الباب الرابع عشر

إلى اليونان بقلبٍ فرحان عمران

اليوم تنتهي إقامتي في مدينة نيس. اليوم أركب الطائرة متجهًا بها إلى أثينا عاصمة اليونان. استيقظتُ مبكرًا وأعددتُ حقائبي ثم خرجتُ أشاهد مدينة نيس في صحوة الصباح. حقًّا، ما أروعَكِ أيتها المرأة الفرنسية! وجدتُها في عملها مرتديةً أجمل الثياب وأبسطها. رأيتُها وهي تمشي متجهة إلى عملها، في غاية النشاط والقوة. رأيتُها راكبة الدراجة أو الموتوسيكل تُسابق بهما الريح في صرامةٍ وجديَّة غريبتَين مذهلتَين تُثيران الإعجاب. رأيتُها تقود سيارتها في هدوءٍ وثبات. كما رأيت الرجل أيضًا يحذو حَذْوها ويسعى سعيها. الجنسان أمام العمل عبيدٌ خدم. لم أجد حُبًّا وعناقًا. لم أجد غرامًا وعواطف، وإنما رأيتُ صورةً جديدة جديرة بكل احترام. رأيتُ فرنسا العاملة رائدة الحضارة. رأيت الجِد في أمتع صوره. فرنسا في الصباح، تختلف عنها في الليل تمام الاختلاف. إنهم يُعطون ما لقيصر لقيصر وما لله لله. إنهم بالنهار يجعلون السيطرة للعقل والفكر، وبالليل يرتعون مع الحب والخيال والعشق والهُيام. للعمل وقتٌ وللأهواء وقتٌ آخر. الساعة الآن السابعة صباحًا. الحركة قائمةٌ على قدَمٍ وساق. والسرعة سمةٌ من سمات حياة الصباح في فرنسا. لحياة العمل قدسيتُها واحترامُها. لم أجد تلكُّؤًا ولا تباطؤًا من أحد. لا من الرجل ولا من المرأة. بهذا حُقَّ لفرنسا أن تتقدَّم وتبلُغ ما بلغَتْه من مركزٍ مرموقٍ في الحضارة والرقي والقوة بين دول العالم. ليتك، يا سيدي القارئ، كنتَ معي لتنعم بما رأته عيناي. كنت وسط هذا الخِضَم من الحركة السريعة والسعي الدائب في دنيا العمل والإنتاج.

انتهت التزاماتي قِبَل الفندق، وحملَني التاكسي بسرعة إلى المطار. كان المطار هادئًا، والحركة به ما زالت ضعيفة. وقفتُ أمام موظف الشركة. وزن الحقائب وقال: عندك عشرون كيلو زيادة في الوزن. قُلت: آسف يا سيدي. ولم أزد على هذه الجملة حرفًا واحدًا. كان هذا الموظف مهذبًا بصورة لا تصدَّق؛ فأنا شخصيًّا كِدتُ لا أصدِّق أُذني عندما قال: يمكنك أن تسافر. لم يطلب مني أجرًا إضافيًّا. والعجيب الغريب، أن مكتب هذا الموظف المتسامح والدمِث الأخلاق بمعنى الكلمة، ملاصقٌ لمكتب تلك الموظفة التي سبق أن أصرَّت على أن أدفع أجر الوزن الزائد، وغرَّمتني ٧١ فرنكًا ضاعت مني سُدًى. سبحان الله! النقيضان متجاوران يؤديان عملًا واحدًا لشركةٍ واحدة؛ أحدهما يُنفِّرك من التعامل مع الشركة، والآخر يُحبِّبك في نفس الشركة، ويُقرِّبك إليها، أو بمعنًى أصح يقرِّبها إلى قلبك ويشجِّعك على التعامل معها. والغريب أن الخشونة صدَرَت من الجنس اللطيف بينما صدَرَت الرقة من الجنس الخشن. هذا قلبٌ صارخٌ للأوضاع. على الأقل، كان هذا شعوري في كلتا الحالتَين.

أنا الآن في قاعة الانتظار بالمطار. سألَتني عاملة النظافة إن كنتُ من الجزائر. قُلت: لا، بل من مصر. فقالت: أنا من الجزائر. فتحدَّثتُ إليها باللغة العربية، فسُرَّت كثيرًا. انضمَّت إليها زميلتُها الجزائرية أيضًا، وراحتا تتكلمان معي بضع دقائق، لا أكثر ولا أقل. وفجأة ظهَرَت رئيستهما الفرنسية، فقالت لهما: ما الخطب؟ قالتا: وجدنا رجلًا عربيًّا. قالت بصرامة، ولكن في هدوء: الكلام مع المسافرين محظور. هيَّا إلى العمل. وفي الحال تركتني العاملتان دون كلمة وداع.

أنا الآن على متن الطائرة، أو على الأصح في جوف الطائرة، التي ستطير بي على متن الريح وتهبط بي في أثينا. الطائرة كاملة العدد. كلنا متجهون إلى أثينا أرض الأبطال والآلهة القدامى والأساطير الجميلة.

مرةً أخرى أطير على متن طائرة كارافيل ذات مائة مقعد، من لونٍ بمبني جميل. كافة الركاب صامتون ما خلا مجموعةً من العرب العراقيين. لا تسمع إلا أصواتهم وأحاديثهم بلهجتهم العربية الحبيبة إلى النفس. هكذا العرب في كل مكان. لا يرضخون لقانون، ولا يُعيرون مشاعر الغير أي اهتمام. حتى المضيفات لا يتحدَّثن، وإن تحدَّثن فإنما بصوتٍ خفيض لا يسمعه إلا من يعنيه الحديث وحده. آداب الطائرات كآداب دور السينما والمسارح. من الضروري مراعاتها واحترامها والتمسك بها إلى أقصى الحدود. إننا نتصور أننا وحدنا نملك الكون، وبأموالنا نشتري حرية الناس. يحترم أهل الغرب حرية الغير ومشاعره، أولًا، ويحرصون كل الحرص على عدم الاعتداء عليها مهما كلَّفهم الأمر. والأمر لا يكلِّفهم شيئًا؛ فقد نشئوا على ذلك التقليد الحميد، وشبُّوا على هذا الخلق الكريم. غرَسَه الآباء في نفوس أولادهم، وساعدَتْهم المدرسة في غرس هذا المفهوم المشكور. لم يكتفوا بتعليمهم، منذ نعومة أظفارهم، آداب الحديث والسلوك في الملاهي ودور السينما، بل وعلَّموهم أيضًا آداب السير في الطريق وآداب المائدة، واحترام الشارع والحديقة والنبتة والحيوان، وغير ذلك الكثير العديد.

تأخَّر قيام الطائرة عن موعدها المحدَّد، ولكن المضيفة لم يفُتها أن تُعلن لنا عن سبب التأخير قائلة: تأخَّرنا عن موعد القيام بسبب كثرة الحقائب التي ستحملها الطائرة. شحنُها في داخل الطائرة هو سبب التأخير.

أرى المضيفات يعملن بلا توقف. العمل على متن الطائرة شاقٌّ مرهق جدًّا. على المضيفة أن تخدم عشراتٍ وعشراتٍ من الركاب. عليها أن تؤدي لهم كل ما يعمل على راحتهم وكل ما يطلبونه منها. هناك واجباتٌ محدَّدة رسمتها لها الشركة، غير أن هناك طوارئ وطلبات قد تُفاجأ بها المضيفة، وعليها أن تتصرف وتبُتَّ فيها بإجراءٍ مفيدٍ مقنع.

تحرَّكَت الطائرة بعد أن تأخَّرَت نصف ساعة تقريبًا. يقف مضيف ومضيفة في الممر، ويحاولا أن يصفا لنا كيفية استخدام حُلَل النجاة في حالة تعرُّض الطائرة لخطر السقوط. هذه التعليمات لا بد منها متى ركب الإنسان طائرة. وأعتقد أن أحدًا لن يستفيد منها شيئًا؛ فلم نسمع قط أن أحدًا نجا من الموت في حادث سقوط طائرة لأنه استخدم هذه الحُلَّة. هي عادةً بلونٍ برتقالي وتنتفخُ تلقائيًّا متى جذَب الإنسان سلسلةً معيَّنة مثبَّتة بها. كما أن لها منفاخًا احتياطيًّا يمكن استخدامه بالفم عندما يتعطل المنفاخ الآلي «يا سلام على روقان البال وجمال الخيال، وجلائل الأعمال والأشغال …» نسيتُ أن أقول لك إن هذه الحُلَّة مثبتةٌ أسفل مقعد الراكب، وعملية إخراجها شاقةٌ ومعقَّدة، فما بال باقي الخطوات والعمليات والمهام الصالحات لسلامة الروح والحياة الممتلكات؟ ومن سيُفكِّر في ذلك وقتَ الفزع والهلع والصُّراخ والعويل عند الإحساس بسقوط الطائرة واختلاط الحابل بالنابل؟ وهل إذا سقطَت الطائرة سيكون هناك متسعٌ في الوقت لإخراج الحُلَّة وارتدائها ونفخها؟ وهل سيكون كل شخص وقتئذٍ في مكانه ليقوم بذلك؟ ما هي إلا بضع ثوانٍ معدودات وترتطم الطائرة بالأرض وتشتعل فيها النيران، وسيكون الركاب مكدَّسين بعضهم فوق بعض. هذا إجراء لم يفكِّر فيه المسئولون تفكيرًا سليمًا.

قام بيني وبين راكبة فرنسية رقيقة ولطيفة المنظر والمعشر، حديثٌ خاطف سريع. فهمتُ منها أنها ستطير من نيس إلى جزيرة كورفو باليونان لقضاء يومٍ واحد لإنجاز بعض الأعمال. هكذا تُنجز الأعمال في الخارج، بالطائرات. صورةٌ أخرى من كفاح المرأة الفرنسية العاملة التي تركب الصعب حتى ولو كان في قلب الفضاء كي تنجز الأعمال. إن هذه الرحلة، بكل تكاليفها، ستعود عليها وعلى وطنها بالمال وبالخير والرخاء.

جاءتنا المضيفاتُ بالطعام وكان لذيذًا شهيًّا، وبكميات وافرة؛ دجاج ولحوم وخضر وسلطة وجبن وزبد ومياه معدنية وقهوة. كان كل شيء مُعبَّأً بطريقةٍ جذابةٍ وفي نظافةٍ تامة.

أكلنا جميعًا بشهية، وأحسَسْنا كلنا بأن شركة إير فرانس لا تني أو تدَّخر جهدًا في تقديم أفضل ما عندها لراحة ركَّابها وسرورهم.

امتدَّ الحديث بيني وبين الراكبة اليونانية الرقيقة «كانوني فوتيني». إنها صورةٌ حية للدعة اليونانية والرقي في التعامل الإنساني. قالت: أنا الآن في الخامسة والعشرين من عمري، لا أفكِّر في الزواج، ولكنني أريد أن أعيش لنفسي، أرى الدنيا وأتعلم منها. إنني من عائلةٍ محافظة، قلما أختلط بالجنس الآخر. كنتُ في باريس أزور خالتي فمكثتُ معها شهرًا، وأنا الآن أعود إلى بيت والدي الذي يبعُد عن مدينة أثينا بمسافة خمسة عشر كيلومترًا.

تتكلم فوتيني هذه، الإنجليزية والفرنسية بمنتهى الطلاقة. قالت: سأنتهي في العام القادم من دراستي وسأعمل في التدريس، ولكني لن أدخر وسعًا في الاستزادة في العلم والمعرفة بالقراءة والرحلات. ومن يدري؟ فقد أزور مصر في إحدى رحلاتي؛ فأنا كيونانية أعرف الرباط القوي الذي يربط أرضَ مصر بأرضِ اليونان منذ قديم الزمان؛ فتاريخانا مرتبطان وعقائدنا القديمة تكاد تكون متشابهة. كانت فوتيني صادقةً في كلماتها وعباراتها، فتبادلنا العناوين ونحن سعيدان.

حان موعد الخروج من الطائرة. كانت الرحلة طيبةً هادئةً مطمئنة، فسلَّمتُ على فوتيني مُودِّعًا، كما سلَّمتُ على الفرنسية أودِّعها قبل مغادرتي الطائرة.

وعلى أرض المطار ذهب كلٌّ منا إلى حال سبيله مُتجهًا وجهتَه التي يقصدها. ومن يدري؟ ربما التقيتُ بهما أو بإحداهما بدل المرة مرات؛ فالعالم اليوم وطن الجميع. وأنا كنابليون، لا أومن بالمستحيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤