مكائد الجليلة ضد الزير سالم

فما إن استتبَّ الأمر للأمير كليب وزوجته وابنة عمِّه الجليلة بنت مرة، فترامى سلطانه على معظم بلدان الشرق الأدنى القديم — فيما عدا مصر والمغرب العربي — حتى أخذت هذه الملحمة — السيرة — تجمع أطرافها كسيرة عائلية قبَلية، قوامها هنا الملحمة — السيرة — تجمع الرمل والأسلاف وعبادتهم.

وهكذا سرعان ما اجتمع فرع بني مرة داخل التحالف القيسي، فاجتمعوا١ «وضربوا تختًا من الرمل؛ ليروا ما هو مُخبَّأ لهم، فأظهر لهم الرمل أن أميرهم «جساس» مقدَّر له أن يَقتُل الأمير كليب، ويظهر الزير ويأخذ ثأره»، وهكذا تُمهِّد الملحمة لظهور الزير سالم ونموه العجيب كطفل قدري أسطوري، فهو سوف يظهر ليُفني بني مرة بالحرب لمدة أربعين عامًا.

وعلى هذا اتَّفق أولاد مرة — وكان عددهم ثلاثة وأربعين ولدًا — على اغتيال الزير سالم منذ المهدِ، وقبل أن يشتدَّ ساعده ويُفنيهم ويُبيدهم عن آخرهم بحسب ما كشف عنه «تخت» الرمل.

فركبوا قاصِدين أختهم الجليلة — زوجة الأمير كليب — وهي في موقع مزار أو كاهنة أو إلهة قمرية بالنسبة لقبائل بني مرة تُستشار وقت الشدة وفي كبريات المهام، كالهجرة والثأر والحروب، ومن هنا فهي — كإلهة قمرية٢ — تدين ولاءها لقبيلتها، وليس لقبيلة زوجها وبعلها كما سنرى وتَكشفه الأحداث.

فأشارت الجليلة بعدم قتل الزير سالم أو المهلهل وهو ابن عشرة أعوام وإلا انكشف الأمر، وأخذ كليب — زوجها — بثأره منهم، واقترحت عليهم أن تجعل كليبًا ذاته يُلقيه في المهالك، وأنشدت تقول:

مقالات الجليلة بنت مرة
تعالوا إخوتي أصغوا لقولي
تريدوا قتل أبو ليلى المهلهل
أخوه كليب خلفه مثل غول
ومن خلفه عدير (هدير؟) زيرقان
سباع الغاب في اليوم المهول
وست وأربعون٣ بنو أبيه
يجركم راكبين على الخيول
وتركب خلفهم كل الفوارس
فوارس تغلب مثل الفحول
ولكن سوف أرميه بحيلة
تحير كل أصحاب العقول
ويبقى كليب يقتله بيده
ويجعله طريحًا على السهول

فاقتنعت قبيلتها برأيها السديد، ورحلوا بعد أن أسلموا لها قيادة الأمر.

حيث بدأت هي حبك سلسلة مُتوالية من المكائد والشرور ضد الزير، بدأتها متوحِّدة بزليخة؛ حيث «شقت جميع ما عليها من الثياب، وأظهرت الهمَّ والاكتئاب» في مواجهة كليب عبر ردهات قصرها، وكان يُحبُّها محبة عظيمة «لحسنها وجمالها وغنجها ودَلالها.»

وما إن سألها كليب عما بها حتى بكتْ «من فؤاد متبول»٤ منشدة:
مقالات الجليلة بنت مرة
كليب أنت قيدوم السرايا
وتحكم في القبائل والعشائر
وفي كل المدائن والقرايا
وحكمك نافذ في كل أرض
وتخدُمك الملوك مع الرعايا
وإني بنت عمك يا مسمى
ومثلي ليس يوجد في البرايا
أتأبى٥ الزير أخوك في غيابك
يريد فضيحتي بين الصبايا
قبضت عليه من عنقه فولَّى
وراح بسرعة وسط الخلايا
ألا يا مير قول لي كيف تعمل
فاقتله وأرديه المنايا
وإن لم تقتله حالًا فإني
أروح اليوم في وسط الخبايا
وتبقى الناس تشتم في قفانا
ونُبلى بالدواهي والرزايا
وهذا الأمر لا يصلح لمثلك
كريم الأصل عكار المطايا٦
فاقتله واخلص من بلاه
ولا تخشَ آثامًا ولا خطايا
فقتل الزير أصوب من حياته
لأنه خائن دون البرايا
والجليلة في شعرها تتَّهم الزير سالم باغتصابها، مثلما فعلت فيدرا Phaedra ضد ابن زوجها هيبولت ابن ثيسيوس Thessens؛ فكلاهما — الزير وهيبولت — كان صيادًا بريًّا، وكلاهما أقرب — بدورهما — من «أنكيدوا» البري الحيواني من مواجهة جلجاميش الزراعي ساكن المدن المتحضِّر.

ولما سمع كليب شعرها وكلامها، غضب وأرسل مَنْ يُحْضِره، وحين ذهب رسول الملك إليه امتنع عن المثول أمام أخيه الأكبر؛ لأنه كان يُعاقر الخمر من جلسائه، وعاد الرسول إلى كليب وأخبره بما رأى، وبرفض الزير للمُثول والمجيء، فأرسله ثانية فما حضر، فعند ذلك سار كليب إليه وقد عظم الأمر لديه، ودخل عليه خلوته ونهره وضربه حتى آلمه، «ثم نزَع عنه ثياب الحرير حتى صار مَعيرة للكبير والصغير، وأرسله مع الرعيان ليرعى النوق والجمال.»

وحين عاد إلى الجليلة، وأخبرها ما فعل مع المهلهل؛ ازدادت كدرًا واندفعَت تُدبِّر حيلةً جديدةً لشحن كليب ودفعه دفعًا لإهلاكه، فقالت له: إنها بلغها من بعض الرعيان مروق أخيه وتهتُّكه إلى حد اللواط مع البدو والصعاليك، منشدة:

تقول الجليلة يا محفوظ٧
أتاني العلم بحال أخوك
وصار الناس بقيل وقال
وكل البدو عليك ضحوك
أنت أمير كبير القوم
وقيس وحِمْيَر قد هابوك

وتُمعن الجليلة مُنشدةً، مُعبِّرة عن تهتُّك الزير وفضائحه مع الرعيان البدو والصعاليك بما أصبح مسيئًا للأرستقراطية الإقطاعية القبلية.

ومرة تالية نجحت في إلهاب قلب الملك كليب ضد أخيه، «فأخذته الحمية وعصفت في رأسه نخوة الجاهلية» كما يذكر النص.

وهنا أشارت عليه بنفي الزير إلى وادي الأسود والنمور، فركب إليه واقتاده كليب — قاطعين البراري والقفار — إلى الوادي المَهجور، وما إن وطأه حتى «شخر جواد كليب ونخر، وإذا بسبع من بطن الوادي ظهر» فقاتله كليب، وأخطأه بحربته، وهجم عليه السبع لافتراسه إلى أن تقدَّم الزير فخلصه منه، وشقَّ السبع بخنجره نصفين، ثم أخرج قلبه فأكله، وودَّع أخاه مطمئنًّا، وهذه أول إشارة إلى توحُّد الزير بالآلهة الشمسيِّين؛ جلجاميش وهرقل وشمشون وبيولف، فجميعُهم قتَلُوا الأسد بأيديهم العارية، أو هراوة كتلك المُرتبطة بهرقل، وبعضُهم أيضًا أكل بعض أحشائه كشمشون وألغازه.

ورجع كليب متعجِّبًا، فأخبر زوجته الجليلة بما رآه، فأشارت من فورها بخدعة جديدة، مهاجرة كما يتَّضح من بالاد وفابولات يوسف٨ وزليخة وإخوته أبناء يعقوب، من زوجته «الحورانية» «ليئة» ابنة خاله لابان بن ناحور الحوراني، حين تآمَروا عليه وألقوه في البئر.٩

والأمر ليس ببعيد طالما أنَّ أحداثنا تجري ما بين دمشق وأرض فلسطين كما أشرنا، وعلى أقل تقدير فإنَّ بطلنا الممزَّق — أو المهلهل هنا الزير سالم — إنما هو بطل فلسطيني قلبًا وقالبًا، أو لنَقُلْ: مَوطنًا وخصائص.

فالمكيدة الجديدة التي تُضاف إلى ما سبق من مكائد تُدبِّرها الجليلة وتُشير بها — من فورها — على الملك كليب: أن يأخذ الزير فيُلقي به «على نية أن ينشل الماء في «بير صندل السباع» — وهي بير سبع الحالية بالأرض المحتلة — ثم يقطَع الرعاة الحبل، فتُغرقه مياه بئر سبع.»

وهكذا يذكرنا الصراع بين الأخوَين بقصة الدولة الوسطى المصرية الفرعونية المعروفة بالأخوَين أو باتا، والمكائد التي تُلهبها شرور زوجة الأخ الأكبر ضد الأصغر.

وكالعادة استسلم الملك كليب لزوجته الجليلة مُنفِّذًا، وركب جواده ومعه مائة فارس، فوصلوا إلى الزير، وأخذه معهم إلى «بئر صندل السباع»، وعند وصولهم قال كليب: سالم خيولنا عطشت الآن، انزل إلى البير واملأ لها.

فدلُّوه إلى عمق البئر في حبل، وأخذ يملأ وهم ينشلون ويسقون حتى ملئوا الأرض على باب البير، وجاءوا بالخيل ليَسقوها فتزاحمت على بعضها البعض وأخذت بالصهيل والعنف والازدحام، وعجز كليب وجماعته عن ردِّها، إلى أن سمع الزير وهو في البير صهيلها وتمرُّدَها، فصرخ عليها الزير سالم صوتًا مثل الرعد، فارتجَّت له الوديان والفرسان؛ فجفلَت الخيل وتأخَّرت وانفصلت عن بعضها وهدأت واستكانت.

فتعجَّب كليب وأخرج أخاه سالمًا من «بير صندل السباع» وازدادت محبَّته له، ورجع به إلى الديار، وجليلة التي غابت عن الوجود من شدة الغيظ حين شاهدته راجعًا فحدثها كليب بما رأى منشدًا:

يقول كليب من شعر نفيس
قصيد ما نظمه قطُّ قائل
جليلة اسمعي يا بنت عمي
أرى عقلك بهذا اليوم زائل
أأقتله ليُشْفَى اليوم قلبُك
ومنه قد ظهرت لنا فعايل
سباعُ الغاب هابت من لقاه
كذاك الخيل صيَّرها جفايك
ثلاث ألوف يَلقاهم بصدره
من الشجعان فرسان القبايل
تقولي اقتله وارتاح منه
فقولك جهل ما هو قول عاقل
فإني لا أبيعه بألف مثلك
ولو مهما جرى منه فعايل
أراك تطلبي قتله سريعًا
فقولك عنه ليس له دلائل
فقولك يا جليلة قول باطل
فحاش الزير أن يتبَع رذايل
فقِلِّي من كلامك لا تزيدي
أيا بنت الأماجد والأصايل

وفهمت الجليلة باطن كلامه، فأظهرت السرور ومازحَتْه، وصبرت عليه أيامًا ثم عاودتها مكائدها، وفي هذه المرة ادعت المرض ورقدت في الفراش، وقالت لكليب: لي حاجة إليك لا يقدر عليها سوى أخيك الزير، أريد مقدار كأسين من حليب السباع؛ لأنه يُقوِّي الأعصاب.

وادعت أن الدواء وصفته لها دايتها،١٠ وأنه سيأتيها بولد لإحياء ذكرى الملك «كليب أبي اليمامة»، فيَحكم شرقًا وغربًا «من أرض الروم للكعبة دوامًا»، وأنشدت الجليلة تقول:
مقالات الجليلة بنت مرة
كليب اسمع لي يا أبا اليماما
وأنت اليوم ملك في البوادي
يا ليت ألحق بك يا أمير داما
وتحكم يا ملك شرقًا وغربًا
من أرض الروم للكعبة دواما
وكم أبراج من ذهب وفضة
جواهر تشرق جناح الظلاما
ولا لك طفل تحيي فيه ذكرك
سوى سبع بنات مثل الحماما
أتاني منك سبع بنات أتاني
ولا جاني منك ذكر غلاما
وقالت دايتي لي يا جليلة
معي لك علم يبري السقاما
لبان لبوى بصوفه احمليها
تروحي في ذكر حامل قواما
فنادي الزير وأَخْبِرْه سريعًا
أدام الله عمرك بالسلاما

فلما فرغت الجليلة مِن شِعرها، صدَّق كليب مقالها وأرسل في طلب الزير كما أشارت في آخر أنشودتها السالفة المهمَّة، التي يصحُّ أن نتوقف عندها، خاصة بالنسبة لهذا الإمبراطور العربي الجاهل كليب، الذي أنجب منها سبع بنات، ولم يتسمَّ إلا باسم صغراهنَّ «اليمامة»: «أبا اليمامة».

فاليمامة — كما يتبادر إلى الذهن — رمز أو شعار طوطمي عربي إسلامي، تسمَّت بها عدة مدن عربية في شمال الجزيرة وجنوبها اليمني، ارتبطت بفابيولا زرقاء اليمامة المتنبئة بجيش الشجر الجرار الزاحف على مدينتها، ويلاحظ أن نفس الأمثولة استخدمها شكسبير في ماكبث الذي قد يتشابه من أحد جوانبه بالملك كليب، فكلاهما تسلَّطت عليه امرأته الدموية تسيِّره.

والملفت أن الجليلة لم تطلب «حليب لبؤة» بقدر ما هي طلبت في شِعرها — وللتعجيز — «لبان لبوى١١ بصوفه احمليها»، بل «لبن» بمعنى المَني أو السائل المنوي، ويبدو أنها لن تشربه بقدر ما هي ستستعمله عبر فرجها لتَحمل، وتجيء كليبًا بابن ذكر يُحيي ذكرى الملك وريث التبع.
ويبدو أن الجليلة حضرتْ بنفسها طلب الأخ من أخيه إحضار حليب السباع؛ ذلك أنَّ الزير الذي وافق ملبيًا طلب سيفًا يتسلَّح به، فطلب كليب — بدوره — من الجليلة أن تُعطيه السيف فبادرته: ألا تستحي يا زير أن تطلب سيفًا وأنت في هذه الشجاعة، فأطرق وخرج إلى غابة كبيرة الأشجار والصخور، وليس معه سوى سكين وعصا — كهرقل وشمشون — إلى أن توقَّف في مواجهة أسد غاضب ما إن بادره مُهاجمًا حتى قبض عليه الزير من ذيله١٢ ونشله بقوة ساعده وزنده، فضربه في الأرض وقتله بالعصا، وما إن همَّ بجز رأسه، حتى رأى لبؤته وأشباله السبعة من ورائها، فصعد شجرة إلى أن تأمَّل ثديها وألقى بنفسه عليها ونحرها بسكينه، وملأ الحُقَّ من حليبها، وساق أشبالها بعد أن ربطهم، وجزَّ رأس الأسدين، وعاد إلى العمران محاطًا بضجة الفرسان العرب من حوله، إلى أن دخَل مدينة دمشق حاضرة مُلْك أخيه كليب.
وما إن سمعت الجليلة الضجة فأطلَّت برأسها من الشباك،١٣ ورأت الزير سالم مقبلًا على تلك الحالة؛ حتى التهب قلبها بنار الغضب، ثم دخل الزير على الجليلة وكان كليب معها، فسلَّم عليها ورمى الرءوس أمامها وأعطى الحُقَّ لامرأة أخيه.

وعندما تعجَّب كليب من بطولته وسأله، أنشد الزير:

يقول الزير قهار المواكب
رماني الدهر في كلِّ المصائب
فلا تسمع أخي قول الأعادي
لأن الضدَّ شوره ليس صائب
يشوروا عليك في رأي وخيم
ليَسقوك يا أخي كأس المتاعب
فأهل العقل لا تسمع لأنثى
لأن كلامها لا شك كاذب
فاعلم يا أخي فيما جرى لي
بهذا اليوم في وادي التعالب
وجدت السبع وسط الغاب دائر
كأنه جائع للصيد طالب
فلما شافني حالًا أتاني
وكشَّر عن أسنانه والمخالب
فصِحْتُ عليه صيحة جاهلية
فقدم يا أخي هاجم وطالب
حززت بخنجري رأسه فهوى
على وجه الثرى للأرض قالب
أتتني بعده لبوة مغيرة
فلما شفتها ولَّيت هارب
رأيت أشبالها سبعة وراها
فداروا جهتي من كل جانب
فلما شفتهم جاءوا لنحوي
طلعت لشجرة ذات الشناغب
فداروا حولها فرميت نفسي
فصرت لظهرها بالحال راكب
حززت لرأسها وملأت حقي
حليبًا بعد أن نلت المآرب
ورأس السبع واللبوة قطعته
علامة للأغارب والأقارب
وسقت أولادها السبعة أمامي
فلما صرت في وسط المضارب
فلاقتني جميع رجال قومي
وحيَّاني الأباعد والأقارب
هذا ما جرى لي في نهاري
وما قاسيت من هول المصائب

وحين وصل الزير سالم إلى مقولة مأثورة: «فأهل العقل لا تَسمع لأنثى» أدركت الجليلة ما يَعنيه، وأنه إنما يُلمِّح لها، وعادت فأضمرت له الشر الدفين، بل هي وصفته «بالقبيح»، ومن جديد واصلت مكائدها وإلحاحها، إلى أن استقرَّت على مكيدة أن يمرض كليب، ويزوره الزير في الفراش، ويطلب منه أن يشرب من بئر السباع أو بلدة «بئر السبع» الفلسطينية التي سيتخذها الزير سالم مأوى ومنفى له، حيث سيقيم له قصره فيها من جماجم سبوعه أو أعدائه.

فحين وافق الزير سالم على إحضار ماء بئر السباع، أخذ حمارًا وقربة ماء، واندفع من جديد مخاطرًا في وادي السباع الموحش.

مع ملاحظة أن الحمار والأتان من أخصِّ خصائص الفولكلور الفلسطيني ومنها: حكايات١٤ «بلعام» ومأثوراته الكثيرة التي تسرَّبت إلى التراث العبري المدون.

بل إنَّ في اتخاذ الزير سالم للحمار ومواجهة الأسد في بير السباع — أو بئر سبع — ما يوحده بالإله الشمس الفلسطيني شمشون، ذلك إذا ما أضفنا تآمر وإلحاح الجليلة — أو جليلة — المتوحِّد — إلى حدٍّ مُلفت — مع إلحاح دليلة من شمشون، «ولما كانت تُضايقه كل يوم بكلامها وألحت عليه ضاقت نفسه إلى الموت» (قضاة: ١٦).

وما إن وصل الزير سالم بير السباع حتى وجد سبعًا نائمًا، وقد وضع يديه على فمه، فقال لنفسه: «هذا نائم وعيب أن أقتله غدرًا»، لكنه ما إن فكَّ قربته وربط حماره ونزل إلى البئر حتى نهق الحمار، فأيقظ الأسد النائم الذي هجم عليه من فوره وقتَله وجعل يأكله، فلما خرج الزير تضايق وهجم على الأسد قائلًا: «كيف تأكل حماري؟ وحقِّ العرب لا بد من تحميلك القرب»، وصارعه بفك حماره بما يوحِّده أكثر من شمشون إلى أن ألجمه لجامًا قويًّا، وأنهضه مثل السكران صارخًا:١٥ «يا قليل الأدب، الذي يأكل حمير العرب، عليه أن يحمل القرب.»

وهكذا ركبه الزير وساقه عائدًا إلى العمران حتى دخل المدينة والناس في عجب، وما إن شاهداه من شرفة قصرهما كليبٌ والجليلة في موكبه ذاك، حتى بكى كليب فرحًا، أما هي فاشتعل قلبها واتَّقد، ولم يهدأ لها بال إلا حينما دبَّرت مكيدة أخيرة.

أما الزير سالم فإنه أنزل القربة عن ظهر أسده المُستأنَس المقهور، ثم ضربه ألقاه قتيلًا، مغمغمًا: أخذنا بثأر الحمار.

وهنا أمَر كليبٌ خدمه أن يُدْخِلوا الزير إلى الحمام، فدخل واغتسل ولبس «حُلَّة من الأرجوان»، ومعروف أن الأرجوان الأحمر القاني كان الشعار الدامي لفينيقيا منذ أقدم العصور.

مع ملاحظة أن فينيقيا هنا تعني الطلائع البحرية من بين الكنعانيين؛ من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، سكان المدن البحرية الدول التي عرفت جوهر الهلينية كمُجتمعٍ ثقافيٍّ مُستنير هدفه الأخير الإنسان حقوقه وواجباته، قبل أن يَعرفها الهلينيون أنفسهم بأكثر من ألفي عام، كما يذكر شيخ المؤرِّخين أرنولد توينبي.

فما إن شاهد الملك كليب أخاه الأصغر — الزير سالم — في لباس من الأرجوان القاني كالإله تموز حتى قبَّله بين عينيه، وطالبه بأن يتمنى عليه، فلم يطلب الزير سوى أن يُعطى «بير سبع» أو منطقة بئر سبع ويكون له فيها صيوان؛ فالانعزال أفضل للرجال الأحرار، وقال مازحًا: «لا سيما ولي على السباع ثأر، ولا بد من قتل جميع الأسود، أو يَرجع حماري١٦ ويعود.»

فضحك كليب وتعجَّب وأعطاه ما طلب وودَّعه، وسار الزير سالم حتى وصَل إلى بير السباع، ونصب صيوانه الذي أصبح قصرًا من جماجم الأسود، والذي كان كلَّما قتل أسدًا منهم يقول مازحًا: يا لتارات الحمار.

واتخذ له صديقًا وفيًّا — هو ابن عمه «همام» أخو الجليلة والأمير جساس — فانعزلا في بئر سبع هذه في فلسطين يَشربان المدام ويسمعان الأنغام لمدة ثلاث سنوات.

١  بحسب ما تذكره بنصِّه هذه السيرة.
٢  White or Moon godess.
٣  لاحظ حرص السيرة على ذكر أعداد الأولاد داخل كل قبيلة، وقد يكونون قبائل أو عشائر أو بطونًا.
٤  استوقفني هذا التعبير عن «الفؤاد المتبول» أو القلب الجريح … النازف، وهو سيتكرَّر كثيرًا، ويشير إلى أنه تعبير نسائي عن أقصى حالات الوجيعة.
٥  قد تكون: «أتاني».
٦  المطايا معنى الحمير أو الأتان الأصيلة.
٧  تلقب الجليلة كليب باسم: محفوظ، ويبدو أنَّ هذا هو اسمه الفعلي أو أحد أسمائه، بينما كليب هو لقبه الطوطمي على عادة الكلبيين أو التغلبيين وهو ما سيتَّضح.
٨  ولنَقُلْ: يوسف الفلسطيني، على رأي الشاعر معين بسيسو في ملحمته المعاصرة عن مصر.
٩  التي قد تكون — بدورها — بئر سبع الفلسطينية.
١٠  بالطبع كانت الداية أو القابلة في موقع الحكيم والطبيب والكاهنة، وهي أقدم مهنة مارستها المرأة.
١١  قطعة صوف توضع لجلب الحمل في الخرافات الشعبية.
١٢  ولعلنا نتذكَّر من فورنا النحت والرسوم الحجرية الحفائرية الأركيولوجية التي جاءت بها حضارات ما بين النهرين، منذ ملحمة جلجاميش وتمثيله بالأسد على هذا النحو حتى الآلهة البابلية والأشورية.
١٣  بما يُذكرنا برؤية مبكال — ابنة شارل الملك الذي جزَّ الفلسطينيون رأسه — عند رؤيتها لداود، الملك سفر قضاه.
١٤  كان حمار النبي بلعام له صوت آدمي وينطق بالحكمة.
١٥  يتضح مدى الحس العربي المصاحب للمأثورات التي يَنسبها نص السيرة للزير سالم.
١٦  فالحمار هنا كطوطم سلف لهذه القبائل — الحمْيَرية الكلبية — المغرقة في الطوطمية بما يشير أكثر إلى مدى قِدَم هذه السيرة، وهو ما سنوليه البحث في حينه. المؤلف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤