إنسانية العلم

تطفح أخبار الصحف بما يحزن كل عربي، ففي آسيا وإفريقيا عامة، وفي الأقطار العربية خاصة، نجد الاستغلال والاستعمار، كما نجد ضرب الأحرار، ومطاردة الوطنيين، وقتل الجماهير، كما لو كانت هناك حرب عنصرية بين العرب وغير العرب.

ولكن هنا وهناك نجد في هذه الصحف أخبارًا سارة، يسر بها المهتمون بل المهمومون بوطنهم، وأولئك الذين يعرفون الحاضر السيِّئ، ويحاولون أن يهيئوا المستقبل الحسن، وأولئك الذين ينشدون الإنسانية في النظم الاجتماعية، ويخططون الخطط الارتقائية لبلادهم، ويبعثون الحركات الانتهاضية بين المضغوطين والمدوسين، وهذه الأخبار السارة يجب أن ننشرها ونوضحها ونكرر الإشارة إليها؛ لأنها تبعث الأمل وتحث على العمل.

فهناك مثلا حادث خلع محمد بن يوسف سلطان مراكش، فإن هذا الخبر في ظاهره يحزن ويوهم بالهزيمة للحركات الانتهاضية للشعوب العربية، ولكني أجد نقيض هذا؛ ولذلك أفرح بدلالته، فإن ملكًا يرفض العرش؛ لأنه مع الشعب ضد الاستعمار، لهو رجل عظيم سوف يخلِّد التاريخ اسمه، ويكفي كي نعرف دلالة هذا الموقف أن نفرض أن الحيوان فاروق كان في مكانه، فإنه كان عندئذ يقبل جميع ما شرط عليه، كي يبقى على العرش، وكان يقبل ضرب الشعب المراكشي بالمدافع والدبابات، فضلًا عن البنادق والمسدسات.

إن المثل اليوناني يقول: إن الفساد في السمكة يبدأ في الرأس. وكان رأسنا في مصر فاسدًا فقطعناه، أما الرأس في مراكش فكان سليمً؛ ولذلك لم يطقه الاستعمار الذي يحتاج كي يحيا إلى الفساد، وعندنا الكثير من الأخبار السارة. مثل:
  • اتحاد الشعبين المصري والسوداني، ونعني اتحاد شعبين وليس اتحاد حكومتين.

  • وإنشاء الجمهورية في مصر، والوجدان القومي بين الشعوب العربية، وتحطيم الروح الإقطاعية في مصر، ثم هذا الوجدان الجديد بشأن التطور الاقتصادي، والاتجاه نحو فهم التطور في الحضارة، بأنه تطور في الصناعة، وأخيرًا هذا المؤتمر العلمي العربي الذي عقد في الإسكندرية.

•••

هذا المؤتمر هو خطوة نحو الرخاء والديمقراطية، كما هو مغامرة كاسبة في مستقبل الشعوب العربية.

كان فؤاد وهو ملك، يقيل الوزارات، ويزيف الدستور، ويقرب إليه الفاسدين، ولو أن أحدًا كان قد عرض عليه تأليف «مجمع للتقدم العلمي» لرفض العرض هازئًا ساخرًا، ولكنه قَبِل تأليف «مجمع فؤاد للغة العربية»؛ لأنه كان واثقًا أن مثل هذا المجمع لن يغير عرشه في شيء، وأنه ربما يجد في أعضائه من يؤلفون القصائد في مدحه والإشادة بعدله وشخصه وأسرته وابنه إلخ …

وقد أنفقنا في العشرين سنة الماضية نحو نصف مليون جنيه على أعضاء هذا المجمع دون أن نجد منه أية حركة انتهاضية أو ارتقائية لبلادنا، وهذا هو ما كان ينتظره فؤاد الذي أسسه.

ولكن هذا المؤتمر «العلمي» الذي عقد في الإسكندرية، هو تنبيه للشعوب العربية، بأن القوة الجديدة التي تغير الشعوب وتنقلها من الفاقة إلى الثراء، ومن النظام الإقطاعي إلى النظام الديمقراطي، هي قوة العلم الذي يعتمد على المعارف الممحصة دون العقائد الموروثة.

•••

وإطرائى للعلم لا يعني احتقاري للأدب، ولكن أدبنا في مصر قد بقي إلى الآن، باستثناءات صغيرة، يغتذي بدمه ويجتر نفسه، ولذلك لم تكن له قوة التوجيه والإنهاض للشعوب العربية، بل كثيرًا ما أيد هذا الأدب سلطان المستبدين واتجاهات الرجعيين، ووقف متعاليًّا على سواد الشعب يكاد ينفصل عن المجتمع ويتجاهل مشكلاته، ومن هنا هذه الظاهرة الواضحة فيه، وهي خلوة من النزعة الإنسانية.

ذلك أن الكاتب لا يكون إنسانًا إلا إذا اشتغل بعواطفه بمشكلات المجتمع، حتى يحس بعواطفه، وينطق بألسنة أفراده، مع الإحساس الصادق بآلامهم وآمالهم، وهو هنا يحتاج إلى أن يدرس طرق الاستعمار والاستغلال ويتابع أخبار الصحف، ما يكتب فيها وما لا يكتب، ويعرف أمراض الفقر، وهندسة المدن، ونفقات العلاج، وإحصاءات الطلاق، وهو لهذا يحتاج إلى دراسة العلوم؛ لأنها هي التي تزيد الإنتاج وتغير المجتمعات، وتلغي الفاقة، وتعمم السعادة.

والأديب المصري الحق يعرف أن العلم يستخدم في القصر الأحمر، أو القصر الأزرق، أو غيرهما مما يملكه الأثرياء في مصر؛ فيثمر نظافة ناصعة، وإضاءة مشرقة، ودفئًا وبردًا، وفنًّا وبهجة، ولكنه، أي: العلم، لا يدخل ولم يدخل إلى الآن بيوت الفقراء.

العلم هو الذي يجعلنا إنسانيين في الأدب؛ لأنه يحملنا على التأمل ثم التفكير، كما يحملنا على المقارنة، فيكون الغضب، ويكون الإلحاح في المطالبة بالإصلاح، وأديب بلا علم هو أديب بلا إنسانية.

•••

والحركات الأمامية في الأمم الأوروبية والأمريكية يتزعمها أو يوحي بها العلم، وما من أديب تحس الحيوية في أدبه إلا كان علميًّا.

أذكر برنارد شو الذي نقرأ مؤلفاته فنجد رجلًا علميَّ الذهن يتحدث عن التطور، وعن الإنسان بعد مئة ألف سنة، وعن ضبط التناسل، وعن بناء المنازل، وهو يتحدث عن هذه الشئون كما يتحدث عن دنشواي في مصر، وهو إنساني لأنه يعرف مقدار الهناء بالعلم ومقدار التعاسة التي نعانيها نحن وغيرنا لأننا حرمناه.

وقد يقال: إن الأديب يمكن أن يكون إنسانًا ولو جهل العلوم، وهذا حق، ولكن إنسانيته عندئذ تكون عقيمة، قصارها عاطفة دامعة فيها تحسر وتندم، ثم أسف وعجز، ثم رثاء واستسلام.

ولكن الأديب العلمي يعرف العلاج؛ ولذلك هو إنساني، وإنسانيته كفاح وليست استسلامًا أو أسفًا.

وقد يقال أيضًا: إن العلم يستخدم للشر، وهذا صحيح، ولكن الأديب الإنساني يكافح هذا الشر ولا يكافح العلم؛ لأن العلم هو أعظم قوى التطور في عصرنا؛ إذ هو الذي يغير المجتمعات، بل إنه ليوشك أن يغير طبيعة الإنسان، أجل، إن طبيعة الإنسان ستتغير بالعلم؛ إذ ما هو التطور إن لم يكن التغير في الطبيعة، طبيعة الكون، وطبيعة الدنيا، وطبيعة النبات والحيوان والإنسان؟

•••

لذلك أنا أرجو أدباءنا ألا يتكبروا على العلم؛ لأنهم لن يستطيعوا خدمة بلادهم إلا بمقدار ما يعرفون من القوى العلمية التي تستطيع أن تعمم الهناء والخير والثقافة والصحة لأبنائنا، بل هم لا يستطيعون أن يكونوا إنسانيين منتجين إلا بالعلم، وهذا المؤتمر العلمي العربي الذي عقد بالإسكندرية يجب أن ينبه الأدباء كما ينبه الحكومات والشعوب.

•••

إن كل ما يزيد وجداننا؛ أي: إحساسنا بالوجود، أي: كل ما يجعل وجودنا أوجد، تعمقًا وتوسعًا، هو زيادة في السعادة وفهم للفلسفة، والعلم يزيد وجداننا وينقلنا إلى آفاق لم نكن نعرفها.

ثم هو، أي: العلم، يزيد حرياتنا؛ لأنه يقشع عن عقولنا ظلام الجهل، ويفك قيود الخرافات، بل هو يعد في عصرنا أعظم القوى المحررة من الخوف والفقر والمرض والجهل.

ولو أن أديبًا عظيمًا مثل الجاحظ كان يعيش في عصرنا لكان قد كرس حياته لدرس العلم؛ لأنه يفطن إلى ما فيه من القوى التحريرية للعقل البشري، بل هو عرف قيمة العلم في الأمداء التي كان قد بلغها في أيامه.

ومع ذلك إذا كان الأديب الذي عاش قبل ألف سنة يعذر في تجاهله العلم، فأن الأديب العصري لا يمكن أن يعذر في هذا التجاهل الذي قد يجعل منه غاويًا بدلًا من أن يكون مرشدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤