الشيخ علي يوسف

هكذا تقوم القيامة، وهكذا ينفخ في الصور، وهكذا تطوى السماء طي السجل للكتاب.

أفيما بين يوم وليلةٍ يصبح هذا الرجل — الذي كان ملء الأفئدة والصدور، وملء الأسماع والأبصار، وملء الأرجاء والأجواء — جثة ضاوية نحيلةً، مدرجةً في كفنٍ، ملحدةً في مهوًى من باطن الأرض سحيق؟

ما أعظم الفرق بين الحياة والموت! تغرب الشمس فلا تلبث أن تطلع من مشرقها، وتتراكم السحب فوقها فلا تلبث أن تنفرج عنها حينما تهب عليها الرياح الباردة، وتعرى الأشجار عن أوراقها ثم تعود إلى جمالها مخضرة حينما تهب عليها نسمات الربيع، وينام الأحياء في مضاجعهم حتى إذا طلع عليهم الكوكب النهاري وعبثت أشعته بأهداب جفونهم، قاموا من مراقدهم وذهبوا في سبلهم التي خلقوا لها، ويموت الميت فلا ينتظره منتظر، ولا يؤمل أوبته آمل، فكأن ما صار إليه «العدم الذي لم يسبقه وجودٌ».

اللهم إنا نعلم أنَّ الموت غاية كل حيٍّ، وأنَّ مقاديرك التي تجريها بين عبادك ليست سهامًا طائشةً، ولا نياقًا عشواء، وأنَّ ورود الحياة لا يمكن أن تنبت إلا في التربة التي نبتت فيها أشواك الموت، ولكننا لا نستطيع أن نملك عيوننا من البكاء، ولا قلوبنا من الجزع إذا فارقنا عزيزٌ علينا؛ لأن ساحة الصبر التي منحتنا أضيق من أن تسع نازلة البلاء الذي ابتليتنا، فاغفر اللهم لنا جزعنا وبكاءنا على الهلكى والذاهبين.

اللهم إنك تعلم أنا نسير من حياتنا هذه في صحراء محرقةٍ لا نجد فيها ظلًّا نستظل به، ولا أكمة نأوي إليها، وأنَّ الصديق الذي نعثر به في طريق حياتنا هو بمنزلة الدوحة الخضراء التي ننتهي إليها في تلك الصحراء بعد الأين والكلال، وطول السير والسرى، فنترامى في ظلالها الوارفة هانئين مغتبطين، فإذا هبت ريحٌ عاصفة على تلك الدوحة فاقتلعتها من جذورها وطارت بها في جو السماء، وأصبحنا من بعدها ضاحين بارزين فإنا لا نجد بدًّا من البكاء والجزع؛ لأن من الشقاء ما لا يستطاع احتماله ولا يطاق تجرع كأسه.

لقد كان هذا الرجل العزاء الباقي لنا عن كل ذاهب، والنجم المتلألئ الذي كنا نتنوره من حينٍ إلى حين في هذه السماء المظلمة المدلهمة المقفرة من الكواكب والنجوم، والدوحة الخضراء التي كنا نلوذ بظلالها من لفحات هذه الحياة وزفراتها. فنحن إن بكيناه فإنما نبكي الأمل الذاهب، والسعادة الراحلة، والحياة الطيبة، ومن هو الأولى بالتفجع والبكاء من سعادتنا وآمالنا!

ما كنا نرجو لهذه الأمة غير هذين الرجلين: ميت الأمس الشيخ محمد عبده، وميت اليوم الشيخ علي يوسف، فقد كانا لها طودين شامخين رابضين على أكنافها. يمسكها الأول أن تزل بها مزالق المدنية الخالبة فيذهب دينها، ويمسكها الثاني أن تطير بها أحلام السياسة الكاذبة فتذهب جامعتها. واليوم لا نرجو لها من بعدهما أحدًا، فويل للأمة في دينها، وويل لها في جامعتها.

العلماء والخطباء والكتاب في هذه الأمة كثيرٌ، ولكن الرجال قليل.

إنما ينفع الأمة ويضطلع بخطوبها ويحمل أعباءها على عاتقه، الرجل الذي يشعر من نفسه بأنه ينزل منها منزلة رئيس الأسرة من أسرته التي يعلم أنه مأخوذ بالقيام عليها والسعي لها، فيقوم لها بكل ما تريد، ويسعى لها سعي الكادح المجد، ويرحم صغيرها، ويحنو على كبيرها، ويحتمل مغارمها، ويغتفر عبث أطفالها وجهل شيوخها. ويرى لها في كل شأن من شئونها خيرًا مما ترى لنفسها، أرضاها ذلك أم أغضبها، من حيث لا يمن عليها بذلك، ولا يطلب عندها جزاءً ولا أجرًا. بل من حيث لا تعلم ما يلاقي بينه وبين نفسه من آلام الحياة، وما يعالج من شدائدها في سبيلها.

وكذلك كان شأن الشيخ علي يوسف في أمته، فقد مات بموته آخر من بقي لها من الرجال.

لقد كان الذين يعرفونه أقل من الذين يجهلونه؛ لأن الذين ينظرون ببصائرهم أقل من الذين ينظرون بأبصارهم، ولأن الحقيقة الكامنة في سويداء قلبه كانت أعمق مكانًا، وأدق مسلكًا، من أن تتناولها النظرة الطائرة، ولأنه كان مخلصًا متحنثًّا، يعمل في سره أكثر مما يعمل في علانيته، ثم لا يَدُلُّ بنفسه في كلتا الحالتين على نفسه.

رأيته في حادثة الأزهر — في تلك الأيام التي كان يظن فيها كثيرٌ من الناس أنه حرب على الأزهر والأزهريين — يقضي كثيرًا من لياليه مترددًا على أبواب القائمين بالأمر ضارعًا إليهم أن ينيلوا هؤلاء القوم مطالبهم أو بعض مطالبهم، قائلًا عنهم ما كان يقوله النبي عن فئة حنين: «اللهم إن تهلك هذه الفئة فلن تعبد بعد اليوم على ظهر الأرض أبدًا.» فلا يقف في سبيله إلا حماقة أولئك الذين كان يظن المساكين أنهم أصدقاؤهم وهم أعدى أعدائهم.

ورأيته يضم إلى كنفه كثيرًا من أصدقائه الذين نبا بهم الدهر بعد سقوط دولة «عبد الحميد» وتنكر لهم الناس جميعًا، خصوصًا أولئك الذين كانوا يزدلفون إليهم أيام إقبالهم، ويمرغون وجوههم على أعتاب قصورهم، وكان يلاقي في سبيل ذلك من عتب العاتبين عليه ولوم اللائمين له ما لا يستطاع احتماله، فلم يبالِ بشيء من ذلك.

ورأيت كثيرًا من أعدائه الذين كانوا في بعض أيام حياتهم حربًا عليه وشقاءً له يعودون إلى حظيرته واحدًا بعد آخر يستغفرونه، فيجلس إليهم ويتحدث معهم حديث المودة والإخاء، كأنما كانوا معه على ميعاد.

وما رأيته في يوم من أيام حياته حاقدًا ولا واجدًا، ولا منتقمًا، ولا طالبًا بثأر، ولا ذائدًا عن نفسه إلا في الساعة التي يعلم فيها أن قد جَدَّ الجِدُّ، وأن قد أصبح عِرضه وشرفه على خطر. ولم أرَ سائلًا دخل إليه يشكو حاجةً من الحاجِ صادقًا كان فيها أم كاذبًا، ويسأله المعونة عليها من ماله أو جاهه إلا أعانه عليها ما وجد إلى ذلك سبيلًا، رحمة وإشفاقًا، لا رياء ونفاقًا. وكان يرى الرأي ويرى الناسُ جميعًا غيرَه فلا يثنيه عنه ثانٍ حتى ينحدر ستر الغيب عن وجه المستقبل، فإذا هو مصيب والناس جميعًا مخطئون.

ففي سبيل الله يا علي ما فقدنا بفقدك، وفي ذمة الله وجواره تلك الروح الطيبة الطاهرة التي عاشت ما عاشت في هذه الدنيا سرًّا كامنًا بين أحناء ضلوعك، لا يكتنهها ولا يستشف باطنها إلا قليلٌ من الناس. فما رآها الناس جميعًا رأي العين إلا وهي طائرة في جو السماء إلى ربها. وكذلك شأن هذه الأمة البائسة المحدودة، لا ترى رجالها ولا تعرف مكانهم ولا تشعر بعظمتهم إلا وهم ذاهبون إلى قبورهم حيث تنقطع الصلة بينها وبينهم. فمثلها ومثلهم كمثل صاحب الدار الذي يجهل أنَّ في أرضها كنزًا مخبوءًا، حتى إذا باعها ممن يستخرج ذلك الكنز منها جلس إلى ظل حائطها يبكي بكاء البائس المحزون.

لقد كنت يا علي مثل الحقيقة ينتفع الناس بوجودها ولا يفهمونها. بل كنت أفضل من الحقيقة؛ لأن الحقيقة يخدمها أعداؤها وأصدقاؤها، أما أنت فكنت تخدم أصدقاءك وأعداءك. أما الأولون؛ فلأنك كنت تحسن إليهم بجاهك أو بمالك أو برأيك. وأما الآخرون؛ فقد كانوا يقتاتون من تلك القطرات من الدماء التي كانوا يستقطرونها من عِرضك وشرفك، فويل للفريقين معًا من بعدك! وكنت القطب الذي تدور حوله رحى الأقلام في هذا البلد، فقد كانت وظيفة الكتاب أن يشرحوا آراءك، أو يفسروا كلماتك، أو يكتنهوا مقاصدك، أو يوافقوك أو يخالفوك، أو يمدحوك أو يذموك. فإن كتبوا في شأنٍ من الشئون غير هذا فتروا واستبردوا. فواضيعة الأقلام، وما أضيق مذاهب الكتاب بعد رحيلك! وكنت العصمة التي تعتصم بها الأمة في مواقف بؤسها وشقائها، ومواطن خطوبها وكروبها، وما أحسب إلا أنَّ الدهر مدخر لها من ذلك في مستقبل أيامها أكثر مما ادخر لها في ماضيها، فما أكثر شقاءها وبلاءها بعد اليوم!

أيها الراحل الكريم: لقد كنت أرجو أن أجد بين جنبيَّ بقيةً من الصبر أغالب بها هذا الحزن الذي أعالجه فيك حتى يبلى على مدى الأيام كما يبلى الكفن لولا قدرٌ أبعدني عن موطنك في آخر أيام حياتك، فأحرمني جلسة أجلسها بجانب سريرك أسمع فيها آخر كلمةٍ من كلماتك، وأرى آخر نظرةٍ من نظراتك. وحال بيني وبين خطوةٍ أخطوها تحت نعشك أجزيك فيها ببعض ما خطوت لي في حياتك من الخطوات الواسعات، ووقفةٍ أقفها عند قبرك ساعة دفنك أذرف فيها على تربتك أول دمعةٍ يذرفها الباكون عليك، فلئن بكيت موتك يومًا فسأبكي حرماني وداعك أيامًا طوالًا حتى يجمع الله بيني وبينك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤