءِ
عصركم حر ومستقبلكم
في يمين الله خير الأمناءِ
لا تقولو حطَّنا الدهر فما
هو إلَّا من خيال الشعراءِ
هل علمتم أمةً في جهلها
ظهرت في المجد حسناء الرداءِ
باطن الأمة من ظاهرها
إنما السائل من لون الإناءِ
فخذوا العلم على أعلامه
واطلبوا الحكمة عند الحكماءِ
«واقرءوا تاريخكم واحتفظوا
بفصيحٍ جاءكم من فصحاءِ»
أنزل الله على ألسُنهم
وحيه في أعصُر الوحي الوضاءِ
واحكموا الدنيا بسلطان فما
خُلقَت نضرتها للضعفاءِ
«واطلبوا المجد على الأرض فإن
هي ضاقت فاطلبوه في السماءِ!»

يدعو إلى إنكار الذات

وقال مُخاطِبًا الشباب في قصيدة قالها سنة ١٩٢٤:

قالوا أتنظم للشباب تحية
تبقى على جِيد الزمان قصيدا
قلت الشباب أتم عقد مآثر
من أن أزيدهمُ الثناء عقودا
قبلَت جهودَهم البلادُ وقبَّلت
تاجًا على هاماتهم معقودا
خرجوا فما مدوا حناجرهم ولا
منُّوا على أوطانهم مجهودا
«خفي الأساس عن العيون تواضعًا
من بعد ما رفع البناء مشيدا»

حكمه وعظاته

تنساب في شعر شوقي الحِكَم والعظات يُخاطِب بها مواطنيه ويُبصِّرهم بعِبَر التاريخ وعظات الحوادث، مما نذكر طرفًا منه.

جلال الخالدين

قال عن جلال الملوك وأنه إلى زوال ولا يبقى إلا جلال الخلود:

جلال الملك أيامٌ وتمضي
ولا يمضي جلال الخالدينا

الخلود للعمل الصالح

وقال سنة ١٩٢٣ عن الخلود وأنه للعمل الصالح:

مَن سرَّه ألا يموت فبالعُلى
خلُدَ الرجال وبالفعال النابِهِ
ما مات من حاز الثرى آثاره
واستولت الدنيا على آدابِهِ
قُل للمُدِل بماله وبجاهه
وبما يُحِل الناس من أنسابِهِ
هذا الأديم يصُد عن حُضَّاره
وينام ملء الجفن عن غُيَّابِهِ
إلا فتًى يمشي عليه مُجدِّدًا
ديباجتَيه مُعمِّرًا لخرابِهِ

العدل أساس الملك

وقال في العدل:

والعدل في الدولات أسٌّ ثابت
يُفني الزمان ويُنقِذ الأجيالا

فلسفة الحياة

وقال من قصيدته في رثاء مصطفى كامل:

دقَّاتُ قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني

ومن قوله في ذكرى كارنارفون مكتشف كنوز توت عنخ آمون:

في الموت ما أعيا٣٥ وفي أسبابه
كل امرئ رَهنٌ بطَيِّ كتابِهِ
إن نام عنك فكل طب نافع
أو لم ينَم فالطب من أذنابِهِ

إلى أن قال مُنوِّهًا بفضل كارنارفون في اكتشافاته الأثرية:

أفْضَى إلى خَتم الزمان ففضَّه
وحبا إلى التاريخ في محرابِهِ
وطوى القرونَ القهقرى حتى أتى
فرعونَ بين طعامه وشرابِهِ

ومن قوله في العظة والاعتبار حين سقطت أدرنة، وكانت من أمهات المدن الإسلامية في مقدونية وغلبها البلغار سنة ١٩١٢:

يا أخت أندلس عليك سلامُ
هوت الخلافة عنك والإسلامُ

إلى أن قال يُندِّد بسياسة الترك:

رفعوا على السيف البناءَ فلم يدُم
ما للبناءُ على السيوف دوامُ
أبقى الممالك ما المعارفُ أُسُّه
والعدل فيه حائط ودعامُ
«إن الغرور إذا تملَّك أمة
كالزهر يُخفي الموتَ وهو زؤامُ»

لا حق للضعيف

وقال سنة ١٩٢٣ أثناء انعقاد مؤتمر لوزان مُشيرًا إلى صلف الإنجليز مع مصر لأنها لم يكن لها من القوة ما تسترد به حقها:

أتعلم أنهم صلفوا وتاهوا
وصدوا الباب عنا مُوصِدينا؟
ولو كنا نجرُّ هناك سيفًا
وجدنا عندهم عطفًا ولينا
سيقضي «كرزن» بالأمر عنا
وحاجات «الكنانة» ما قضينا

وقال في هذا المعنى:

يا طيرُ والأمثالُ تُضـ
ـرب للبيب الأمثلِ
دُنياك من عاداتها
ألا تكون لأعزلِ

الحكم للشعوب، لا للمُستبِدين

قال سنة ١٨٩٤ في أول قصيدة له في ديوانه يُنبِّه الملوك إلى قوة الشعوب ويدعوهم إلى النزول على حكمها:

إن ملكتَ النفوس فابغِ رضاها
فلها ثورة وفيها مُضاءُ
يسكن الوحش للوثوب من الأسـ
ـر فكيف الخلائق العقلاءُ؟
يحسب الظالمون أن سيسودو
ن وأن لن يُؤيَّد الضعفاءُ
والليالي جوائر مثلما جا
روا وللدهر مثلهم أهواءُ

وقال سنة ١٩٢٢ يُبشِّر بحكم الشعوب وزوال حكم الفرد:

زمان الفرد يا فرعون ولَّى
ودالت دولة المُتجبِّرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض
على حكم الرعية نازلينا

وقال سنة ١٩٢٣ يُندِّد بالمُستبدِين:

المُستبِد يُطاق في ناووسه
لا تحت تاجَيه وفوق وثابِهِ٣٦
والفرد يُؤمَن شره في قبره
كالسيف نام الشرُّ خلف قِرابِهِ٣٧

وقال في هذا المعنى يُخاطِب توت عنخ آمون سنة ١٩٢٥:

قسمًا بمن يُحيي العظا
م ولا أزيدك من يمينْ
لو كان من سَفر إيا
بك أمس أو فتح مُبينْ
لرأيت جيلًا غير جيـ
ـلك بالجبابر لا يَدينْ
ورأيت محكومين قد
نصبوا وردُّوا الحاكمينْ٣٨
رُوح الزمان ونظمه
وسبيله في الآخرينْ
«إن الزمان وأهله
فرغا من الفرد اللعينْ»
فإذا رأيت مشايخًا
أو فتية لك ساجدينْ
لاقِ الزمانَ تجدهمُ
عن ركبه مُتخلِّفينْ
هم في الأواخر مولدًا
وعقولُهم في الأولينْ

الشعب قد يُخدَع

قال في مسرحية «مصرع كليوباترة» على لسان «حابي» يُخاطِب «ديون»:٣٩
اسمَع الشعب ديونُ
كيف يُوحون إليه
ملأ الجوَّ هُتافًا
بحياتَي قاتلَيْه
أثَّر البهتان فيه
وانطلى الزُّور عليه
يا له من بَبَّغاء
عقله في أُذنَيه

الحياة الدستورية السليمة

قال عن الدستور:

شر الحكومة أن يُساس بواحد
في الملك أقوامٌ عداد رماله

وقال سنة ١٩٢٤ من قصيدة له عن «الأزهر»:

وتفيَّئوا الدستور تحت ظلاله
كنفًا أهشَّ من الرياض وأنضرا
«لا تجعلوه هوًى وخُلفًا بينكم
ومَجرَّ دنيا للنفوس ومَتجرا»
اليوم صرَّحَت الأمور فأظهرت
ما كان من خدع السياسة مُضمَرا
قد كان وجه الرأي أن نبقى يدًا
ونرى وراء جنودها إنجلترا
فإذا أتتنا بالصفوف كثيرةً
جئنا بصف واحد لن يُكسَرا

وقال سنة ١٩٢٦ من قصيدة له في عيد الجهاد:

وبالدستور وهو لنا حياة
نرى فيه السلامة والفلاحا
أخذناه على المُهَج الغوالي
ولم نأخذه نَيلًا مُستماحا
بنَينا فيه من دمع رواقا
ومن دم كل نابتة جناحا

وقال سنة ١٩٢٧ عن الحياة الدستورية السليمة:

إذا سلِم الدستور هان الذي مضى
وهان من الأحداث ما كان آتيا
ألا كل ذنب لليالي لأجله
سدَلْنا عليه صَفْحنا والتناسيا

وقال سنة ١٩٢٦ حينما اجتمع المؤتمر الوطني يوم ١٩ فبراير من تلك السنة وائتلفت فيه الأحزاب، يُحيِّي الدستور لمناسبة عودته بعد توحيد الصفوف:

صرحٌ٤٠ على الوادي المُبارَك ضاحي
مُتظاهِر الأعلام والأوضاحِ
ضافي الجلالة كالعتيق مُفصَّل
ساحات فضل في رحاب سماحِ
وكأن رفرَفه رواق من ضحًى
وكأن حائطه عمود صباحِ
الحق خلف جناحٍ استذرى٤١ به
ومراشد السلطان خلف جناحِ
هو هيكل الحرية القاني، له
ما للهياكل من فدًى وأضاحِ
يُبنى كما تُبنى الخنادق في الوغى
تحت النبال وصوبها السحَّاحِ
ينهار الاستبداد حول عِراصه
مثل انهيار الشرك حول «صلاحِ»٤٢
ويكبُّ طاغوت الأمور لوجهه
مُتحطِّم الأصنام والأشباحِ

•••

هو ما بنى الأعزالُ بالراحات أو
هو ما بنى الشهداء بالأرواحِ
أخذَته «مصر» بكل يوم قاتم
وَردِ الكواكب أحمر الإصباحِ
هبَّت سماحًا بالحياة شبابُها
والشيب بالأرماق غير شِحاحِ
ومشَت إلى الخيل الدوارع وانبرَت
للظافر الشاكي بغير سلاحِ
وقفاتُ حق لم تقِفها أمةٌ
إلا انثنَت آمالها بنجاحِ
وإذا الشعوب بنَوا حقيقة مُلكهم
جعلوا المآتم حائط الأفراحِ

إلى أن قال في توحيد الصفوف:

بشرى إلى الوادي تهزُّ نباتَه
هزَّ الربيع مَناكب الأدواحِ
تسري مُلمَّحة الحُجول على الرُّبى
وتسيل غُرتها بكل بِطاحِ
التامَت الأحزابُ بعد تصدُّع
وتصافَت الأقلام بعد تلاحِ
سُحبَت على الأحقاد أذيال الهوى
ومشى على الضغن الوداد الماحي
وجرَت أحاديث العتاب كأنها
سمَرٌ على الأوتاد والأقداح
ترمي بطَرفك في المجامع لا ترى
غير التعانق واشتباك الراحِ

إلى أن قال يصف تعطيل الدستور عام ١٩٢٥:

احتلَّ حصنَ الحق غيرُ جنوده
وتكالبَت أيدٍ على المفتاحِ
ضجَّت على أبطالها ثُكُناته
واستوحشت لكُماتها النُّزَّاحِ
هُجرَت أرائكه وعطِّل عُوده
وخلا من الغادين والرُّوَّاحِ
وعلاه نسجُ العنكبوت فزاده
كالغار من شرفٍ وسمتِ صلاحِ

وقال ينصح الشباب:

قُل للبنين مقال صدق واقتصِد
ذرعُ الشباب يضيق بالنُّصَّاحِ
أنتم بنو اليوم العصيب نشأتمُ
في قصف أنواء وعصف رياحِ
ورأيتم الوطن المُؤلِّف صخرةً
في الحادثات وسيلها المجتاحِ
وشهدتمُ صدع الصفوف وما جنى
من أمر مُفتاتٍ ونهيِ وَقاحِ
صوت الشعوب من الزئير مُجمَّعًا
فإذا تفرَّق كان بعضَ نُباحِ
أظمَتكم الأيام ثم سقَتكمُ
رنَقًا من الإحسان غير قراحِ
وإذا مُنحتَ الخير من مُتكلِّف
ظهرت عليه سجية المنَّاحِ
تركتُكمُ مثل المَهيض جناحه
لا في الحبال ولا طريق سراحِ
من صيَّر الأغلال زُهر قلائد
وكسا القيود محاسن الأوضاحِ
إن التي تبغون دون مَنالها
طولُ اجتهاد واضطرادُ كفاحِ
سيروا إليها بالأناة طويلة
إن الأناة سبيل كل فلاحِ
وخذوا بناء المُلك عن دستوركم
إن الشِّراع مُثقِّفُ الملَّاحِ

ومن قصيدة له سنة ١٩٢٦ حين اجتمع برلمان الائتلاف:

الحق أبلج والكنانة حرة
والعز للدستور والإكبارُ
الأمر شورى لا يعيث مُسلَّط
فيه ولا يطغى به جبَّارُ
عهدٌ من الشورى الظليلة نُضِّرت
آصاله واخضلَّت الأسحارُ
تجني البلاد بها ثمار جهودها
ولكل جهد في الحياة ثمارُ
بُنيان آباء مشوا بسلاحهم
وبنين لم يجدوا السلاح فثاروا
فيه من التل المُدرَّج حائط
ومن المشانق والسجون جدارُ
أبَت التقيد بالهوى وتقيَّدَت
بالحق أو بالواجب الأحرارُ
في مجلس لا مالُ مصر غنيمة
فيه ولا سلطانُ مصر صَغارُ
ما للرجال سوى المراشد منهج
فيه ولا غير الصلاح شعارُ
يتعاونون كأهل دار زُلزلَت
حتى تقر وتطمئن الدارُ
يُجرون بالرفق الأمور وفلكها
والريح دون الفلك والإعصارُ
ومع المُجدِّد بالأناة سلامة
ومع المُجدِّد بالجماح عِثارُ

يدعو إلى انتخاب الأكفاء الشرفاء

ومن قصيدة له سنة ١٩٢٢ قال في مطلعها:

أُعدَّت الراحة الكبرى لمن تعبا
وفاز بالحق من لم يألُه طلبا

إلى أن قال مُشيرًا إلى الانتخابات البرلمانية:

دار النيابة قد صُفَّت أرائكُها
لا تُجلِسوا فوقها الأحجار والخُشُبا
اليومَ يا قوم إذ تبنون مَجلسكم
تبنون للعَقِب الأيام والحُقُبا

ومن قصيدته سنة ١٩٢٤ عن «الأزهر»:

دار النيابة هُيِّئت درجاتها
فليرقَ في الدرَج الذوائبُ والذُّرى
الصارخون إذا أُسيءَ إلى الحِمَى
والذائدون إذا أُغيرَ على الشَّرى
لا الجاهلون العاجزون ولا الأُلى
يمشون في ذهب القيود تَبختُرا

رُوَّاد الوطنية

قال سنة ١٩٢٥ من قصيدة له في رثاء المرحوم عبد اللطيف الصوفاني:

ألستَ من فئة سهام
سَنُّوا المحاماة والرِّماءْ
فَتاهُمُ بالشباب ضحَّى
ما أعظم الذِّبحَ والفداءْ
ومات أبطالهم جياعًا
في غير أوطانهم ظماءْ
ولو أرادوا متاع دنيا
لأدركوا الحُكم والثراءْ
قضية الحق منذ قامت
لم تألُ أركانَها بناءْ
تحذو على مصطفى وتبني
جيلًا من الحق أقوياءْ
شرَعتمُ للشباب دينًا
كدينهم بيِّنًا سواءْ
لما أتيتم به جعلتم
رأسَ تعاليمه «الجلاءْ»
جمعتمُ مصر ثم سِرتم
فكنتم الجمع واللواءْ
وما عرفتم لغير مصر
وغير أحبابها ولاءْ
لم تمسحوا للعميد رأسًا
ولا نفضتم له حذاءْ

وقال من قصيدة يرثي فيها أمين الرافعي:

قيل غالٍ في الرأي قلتُ هَبُوه
قد يكون الغُلو رأيًا أصيلا
وقديمًا بنى الغُلو نفوسًا
وقديمًا بنى الغُلو عقولا
قد فقدنا به بقية رهط
أيقظوا النيل واديًا ونزيلا
حرَّكوه وكان بالأمس كالكهـ
ـف حزونًا وكالرقيم سهولا
يا أمين الحقوق أدَّيت حتى
لم تخُن مصر في الحقوق فتيلا
ولو اسطعتَ زدتَ مصر من الحق
على نيلها المبارك نيلا
لستُ أنساك قابعًا بين درجَيـ
ـك مُكبًّا عليهما مشغولا
قد توارَيت في الخشوع فخالو
ك ضئيلًا وما خُلقَت ضئيلا
سائل «الشعب» عنك و«العَلم» الخفَّـ
ـاق أو سائل «اللواء» الظليلا
تُنشِد الناس في «القضية» لحنًا
كالحواري رتَّل الإنجيلا
ماضيًا في الجهاد لم تتأخر
تَزِن الصف أو تُقيم الرعيلا
ما تُبالي مضيتَ وحدك تحمي
حوذة الحق أم مضيتَ قبيلا

يدعو إلى النهضة الاقتصادية

قال سنة ١٩٢٠ من قصيدة له في الاحتفال بإنشاء بنك مصر يدعو إلى الاكتتاب في رأس مال البنك، ويُنوِّه بفضل المال في نهضة الأمم:

قِف بالممالك وانظر دولة المالِ
واذكُر رجالًا أدالوها بإجمالِ

إلى أن قال:

يا طالبًا لمعالي المُلك مُجتهِدًا
خذها من العلم أو خذها من المالِ
«بالعلم والمال يبني الناس ملكهمُ
لم يُبنَ مُلك على جهل وإقلالِ»
سراة مصر عهدناكم إذا بُسطَت
يد الدعاء سراعًا غير بُخَّالِ
تبيَّن الصدق من بين الأمور لكم
فامضوا إلى الماء لا تلووا على الآلِ
لا يذهب الدهر بين التُّرهات بكم
وبين زهر من الأحلام قتَّالِ
هاتوا الرجال وهاتوا المال واحتشِدوا
رأيًا لرأي ومثقالًا بمثقالِ
هذا هو الحجر الدريُّ بينكمُ
فابنوا بناء قريش بيتها العالي
آمال مصر إليها طالما طمحت
هل تبخلون على مصر بآمالِ
فابنوا على بركات الله واغتنِموا
ما هيَّأ الله من حظ وإقبالِ

وقال في قصيدة أخرى:

المُلك بالمال والرجالِ
لم يُبنَ مُلك بغير مالِ

يُحيِي النهضة النسوية

كان مُؤيِّدًا ونصيرًا لنهضة المرأة، ألقى هذه القصيدة سنة ١٩٢٤ في جمع حافل من السيدات المصريات بمسرح حديقة الأزبكية، وجعل عنوانها في ديوانه «مصر تُجدِّد مجدها بنسائها المُتجدِّدات». قال:

قُم حيِّ هذي النيِّراتِ
حيِّ الحِسان الخيِّراتِ
واخفِض جَبينك هيبةً
للخُرَّد المُتخفِّراتِ٤٣
زَين المَقاصر والحِجا
ل وزين محراب الصلاةِ
هذا مقام الأمها
ت فهل قدَرتَ الأمهاتِ؟
لا تلغُ٤٤ فيه ولا تقُل
غير الفواصل مُحكَماتِ
وإذا خطبتَ فلا تكن
خطبًا على مصرَ الفتاةِ
اذكُر لها اليابانَ لا
أُمَم الهوى المُتهتِّكاتِ
ماذا لقيتَ من الحضا
رة يا أُخيَّ التُّرهاتِ
لم تلقَ غير الرِّق من
عُسر على الشرقي عاتِ

•••

خذ بالكتاب وبالحديـ
ـث وسيرة السلَف الثقاةِ
وارجع إلى سُنن الخليـ
ـقة واتبِع نُظُم الحياةِ
«هذا رسول الله لم
يُنقِص حقوق المؤمناتِ»
العلم كان شريعة
لنسائه المُتفقِّهاتِ
رُضنَ التجارة والسيا
سة والشئون الأخرَياتِ
ولقد علمتَ بناته
لُجُج العلوم الزاخراتِ
كانت سكينة٤٥ تملأ الدُّ
نيا وتهزأ بالرُّواةِ
روَت الحديث وفسَّرَت
آي الكتاب البيِّناتِ
«وحضارة الإسلام تنـ
ـطق عن مكان المسلماتِ»
بغداد دار العالما
ت ومنزل المُتأدِّباتِ
ودمشق تحت أمَية
أم الجواري٤٦ النابغاتِ
ورياض أندلس نمَيـ
ـن الهاتفات الشاعراتِ
ادعُ الرجال لينظروا
كيف اتحاد الغانياتِ
والنفع كيف أخذن في
أسبابه مُتعاوِناتِ
لما رأَين ندى الرِّجا
ل تفاخرًا أو حُب ذاتِ
ورأَين عندهم الصنا
ئع والفنون مُضيَّعاتِ
«والبر عند الأغنيا
ء من الشئون المُهمَلاتِ»
أقبلنَ يبنينَ المآ
ثر للنجاح مُوفَّقاتِ
للصالحات عقائل الـ
ـوادي هوًى في الصالحاتِ
الله أنبتهنَّ في
طاعاته خير النباتِ
فأتَين أطيبَ ما أتى
زَهَر المناقب والصفاتِ
لم يكفِ أن أحسَنَّ حتـ
ـى زِدن حضَّ المُحسِناتِ
يمشين في سوق الثوا
ب مُساوِمات رابحاتِ
يلبسنَ ذل السائلا
ت وما ذكرنَ البائساتِ
فوُجوههن وماؤها
ستر على المُتجمِّلاتِ
«مصر تُجدِّد مجدها
بنسائها المُتجدِّداتِ»
النافرات من الجمو
د كأنه شبح المَماتِ
هل بينهن جَوامدًا
فرقٌ وبين المُومياتِ
لما حضنَّ لنا القضيـ
ـة كُنَّ خير الحاضناتِ
غذَّينها في مهدها
بلبابهنَّ الطاهراتِ
وسبَقنَ فيها المُعْلَميـ
ـن إلى الكريهة مُعلَماتِ٤٧
ينفُثنَ في الفتيان من
روح الشجاعة والثباتِ
يهوَينَ تقبيل المُهنَّـ
ـد أو معانقة القناةِ
ويرَينَ حتى في الكرى
قُبَل الرجال مُحرَّماتِ

يُحيِي الصحافة

قال سنة ١٩٢٠ من قصيدة له في احتفالٍ أقامَته نقابة الصحفيين:

لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحُفْ
لسان البلاد ونبض العباد
وكهف الحقوق وحرب الجنَفْ٤٨
تسير مَسير الضحى في البلاد
إذا العلم مزَّق فيها السدَفْ
وتمشي تُعلِّم في أمة
كثيرةِ من لا يخطُّ الألِفْ

•••

فيا فتية الصحف صبرًا إذا
نبا الرزق فيها بكم واختلفْ
فإن السعادة غيرُ الظهور
وغير الثراء وغير الترَفْ
ولكنها في نواحي الضمير
إذا هو باللؤم لم يكتنفْ
ورُوموا النبوغ فمن ناله
تلقَّى من الخط أسنى التحَفْ

•••

حمِدنا بلاءكمُ في النضال
وأمس حمِدنا بلاء السلَفْ
ومن نسي الفضل للسابقين
فما عرف الفضل فيما عرَفْ
أليس إليهم صلاح البناء
إذا ما الأساس سما بالغُرَفْ

يُندِّد بمن يخذل الوطنية

في سنة ١٩٠٤ خطب مصطفى رياض باشا في حفلة تأسيس مدرسة محمد علي الصناعية بالإسكندرية خطبة امتدح فيها اللورد كرومر كما امتدح الاحتلال البريطاني.

وقد أثارت هذه الخطبة سخط الرأي العام واستنكرها المواطنون، وكان شوقي صوت الشعر الناطق باستنكار الخطبة وصاحبها. قال:

كبيرَ السابقين من الكرامِ
برغمي أن أنالك بالملامِ
مقامك فوق ما زعموا ولكن
رأيت الحق فوقك والمقامِ

إلى أن قال:

غمرتَ القوم٤٩  إطراءً وحمدًا
وهم غمروك بالنِّعم الجسامِ
رأوا بالأمس أنفك في الثريا
فكيف اليوم أصبح في الرُّغامِ
«خطبت فكنت خَطبًا لا خطيبًا
أُضيفَ إلى مصائبنا العظامِ»
«لهجت بالاحتلال وما أتاه
وجرحك منه لو أحسست دامي»
وهل تركت لك السبعون عقلًا
لعرفان الحلال من الحرام؟

يُندِّد بقاضي دنشواي

كان أحمد فتحي زغلول أحد قضاة محكمة دنشواي الذين أصدروا ذلك الحكم الجائر في تلك المأساة سنة ١٩٠٦، وقد رُقِّي بعد ذلك وكيلًا لوزارة الحقانية (العدل)، وأُقيمَت له حفلة تكريم في فندق شبرد دُعي إليها شوقي فرفض الدعوة، وأرسل في ظرف مُغلَق هذه الأبيات التي عبَّر فيها أبلغ تعبير عن تنديده بالمُحتفِل به وبالمُحتفِلين:

إذا ما جمعتم أمركم وهممتمُ
بتقديم شيء للوكيل ثمينِ
خذوا حبل مشنوق بغير جريرة
وسروال مجلود وقيد سجينِ
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه
من الشعر حُكم خطَّه بيمينِ
ولا تقرءوه في «شبرد» بل اقرءوا
على ملأ في دنشواي حزينِ

الحنين إلى الوطن

زاد حب شوقي للوطن وتعلُّقه به في منفاه بالأندلس، وقد كان نفيه بأمر السلطة العسكرية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٥، وبقي في منفاه بعيدًا عن الوطن نحو خمسة أعوام إلا قليلًا، فازداد شعورًا بلوعة الحزن على فراقه، واستثار النفي الوطنية الكامنة في نفسه، وأجَّجَت الغربة نارها، فانطلق يشدو بالحنين إلى الوطن.

حسبك منه سينيته الأندلسية، تلك القصيدة الخالدة الني نظمها سنة ١٩١٩ يُعارِض فيها سينية البحتري، قال في مطلعها:

اختلاف النهار والليل يُنسي
اذكرا لي الصِّبا وأيام أُنسي
وسَلا «مصر» هل سلا القلب عنها
أو أسا جُرحَه الزمانُ المُؤسِّي
كلما مرَّت الليالي عليه
رقَّ والعهد في الليالي تُقسِّي

إلى أن قال:

يا ابنة اليم٥٠ ما أبوك بخيل
ما له مُولَعًا بمنع وحبسِ
«أحرامٌ على بلابله الدَّو
ح حلالٌ للطير من كل جنسِ؟»
«كل دار أحق بالأهل إلا
في خبيث من المذاهب رجسِ»٥١
نفَسي مِرجل وقلبي شِراع
بهما في الدموع سيري وأرسي
واجعلي وجهك «الفَنار» ومجرا
كِ يد «الثغر» بين «رمل» و«مكسِ»
«وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي»
شهِد الله لم يغب عن جفوني
شخصه ساعة ولم يخلُ حسِّي

والقصيدة من أروع ما نظم شوقي.

وله في هذا المعنى قصيدة أخرى رائعة نظمها في منفاه يُعارِض فيها نونية ابن زيدون. قال:

يا نائح «الطَّلح» أشباهٌ عوادينا
نشجى لواديك أم نأسى لوادينا؟٥٢
ماذا تقصُّ علينا غير أن يدًا
قصَّت جناحك جالت في حواشينا!
رمى بنا البَين٥٣ أيكًا غير سامرنا
أخا الغريب؛ وظلًّا غير نادينا

ثم انتقل من خطاب الطائر الحزين إلى بكاء الأندلس، قال:

آهًا لنا! نازحي أيكٍ بأندلس
وإن حلَلْنا رفيفًا من روابينا٥٤
رسمٌ وقَفْنا على رسم الوفاء له
نجيش بالدمع والإجلالُ يَثنينا

إلى أن قال في الحنين إلى مصر:

لكن «مصر» وإن أغضَت على مِقَة٥٥
عينٌ من الخلد بالكافور تسقينا
على جوانبها رفَّت تمائمنا
وحول حافاتها قامت رواقينا٥٦
ملاعبٌ مرحَت فيها مآربنا
وأربُعٌ أنسَت فيها أمانينا
ومطلعٌ لسعودٍ من أواخرنا
ومغربٌ لجدود من أوالينا
بنَّا٥٧ فلم نخلُ من رَوحٍ يُراوِحنا
من بِر مصر وريحانٍ يُغادينا
كأم موسى على اسم الله تكفُلنا
وباسمه ذهبَت في اليم تُلقينا٥٨
ومصر كالكَرْم ذي الإحسان فاكهةٌ
لحاضرين وأكوابٌ لبادينا

•••

يا ساريَ البرق يرمي عن جوانحنا
بعد الهدوء ويهمي عن مآقينا
لما ترقرق في دمع السماء دمًا
هاج البُّكا فخضَبْنا الأرض باكينا

إلى أن قال يُخاطِب مواطنيه:

إلى الذين وجَدْنا ود غيرهمُ
دُنيا وودَّهم الصافي هو الدِّينا
يا من نغار عليهم من ضمائرنا
ومن مَصون هواهم في تَناجينا
ناب الحنين إليكم في خواطرنا
في النائبات فلم يأخذ بأيدينا

إلى أن قال يُشيد في منفاه بعظمة مصر:

لم تنزل الشمس ميزانًا ولا صعدت
في ملكها الضخم عرشًا مثل وادينا
ألم تُؤلَّهْ على حافاته ورأت
عليه آباءها الغُر الميامينا؟
وهذه الأرض من سهل ومن جبل
قبل «القياصر» دِنَّاها «فراعينا»
ولم يضع حجرًا بانٍ على حجر
في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن «أهرام» مصر حائطٌ نهضَت
به يد الدهر لا بُنيان فانينا

إلى أن قال في تحية مصر وتشوقه إليها من منفاه:

أرضُ الأبوة والميلاد طيَّبها
مرُّ الصِّبا في ذيول من تصابينا
كانت مُحجَّلة فيها مواقفنا
غُرًّا مُسلسَلة المَجرى قوافينا
فآب من كرةِ الأيام لاعبنا
وثاب من سِنَة الأحلام لاهينا
ولم ندع لليالي صافيًا فدعَت
بأن نغصَّ فقال الدهر آمينا
لو استطعنا لخُضْنا الجو صاعقةً
والبَر نارَ وغًى والبحر غِسلينا٥٩
سعيًا إلى مصر نقضي حق ذاكرنا
فيها إذا نسي الوافي وباكينا

وقال يذكر والدته بحلوان وقد تُوفِّيت قُبَيل عودته:

كنزٌ ﺑ «حلوان» عند الله نطلبه
خير الودائع من خير المُؤدِّينا
لو غاب كل عزيز عنه غَيبتَنا
لم يأتِه الشوق إلا من نواحينا
إذا حمَلنا لمصر أو له شجنًا
لم ندرِ أي هوى الأُمَّين شاجينا

وقال أيضًا سنة ١٩١٧ في منفاه يهتف بمصر وساكنيها:

يا ساكني مصر إنا لا نزال على
عهد الوفاء وإن غبنا مُقيمينا
هلَّا بعثتم لنا من ماء نيلكمُ
شيئًا نبلُّ به أحشاء صادينا٦٠
«كل المناهل بعد النيل آسِنة
ما أبعد النيل إلا عن أمانينا»

وقد بعثت شوقي بهذه الأبيات إلى صديقه وصنوه حافظ إبراهيم فأجابه حافظ بالأبيات الآتية:

عجبت للنيل يدري أن بلبله
صادٍ ويسقي رُبا مصر ويسقينا
تالله ما طاب للأصحاب مورده
ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا
لم تنأَ عنه وإن فارقت شاطئه
وقد نأَينا وإن كنا مُقيمينا

يُشيد بعظمة مصر

لقد ملك حب مصر مشاعره فكان يتغنى بعظمتها ويُشيد بمفاخرها، وتفيض قصائده بهذا المعنى السامي.

قال في تحية مصر والنيل والهرم من قصيدة نظمها سنة ١٩١٤ يُحيِّي بها الطائرَين العثمانيَّين سالم وكمال حين قدومهما إلى مصر على متن طائرتهما عن طريق العريش وسيناء:

يا راكب الريح حيِّ النيلَ والهرما
وعظِّم السفحَ من سيناء والحرَما
وقِف على أثرٍ مرَّ الزمان به
فكان أثبت من أطواده قِمَما
واخفض جناحك في الأرض التي حملت
موسى رضيعًا وعيسى الطهرِ مُنفطِما
وأخرجَت حكمة الأجيال خالدة
وبيَّنَت للعباد السيف والقلما
هذا فضاءٌ تُلِم الريح خاشعةً
به ويمشي عليه الدهر مُحتشِما

وقال من قصيدة له في أبي الهول:

أبا الهول طال عليك العُصُرْ
وبُلِّغتَ في الأرض أقصى العُمُرْ
فيا لِدَة الدهر٦١ لا الدهر شبَّ
ولا أنت جاوزت حدَّ الصِّغَرْ
إلامَ ركوبك متن الرمال
لِطَي الأصيل وجَوب السحَرْ
تُسافِر مُنتقِلًا في القرون
فأيان تُلقي غبار السفَرْ؟
أبينك عهد وبين الجبال
تزولان في الموعد المُنتظَرْ؟٦٢
«أبا الهول أنت نديم الزمان
نجيُّ الأوان سمير العُصُرْ»
«ظليلَ الحضارة في الأوَّلين
رفيع البناء جليل الأثَرْ»

وختمها بقوله:

«تحرَّكْ أبا الهول هذا الزمان
تحرُّكَ ما فيه حتى الحجَرْ»

وقال عن الأهرام من قصيدة له سنة ١٩٢٢:

قِف ناجِ أهرام الجلال ونادِ
هل من بُناتك مجلس أو نادِ
نشكو ونفزع فيه بين عيونهم
إن الأبوة مَفزع الأولادِ
ونبثُّهم عبث الهوى بتراثهم
من كلِّ مُلقٍ للهوى بقيادِ
ونُبين كيف تفرَّق الأخوان في
وقت البلاء تفرُّقَ الأضدادِ٦٣
إن المُغالِط في الحقيقة نفسَه
باغٍ على النفس الضعيفة عادي

•••

قُل للأعاجيب الثلاث٦٤ مقالة
من هاتف بمكانهن وشادي
لله أنت فما رأيتُ على الصفا
هذا الجلال ولا على الأوتادِ
لك كالمعابد روعة قدسية
وعليك روحانية العُبادِ
أُسِّستِ من أحلامهم بقواعد
ورُفعتِ من أخلاقهم بعمادِ
قُم قبِّل الأحجار والأيدي التي
أخذت لها عهدًا من الآبادِ
وخذ النبوغ من الكنانة إنها
مَهد الشموس ومَسقط الآرادِ٦٥

وقال يُشيد بعظمة الأهرام من قصيدته «على قبر نابليون»:

قُم إلى الأهرام واخشع واطَّرِح
خيلة الصِّيد٦٦ وزهوَ الفاتحينْ
وتمهَّلْ إنما تمشي إلى
حَرَم الدهر ومحراب القرونْ
هو كالصخرة عند القبط أو
كالحطيم الطُّهر عند المسلمينْ
وتسنَّمْ منبرًا من حجر
لم يكن قبلك حظَّ الخاطبينْ
وادعُ أجيالًا تولَّت يسمعوا
لك وابعث في الأوالي حاشرينْ
وأعِدها كلمات أربعًا٦٧
قد أحاطت بالقرون الأربعينْ
قد عرضت الدهر والجيش معًا
غاية قصَّر عنها الفاتحونْ
عظةٌ قومي بها أولى وإن
بعُد العهد فهل يعتبرونْ؟

قصر أنس الوجود

وقال سنة ١٩١٠ عن قصر «أنس الوجود» بأسوان وكيف يغمره النيل وقت الفيضان، من قصيدة يُخاطِب فيها الكولونل تيودور روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأسبق، وكان قد ألقى خطبة ينتقص فيها من قدر المصريين فرد عليه شوقي بهذه القصيدة:

أيها المُنتحي «بأسوان» دارًا
كالثُّريا تريد أن تنقضَّا
اخلع النعل واخفِض الطرف واخشع
لا تُحاوِل من آية الدهر غضَّا
قِف بتلك «القصور» في اليم غرقى
مُمسِكًا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفَين في الماء بضًّا
سابحاتٍ به وأبدَين بضَّا
مُشرِفات على الزوال وكانت
مُشرِفات على الكواكب نَهْضا
شابَ من حولها الزمان وشابَت
وشباب الفنون ما زال غضَّا
صنعةٌ تُدهِش العقول وفن
كان إتقانه على القوم فرضا
يا قصورًا نظرتُها وهْي تقضي٦٨
فسكبتُ الدموع والحق يُقضى
«أنت سطر ومجد مصر كتاب
كيف سامَ البِلى كتابَك فضَّا»
«وأنا المُحتفي بتاريخ مصر
من يصن مجد قومه صان عِرضا»

وقال في يناير سنة ١٩٢٣ بعد اكتشاف كنوز توت عنخ آمون يذكر عظمة مصر الخالدة:

قِفي يا أخت «يوشع»٦٩ خبِّرينا
أحاديث القرون الغابرينا
فمثلك من روى الأخبار طرًّا
ومن نسب القبائل أجمعينا

إلى أن قال يُشيد بحضارة قدماء المصريين وكيف بلغوا الشأو العظيم من المجد:

مشَت بمَنارهم في الأرض «روما»
ومن أنوارهم قبسَت «أثينا»
ملوك الدهر بالوادي أقاموا
على «وادي الملوك» مُحجَّبينا
تعالى الله كان السحر فيهم
أليسوا للحجارة مُنطِقينا؟
غدَوا يبنون ما يبقى وراحوا
وراء الآبدات مُخلَّدينا
إذا عمدوا لمأثرة أعدُّوا
لها الإتقان والخلق المتينا
وليس الخلد مرتبة تُلقَّى
وتُؤخَذ من شفاه الجاهلينا
ولكن مُنتهى هِمَم كبار
إذا ذهبَت مصادرُها بقينا
«وسرُّ العبقرية حين يسري
فينتظم الصنائع والفنونا»
«وآثارُ الرجال إذا تناهَت
إلى التاريخ خير الحاكمينا»
وأخذُك من فم الدنيا ثناءً
وتركُك في مسامعها طنينا

وقال مُخاطِبًا توت عنخ آمون:

سلامٌ يوم وارتك المنايا
بواديها ويومَ ظهرتَ فينا
خرجت من القبور خروج عيسى
عليك جلالة في العالمينا

ومن قصيدة أخرى له عن توت عنخ آمون وقد تخيَّله قد بُعث بعد أربعين قرنًا ورأى الاحتلال جاثمًا على صدر البلاد فحزن لما رآه وآثر العودة إلى قبره، والقصيدة من أروع ما جادت به قريحة شوقي في الإشادة بأمجاد مصر وفي المعاني الوطنية، قال في مطلعها مُخاطِبًا توت عنخ آمون:

قُم سابِق «الساعة» واسبِق وعدَها
الأرض ضاقت عنك فاصدع غِمدها
واملأ رماحًا غورَها ونَجدَها
وافتح أصول النيل واسترِدَّها
شلَّالها وعذبها وعِدَّها٧٠
واصرف إلينا جَزرها ومدها

إلى أن قال:

سافَر أربعين قرنًا عدَّها
حتى أتى الدار فألفى عندها
إنجلترا وجيشها ولوردَها
مسلولة الهندي تحمي «هندها»٧١
قامت على «السودان» تبني سدها
وركَّزَت دون «القناة» بندها٧٢

•••

فقال والحسرة ما أشدها
ليت جدار القبر ما تَدهدَها٧٣
وليت عيني لم تُفارِق رقدها
قم نبِّني يا «بنتئور»٧٤ مادها

•••

مصر الفتاة بلغَت أشُدها
وأثبت الدم الزكي رشدها
ولعبت على الحبال وحدها
وجرَّبَت إرخاءها وشدَّها

•••

يا رب قوِّ يدها وشُدها
وافتح لها السُّبل ولا تسدَّها
وقِس لكل خطوة ما بعدها
وعن صغيرات الأمور حُدَّها
واصرف إلى جِد الشئون جدها
ولا تُضِع على الضحايا جهدها
واكبح هوى الأنفس واكسر حقدها
واجمع على الأم الرءوم وُلْدها

وادي الملوك

وقال سنة ١٩٢٥في هذا المعنى يذكر توت عنخ آمون وحضارة عصره بعد أن اكتُشفَت كنوزه في «وادي الملوك»:

درجت على «الكنز» القرونْ
وأتت على الدنِّ٧٥ السنونْ
يا ابن الثواقب من «رعٍ»
وابن الزواهر من «أمونْ»٧٦
نسبٌ عريق في الضحى
بذَّ القبائل والبطونْ
أرأيت كيف يئوب من
غَمرِ القضاء المُغرَقونْ
وتدول آثار القرو
ن على رحا الزمن الطحونْ
حبُّ الخلود بنى لكم
خُلقًا به تتفردونْ
لم يأخذ المُتقدِّمو
ن به ولا المُتأخِّرونْ
حتى تسابقتم إلى الـ
إحسان فيما تعملونْ
لم تتركوه في الجليـ
ـل ولا الحقير من الشئونْ
هذا القيام فقُل لنا الـ
ـيوم الأخير متى يكونْ؟
البعث غاية زائل
فانٍ وأنتم خالدونْ
السبق من عاداتكم
أترى القيامةَ تسبقونْ؟
أنتم أساطين الحضا
رة والبناة المُحسِنونْ
المُتقِنون وإنما
يُجزى الخلودَ المُتقونْ

يتغنى بالنيل

نظم هذه القصيدة الرائعة يتغنى فيها بالنيل، فصوَّر الحياة للوادي وأهله، وأبدع في وصف روعته وجماله وجلاله، ثم انتقل إلى قدماء المصريين ومفاخرهم، وهي القصيدة التي تُغنِّيها أم كلثوم فتزيدها بهاءً وجمالًا:

من أي عهد في القرى تتدفقُ
وبأي كف في المدائن تُغدِقُ
ومن السماء نزلتَ أم فُجِّرت من
عليا الجنان جداولًا تترقرقُ
وبأي عين أم بأية مزنة
أم أي طوفان تفيض وتَفهقُ
وبأي نَولٍ أنت ناسج بُردة
للضفتَين جديدُها لا يخلقُ
تسودُّ ديباجًا إذا فارقتها
فإذا حضرت اخضَوضَر الإستبرقُ٧٧
أتت الدهور عليك مهدُك مُترَعٌ
وحياضك الشُّرُق الشهية دُفَّقُ٧٨
تسقي وتُطعِم لا إناؤك ضائق
بالواردين ولا خِوانك يَنفقُ٧٩
والماء تسكبه فيُسبَك عسجدًا
والأرض تُغرِقها فيحيا المُغرَقُ
تُعيي منابعُك العقول ويستوي
مُتخبِّط في علمها ومُحقِّقُ

إلى أن قال:

دينُ الأوائل فيك دين مروءة
لم لا يُؤَلَّه من يقوتُ ويَرزقُ
لو أن مخلوقًا يُؤَلَّه لم تكن
لسواك مرتبة الألوهة تُخلَقُ
جعلوا الهوى لك والوقار عبادة
إن العبادة خشية وتعلُّقُ
دانوا ببحر بالمكارم زاخر
عذب المشارع مدُّه لا يُلحَقُ
مُتقيِّد بعهوده ووعوده
يجري على سَنَن الوفاء ويصدقُ
يتقبَّل الوادي الحياة كريمةً
من راحتَيك عميمةً تتدفقُ

إلى أن قال يصف مهرجان وفاء النيل عند قدماء المصريين وكيف كانت «عروس النيل» تُقدَّم قربانًا له كل عام:

والمجد عند الغانيات رغيبة
يُبغى كما يُبغى الجمال ويُعشَقُ
إن زوَّجوك بهنَّ فهي عقيدة
ومن العقائد ما يَلبُّ ويَحمَقُ٨٠
ما أجمل الإيمان لولا ضلة
في كل دين بالهداية تلصقُ
زُفَّت إلى ملك الملوك يحثها
دين ويدفعها هوًى وتشوُّقُ
ولربما حسدَت عليك مكانها
تِربٌ تمسَّحُ بالعروس وتُحدِقُ٨١
مَجلوة في الفلك يحدو فُلكَها
بالشاطئَين مُزغرِد ومُصفِّقُ
في مهرجانٍ هزَّت الدنيا به
أعطافَها واختال فيه المَشرقُ
فرعونُ تحت لوائه وبناتُه
يجري بهنَّ على السفين الزورقُ
حتى إذا بلغَت مواكبها المَدى
وجرى لغايته القضاء الأسبقُ
وكسا سماءَ المِهرجان جلالةً
سيفُ المَنية وهو صلتٌ يَبرقُ
وتلفَّتَت في اليم كل سفينة
وانثال بالوادي الجموع وحدَّقوا
ألقت إليك بنفسها ونفيسها
وأتتك شيِّقةً حواها شيِّقُ
خلعَت عليك حياءها وحياتها
أأعز من هذين شيءٌ يُنفَقُ؟
وإذا تناهى الحبُّ واتفق الفِدى
فالروح في باب الضحية أليقُ

إلى أن قال يذكر النيل وأنه مصدر الحياة والحضارة لمصر والوادي:

أصل الحضارة في صعيدك ثابت
ونباتها حسَنٌ عليك مُخلَّقُ٨٢
وُلدَت فكنتَ المهد ثم ترعرت
فأظلَّها منك الحفيُّ المُشفِقُ
ملأت ديارَك حكمةً مأثورُها
في الصخر والبردي الكريم مُنبَّقُ٨٣
وبنت بيوت العلم باذخة الذُّرى
يسعى لهن مُغرِّب ومُشرِّقُ
واستحدثت دينًا فكان فضائلًا
وبناءَ أخلاق يطول ويَشهقُ٨٤
مَهَد السبيل لكل دين بعده
كالمسك ريَّاه بأخرى تُفتَقُ
يدعو إلى بر ويرفع صالحًا
ويَعاف ما هو للمروءة مُخلِقُ

وقال في ختامها:

يا نيل أنت بطيب ما نعت «الهدى»
وبمِدحة «التوراة» أحرى أخلقُ
وإليك يُهدى الحمدَ خلقٌ حازهم
كنفٌ على مر الدهور مُرهَّقُ٨٥
وعليك تُجلى من مصونات النُّهى
خودٌ عرائس خدرهن المُهرَقُ٨٦
الدر في لبَّاتهن مُنظَّم
والطيب في حبَراتهن مُرقرَقُ
لي فيك مدح ليس فيه تكلُّف
أملاه حبٌّ ليس فيه تملُّقُ

وفي الحق أنه لم يُوصَف النيل في عظمته وجلاله وماضيه وحاضره وخلوده بأبدع مما وصفه شوقي في هذه القصيدة.

نشيد النيل

ووضع نشيدًا جميلًا يتغنى به الشباب والمواطنون قال:

النيل العذبُ هو الكوثرْ
والجنة شاطئه الأخضرْ
ريَّان الصفحة والمَنظرْ
ما أبهى الخلد وما أنضرْ

•••

البحر الفيَّاض القدسُ
الساقي الناس وما غرسوا
وهو المِنوال لما لبسوا
والمُنعِم بالقطن الأنورْ

•••

جعل الإحسان له شرعا
لم يُخلِ الوادي من مَرعى
فترى زرعًا يتلو زرعا
وهنا يُجنى وهنا يُبذَر

•••

جارٍ ويُرى ليس بجاري
لأناة فيه ووقارِ
ينصبُّ كتلٍّ مُنهارِ
ويضجُّ فتحسبه يزأرْ

•••

حبشيُّ اللون كجيرته
من مَنبعه وبُحيرته
صبغَ الشطَّين بسُمرته
لونًا كالمسك وكالعنبرْ

النشيد الوطني

وفي سنة ١٩٢٠ وضع نشيدًا وطنيًّا أقرَّته اللجنة التي أُلِّفت في هذا العام لترقية الأغاني الوطنية قال:

بني مصر مكانكمو تهيَّا
فهيَّا مهِّدوا للملك هيَّا
خذوا شمس النهار له حليَّا
ألم تكُ تاج أولكم مليَّا

•••

على الأخلاق خُطُّوا الملك وابنوا
فليس وراءها للعز ركنُ
أليس لكم بوادي النيل عدنُ
وكوثرها الذي يجري شهيَّا

•••

لنا وطنٌ بأنفسنا نَقيه
وبالدنيا العريضة نفتديه
إذا ما سِيلَت الأرواح فيه
بذلناها كأن لم نُعطِ شيَّا

•••

لنا الهرم الذي صحب الزمانا
ومن حِدثانه أخذ الأمانا
ونحن بنو السَّنا العالي نمانا
أوائل علَّموا الأمم الرقِيَّا

•••

تطاوَل عهدهم عزًّا وفخرا
فلما آل للتاريخ ذُخرا
نشأنا نشأة في المجد أخرى
جعلنا الحق مظهرها العلِيَّا

•••

جعلنا مصر ملة ذي الجلالِ
وألَّفنا الصليب مع الهلالِ
وأقبلنا كصفٍّ من عوالي
يشد السمهريُّ السمهريَّا

•••

نقوم على البناية مُحسِنينا
ونعهد بالتمام إلى بنينا
نموت فداكِ مصر كما حيينا
ويبقى وجهك المَفديُّ حيَّا

نشيد الكشافة

نحن الكشافة في الوادي
جبريلُ الروحُ لنا حادي
يا ربِّ بعيسى والهادي
وبموسى خُذ بيد الوطنِ

•••

كشافة مصر وصِبيتها
ومناة الدار ومُنيتها
وجمال الأرض وحليتها
وطلائع أفراح المُدنِ

•••

نبتدر الخير ونستبقُ
ما يرضى الخالق والخُلقُ
بالنفس وخالقها نثقُ
ونزيد وثوقًا في المِحنِ

•••

في السهل نرِفُّ رياحينا
ونجوب الصخر شياطينا
نبني الأبدان وتبنينا
والهمة في الجسم المرنِ

•••

ونُخلِّي الخلق وما اعتقدوا
ولوجه الخالق نجتهدُ
نأسوا الجرحى أنَّى وُجدوا
ونُداوي مَن جرحَ الزمنُ

•••

في الصدق نشأنا والكرمِ
والعفة عن مسِّ الحُرمِ
ورعاية طفل أو هرِمِ
والذود عن الغيد الحصِنِ

•••

ونُوافي الصارخ في اللججِ
والنار الساطعة الوهجِ
لا نسأله ثمن المُهجِ
وكفى بالواجب من ثمنِ

•••

ربِّ فكثِّرنا عددا
وابذل لأبوتنا المدَدا
هيِّئ لهم ولنا رشدا
يا ربِّ وخذ بيد الوطنِ

نشيد الشباب

اليوم نسود بأيدينا
ونُعيد محاسن ماضينا
ونشيدُ العزَّ بأيدينا
وطنٌ نفديه ويَفدينا

•••

وطنٌ بالحق نُؤيِّده
وبعين الله نُشيِّده
ونُحسِّنه ونُزيِّنه
بمآثرنا ومساعينا

•••

سرُّ التاريخ وعنصره
وسرير الدهر ومنبره
وجِنان الخلد وكوثره
وكفى الآباء رياحينا

•••

نتخذ الشمس له تاجا
وضحاها عرشًا وهَّاجا
وسماء السُّؤدد أبراجا
وكذلك كان أوالينا

•••

العَصر يراكم والأممُ
والكرنك يلحظ والهرمُ
أبني الأوطان ألا هِممُ
كبناء الأول يَبنينا

•••

سعيًا أبدًا سعيًا سعيا
لأثيل المجد وللعَليا
ولنجعل مصر هي الدنيا
ولنجعل مصر هي الدنيا

وظل شوقي يتغنى بالوطنية ويُغرِّد للمواطنين والناطقين بالضاد جميعًا ألحان الحرية ويُسمِعهم أسمى معاني الإنسانية حتى أدركته الوفاة سنة ١٩٣٢، وظل شعره بعد وفاته وسيظل على الدوام رمزًا للحكمة والحرية والخلود.

١  عن التاريخ الثابت في شهادة الليسانس التي نالها الفقيد من كلية الحقوق بباريس.
٢  الأجبال: جمع جبل.
٣  يقصد نابليون.
٤  الإشارة هنا إلى سعيد الذي منح دلسبس امتياز القناة، ويريد بالزاخرَين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.
٥  مهار: جمع مهر، والمراد بالمهار هنا: الشباب. والمراد بشكيم القيصرية ولجامها: بطش الاحتلال وجبروته.
٦  يُشير إلى خطبة اللورد كرومر في الحفلة التي أقامها صنائع الاحتلال بدار الأوبرا تكريمًا له وأهان فيها المصريين.
٧  أي حكم المحكمة المخصوصة في قضية دنشواي.
٨  يريد الكبتن متشل مستشار وزارة الداخلية وكان يُشرِف على تنفيذ الحُكم.
٩  يريد سكة حديد الحجاز.
١٠  قس وسحبان خطيبان من أبلغ خطباء العرب.
١١  الجاني إشارة إلى مصطفى كامل؛ أي أنه ضحَّى بحياته وشبابه في سبيل مصر.
١٢  قاني: أحمر.
١٣  أي أن الحق تنطق به الأفواه ولا يستقر في القلوب.
١٤  الرجام: القبور.
١٥  السورة: الحدة والشدة. والندامى: جمع نديم والمراد بهم الأنصار والأصدقاء.
١٦  البغام: صوت الغلي.
١٧  أي يعود للفقيد فضل وتتجدد ذكراه كلما آبت الشمس وعاد القمر.
١٨  البيض: السيوف. والسمر: الرماح.
١٩  الخدر: الكسل.
٢٠  يريد البرلمان.
٢١  نادي المدارس العليا، وكان عمر لطفي رئيسه.
٢٢  الحادي هو الذي يُغنِّي للقافلة فتنشط في سيرها.
٢٣  الحاضر ساكن الحضر، والبادي ساكن البادية.
٢٤  بقراط هو أبو الطب.
٢٥  أي دعيت إلى الموت.
٢٦  الحتم المجابا هو الموت.
٢٧  يُشير إلى أنه كان في منفاه حين شبَّت الثورة.
٢٨  يقصد القضية الوطنية.
٢٩  أُصيبَ المرحوم أبو هيف بمرض بُترَت فيه ساقه وكان يمشي على ساق صناعية.
٣٠  الرقطاء: الحية.
٣١  هو التصريح الذي أعلنَته بريطانيا في ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢ وأقرَّت فيه بانتهاء الحماية على مصر وبالاعتراف باستقلالها واحتفظت فيه بتولي أمور أربعة تعصف بجوهر الاستقلال وهي: (١) تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. (٢) الدفاع عن مصر. (٣) حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات. (٤) السودان.
٣٢  منابع النيل بالسودان، وعُدة أي جنودًا، والضفاف ضفاف قناة السويس.
٣٣  الولى أي المُحِب والصديق.
٣٤  الخلاق: النصيب الوافر من الخير.
٣٥  ما أعيا أي ما أعجز عن إدراك حقيقته، ورهن بطي كتابه أي باقٍ في الحياة حتى ينتهي أجله.
٣٦  الناووس: القبر. والوثاب: السرير.
٣٧  قراب السيف: غِمده.
٣٨  نصبوا وردوا؛ أي ولوا وعزلوا الحاكمين.
٣٩  حابى وديون من أشخاص الرواية وكلاهما من أمناء مكتبة قصر كليوبرة.
٤٠  يريد الدستور.
٤١  استذرى: استظل.
٤٢  صلاح: اسم لمكة.
٤٣  الخرد: العذارى. والمُتخفِّرات: المستحييات، والخفَر هو الحياء.
٤٤  لا تلغ: لا تقُل باطلًا.
٤٥  سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما.
٤٦  الفتيات.
٤٧  المُعلَمون بفتح اللام: الفرسان لهم علامة في الحرب لبطولتهم.
٤٨  الجور والظلم.
٤٩  يريد المحتلين.
٥٠  يقصد السفينة.
٥١  يقصد مذهب الاستعمار الذي يضطهد الوطنيين وينفيهم ويمنعهم من التعبير عن آرائهم والإعراب عن آمالهم.
٥٢  الطلح: وادٍ بالأندلس بضاحية إشبيلية، يُخاطِب حمام هذا الوادي ويتمثله شبيهًا به في لوعته وغربته. وعوادينا أي عوادي الدهر ومصائبه.
٥٣  البين: البعد. والأيك: الشجر الكثير الملتف.
٥٤  الرفيف: الخصيب.
٥٥  المقة: المحبة.
٥٦  الرواقي: جمع راقية وهي ما يُرقى به الصبي درءًا للسحر.
٥٧  بنا: أي بعُدنا.
٥٨  شبَّه مصر حين اضطرت إلى نفيه بأم موسى عليه السلام حين ألقته في اليم صبيًّا وسألت الله أن يكفله.
٥٩  الغسلين: الصديد.
٦٠  الصادي: الظمآن.
٦١  أي أخا الدهر وقرينه فكأنه والدهر توأمان.
٦٢  يوم القيامة.
٦٣  يُشير إلى الانقسام الذي حدث سنة ١٩٢١ بين سعد وعدلي وأنصارهما وتصدعت بسببه الوحدة الوطنية.
٦٤  يريد الأهرام الثلاثة.
٦٥  الآراد: جمع رأد، يريد رأد الضحى؛ وقت ارتفاع الشمس.
٦٦  الملوك.
٦٧  يُشير إلى الكلمة التي قالها نابليون لجنوده قُبَيل معركة الأهرام سنة ١٧٩٨ يستحثهم على القتال: «إن أربعين قرنًا تنظر إليكم من فوق قِمَم هذه الأهرام.»
٦٨  تقضي: أي تفنى.
٦٩  الخطاب للشمس.
٧٠  العد: الماء الجاري.
٧١  الهندي: السيف. وهندها: أي الهند.
٧٢  البند: العلم.
٧٣  تدهده: انقض.
٧٤  بنتئور: شاعر مصري قديم.
٧٥  الدن: باطية الخمر.
٧٦  رع وأمون من آلهة مصر القديمة.
٧٧  الديباج والإستبرق: ثوب الحرير.
٧٨  الشُرُق: الغرقى.
٧٩  ينفق: يفنى أو يقل.
٨٠  يلب: أي يصير لبيبًا.
٨١  التِرب: من وُلِد مع الإنسان، الجمع أتراب وأكثر ما تستعمل في المؤنث، يقال: هذه تِرب فلانة.
٨٢  مُخلَّق: مُتطيِّب.
٨٣  منبق: مُصطف.
٨٤  يشهق: من شهق الجبل؛ ارتفع.
٨٥  المرهق: كثير غشيان الناس والأضياف.
٨٦  المهرق: الصحيفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤