المرقص

إن كان حقًّا ما يقولون من أن الكاتب لا يجمل به أن يصف مشهدًا من المشاهد، أو يحدث عن موقف من المواقف إلا إذا رآه بنفسه واضطلع به وأحاط علمًا بحقيقته، فقد أُسقط في يدي، وارتقيت في هذه النظرة مرتقًى صعبًا، واستحال عليَّ أن أكتب في هذا الموقف الذي أحاول الكتابة فيه سطرًا واحدًا؛ لأني لا أعرف من تقويم «الأزبكية» أكثر من أنها بقعةٌ واقعةٌ بين بساط الغبراء وقبة السماء.

ولولا أنَّ الله أعانني بصديقٍ من أصدقائي زار المرقص مرة واحدة في حياته ووصف لي المشهد الآتي من مشاهده لنفضت يدي منه نفض المودع يده من تراب الميت، فرارًا من تهكم المتهكمين، وسخرية الساخرين!

حدث ذلك الصديق قال: «ذهبت ذات ليلةٍ إلى مرقص من مراقص الأزبكية، فرأيت على بابه جنديًّا يتمشى في عرصته مشيةً هادئةً مطمئنة، فذعرت لمرآه، وتراجعت قليلًا قليلًا، وكدت أعتقد أنني أخطأت الطريق إلى المرقص، وأنني بين يدي دارٍ من دور الحكومة يحرسها حاجبها، لولا أنني لم أرَ في وجوه الداخلين ذلك الخوف والاضطراب، والذل والانكسار الذي اعتدت أن أراه في وجوه الشاكين والمتظلمين.

وقفت ساعةً أتردد بين الإقدام والإحجام حتى لمس كتفي لامسٌ، فالتفتُّ ورائي، فإذا صديقٌ من أصدقائي يسألني: «ما وقوفك هاهنا؟» فقلت له ما قاله أبو العيناء لصاحبه حينما سأله عن سبب بكوره: «أراك تشاركني في الفعل وتفردني بالعجب!» قال: «أنا أفتش عن ابن عمي.» قلت: «وأنا أفتش عنك.» فابتسم ابتسامة المتهكم، وقال: «هيا بنا ندخل قبل أن تمتد سلسلة التفتيش إلى حيث لا تنتهي حلقاتها!» وأمسك بيدي حتى جاز بي باب المرقص، فسألته: «ما هذا الجندي الواقف أمام الباب؟» قال: «كيف ذهب عليك أن حكومتنا قد أصبحت اليوم حكومةً مدنية مادية، لا أدبيةً ولا دينية، فتساوت في نظرها «المصالح» والمراقص، واختلط عليها الأمر بين مواقف القضاء، ومعاهد البغاء، فأصبح الجندي يحمي أبواب العاهرات، كما يحمي أبواب النظارات، ويقف أمام البارات موقفه أمام الإدارات.

وإنَّ العين لا تكاد تملك مدامعها سحًّا وتذرافًا كلما أبصرت هذا الجندي الشريف واقفًا هذا الموقف الذليل يسمع قراع الدفوف لا قراع السيوف، ويرى حمرة الصهباء لا حمرة الدماء، ويحمي الفسق والفجور لا القلاع والثغور، وما أعجب لشيءٍ عجبي لهذه الحكومة التي تضن بجنديها أن يشتمه شاتمٌ أو يلمسه لامسٌ، فتغضب له غضبةً مضريةً تتراءى فيها الشهامة والحمية، والعزة والنخوة، ثم لا تضن به أن تؤجره نائحةً في الجنائز، أو قوادًا في المراقص، وهو هو بعينه الذي يمثلها في وقفاته، وينوب عنها في غدواته وروحاته!» وهذا ما كان يحدثني به ذلك الصديق، وهو سائر بي إلي قاعة المرقص حتى وصلت إليها فماذا رأيت؟

إن كنت لم تسمع في حياتك أنَّ فدانًا واحدًا من الأرض يبتلع في جوفه ستة ملايين من الأفدنة فاعلم أنه المرقص الذي يأكل وحده جميع ما تنبته تربة مصر من الخيرات والبركات، فكأنه العين التي تسع الفضاء بأرضه وسمائه، أو القلب الذي يحمل في سويدائه علم ما كان وما يكون.

رأيت الدنانير ذائبة في الكئوس، والعقول جامدةً في الرءوس، والحبائل منصوبة لاستلاب الجيوب، والسهام مسددةً لاصطياد القلوب، ورأيت من كنت أحسبه أوفر الناس عقلًا وأذكاهم قلبًا ومن كنت أراه فأغضي بين يديه إجلالًا وإكبارًا واقعًا في حبالة بغيٍّ تقيمه وتقعده، وتطويه وتنشره، وتعبت به عبث الطفلة بلعبتها، وهو في غير هذا المكان قيصر الروم عزةً وفخارًا، وكسرى فارس أنفةً واستكبارًا!

رأيت من يزعم أنَّ الله قد وهبه عقلًا تخترق أشعته حجب الغيب، وعلمًا تتساوى أمامه المادة وما وراءها، ومن لا يزال يتمثل صبحه ومساءه بقول الشاعر:

وعلمت حتى ما أسائل واحدًا
عن حرف واحدةٍ لكي أزدادها

يجهل بديهيةً من البديهيات التي يشترك في فهمها الأذكياء والأغبياء، والعلماء والجهلاء.

رأيته يجلس في المرقص، فتمر به البغي، فما هي إلا لمحة طرف، أو غمزة كف، حتى تحدثه نفسه أنه قد وقع من نفسها، وملأ فراغ قلبها، فيدعوها إليه فتجلس بجانبه، فما هي إلا ابتسامةٌ خالبة، وكلمة كاذبة، حتى يقسم بكل محرجة من الأيمان، أن نفسه صادقة فيما حدثته، وأنَّ الفتاة علقت بحبه علوقًا لا نجاة لها من بعده إلى يوم يبعثون.

هنالك يبذل لها ما تشاء من نفسه وشرفه وماله، ويرى أنَّ ذلك قليل في جانب ما تبذل له من دقائق تقضيها بين يديه، وابتساماتٍ تجود بها عليه.

لقد كذبتك نفسك أيها الرجل، فها هي ذي المرآة بجانبك، فهل ترى فيها منظرًا رائعًا أو جمالًا ساطعًا يأسر أقسى النساء قلبًا وأعصاهن عنانًا؟

إنَّ الفتاة التي أسمعتك كلمة الحب قد أسمعتها قبلك — وستسمعها بعدك — كل صاحب جيبٍ مثل جيبك، وعقلٍ مثل عقلك.

إن كنت في شك مما أقول، فأمسك عن فتح الزجاجات لحظةً قصيرة، ثم انظر بعد ذلك أين مكانك من نفسها، وموقعك من قلبها؟ فإن لم تمطر عليك سحائب اللعنات، وتجعلك غرضًا لسهام التهكمات، فأنت أصدق الصادقين، وأنا أكذب الكاذبين!

رأيت هنالك كل حاسةٍ من الحواس قد لبست منظارًا يكبر المنظورات، ويضاعف المسموعات، تغني المغنية بصوت مضطرب النغمات، بارد الترجيعات، ثقيل الحركات والسكنات، فتمتلئ أرجاء القاعة بالآهات، وتدوي فيها الصيحات المزعجات، وتطل العجوز الدردبيس على الناس بوجهٍ مغضن، وجفنٍ مقرح، وسن بارز، وخد غائر، فتطير حولها القلوب، وتتحلب لها الأفواه، وتترامى تحت أقدامها الوجوه! فقلت في نفسي: «أهذا هو المرقص الذي تخرب فيه البيوت العامرة، وتذبل فيه الرياض الزاهرة؟! أهذا هو الذي تتدفق فيه الأموال الغزار تدفق الأنهار في البحار، وتقبر فيه نفوس الكرام، قبل أن تقبر تحت الرغام؟! والله لا يبلغ العدو منا بخيله ورَجْلِه، وأساطيله وقنابله، ولا تبلغ السماء منا بصواعقها ورجومها، ولا الأرض بزلازلها وبراكينها، ما يبلغ منا المرقص ببغاياه!»

قال المحدث: «والحق أقول إني دخلت المرقص وأنا أحسب أني أنفس عن نفسي كربةً، فرأيت ما زاد نفسي همًّا، وملأ قلبي غيظًا، فقلت لصاحبي: «هل لك في القيام؟» فقام وقمت، وأنا أقول: والله ما أدري ما ترك هذا المكان للبيمارستان!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤