ماذا بعد؟

وقع الكثير من الأحداث منذ نشر الكتاب للمرة الأولى في عام ٢٠١٢؛ ففيما يتعلق بموضوع إخفاء التجارِب، هناك بداية لحركة شعبية قد تؤدِّي إلى تغييرٍ حقيقي، بمساعدتك، كما سنرى. ولكن بدايةً، ربما يكون من المُجدي أن ننظر إلى ردود الأفعال تجاه هذا الكتاب؛ ففي حين أن ردود الأفعال كان بعضها سخيفًا، فإن معظمها كان شديد العقلانية (مع وجود بعض الاستثناءات البارزة). إذا كنت تعمل في صناعة الأدوية، أو حتى في مجال الطب، فإنك ستجد الكتاب ثقيل الوطأة عليك؛ وهذه الاستجابات الخلافية كانت مُشجِّعة بحقٍّ بالنسبة إليَّ.

كان رد فعل الأطباء والأكاديميين، في الخطابات ورسائل البريد الإلكتروني والحوارات وفي الأحداث العامة، إيجابيًّا وعمليًّا، وفي الوقت نفسه متحمسًا لإصلاح المشكلات الموجودة في المجال. ومن كانت لديهم مخاوف، في الغالب، كان لديهم القليل من الاعتراضات المهمة على المحتوى. وسيكون من انعدام اللياقة أن أخاطب أفرادًا بعينهم في كتاب؛ حيث لن يستطيعوا الرد عليَّ، ولكنني أستطيع أن أعطيَك لمحةً من تلك المخاوف التي أعربوا عنها.

شعر البعض أن من الخطأ أن نُخيف المرضى بإخبارهم بالمشاكل الموجودة في الطب. وأعتقد، من وجهة نظري، أن هذه مسألة ثقافة؛ فهناك توجُّهان نحو نشاط «إشراك الجمهور» في العلم. ينطوي التوجُّه الأول على إخبار الجميع بمدى روعة العلم، من خلال الصور الملوَّنة للجزيئات والمجرة والانفجارات المثيرة وما إلى ذلك. أما التوجُّه الثاني فهو أكثر تشاركيةً؛ إذ ينطوي على مناقشة المشاكل والعيوب والتحديات، بحيث يستطيع الجمهور المستنير مساعدتنا في تجاوز العقبات التي تَحُول بيننا وبين التغيير. وأنا أؤيد بشدةٍ التوجُّه الثاني؛ وذلك أساسًا لأنك تعرف — بعد مقابلة الكثيرين من مؤيديه بوصفك طبيبًا — أن الجمهور ليس غبيًّا. وهذا الكتاب به شرح واضح، للجمهور العادي، للمشكلات الموجودة في الطب التي نوقشت على نطاقٍ واسع ووُثقت في الدوريات الأكاديمية منذ سنواتٍ عديدة. أعتقد أن علينا واجبًا يتمثل في مشاركة المشاكل الموجودة في العلم، خصوصًا إذا كنا قد فَشِلنا في حلها بأنفسنا؛ وأعتقد أننا نحتاج لمساعدة الجمهور كي نُحقِّق التغيير.

اعترض البعض على لهجة الكتاب، في بعض الأجزاء؛ فعلى سبيل المثال، تساءل أحد الأطباء البريطانيين الكبار جدًّا، الذي لن أذكر اسمه، عما إذا كان من الضروري حقًّا أن نستخدم مصطلحات «تحريضية» مثل «المعاناة والموت اللذين يمكن تجنُّبهما»، في حين أن الكلمتين الصحيحتين هما «الأمراض والوَفَيَات». وقد التصق هذا التعليق بذهني، لأنه يخبرنا بالكثير عن أسباب بقاء المشاكل القابلة للحل المذكورة في هذه الصفحات دون حلٍّ لمدةٍ طويلة جدًّا؛ لقد سمحنا للعالم المُجرَّد الخاص بأحجام التأثير والمخططات الغابية والنتائج الإكلينيكية الأساسية بأن يكون بمعزلٍ عن العالم الحقيقي الذي نجد فيه المعاناة والفقد والموت.

لا ينبغي أن نندهش من ذلك؛ فعلى غرار الكثير من الأطباء، لا شك أنني صُدمت من بعض التجارِب التي مررت بها في بداية مسيرتي المهنية؛ فعندما تنحني على مريضٍ في قسم الحوادث والطوارئ، محاولًا إنقاذ حياته، تكون مُركزًا بنحوٍ كامل على المهمة التي بين يديك. ويتسرب إليك من الناحية الأخرى من الستار، صوت الزوج أو الزوجة وهي تنتحب وتنوح، بعد أن عرفت أن الشخص الذي أحبَّته وعاشتْ معه لمدة خمسين عامًا يُحتضَر، وتتوسل إلى طاقم العمل أن يبذلوا كل ما في وسعهم لإنقاذه، وتستمع إلى صوتها وهي تتصل بأولاده هاتفيًّا، مُحاوِلةً أن تبلغهم الخبر المُريع وسط دموعها المنهمرة، مُطالِبة إياهم بالحضور بسرعة. لديَّ ذكريات من غرف الطوارئ لن أستطيع نسيانها ما حييت، وهي لا تزال تؤرقني حتى الآن. ولكن هذه اللحظات كلها بخصوص حالة وفاةٍ واحدة فحسب.

إننا نتعلم، في الطب، أن نُنحِّيَ هذه المشاعر جانبًا؛ كي نتمكن من إتمام مَهمتنا. أما في مجال البحث، فلدينا تحدٍّ معاكس: إننا نحتاج لأن نبذل جهدًا كبيرًا كي نُعطيَ للأرقام المحتوى العاطفي الذي تستحقه. وهذا ليس صحيحًا فقط في نطاق المشاكل المعروضة في هذا الكتاب، ولكن أيضًا في نطاق تدريس الطب المستند إلى أدلة. يُرجى الرجوع إلى الفصل الأول من الكتاب وإلقاء نظرةٍ على المخطط الغابي الخاص بشعار مؤسسة كوكرين. هذا المخطط المُجرد يُحدِّثنا عن وقائع مُروِّعة: آباء لأطفال كافحوا من أجل التقاط أنفاسهم ولكنهم في النهاية ماتوا، بكل ما تنطوي عليه هذه الأحداث من معاناةٍ وذُعْر وفَقْد وألم. لا أحد ممن يُدرس له هذا المخطط في كلية الطب يمر بواحدٍ بالمائة من هذا الأثر النفسي من جرَّاء الاطلاع عليه مقارنةً بما يشعر به عند إخبار أمٍّ بأن ابنها قد مات. ومع ذلك فهذا المخطط يُعَد تمثيلًا دقيقًا لهذه المعاناة، ولكن على نطاقٍ أوسع.

ولهذا السبب، عندما أتحدث عن «الأمراض» و«الوَفَيَات» اللتين يمكن تجنُّبهما — الناتجتين عن المشاكل الموجودة في نُظُمنا المجردة المعنية بجمع الأدلة وتركيبها ونشرها وتطبيقها — سوف أستخدم دائمًا كلمتي «المعاناة» و«الموت» لأنهما فحسب يمكنهما — ولو بنسبةٍ ضئيلة — أن تحثَّانا على الشعور بالمشاعر التي ينبغي أن نشعر بها. وهذه هي الطريقة التي سنتغلب بها على تهاوننا وتجعلنا نُحسِّن من أوضاعنا.

تعليق آخر جاء أساسًا من الأطباء العاملين في صناعة الأدوية. يجب أن نوضح، مرةً أخرى، أن هؤلاء أفراد صالحون ومراعون للآخرين في الأغلب الأعم. وقد شعروا بالحزن بحجة أن الكتاب لا يُعطي الأشخاص الذين حاولوا حل هذه المشكلات وفَشِلوا، خصوصًا في المملكة المتحدة، على مدار الثلاثين عامًا الماضية؛ حقَّهم. وفي هذا الصدد، لا أستطيع أن أقاوم رغبتي في الإشارة إلى ما جاء في نص الكتاب: هناك أجزاء في الفصل الأول تغطي بعض هذه المحاولات الفاشلة، وهذا يكفي القارئ العادي، الذي سرعان ما ينتقل إلى شيءٍ أكثر بهجة. إن التمرير الناجح في الولايات المتحدة لتشريعٍ مُهم يطالب بنشر جميع النتائج في موقع clinicaltrials.gov في غضون سنةٍ من إكمال التجارِب — والعجز اللاحق عن تطبيق هذا التشريع أو مراقبة تنفيذه — أهم بكثيرٍ من الجهود المحمودة، ولكن الفاشلة، التي بذلها بعض الأشخاص في المملكة المتحدة في تسعينيات القرن العشرين. وأتمنى لو أنهم ينشرون يومًا ما تاريخ كفاحهم في هذا الشأن، والذي أعد بأنني سوف أقرؤه.

أما الأشخاص العاملون في الصناعة الأقل مراعاةً للآخرين، فإنهم قالوا في بعض الأحيان: «كيف تقول إن هذه المشاكل تضر المرضى، في حين أن الأدوية لا بد أن تكون دائمًا أفضل من العلاج الوهمي ما دامت قد طُرِحت في السوق؟» هذا يَشي بقدرٍ هائل من انعدام الطموح، ولكنه يفسر، في اعتقادي، كيف تَمكَّن الناس من تبرير الترويج لأدويةٍ ضئيلة الجودة. فلْنتخيلْ أن هناك علاجين، كلاهما يكلفك المبلغ نفسه، لكن أحدهما يُنقذ حياة ستةٍ من كل مائة شخصٍ يتناولونه، والآخر ينقذ حياة ثمانية. فأيَّهما تريد؟ إن كليهما أفضل من لا شيء. عند إلقاء نظرةٍ شاملة على المشاكل، أعتقد أن العلاجات التي ضررها أكثر من نفعها نادرةٌ للغاية. ولكن مرة أخرى، هذا سقف طموح شديد الانخفاض. إننا نُدفَع في العادة دفعًا إلى إعطاء الناس ثانيَ أفضل علاجٍ في فئةٍ معينة، من خلال توليفةٍ من التجارِب السيئة الإعداد، والتجارِب التي لم تُجرَ على الإطلاق، والنتائج المخفية، والنشر المتحيِّز للأدلة عبر التسويق العدواني. وعندما يحدث هذا، يتأذَّى المرضى. إن حالهم ليست أسوأ مما لو كانوا قد وُلِدوا في العصر الحجري بالطبع، ولكنهم فقط أسوأ حالًا مما ينبغي أن يكونوا. لِنضربْ مثلًا على ذلك، إذا وُجد ثمانية أشخاصٍ مقيدين على قضيب سكةٍ حديدية، وهناك قاطرة بطيئة جدًّا ستسحقهم واحدًا تلو الآخر، وقمتُ أنا بفك قيود الستة الأوائل فقط قبل أن أتوقف لأكافئ نفسي على إنجازي، فسوف تظن — وأنت مُحق في ذلك — أنني آذيت الشخصين الآخرين. الدواء لا يختلف عن ذلك.

الأشخاص أنفسهم يشعرون أحيانًا بأنني لا أقر بما يكفي بأن الصناعة قد قدَّمت بعض الأدوية الجيدة. سوف أقول ذلك مرةً أخرى: لقد قدَّمت الصناعة بعض الأدوية الجيدة.

أحد كبار الأطباء قال لي بصدد موضوع التجارِب المخفية (وأنا أقتبس كلامه حرفيًّا): «انظر، أيها الفتى الكبير، إننا كنا نعمل بجدٍّ لإصلاح هذه المشكلة خلف الأبواب المغلقة. فهل كان من الضروري حقًّا صنع كل هذه الجلبة، وإخافة العامة؟» لقد كنا حينها نقف في غرفةٍ مغطاةٍ جدرانُها بألواحٍ مصنوعة من خشب البلوط. مرةً أخرى، أنا مُلزَم بأن أقول إننا لم نكن نصلح هذه المشكلة خلف الأبواب المغلقة؛ فنحن لم نفعل ذلك. كنا نحتاج لمساعدة العامة والمحامين وموظفي الخدمة المدنية ومُنظِّمي الحملات والسياسيين والصحفيين وغيرهم. وقد بدأنا الآن الحصول على هذه المساعدة، وعلينا أن نَسعد بذلك؛ لأننا فَشِلنا؛ فَشِلنا في أن نُعطيَ هذه المشكلة الأولوية، وفَشِلنا في حلها.

بالمثل، لعلك تتذكر ما قُلناه عن المجموعة المعنية بالمعايير الأخلاقية في علوم الصحة والحياة، التي يشارك في رئاستها رئيس كلٍّ من اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية والكلية الملكية للأطباء. أنتجت المجموعةُ الوثيقتين اللتين ناقشناهما في الخاتمة، واللتين تزعمان (على نحوٍ خاطئ تمامًا) أن نتائج التجارِب متاحة، وما إلى ذلك. شُنت حملة مؤثرة بقيادة طلاب كليات الطب في موقع badguidelines.org ضد هاتين الوثيقتين، وكان أقلُّ ما يقال عن رد الفعل تجاه هذه الحملة أنه متفاوت؛ إذ حذفت الجمعية الطبية البريطانية ودورية «ذا لانست» اسمهما من على الوثيقتين، وهذا شيء مُطَمْئن، ولكن لم تفعل الجهات الأخرى الموقِّعة عليهما ذلك، وظلت الوثيقتان على الإنترنت، مميَّزتين حاليًّا بعبارة «قيد المراجعة»، دون اتخاذ أي إجراءٍ لمدة نصف عام. خوطبت جميع المؤسسات التي وقَّعت على هاتين الوثيقتين، ورفضت جميعها تقريبًا توضيح كيفية أو أسباب توقيعها على سلسلةٍ من العبارات الكاذبة. لقد أوضحتُ على مدار الكتاب أنَّ تَعاوُن الأطباء مع صناعة الأدوية شيء جيد (على الأقل، أنت تتفق معي في أنه شيء حتمي) ولكن هناك مخاطر علينا أن نتعامل معها؛ هناك احتياج واضح لوجود إرشاداتٍ جيدة مستندة إلى الأدلة، ومن المُخجِل أن أبرز المؤسسات الطبية والأكاديمية ما زالت عاجزةً عن صياغة هذه الإرشادات. وفي تعليقٍ متفائل، مَرَّرَت الجمعية الطبية البريطانية اقتراحًا رسميًّا في مؤتمرها السنوي هذا العام، يعلن بوضوحٍ أن عدم نشر نتائج التجارِب يُعَد سوء سلوكٍ بحثي. وأتمنى أن يتبعها الآخرون.

استاء بعض رجال الصناعة من عنوان الكتاب، رغم أنهم ارتاحوا إلى حدٍّ كبير عندما قرءوا محتواه. إن صناعة الأدوية تضر المرضى بالفعل. هذا ليس كل ما تفعله — بالطبع إنه ليس كل ما تفعله — ولكن الضرر الذي يمكن تجنُّبه شيء نحتاج جميعًا للحديث عنه والتفكير فيه. بيَّن تقرير فرانسيس بصدد سوء الرعاية الصحية في المستشفيات البريطانية الضرر الذي يمكن أن يقع عندما يقع الأطباء فريسة الإنكار والتعتيم. رغم ذلك، إذا كان لي أن أندم على شيء، فهو أن تركيز العنوان، على أي حالٍ، كان على الصناعة بدرجةٍ كبيرة. وأنا لا أقول هذا لأن العنوان أزعج من يعملون في شركات الأدوية، وإنما أقوله لأنه ساعد الأطباء وواضعي السياسات وأساتذة الجامعات ومراقبي الأدوية في الاستمرار في التخلي عن مسئوليتهم. وإذا كان لي أن أنشر هذا الكتاب غدًا، فإنني سأضع له عنوانًا فرعيًّا «كيف يعجِز عالم الدواء عن خدمة المرضى على أفضل وجه؟» كان عنواني المفضَّل قبل النشر، والذي قوبل بسخرية الناشر: «الهيكل المعلوماتي لعالم الدواء به العديد من العيوب المهمة، التي يُوقِع الكثير منها أضرارًا على المرضى يمكن تجنُّبها، ولكنها جميعًا قابلة للتعديل من خلال التغيير العالي المردودية، إذا وُجدت الإرادة الشعبية والسياسية الكافية». ويظل هذا هو خياري المفضل.

كنت أتوقع من مسئولي العلاقات العامة بشركات الأدوية عباراتٍ مهدئةً برَّاقة (على سبيل المثال، «هذه مشكلات مهمة نسعى لحلها، بالتعاون مع الجهات المعنية») وأن يتجاهلوا الكتاب لعله يُنسى. وتنبأت في خاتمة الطبعة الأولى من هذا الكتاب أن أسوأ العناصر ستستجيب بثلاث طرق: سيصدرون تعليقات شخصية؛ أو سيشيرون إلى مئات التشريعات التي ثبتت عدم فاعليتها، كما لو كان هذا حلًّا؛ أو سيقولون إن المشاكل التي تكلمت عنها حدثتْ كلها في الماضي. ولم تكن استجابة اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية نفسها — وهو الجهة الرسمية الممثلة لصناعة الأدوية في المملكة المتحدة — بعيدةً عن هذا.

يجدر بي أن أتحدث عن السخافات التي تعرَّضتُ لها، باختصار، ولكن هناك معارك أهم من هذه. لقد شاهدت تعليقاتٍ كتبها ستيفن وايتهيد، الرئيس التنفيذي لاتحاد الصناعات الدوائية البريطانية، أربأ بنفسي عن ذكرها هنا. إنها تعليقات مزعجة، تحاول أساسًا تصويري كشخصيةٍ غير مهمةٍ لا ينبغي أخْذها على محمل الجد، ولك حرية تقرير ما إذا كان على حقٍّ أم لا، وما إذا كان سلوكه هنا ملائمًا أم مفاجئًا.

وقال كلٌّ من ستيفن وايتهيد وديباك خانا — رئيس اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية — علنًا أشياءَ من قبيل «أثناء تأليف كتاب السيد جولديكر، حاول اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية بالفعل التواصل مع السيد جولديكر في مراتٍ عديدة، ولكنه خذلنا ولم يردَّ على اتصالاتنا.» يمكنك أن تطلق عليَّ السيد كما تشاء، ولكنني مستعد للمناقشة مع أي شخص؛ عنوان بريدي الإلكتروني موجود على موقع الويب الخاص بي، وعلى صفحتي الشخصية في تويتر، وفي تذييل خمسمائة مقالة منشورة في الجرائد، وفي جميع كتبي، بما فيها هذا الكتاب. لا يمكن أن يوجد الكثير من الأطباء أو الكُتاب أكثر سهولةً في التواصل معهم في العالم مني. وعنوان بريدي الإلكتروني هو [email protected]، وقد بحثت على مدار عشر سنوات، ولم أجد هذه المحاولات العديدة للتواصل معي في أي مكان. (تَحرِّيًا للشفافية الكاملة، وجدت رسالة بريد إلكتروني عامة من مسئول صحفي تابع لاتحاد الصناعات الدوائية البريطانية، منذ عامين، مرسلة إلى عنوان البريد الإلكتروني الخاص بي على جريدة «ذا جارديان»، وكان نص الرسالة: «لقد بدأت منذ أسبوعين فحسب العمل هنا وفكرت أن أُقدِّم نفسي لك. أعرف أنك تتناول الموضوع في بعض الأحيان؛ لذلك إذا كنت تبحث يومًا عن إحصائياتٍ أو معلومات … إلخ لها علاقة بالصناعة، فأعلمني بذلك.»)
كان زعم اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية، الذي جاء في بيانٍ صحفي في يوم نشر الكتاب، بأن الحالات المذكورة كانت كلها «موثَّقة منذ فترةٍ طويلة» و«عتيقة» و«تم التعامل معها منذ فترةٍ طويلة»؛ مُحيرًا بالدرجة نفسها، وإن كان أهم بكثير. أقل ما يمكن أن يوصف به هذا الزعم هو أنه غير حكيم كاستراتيجية علاقات عامة. الكثير من القضايا المطروحة هنا بعيدة كل البُعد عن أن تكون عتيقة؛ فهي عناصر جوهرية في منهج طلاب الطب؛ فمن المستحيل أن ينجح طالب في مقرر لعلم الأوبئة دون أن يدرس أخطاء التصميم في التجارِب الإكلينيكية، أو عيوب البيانات الناتجة عن الملاحظة. كما أن مشكلة حجب نتائج التجارِب مشكلة كبيرة ومن الواضح أنها مستمرة. كما أن افتراض أن هذه الحالات عتيقة كان أيضًا متفائلًا؛ لأن هناك أمثلة جديدة على هذه المشاكل المستمرة في كل شهر. الطب ليس كاملًا؛ لذلك نوثق عيوبه ونناقشها باستمرار، محاولين حلها. اتبع هذه العلامة النجمية وسوف تذهب في جولةٍ سريعة في الأدبيات الأكاديمية من آخر بضعة شهور، ترى فيها مجموعةً صغيرة مختارة من أبرز الأخبار من أحدث الأبحاث التي أُجريت حول هذه المشاكل المستمرة، التي تعد حقًّا الموضوع الأساسي للمقالات الأكاديمية الطبية.

لا أعتقد أن المسئولين الكثيرين الذين يلتزمون بالأخلاق المهنية في صناعة الأدوية تُحسِن تمثيلهم تلك الهيئة المستعدة لإقرار أن هذه الحالات كانت كلها في الماضي. كما أنني لا أعتقد أن واضعي السياسات — الذين يحتاجون للحديث مع صناعة الأدوية — سيشعرون بالحماس تجاه هيئةٍ معنية بالصناعة على استعدادٍ لتجاهل مشكلاتٍ قائمة في الوقت الحالي ومداراتها. ولكن أخيرًا، وكما أوضحنا على مدار الكتاب، حتى إذا كانت كل هذه الممارسات السيئة قد توقفت على نحوٍ خارق في أغسطس عام ٢٠١٢، فنحن ما زلنا بحاجةٍ لأن نعرف تفاصيل ذلك. ولا يرجع السبب في هذا لنوعٍ ما من التقييم والحساب الأخلاقي، بل يرجع إلى أن طب اليوم يُمارَس على أدلة الأمس، والسنة الماضية، والسنوات الخمس الماضية، والعقود الخمس الماضية.

مرةً أخرى، ليس لهذا علاقة بصناعة الأدوية، بل يتعلق بثقافة الرضا بالوضع الراهن في الطب، والافتقار غير الملائم إلى الإحساس بالحاجة الملحة لحل المشاكل اليومية التي نواجهها، و«ثقافة الأعذار» التي تخلدهما. في سيل الرسائل التي تلقَّيتها من أكاديميين في أعقاب نشر هذا الكتاب، تلقيت حكاياتٍ يوميةً لا حصر لها تتعلق بهذا الموضوع. أحد الأكاديميين أرسل إليَّ الرد الذي حصل عليه من محرر دورية بعد تقديم ورقةٍ بحثية تُوثِّق ممارسة سيئة واضحة. تنمُّ تعليقات المحرر عن منظورٍ للعالم يعوق الطب عن تقديم أفضل خدمةٍ ممكنة للمرضى. وسوف أذكر هنا جملةً واحدة من هذه الرسالة بعد الحصول على إذن الأكاديمي:
ليس هناك شيء غير عادي في إنتاج مُصنعي الأدوية لموادَّ ترويجيةٍ تُعبِّر عن جانبٍ واحد، أو في وجود شكٍّ في مكانة دواءٍ ما في العلاج بسبب نقصٍ في البيانات الوافية؛ ولذا فإن الإهانة الموجودة في تعليقه تبدو غير متناسبة مع شيوع المشكلات.1
بالمثل، أرسل أحد القراء خطابًا جاءه من عضو البرلمان الأوروبي الممثل له، والذي كان في السابق طبيبًا، ردًّا على خطابٍ حول العيوب التي تشوب الأدلة التي تستند إليها قرارات وصف الأدوية، وقد قال فيه: «الاعتراضات التي تثيرها لا تُهدِّد سلامة المريض بأي حالٍ من الأحوال؛ كل ما هنالك أنها تُشكك في الفاعلية الإكلينيكية بالمقارنة بالأدوية المشابهة الموجودة.» مرةً أخرى، ينم ذلك على نقصٍ خطير في سقف الطموح في الطب؛ فلا يكفي أن نَصِف أدويةً أفضل من لا شيء؛ إننا نحتاج للتأكد من أننا نَصِف أفضل علاجٍ موجود. وعندما نعجز عن القيام بذلك فإننا نُعرِّض المرضى لأضرارٍ يمكن تجنُّبها، تمامًا كما لو كنا قد أوقعنا عليهم هذا الضرر مباشرة، من خلال انعدام الكفاءة أو تعمُّد الأذى.

(١) حملة AllTrials

على أي حال، أُطلِقت حملة صغيرة بخصوص قضية إخفاء التجارِب المهمة. وانبثقت هذه الحملة جزئيًّا من هذا الكتاب، ولكنه كان مجرد عامل مُحفِّز (لأكون أمينًا، ساعد أيضًا إنكار الصناعة الغريب لوجود المشكلة من الأساس، فيما يتعلق ببعض الفئات من الناس؛ فالناس يُحبُّون الشجار، والخصم الفاسد يمكن أن يُسهِم بنحوٍ كبير في حث الأشخاص المشغولين على التحرُّك، أو تذكيرهم بأن مشكلةً معينة لا تزال قائمة). ولكن الأهم من ذلك أنه في حين أن الجهات الرسمية المعنية بالسياسة في الهيئات المهنية الأكاديمية والطبية قد تجاهلت موضوع الشفافية إلى حدٍّ كبير، فإنه كانت هناك مطالبات كثيرة غير مُعلَنة على نطاق المجتمع الأوسع، باتخاذ المزيد من الإجراءات لمراجعة بيانات تجارب العقود الثلاثة الماضية على الأقل.

لذلك، في سبتمبر الماضي، طلبتْ سارة وولاستون، وهي عضوة بالبرلمان وطبيبة ممارسة، الاجتماعَ بي، ثم بعد ذلك قدَّمتْ سؤالًا في البرلمان حول نتائج التجارِب المخفية. تُعرَض مثل هذه الأسئلة على وزير الصحة على نحوٍ سابق؛ لذا كما هو معتاد، أجاب الوزير عن سؤال سارة مُقدَّمًا، في السابعة صباحًا، في فقرةٍ ببرنامج «توداي» المذاع على القناة الرابعة في إذاعة بي بي سي. وأَوضح الوزير أن المشكلة ببساطةٍ غير موجودة: «بموجب القانون، يجب على الشركات الإبلاغ عن أي آثارٍ سيئة تَظهر في التجارِب، بالإضافة إلى أي نتائج، سواءٌ إيجابية أو سلبية، وأي دراسات لم تتم أو لم تكتمل.» بعد خمس ساعات، جاء الرد الرسمي من البرلمان مُعبِّرًا عن الواقع بدرجةٍ أكبر:

تدعم الحكومة الشفافية في نشر نتائج التجارِب الإكلينيكية، وهي تدرك أنه من الممكن، ومن الواجب، القيام بالمزيد في هذا الشأن … فالمزيد من الشفافية سيؤدي لزيادة ثقة الناس في سلامة الأدوية. إن الصديقة المُبجَّلة تطرح أمامنا مخاوف مشروعة تمامًا، أثارها من قبلها آخرون، من بينهم بن جولديكر.

هذا التحوُّل يُعَد نموذجًا مصغرًا للمعركة حول نتائج التجارِب المخفية؛ الإنكار التام والطمأنة، قبل التحوُّل التدريجي البطيء إلى المشاركة الأكثر جدية. فقد وافق الوزير على مقابلة مجموعةٍ منا، فذهبنا للقائه؛ ذهبت أنا وسارة وولاستون (عضوة البرلمان)، وفيونا جودلي (محررة دورية «بي إم جيه»)، وإيان تشالمرز (مؤسس مشارك في مؤسسة كوكرين)، وكارل هنيجان (مدير مركز الطب المستند إلى أدلة في أكسفورد). كان الاجتماع إيجابيًّا، وأرسلنا خطابًا إلى جريدة «ذا تايمز»، مُوقَّعًا من أهم الشخصيات المؤثرة في مجال الطب في بريطانيا، بدايةً من رئيس الكلية الملكية للأطباء الممارسين، إلى محرر دورية «ذا لانست». لعلك تظن أن هذه الخطابات تكون عديمةَ الأهمية أو طنَّانة، ولكن هذا الخطاب كان مفيدًا لسببين؛ أولهما أنه كان خطَّ اللارجعة أمام الإنكار الشائع للمشكلة، ودعا لاتخاذ إجراءاتٍ واضحة بخصوص مشكلةٍ مستمرة، وثانيهما أنه عرَض جبهة أوسع تقف وراء الموضوع؛ مما يجعل مسألة إغلاق باب المناقشة فيها صعبة.

انتشرت تغطية القضية في جميع الجرائد البريطانية، بدايةً من «ميل» و«تلجراف»، إلى «إندبندنت» وغيرها. وأعلنت لجنة العلم والتكنولوجيا المختارة التابعة لمجلس العموم التحقيقَ في الموضوع (واستشهدت بهذا الكتاب في إعلانها، وأيضًا يسرني أن أقول إنها تناولت فيه العوائق البيروقراطية التي تَحُول دون إجراء التجارِب، وهو أمر مُساوٍ في الأهمية، كما عرفنا من الفصل الخامس). لا ندري حتى الآن نتائج هذا التحقيق، ومن الممكن دائمًا أن ينتهيَ الأمر دون أي تَقدُّم يُذكر. مع ذلك، ثَمَّةَ نتيجة مهمة وصلنا إليها بالفعل؛ أجرى كلٌّ من مجلس البحوث الطبية والمعهد الوطني لبحوث الصحة، وهما جهتان كبيرتان أكاديميتان لتمويل البحوث في بريطانيا، تدقيقًا داخليًّا لمعدلات النشر لديهما، ووجدا أنهما ينشران على التوالي ٨٩ بالمائة ونحو ١٠٠ بالمائة من كافة التجارِب. وبصرف النظر عن الأرقام المحددة، ونظرًا لأن التجارِب الأكاديمية، مثلها مثل تجارب الصناعة، قد شُوِّهت بفعل التحيُّز في النشر — والمراقبة العامة الواضحة هي الطريقة الوحيدة للمُضِي قُدمًا — فإن مجرد وجود هذه الأرقام يُعَد نصرًا صغيرًا.

بعد ذلك، كتبتْ مجموعة من أعضاء البرلمان (من بينهم ديفيد دافيس، وسارة وولاستون وجوليان هوبرت) للجنة الحسابات العامة ذات النفوذ القوي؛ ونتيجة لذلك يُجري مكتب المراجعة الوطني تحقيقًا رسميًّا في موضوع عقَّار التاميفلو. وأرسلت اللجنة المختارة للصحة رسالة واضحة إلى كلٍّ من المعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي وأيضًا إلى صناعة الأدوية مفادها التأكيد على ضرورة إتاحة كل النتائج. وكانت هناك أسئلة أخرى أُثيرت في البرلمان حول الموضوع، بما فيها السؤال الذي طُرح على رئيس الوزراء، الذي جاء الرد عليه بوعدٍ غير مكترثٍ بأننا على وشك حل كل المشاكل الموجودة في أوروبا. وعند هذه المرحلة، كان من الواضح أننا في حاجةٍ لحملةٍ قوية.

المؤلف سايمون سينج شخص خجول، ولا يريد أن يعرف الناس أنه منحَنا مبلغًا من المال قدرُه خمسة آلاف جنيه إسترليني، كنا نحتاجه لتغطية نفقات إرسال طبيبٍ متدرب إلى منظمة الوعي العلمي لبضعة شهور، لكنني كشفت هذا السر هنا. لقد عملنا أنا وسايمون من قبلُ مع هذه المنظمة، حول الدَّجَل في الطب والعلم الزائف وحملة «إصلاح قانون التشهير» التي حققت نجاحًا منقطع النظير. وكانت خبرة هذه المنظمة فيما يتعلق بالضغط وتجميع الأطراف المهتمة معًا وإطلاق حملة عامة هي تمامًا ما كنا نحتاجه كمجموعةٍ صغيرة من الأكاديميين والأطباء؛ فانطلقت حملة AllTrials في يناير عام ٢٠١٣ ودعت لثلاثة أشياء: يجب تسجيل جميع التجارِب، ويجب الكشف عن نتائج كل التجارِب، ويجب إتاحة تقارير الدراسات الإكلينيكية للجميع. وضمَّت المجموعة المركزية للحملة دورية «بي إم جيه» ومؤسسة كوكرين ومركز الطب المستند إلى أدلة ومحامي المرضى وناشر الوصول المفتوح «بي إل أو إس». في غضون أشهرٍ قليلة تطوَّرت حملة AllTrials لتُمثِّل الموقف الطبيعي السائد في المملكة المتحدة. ولدينا الآن أكثر من ٥٠ ألف مؤيد للحملة، وأكثر من مائتَي منظمة انضمَّت أيضًا إلى الحملة، مثل مجلس البحوث الطبية والمعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي وصندوق ويلكم، وفعليًّا كل الكليات والجمعيات الطبية والأكاديمية الكبرى والكليات الملكية وغيرها. وهناك أيضًا دعم دولي موسَّع، بدايةً من التحالف الوطني للأطباء في الولايات المتحدة، ووصولًا إلى الجمعية الأوروبية للصحة العامة. ومن بين أول الجهات التي انضمَّت إلى الحملة مجموعات دعم المرضى، التي يربو عددها الآن على مائة مجموعة، بانضمام ثمانين منها في يومٍ واحد فقط. وهذا أمر جوهري؛ لأن المرضى يتولَّون زمام القيادة في هذه القضية؛ إذ يساعدون المتخصصين على تحديد خطاهم. وكانت الجمعية الوطنية لالتهاب المفاصل الروماتويدي — التي تطرَّقنا لها ببعض النقد في الفصل السادس — واحدةً من أقدم داعمينا، وأنا جِدُّ منبهرٍ بما شاهدتُه في هذا المجتمع ككلٍّ (فتلك الجمعية بنحوٍ خاص كان لها بالفعل دور رائد في زيادة الشفافية حول تمويلها، وكذلك حول التجارِب الإكلينيكية).

بعد ذلك، في مارس، انضمَّت شركة جلاكسو سميث كلاين إلى الحملة. ولهذا دلالة مهمة للغاية؛ فعلى غرار معظم شركات الأدوية الأخرى، مُنيت هذه الشركة بغراماتٍ رقابية ضخمة على مدار السنوات القليلة الماضية، ولعلك تتذكر بعض القصص التي ذكرناها في الكتاب، والتي كانت الشركة جزءًا منها. وفي أكتوبر عام ٢٠١٢ كانت الشركة قد وعدت بالفعل بمشاركة بعض معلومات المرضى مع مجموعاتٍ بحثية معينة، خلف الأبواب المغلقة، بعد مراجعة إحدى اللجان، بالنسبة إلى التجارِب التي يعود تاريخها إلى عام ٢٠٠٧. بانضمام الشركة إلى الحملة في عام ٢٠١٣، تكون قد التزمت بشيءٍ مختلف: إتاحة كل تقارير الدراسات الإكلينيكية للجميع في غضون سنةٍ من إتمام التجارِب، وتطبيق هذا بأثرٍ رجعي، رجوعًا إلى بداية الشركة. هناك عدة أشياء تجعلني أُصدِّق أن هذه الشركة مخلصة في مسعاها ولا تقوم بحركةٍ دعائية سريعة فحسب. أولًا: في لقاءٍ مع الرئيس التنفيذي للشركة أندرو ويتي في الأسبوع السابق لانضمام الشركة للحملة، كان من النوع المقاتل، وكانت له أسئلة محدَّدة عن المعلومات التي نريد إخراجها للنطاق العام، وعن السبب وراء ذلك. ومن اللحظة التي أعلنت فيها الشركة سياستها الجديدة في هذا الشأن، كان من الواضح أنها فكرت في التفاصيل، مثل كيفية تحديد أولوية إصدار تقارير التجارِب، وكيفية استبعاد معلومات المرضى السِّرية. وأخيرًا، حضر فريق الشركة المعنيُّ بتنفيذ هذا الالتزام اجتماعات الحملة، وتحدثوا عن التقدم المحرَز فيما يقومون به، وأعطَوا أُطُرًا زمنية تسبق الحدود الدنيا المقترحة. ونستطيع أن نحكم عليهم بالنتائج في السنة القادمة، ولكن هذا هو تقييمي الشخصي لهم حتى الآن.

على أي حال، لقد فعلت شركة جلاكسو سميث كلاين شيئًا أعظم بكثيرٍ من مجرد الوعد بمشاركة معلوماتٍ معينة بخصوص أدويتها: لقد أظهرت الريادة، واعترفت رسميًّا بأن الشفافية مهمة لرعاية المرضى، في الوقت الذي تمنَّى فيه الآخرون في الصناعة أن يذهب الموضوع في طيِّ النسيان. لقد أثبتت أن تطبيق مبدأ الشفافية ممكن، وقوَّضت مزاعم الشركات الأخرى التي ترى عكس ذلك. في الحقيقة، التزمت الشركة بمشاركة كل تقارير الدراسات الإكلينيكية في الأسبوع نفسه الذي أصدر فيه اتحاد الشركات الأمريكية العاملة في مجال البحوث والصناعات الدوائية (فارما) بيانًا صحفيًّا مبهرجًا يقول فيه إن الشفافية مكلفة وغير عملية وخطيرة، بل ومستحيلة.

إذا كان لحملة AllTrials تأثير، فهذا يرجع إلى أنها شجعت المؤسسات والشركات على الالتزام الواضح بالشفافية، والتصريح بموقفهم. كما أنها كانت بمنزلة تجميعٍ لعمليات الضغط ومكانٍ للنقاش. والأهم أنها أتاحت أيضًا للأفراد التعبير الصريح عن آرائهم دون خوف. لقد سمعنا تعليقًا من موظفي السياسات في بعض المؤسسات التي انضمَّت إلى الحملة، وأجده مخيفًا حيث قالوا: كنا نعرف أن حجب بيانات التجارِب أمر شائع، وكنا نعرف أنه يؤذي المرضى، ولكننا كنا نشعر بالقلق الشديد من الحديث في الأمر؛ لأن إثارة الموضوع حتى قد تؤدي إلى نتائج مُدمِّرة نوعًا ما. وهذا وضعٌ مرعب، ودليل يشهد على قوة الضغط العدواني الذي تمارسه الصناعة. كما أنه دليل على أَسْر روَّاد الرأي المؤثرين وعلى مخاطر الجمود الطويل في المستويات العليا في المؤسسة الطبية. في المملكة المتحدة، رأينا الظواهر نفسها أثناء التحقيقات البارزة حول المستشفيات غير الناجحة؛ فالكثير من الموظفين الكبار في العديد من المنظمات كانوا يرَوْن مشكلةً ما، ولكن معظمهم كانوا مشغولين للغاية — أو مهتمين للغاية بالصراع في العمل — عن وضع مصلحة المريض في الأولوية.

(١-١) أوروبا وما وراءها

كان نمو الحملة في الوقت الذي نمتْ فيه أمرًا شديد الأهمية؛ نظرًا لوجود العديد من الأحداث التي وقعت في التوقيت نفسه، والتي كان من الواجب استغلالها والتأثير عليها. والقصة تصبح شديدة التشعُّب وكثيرة التفاصيل هنا؛ لذا لا أملك إلا أن أُقدِّم الخطوط العريضة، وأشجعك بشدة، إذا كنت مهتمًّا، على زيارة موقع الحملة www.alltrials.net والمتابعة من خلاله.

بدايةً، كان تشريع التجارِب الإكلينيكية الخاص بالاتحاد الأوروبي قيد المراجعة بالفعل، وكانت جلينيس ويلموت، عضوة البرلمان الأوروبي التابعة لحزب العمال، «كبيرة المقررين» (أي الشخص المسئول عن إخراج التشريع من البرلمان الأوروبي). تَمكنَّا من العمل معها في وقتٍ كانت تتعرَّض فيه لضغطٍ غير عادي من مئات المؤيدين للصناعة في بروكسل. كانت رائعة؛ إذ أعلنت التزامها نحو الشفافية بوضوحٍ تام، وطرحت عدة تعديلات مهمة على تشريعٍ مَعيب بدرجةٍ هائلة. هناك أمل في أن يضمن التشريع أن تَنشر كل التجارِب التي تُجرى داخل أي دولةٍ أوروبية بعد عام ٢٠١٤ نتائجَها في غضون سنةٍ من إجرائها، مع ذكر مسار مراجعةٍ واضح للتغييرات التي تتم في البروتوكول البحثي، وهكذا. وهذا أقل بكثيرٍ مما يحتاجه المرضى؛ لأنه لا يمسُّ جميع التجارِب التي أُجريت قبل عام ٢٠١٤ (وجميع التي أُجريت خارج أوروبا)، ولكنه على الأقل يُعَد تَقدُّمًا بسيطًا. ولكننا لم نكسب المعركة حتى الآن، والأصوات الرئيسية سوف تُبدي رأيها في السنة القادمة، مع القراءة الثانية لمشروع التشريع في أكتوبر.

من خلال حملة AllTrials أُقيمت عدة اجتماعات في المملكة المتحدة بخصوص كيفية تطبيق مفهوم الشفافية عمليًّا. كما كانت هناك سلسلة من الاجتماعات الأخرى، باستضافة أشخاصٍ مثل السيد ويلكم، وحتى اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية، رغم أن هذه الاجتماعات غالبًا ما كانت بمنزلة منصةٍ يُعلِن من خلالها معارضو الشفافية اعتراضاتِهم. ورغم ذلك، أُحرز بعض التقدُّم حتى في هذه المنطقة؛ فقد أعلنت شركة روش سياسةً لمشاركة المزيد من تقارير الدراسات الإكلينيكية، وأرسلت بعض المعلومات الجديدة إلى مؤسسة كوكرين، والتي تُقيَّم حاليًّا (رغم أننا لا بد أن نتذكر الوعود السابقة التي لم تَفِ بها؛ ارجع إلى الفصل الأول). في اجتماع المجموعة البرلمانية الممثلة لجميع الأحزاب الذي عُقد مؤخرًا، عندما وافق ممثل شركة روش على أن «الشفافية واجبة»، أومأ الجميع برءوسهم متحمسين. وقالت عضوة البرلمان جوليان هوبرت (واحدة من العالمات القليلات في البرلمان): «أنا وسارة وولاستون نبتسم؛ لأن هناك فارقًا ضخمًا بين هذا الاتفاق واجتماع اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية الذي ذهبنا إليه؛ حيث كانت المناقشة كلها تدور حول استحالة هذا الأمر.» فهل الرائج الآن أن تقول إنك تدعم المزيد من الشفافية؟ ربما تكون الإجابة نعم؛ لذلك لا بد أن نحكم على الأشخاص بِناءً على الأفعال لا الأقوال.

قطع بعض المراقبين شوطًا معقولًا في الاتجاه الصحيح؛ ففي مايو من عام ٢٠١٣ أصدرت هيئة البحوث الصحية البريطانية مجموعةً رائدة من المقترحات الجديدة لتحسين مستوى الشفافية في التجارِب التي تُجرى في المملكة المتحدة، تضم بعض الاقتراحات العملية الوجيهة والمثيرة للإعجاب (كما قلت في البيان الصحفي الذي أصدرتْه الهيئة). وفي يوليو أعلنت الهيئة عن خطة عملها.

في تلك الأثناء، في نوفمبر عام ٢٠١٢، أعلنت الوكالة الأوروبية للأدوية إعلانًا مهمًّا، مفاده أنها تخطط لمشاركة بيانات المرضى، بالنسبة إلى كل التجارِب التي تُقدَّم لها، بداية من عام ٢٠١٤. وأوضحت أنها سوف تفعل ذلك دون شك؛ ولكن الشيء الوحيد الذي يحتاج لمناقشة هو كيف ستفعله. المسائل غير المحسومة معقدة. إن مشاركة بيانات المرضى أمر شائع للغاية، على وجه الخصوص في العالم الأكاديمي، ولكن على عكس تقارير الدراسات الإكلينيكية، التي يمكن فيها إخفاء البيانات الشخصية بسهولة، تفرض بيانات المرضى مخاطرة حقيقية، ألا وهي إعادة تعيين هوية المرضى. كما أن من غير الواضح ما إذا كان هذا الأمر سيُفرض بأثرٍ رجعي، أم أنه سيُفرض على التجارِب التي ستنتهي (أو ربما حتى ستبدأ) بعد عام ٢٠١٤.

نتج عن هذا سيل من الأنشطة من جانب الصناعة، بل إن جماعات الضغط المنتمية إلى اتحاد الشركات الأمريكية العاملة في مجال البحوث والصناعات الدوائية هي من أثارت التغييرات مع الفريق الأمريكي الذي يعمل على مفاوضات اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ووقت إطلاق سياسة الوكالة الأوروبية للأدوية الجديدة، كنت أشارك في ندوة نقاشٍ إلى جانب بيتر جوتشه من مؤسسة كوكرين، وجيني باربر من مؤسسة «بي إل أو إس»، في مقابل ممثِّلَين من الاتحاد الأوروبي للصناعات والجمعيات الدوائية، وهو الجهة الممثلة للصناعة. وكان رأي هذين الممثلين أن بيانات المرضى لا ينبغي في الغالب مشاركتها إلا مع الأشخاص الذين يستطيعون إثبات أن لديهم موضوعًا أكاديميًّا جادًّا يحاولون بحثه. وقالا إن أي شخصٍ يريد الوصول إلى مجموعات البيانات يجب أن يُجبَر على الإفصاح عن خطة التحليل الإحصائي والبروتوكول الخاصَّين به بالكامل قبل أن يُتاح له الوصول إليها. وهذا مطلب معقول، من بعض الجوانب؛ لأن عدم تحديد البروتوكول وخطة التحليل يتيح للناس تغيير تحليلهم إلى أن يُعطيَ نتيجةً تناسب رغباتهم أو معتقداتهم السابقة (وذلك كما تعرف الآن، من خلال قراءة هذا الكتاب). ولهذا السبب طالَب الكثير منا كلَّ شخصٍ يُجري تجرِبة بأن يعلن بنفسه عن البروتوكول وخطة التحليل الإحصائي الخاصَّين به (وكذلك سِجل بكافة التغييرات). إننا نريد أن يعلن الأشخاص الذين يُجرون التجارِب خطط التحليل الخاصة ببياناتهم الخاصة، للأسباب نفسها التي تجعلنا نريد أن يفعل ذلك من يعملون على بيانات غيرهم.

هذا الاقتراح لم يَلقَ ترحيبًا شديدًا. وصدمني قول أحد محامي الصناعة، وهو الذي تحدَّث دون أي تردُّد أو إحساسٍ لاحق بالندم، وقال: انظروا … إننا ندفع لكي تُجرى التجرِبة، وينبغي أن نختار كيف تُستخدم تلك البيانات. لم يكن ثَمَّةَ إحساس بالصدمة أو الاندهاش، وانتابني إحساس قوي بأن كل مَن في تلك القاعة، بما فيهم أنا، في حُللنا الغالية، كنا مستعدين لأن نقبل بعض المواقف الغريبة. كان هذا الرجل ساحرًا وودودًا، ولم تَبْدُ عليه أي أماراتٍ لسوء النية. لا أعتقد للحظةٍ واحدة أنه لا يستطيع أن يجلس مع مريضٍ على مائدة الإفطار، ويخبره أنه ليس من حقه الوصول إلى أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات عن قرص الدواء الذي يوشك أن يبتلعه. إنه، من وجهة نظري، نتاج التعقيد الذي يتسم به هذا المجال، وفي الوقت نفسه المستفيد منه. لقد كان يُبيِّن حجته في قاعةٍ مليئة بالأشخاص الذين لم يعودوا مصدومين بموقفه الذي يحتاج المرضى العاديون إلى وقتٍ طويل ليتمكنوا من فهم تداعياته. على أي حال، منذ ذلك الحين كان هناك سلسلة من المجموعات الاستشارية المعنية بكيفية عمل هذه الأمور (ويشارك فيها الكثير من المشاركين في حملة AllTrials والحملات المشابهة، بالإضافة إلى الكثير من ممثلي الصناعة)؛ وكان من المقرر أن تخرج مسَوَّدة الاقتراح الخاص بالوكالة الأوروبية للأدوية في سبتمبر عام ٢٠١٣ للمداولة، على أن يتم الانتهاء منه بحلول نوفمبر.

مع ذلك، لم تكن الأمور ورديةً في أوروبا. لعلك تتذكر أن الوكالة الأوروبية للأدوية، كما أشرنا في الفصل الأول، قد أُجبرت على مشاركة تقارير الدراسات الإكلينيكية، بعد أن أصدر محقق الشكاوى التابع للاتحاد الأوروبي حكمًا ضد الوكالة متهمًا إياها بسوء الإدارة. في الواقع كانت هذه السياسة بمنزلة نجاحٍ هادئ، وتمت بموجبها مشاركة أكثر من ١٫٩ مليون صفحة من الوثائق حتى مايو عام ٢٠١٣، عندما أُجبِر البرنامج على التوقُّف فجأة. كان الكثير ممن يطلبون هذه الوثائق من الصناعة، واعترض الكثير ممن هم في الصناعة على ذلك. من وجهة نظري، إن اطِّلاع الشركات على تجارب الشركات الأخرى شيء جيد من ناحية الشفافية؛ فإذا كان من المرجح أن يتمكن شخص ما من إيجاد ثغرةٍ في مزاعمك، فهذا الشخص هو منافس لك، وهذه ظاهرة شائعة في المجالات ذات القواعد التنظيمية والرقابية المعقَّدة؛ فالكثير من الشكاوى التي تُرفع لمراقب تسويق الأدوية (أو بالأحرى المراقب الذاتي) ضد شركة أدوية؛ يأتي من مندوبي مبيعات شركات الأدوية المنافسة؛ وحتى مع وجود هيئةٍ معنية بمعايير الإعلانات، فإن من الشائع أن تجد أن الشكوى بخصوص عدم الدقة الفنية لزعمٍ معين في إعلان، على سبيل المثال، لمتجر دهاناتٍ ما قد رفعها متجر دهانات آخر منافس له.

على أي حال، رفعت شركتا إنترميون وآبفي دعوى قضائية على الوكالة الأوروبية للأدوية مُطالِبةً إياها بالتوقف عن إتاحة تقارير دراساتٍ إكلينيكية بخصوص أدويتهما. وصدر حكم مؤقت من المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي، يُجبِر الوكالة على التوقف عن ذلك. وعلى الرغم من أن الوكالة وعدت في البداية بأنها ستظل على استعدادٍ للقتال، وشجعت الناس على الاستمرار في تقديم تلك التقارير، فإن الإشعار القضائي الذي تلقَّيناه في حملة AllTrials كان واضحًا: سيكون من المستحيل أن تتيح الوكالة أي معلوماتٍ إضافية في ظل وجود حُكم المحكمة الحالي. في غضون شهرٍ رُفض أول طلب لمؤسسة كوكرين لتقرير دراسةٍ إكلينيكية. وأصبح من الواضح الآن أن هذه واحدة من أهم الخطوات التي تعود بنا إلى الوراء في معركة الشفافية؛ فبعد أن أتيحت تقارير الدراسات الإكلينيكية لفترةٍ قصيرة من الوقت، أصبحت الآن مُخبَّأة وراء المتاريس. وهذا أمر خطير للغاية؛ لأننا نعرف الآن — ليس فقط من العمل الذي أُجري على عقَّار التاميفلو، ولكن أيضًا من أعمالٍ أخرى نُشرت هذا العام على مجموعةٍ من التجارِب الخاصة بعقَّار الجابابنتين2 — أن تقارير التجارِب المختصرة التي تُنشر في الدوريات الأكاديمية يمكن أن تكون غير كاملةٍ أو مضللةً فيما يتعلق بنقاط الضعف المنهجية في تصميم الدراسات. والصناعات الثرية تؤْثر ادِّعاء أنها تسعى للوضوح في القانون، من خلال رفع دعاوى قضائية ضخمة ومُكلِّفة مثل هذه الدعوى. وسوف تستغرق الدعوى سنواتٍ عديدةً لكي تَمرَّ عبْر النظام القضائي، وفي هذا الوقت سوف يتخلف الطب على نحوٍ خطير.
على الرغم من الدور المحوري لتلك الدعوى الخاصة بشركتَي إنترميون وآبفي في الدلالة على مدى تعقيد هذا المجال، فإنها لم تَنلْ تقريبًا أي تغطيةٍ إعلامية. ودعم كلٌّ من اتحاد الشركات الأمريكية العاملة في مجال البحوث والصناعات الدوائية والاتحاد الأوروبي للصناعات والجمعيات الدوائية الشركتين في دعواهما، وفي الوقت نفسه ظلا يُظهران تأييدهما للشفافية. في الوقت نفسه، على الرغم من مجاهرة اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية بتأييد الشفافية من حيث المبدأ، فقد شن حملةً قاسية ضد حملة AllTrials، ووصفها، رسميًّا وعلانيةً، بأنها «حملة دعائية» (وهذا رد فعل غريب لحملة تؤيدها أكثر من مائة مجموعةٍ من مجموعات دعم المرضى، وتُمثِّل أكثر من مليون شخص، هم أنفسهم الأشخاص الذين يشاركون في التجارِب).
ثم في يوليو عام ٢٠١٣، سُرِّبَ مستند غير عادي؛ كان المستند عبارة عن مُذكرة داخلية خاصة بالجهتين السابقتين، مُرسَلة إلى رؤساء شركات الأدوية الكبرى حول العالم، وتحدد استراتيجياتهما حول الشفافية.3 وتحت عنوان «الضغط»، ناقشت المذكرة خطة ﻟ«حشد مجموعات دعم المرضى للإعراب عن قلقهم بشأن خطورة إعادة الاستخدام غير العلمي للبيانات على الصحة العامة». ولعل الكثير من الناس سيجدون فكرة استخدام مجموعات دعم المرضى كأدوات ضغطٍ ضد الشفافية فكرةً مثيرة للاشمئزاز. وقد صُدم الكثير من مجموعات دعم المرضى — ومنها منتدى المرضى الأوروبيين والائتلاف الأوروبي لمرضى السرطان والكثير من الجمعيات الخيرية التي تدعم مرضى الإيدز — من هذه الفكرة، وأصدروا بياناتٍ واضحةً تؤكد دعمهم لإتاحة المعلومات.4 وسيكون من المثير أن ننتظر لنرى أي مجموعات دعم المرضى التي ستعترض على زيادة الشفافية — إذا كانت هناك مجموعات ستعترض — في غضون السنة القادمة.
خلال كل هذه الفترة، استمرت الأدلة على حجم المشكلة في التزايد؛ فأحدثُ ورقة بحثية، وهي تعود ليوليو عام ٢٠١٣، تعقبت ٨٩٠٧ تجارب مُسجَّلة على موقع clinicaltrials.gov على مدار ثلاث سنوات، ولم يستطع الباحثون العثور على أي أثرٍ لنتائج أكثر من نصف هذه التجارِب.5 وهذه دراسة ضخمة، بل هي من أضخم الدراسات التي أُجريت حتى الآن في هذا الشأن. وثَمَّةَ مجموعة أخرى من الباحثين تعقَّبوا مئات التجارِب التي أُجريت على مرضى السرطان والمسجلة في موقع clinicaltrials.gov، ووجدوا أن واحدةً من كل خمس تجارب أُتيحت نتائجها في غضون اثني عشر شهرًا من إجرائها، ونصفها فقط في غضون ثلاث سنوات. وأجرت دورية «بي إم جيه» استقصاءً لمعرفة ما يحدث عندما يحاول الباحثون في مؤسسة كوكرين الحصول على بياناتٍ غير منشورةٍ من القائمين بالتجارِب، ووجدوا أن نصف طلباتهم تُقابَل بالرفض.6 وكان مُصنِّعو الأدوية هم الأقلَّ تعاونًا؛ إذ تُواجَه الطلبات بالتأخير لفتراتٍ أطول وعقباتٍ أكثر وعددٍ أكبر من طلبات المتابعة، وفي النهاية تُثمر عن بياناتٍ أقل. في أكتوبر عام ٢٠١٢، نشر معهد جودة وفاعلية الرعاية الصحية — وهو الجهة المناظرة للمعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي في ألمانيا — ورقةً بحثية تصف كيف رفض مُصنِّع عقَّار الإكسوبيرا (الإنسولين المستنشق) مشاركة تقارير الدراسة الإكلينيكية.7 وفي الأسبوع نفسه، تطرقت مقالة افتتاحية في دورية «نيو إنجلاند جورنال أوف مديسين» إلى الموضوع نفسه قائلة: «وجود الكثير من حالات إخفاء البيانات يُعَد مشكلةً خطيرة تُقوِّض المصداقية العلمية للاستنتاجات السببية الناتجة عن التجارِب الإكلينيكية.»8 وما زالت الأدلة على المشاكل المثارة في ازدياد؛ ففي أبريل أجرت دورية «بي إل أو إس وان» بحثًا يُبيِّن أن ما لا يزيد عن ثلث مراجعي الدوريات الأكاديمية يهتمون بالتحقُّق مما إذا كانت التجارِب مُسجَّلة على نحوٍ سليم عند اتخاذ قرارٍ بنشرها أم لا.9
وفي الوقت نفسه، حاولَت الصناعة باستماتةٍ أن تُقوِّض هذه النتائج؛ فقد شُكك في البيانات الخاصة بالامتثال لقانون التعديلات التابع لهيئة الغذاء والدواء الخاص بنشر النتائج على موقع clinicaltrials.gov (حيث لم يتمكن سوى ٢٢ بالمائة من التجارِب من القيام بذلك)، بأسلوبٍ غريب جعَل الحاجة لإجراء مراقبةٍ عامة بسيطة وروتينية من قِبل الهيئة أوضحَ من ذي قبل. الشيء المعرقِل هو أن الشركات تستطيع المطالبة بمدِّ الفترة أو تُجادِل أن تجربتها تحديدًا يجب إعفاؤها من رفع تقرير بالنتائج من الأساس. وتتم هذه المناقشات سرًّا، وقد ضغطت الصناعة من أجل عدم الإعلان عن مثل هذه الأمور على موقع clinicaltrials.gov؛ لذلك أصبح من المستحيل أن تعرف السبب وراء عدم رفع تقرير نتائج تجرِبةٍ ما. ونتج عن هذا النظام المختل بلا شكٍّ فوضى وتَعارُض، بدلًا من الوضوح والبساطة اللذين كان من الواجب وجودهما. في إحدى المقابلات، أخبرت هيئة الغذاء والدواء مجلة «نيتشر» أن نسبة اﻟ ٢٢ بالمائة نسبة خاطئة، وأنها تلاحق خمس عشرة حالةً فقط من النتائج التي تأخر نشرها؛ وهذه نسبة ضئيلة. بعد ذلك طالبت «نيتشر» معاهد الصحة الوطنية، وهي وكالة البحث التابعة للحكومة الأمريكية، بإجراء تدقيقٍ غير رسمي، ووجد هذا التدقيق أن الصناعة تمتثل للقانون بنسبة ٥٠ بالمائة (وكانت النتيجة ربما أسوأ بالنسبة إلى معاهد الصحة الوطنية؛ فقد وجدت أنها لا تُبلغ بنتائج أكثر من تجرِبةٍ من كل خمس تجارب تُجريها هي نفسها). في الوقت نفسه قَدَّرتْ بعض بيانات هيئة الغذاء والدواء الداخلية التي وُزعت على العاملين بالصناعة نسبة الامتثال في هذه الفترة ﺑ ٦٥ بالمائة. تُلوِّح الصناعة بهذا الرقم وكأنها قد حقَّقتْ نصرًا مؤزَّرًا، ولكن نسبة ٦٥ بالمائة ما زالت نسبةً ضئيلة جدًّا، بالإضافة إلى أنها أتت من تدقيقٍ سِري لم يُنشر أو يُناقَش علنًا على الإطلاق، ولم يُتَح إلا في صورة بيانات، دون معرفة المناهج المستخدَمة، ودون مشاركة البيانات، وذلك من المؤسسة نفسها التي ادَّعت أن خمس عشرة تجرِبة فقط في المجمل هي التي خرقت القانون. إلى جانب هذه الفوضى، كان تدقيق برايل، الذي نُشر في دورية «بي إم جيه»، واضحًا تمامًا فيما يتعلق بالمناهج التي استخدمها. والأكثر من ذلك، أن مجموعة البيانات الكاملة الخاصة به — وهي ملفات ضخمة تُدرِج كل التجارِب التي راجعها، وكل قرار فردي أخذه بخصوص الامتثال — قابلة للتنزيل مجانًا لأي شخصٍ يرغب في الاطِّلاع عليها.10 بينما من الوارد أن يكون هناك عيوب في كل الدراسات، فإن هذا التدقيق هو الوحيد الذي تستطيع مشاهدة عيوبه بنفسك، وتستطيع مناقشتها.
لكن رد الفعل لم يكن دائمًا الإنكارَ والتعتيم؛ فهناك بعض الشركات التي اختارت سبيلًا آخر أكثر إثارةً للإعجاب، إلى جانب شركة جلاكسو سميث كلاين، ومن هنا ينبع الأمل. قالت شركة روش إنها سوف تبحث مسألة مشاركة تقارير الدراسات الإكلينيكية، رغم أن الآلية ليست واضحةً حتى الآن، وأنها شعرت بعدم القدرة على الانضمام إلى شركة جلاكسو سميث كلاين في الدعوة النشطة للشفافية عبر الصناعة من خلال الاشتراك في حملة AllTrials. أتمنَّى أن تُغيِّر رأيها، وأتمنى أن تساعدوها في ذلك.
ذهب آخرون إلى أبعدَ من ذلك؛ فشاركت شركة ميدترونيك الأمريكية البياناتِ الفرديةَ للمرضى — عن علاج تحسين نتائج جراحات العمود الفقري الذي ابتكرته — مع مجموعةٍ من الباحثين من جامعة ييل بنُبل شديد؛ إذ إن النتائج تُبيِّن أن المنتج ليس له إلا فوائد محدودة للغاية؛11 فهل كان هذا بمنزلة تَصرفٍ انتحاري من جانب الشركة؟ لست على يقينٍ من ذلك. لقد كنت دائمًا أؤيد وجود تشريعٍ واحد بسيط وواضح تلتزم بموجِبه جميع الشركات بمشاركة النتائج كافةً، وتتنافس على ملعبٍ مُستوٍ من المعايير الأخلاقية العالية. وما زلت أُومِن بأن هذا هو الوضع الأمثل، ولكنني الآن أستطيع أن أقول إن التنوُّع الموجود في السوق، فيما يتعلق بالشفافية، يمكن أن يخلق حافزًا ماليًّا للشركات لكي تفعل الصواب. ومن السهل أن تفهم السبب، إذا اطَّلعتَ على مثالٍ واحد.

فلْنتخيلْ وجود علاجَين للخَرف المبكر، ابتكرتهما شركتان مختلفتان، وكلاهما له الفوائد نفسها. هذا آخر تفسير رياضي في الكتاب. لِنفترضْ مثلًا أن فرص ثبات حالتك دون تدهور تزيد بنسبة ٣٥ بالمائة بالضبط إذا تناولت أيًّا من هذين الدواءين مقارنةً بقرص علاجٍ وهمي. لكن بعد ذلك، لِنفترضْ أن أحد هذين الدواءين من صُنع شركةٍ لها سِجل مثبت من الشفافية؛ فهي لا تعلن عن نتائجَ صحيحةٍ فحسب، بل ترفع تقارير الدراسات الإكلينيكية الخاصة بكل التجارِب التي تُجريها كاملةً (نحن نتخيل أن يحدث هذا في عام ٢٠١٦ أو بعده)؛ كما أنها وفت بوعودها بشأن مشاركة البيانات مع باحثين خارجيين. في الوقت نفسه، كان الدواء الآخر من صُنع شركةٍ يسخر موظفوها دائمًا من فكرة أن «تتجرأ» حتى وتطلب من الشركة مشاركة كل نتائج التجارِب، كما أنها تشارك في الحِيَل القذرة التي تفعلها الصناعة لتحقير مثل هذه المطالب، وترفع دعاوى قضائية وتضغط على المراقبين والحكومات لتُحجم عن مشاركة معلومات التجارِب، وهكذا.

في هذه الحالة، أيَّ الدواءين ستأخذ؟ تذكَّر أن كليهما له الفوائد نفسها بالأرقام؛ كلاهما يرفع فرص ثبات حالتك بنسبة ٣٥ بالمائة بالضبط. لكن هل هذان الرقمان متطابقان بالفعل؟ نحن نعلم أن هناك معدلًا كبيرًا للتجارب المخفية، ويمكننا أن نفترض أن هذا المعدل ينطبق على كل التجارِب، بصرف النظر عن الجهة التي أجرتْها. ونحن نعرف أنه إجمالًا، يؤدِّي إخفاء النتائج، إلى المبالغة في تقدير فوائد الأدوية. وليس ثَمَّةَ وسيلة للتأكد من أن الشركات نفسها التي تضغط وتنتقد وترفع دعاوى قضائية وتشنُّ حملاتٍ، قد خبَّأت أي نتائج لا تُرضيها. ولكن إجمالًا، إذا كنا نؤْثر عدم المجازفة، وكانت جميع العوامل الأخرى متساوية، فهل ستريد حقًّا أن تتعاطى دواءً من صُنع مثل هذه الشركة، بدلًا من دواءٍ آخر لم تُحِط به مثل هذه المخاوف؟

أنا أعرف أيَّ الدواءين سأختار.

لكن، حقيقةً، لن تنصلح هذه الحال إلا بك؛ فبعد سنواتٍ من التقدُّم البطيء بشدةٍ في مسألة التجارِب المخفية، بدأ اتساع نطاق الاهتمام العام في دفع عجلة التقدُّم للأمام. وبالنسبة إليَّ تُعَد حملات تشويه السُّمعة التي تُشنُّ على الأشخاص الذين يَجرءون على مشاركة هذه المشكلة مع الناس دليلًا واضحًا على أن إشراك الناس هو أقوى سلاح يمكن الاستعانة به. وبالفعل يُعَد التقدُّم الملحوظ الذي أحدثتْه مجموعات دعم المرضى مُثْلِجًا للصدر. ولكن وضع هذه القضية على أجندة السياسيين وحلها جذريًّا لن يتأتى إلا من خلال تشكيل جبهةٍ موحَّدة وشنِّ حملةٍ جماهيرية ضخمة؛ لذا أرجو أن تنضم إلى حملة AllTrials. وإذا كنت عضوًا في هيئةٍ مهنية أو مجموعةٍ لدعم المرضى أو جامعةٍ أو شركة، فادْعُهم إلى أن يفعلوا الشيء نفسه. وإذا ساورهم الشك فيما يتعلق بأي أمر، فأقنعهم بالتواصل معنا، من خلال موقع alltrials.net، وسوف نتحدَّث إليهم.

هناك أحداث كثيرة تقع الآن في هذه اللحظة؛ تحقيقات تُثار في بلدانٍ متعددة، وتشريعات تُوضع في أوروبا، وحشد للرأي العام، وسيل من نتائج الأبحاث الجديدة، وتحوُّلات ثقافية في الجهات الرقابية، وأشخاص متفردون ينتمون إلى الصناعة ويرغبون في ريادة اتجاهٍ جديد، وغير ذلك من الأحداث. ولكن كل هذا كان يحدث من قبلُ دون أن يُثمر عن أي نجاح. والنافذة لن تُفتَح إلا لوقتٍ قصير، وهناك الكثير والكثير من الأشخاص الذين سيصارعون من أجل إغلاقها. فمن أجل صالح المرضى وسُمعة الطب وصناعة الأدوية، لدينا الآن فرصة جديدة نُحقِّق من خلالها تغييرًا حقيقيًّا، وأتمنَّى أن تساعدونا على اقتناصها.

هوامش

 في دورية «بي إم جيه»، ولْنضربْ فقط ثلاثة أمثلةٍ من الشهور القليلة الماضية، يمكنك قراءة مقال افتتاحي حول جرائم الشركات في صناعة الأدوية؛12 أو مقال تحليلي طويل بقلم بروفيسور بارز في مرض السكر عما إذا كانت دراسات عديدة عن الإنسولين تستهدف «التسويق» بدلًا من البحث؛13 أو ورقة بحثية ترى أننا نحث الشركات على نحوٍ خاطئ على تطوير أدويةٍ جديدة لها القليل من الفوائد الجديدة؛14 وهكذا.

إلى جانب تحليل هذه المشاكل الذي يتوقعه المرء بطبيعة الحال — كوْن هذه المشاكل كلها ما زالت قائمة — يوجد أيضًا تدفُّق منتظم من النتائج الجديدة، التي تُبيِّن كيف ولماذا تُعَد هذه المشاكل كلها مشاكل ضخمة.

شهد شهر مارس من عام ٢٠١٣ تجميعًا ممتازًا للأضرار التي يتعرَّض لها المرضى بسبب الاعتماد الزائد على النتائج الإكلينيكية البديلة — بدلًا من الواقعية، مثل الموت — في الأبحاث الإكلينيكية (ربما تتذكَّر ذلك من الفصل الثالث).15 تستمر مناقشة مشكلة التجارِب التي تقارن الأدوية الجديدة بالعلاجات البائسة الموجودة، من أجل الحصول على نتائجَ مثيرةٍ للإعجاب، وذلك على نطاقٍ واسع، سواءٌ من قِبل الأكاديميين على الإنترنت16 أو في الأدبيات الأكاديمية.17 وهذه الممارسة مهمة؛ فهي تنشئ دليلًا غير قوي، ولكنها أيضًا تُعرِّض المشاركين في التجارِب لأضرارٍ غير ضرورية. كان أحد المقالات الافتتاحية، المصاحبة لبحثٍ آخَر بصدد هذا الموضوع، واضحًا: «في ستٍّ وخمسين تجرِبةً من ثلاثٍ وستين تجرِبةً تضم مرضى يعانون من التهاب مفاصل روماتويدي نشط جدًّا، أُخفيت العلاجات التي يَحتمِل أن تكون مفيدةً عن ٩٢٢٤ مريضًا من إجمالي ١٣٠٩٥ مريضًا اختِيروا عشوائيًّا ليكونوا ضمن المجموعات الضابطة. لماذا؟ لأن الأدوية الوهمية أو العلاجات المعروف كونها غير فعَّالة كانت مستخدَمة كضوابط.» كان عنوان هذا المقال الافتتاحي مباشرًا للغاية حول تأثير ذلك على رعاية المرضى: «الدماء في أيدينا: أضرار أدوات المقارنة غير الملائمة». كان ردُّ اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية على هذه الورقة البحثية هو أنه قال إن الصناعة تخضع لقوانينَ تنظيميةٍ ورقابية جيدة جدًّا.18 واستمر الآخرون، رحمةً بنا، في إقامة حوارٍ مستنيرٍ حول العيوب القابلة للحل في تصميم وتحليل التجارِب الإكلينيكية.
ما زالت مشكلة اختبار الأدوية في تجارب صغيرة قصيرة المدة مستمرة كما هي. وتُقدِّم ورقة بحثية نُشرت في دورية «بي إل أو إس مديسين» في مارس عام ٢٠١٣ أرقامًا مثبتة في هذا الصدد. من عيِّنة مُمثَّلة تتكوَّن من مائتَي دواءٍ مُعتمَد حديثًا، تمت دراسة كل دواءٍ منها في المتوسط على ١٧٠٨ أشخاص فقط قبل اعتماده؛ وعجز واحد من كل خمسة أدويةٍ عند الاستخدام لفترةٍ طويلة عن الوفاء بتوصيات الإرشادات ذات الصلة.19 وتُعَد هذه الإرشادات، كي نكون واضحين، ضعيفةً في حد ذاتها؛ إذ لا توصي إلا بأن تَحدُث متابعة لثلاثمِائة شخصٍ يتعاطَون الدواء لأكثر من ستة أشهر؛ ومن الواضح أن هذا الشرط غير ملائمٍ لإثبات فاعلية الدواء من حيث نتائجه على المدى البعيد.
إلى جانب الدراسات الصغيرة جدًّا، تستمر معاناة المرضى أيضًا ببساطةٍ نتيجةَ عدم إجراء الأبحاث. تُوضِّح ورقة بحثية نُشرت في أغسطس عام ٢٠١٣، في وقت طباعة هذا القسم، أنه بالنسبة إلى نصف كل التوصيات الموجودة في الإرشادات الكبرى الحالية لأمراض القلب، لا يتجاوز مستوى الأدلة «المستوى ﺟ».20 وهذا مستوًى منخفض بدرجةٍ هائلة بالنسبة إلى واحدٍ من أهم التخصصات في الطب.
في يوليو عام ٢٠١٣ كتب الفريق الذي يدير موقع ClinicalTrials.gov مقالةً افتتاحية مؤثِّرة في دورية «آنالز» حول الضرر الناجم عن المشكلة المستمرة المتمثلة في تبديل التجارِب لنتائجها الإكلينيكية الأساسية.21 فحصتْ ورقة بحثية صدرت في الشهر السابق التجارِب التي أُجريت على الجراحة، ووجدت أن نصف التجارِب لم تكن مسجلةً قبل أن تبدأ، في حين أن نصف كل نتائجها الإكلينيكية الأساسية إما حدث تبديل فيها أو حذف أو تغيير.22

جدير بالذكر أن هذه الأوراق البحثية لم تَلقَ أي انتباهٍ أو تركيزٍ من جانب وسائل الإعلام، ويُبيِّن هذا سببًا واحدًا واضحًا لبقاء هذه المشاكل دون حل. يُمنح جهد واهتمام كبيران لكتابة مقالاتٍ صحفية تتحدَّث عن «جَرَّاح فاسد» واحد، ولكن مما لا شك فيه أن تهاوننا مع البيانات المعيبة — التي تُقوِّض في الخفاء جودة عملية اتخاذ القرار الإكلينيكي في العالَم بأسره — يؤدِّي بنسبة أكبر بكثير إلى المعاناة والموت اللذين يمكن تجنُّبهما مقارنةً بجريمة أي فردٍ مهما كان. ولا تحصل مناقشة هذه المشكلة إلا على اهتمامٍ قليل من جانب وسائل الإعلام؛ لأنها تتطلب معرفةً سابقة بخلفية موضوع كيفية إنشاء الأدلة واستخدامها، كما أن إثارة غضب الجماهير حيال هذا الموضوع تتطلب وقتًا أطول وخيالًا أعمق بكثيرٍ من «جَرَّاح فاسد يؤذي مريضًا».

استمرت الأبحاث عن النشر المتحيز للأدلة من خلال التسويق، بصرف النظر عن إنكار الصناعة غير القابل للتصديق لهذا الأمر. ووجد بحث أُجري في مايو عام ٢٠١٣ — وهو بالصدفة موجود على مكتبي الآن — أن ٣٤ بالمائة من كل إعلانات صناعة الأدوية في السويد خالفت قواعد الممارسة الاختيارية الخاصة بالدولة.23
في أبريل عام ٢٠١٣ نُشرت ورقة بحثية في دورية «جورنال أوف جنرال إنترنال مديسين» حول استقصاءٍ شارك فيه ٢٥٥ طبيبًا، من أربعة بلاد مختلفة، يصف ١٦٩٢ زيارة من قِبل مندوبي شركات أدوية.24 أقل من ٢ بالمائة من الزيارات أعطت «أقل قدرٍ ملائم من معلومات الأمان»، وفي ٦ بالمائة فقط من الزيارات أتى مندوبو شركات الأدوية على ذِكر أحداثٍ سلبية خطيرة نجمت عن تعاطي الأدوية، رغم أن ٤٥ بالمائة من العمليات الترويجية كانت لأدويةٍ تحتوي على «مربعات تحذير» في نشرتها الداخلية. وفي الشهر نفسه، هوجم الرئيس الأمريكي باراك أوباما على مبادرة «الوصف الأكاديمي» الخاصة به في الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا مشروع جديد، مصمم ليسير بالتوازي مع نظام «مندوبي شركات الأدوية» (الذي يُطلق عليه «الوصف» في الولايات المتحدة)؛ إذ يزور استشاريون إكلينيكيون الأطباءَ والممرضاتِ والصيادلةَ لتقديم ملخصاتٍ غير متحيزة للأدلة فيما يتعلق بأفضل العلاجات. وقد قال رئيس مجلس إدارة شركة فايزر إيان ريد — دون أي لمحة سخرية — إن مشروع «الوصف الأكاديمي» مضيعة للمال العام؛ لأن الحكومة لديها «تضارب مصالح» عندما تُقدِّم أدلة للأطباء.25
بالمثل، ما زالت حكايات وقضايا المُبلغين عن الرشاوى والتسويق العدواني مستمرةً بإيقاعها المعتاد.26 وقد وجدتْ ورقة بحثية في مايو عام ٢٠١٣ أن أقل من ٦ بالمائة من دوريات الطب الحيوي لديها إجراءات مُصمَّمة لاكتشاف الكتابة الخفية والاستجابة لها.27 إذا قرأت المقال الافتتاحي المصاحب لهذه الورقة — رغم أنه غير متاحٍ الاطلاع عليه مجانًا، وهو الأمر الذي يَحُول دون المناقشة العامة لجميع العلوم — فستجد كل المناقشات المذكورة في هذا الكتاب.28 وليس السبب في هذا أن أحدًا نقل عن أحد؛ وإنما السبب هو أن هذه الموضوعات من الموضوعات الأساسية السائدة التي تُناقَش روتينيًّا في الأبحاث غير المتاحة مجانًا.
تضمَّنت دورية «جورنال أوف مديكال إثيكس» وصفًا رائعًا في يونيو عام ٢٠١٣ لسلسلة محاضرات في كلية طب مدعومة من الصناعة حول وصف دواء أفيوني لتسكين الألم، لها محتوًى مريب، وتضارُب مصالح غير مُعلَن عنه، وما إلى ذلك. ولم تتوقف تلك المحاضرات إلا بعد اعتراض أفرادٍ من الكلية.29 وعلى المسئولين الكبار في المؤسسات الطبية أن يتذكروا أن هذا النوع من التصرفات الذي يقوم به الموظفون الصغار، يتسم بالمجازفة والشجاعة ويعود بالفائدة على المرضى.
في يونيو عام ٢٠١٣ ظهرت مقالة متميزة في دورية «جيه إيه إم إيه إنترنال مديسين» بقلم أحد المُبلغين عن مخالفات الصناعة، الذي تورط هو نفسه في عملية «المتاجرة بالمرض»، ليس فقط في الأدبيات الأكاديمية، ولكن أيضًا بنحوٍ مباشر للجمهور، من خلال الكتابة في مجلات المستهلكين اليومية الموجودة بالمتاجر الكبرى:

مستوى التستوستيرون المنخفض أو قصور الغُدد التناسلية، من الأمراض المثيرة لاهتمام الناس في هذه الآونة. وقد تضاعفت مبيعات العلاج ببدائل التستوستيرون للتعامل مع انخفاض مستوى التستوستيرون منذ عام ٢٠٠٦، ومن المتوقَّع أن تزيد ثلاثة أضعاف لتصبح ٥ مليارات دولار بحلول عام ٢٠١٧، وَفقًا لتوقُّعات شركة جلوبال إندستري آناليستس. وتحتاج زيادة المبيعات بهذا الشكل إلى جهد تسويقي كبير من أجل اعتبار انخفاض مستوى التستوستيرون مرضًا ينبغي علاجه ببدائل التستوستيرون. وأنا على درايةٍ بذلك لأنني — بوصفي كاتبًا طبيًّا محترفًا — ساعدت في صياغة هذه الرسالة بحرفيةٍ لِبثِّها في نطاقٍ واسع من الوسائط لتوصيلها إلى الأطباء والمستهلكين على حدٍّ سواء.

إن تحديات وضع قواعد تنظيمية ورقابية للتجارب في العالم النامي ما زالت قيد المناقشة على نطاقٍ واسع، ولكن ليس في المملكة المتحدة. في يوليو عام ٢٠١٣، كتبتْ جريدة «إكونوميك تايمز» الهندية (لعلك لم تسمع بها من قبل، ولكنها جريدة يقرؤها ٨٠٠ ألف شخص) تقول: «يشارك الكثير من الهنود البائسين الفقراء دون أن يدروا في تجاربَ إكلينيكيةٍ على أدويةٍ لصالح شركات الأدوية الهندية والمتعددة الجنسيات التي تعهد إلى مؤسسات أبحاث غير خاضعة للرقابة بإجراء التجارِب.»30

بإمكاني أن أستمر إلى ما لا نهاية. إن مجرد أن يقترح اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية أن هذه المشكلات عتيقة، وأنها حُلت منذ زمن بعيد؛ أمر سخيف، ولكنه في الوقت نفسه أمر خطير. إن علينا أن نعترف بأن هذه المشاكل موجودة، لكي نعمل على حلها — جماعاتٍ أو فُرادى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤