رسالة الكاتب

الفرق بين الكاتب وقرائه أنه هو أكثر وجدانًا منهم، أي: إنه يجد نفسه، في أبعادها الزمنية والمكانية، أكثر مما يجدون هم أنفسهم، ومهمته أن ينقلهم إلى درجة وجدانه ويكسبهم ضميره.

مهمة الكاتب أن يرفع القارئ من الزقاق إلى الشارع، ومن الشارع إلى المدينة، ومن المدينة إلى القارة، إلى هذا الكوكب كله، مهمة الكاتب أن يملأ صدر القارئ باهتمامات هي هموم جديدة، هموم بشرية تزيد على همومه الشخصية، كما يملأه بمسرات الحياة بأن يكشف له عن ألوان من الجمال والشرف والحق والقوة لم يكن يعرفها من قبل في الطبيعة والإنسان والفن.

مهمة الكاتب أن يحمل القارئ على أن يأبى أن يحيا حياة الحشرة بهموم شخصية وضيعة: أكل وشرب ومسكن، وأن يكسبه همومًا بشرية عظيمة كالحرية والثقافة والحضارة والفن والثورة.

مهمة الكاتب أن يجعل القارئ يحيا الحياة التاريخية، ويحس أنه إنسان عظيم له مشاركة في تغيير هذه الأرض وترقية مجتمعاتها وتطوير حضارتها.

مهمة الكاتب أن يقول للقارئ: أنت لست تاجرًا تبيع الأقمشة أو البقول، إنما أنت إنسان عظيم قد احتاجت الطبيعة إلى ألف مليون سنة كي تخرجك من رحمها بعد آلاف التجارب التي لم تنجح في إخراج مثلك، أنت قمة التطور، أنت سلطان هذه الأرض.

وبكلمة موجزة: قيمة الكاتب ومهمته أن يزيل عن القارئ هذا الذهول الذي كثيرًا ما يقع فيه فينساق في عادات فكرية وعقائدية تاريخية حتى يتحجر، والكاتب العظيم هو ذلك الذي يصدم قارئه فيوقظه، ويرد إليه وجدانه، ثم يزيد هذا الوجدان سعة وعمقًا.

الشيزوفريني هو رجل مريض، ومرضه هو الذهول، فالحوادث التي تجري حوله، خطيرة أو حقيرة، لا تلفته، ولكننا نعيد إليه وجدانه وتعقله بصدمة كهربائية عنيفة.

والكاتب العظيم هو هذه الصدمة الكهربائية لقرائه الشيزوفرنيين الذاهلين، وكلنا إلى حد ما في شيزوفرينا طفيفة، ولذلك كثيرًا ما نعيش في ذهول.

•••

وأعظم ما يتهيأ به الكاتب كي يحسن حرفته، ولا نقول كي يكون عظيمًا، هو أن يزيد وجدانه، ولذلك يحتاج إلى أن يدرس المعارف والأفكار والعلوم والآداب، وجميع هذه الأشياء تزيد الوجدان، أي: إنه سيجد نفسه في ميدان من الوجود أكبر وأرحب مما كان قبل أن يدرس هذه المعارف، وهو لذلك يكون أقدر على التعقل؛ إذ هو يرى ويحس أكثر، وهو لذلك أيضًا يكتسب الحكمة والبصيرة معًا، فإذا كتب كان ما يكتبه ثمرة لهذه الحكمة وهذه البصيرة.

ولكن هذه المعارف والأفكار والعلوم والآداب لا تشتمل على جميع الاختبارات التي يحتاج إليها الكاتب؛ ذلك لأن الكاتب يشتغل بشئون الناس، فيجب أن يعمل أعمال الناس، ولو كان العمر يمتد حتى يتسع للكاتب، بحيث تمر به اختبارات مهنية وأخلاقية وروحية، بحيث يكون ملاحًا في السفينة، وضابطًا في الجيش، ومعلمًا في المدرسة، وطبيبًا في المدينة أو الريف، وسياسيًّا وصحفيًّا، وبحيث تمر به بعض الكوارث كموت الصديق، أو الحبس والحرمان، أو الفقر والمرض، وبحيث تنتابه تلك التطوارت الروحية التي تغير عقيدته أو تقويها، وتحرفه عن وجهته أو تثبته، لو كان العمر يمتد لكل ذلك لكان في هذه الاختبارات ما يهيئ الأديب أعظم التهيؤ لأن يكون عظيمًا؛ لأن هذه الاختبارات تربطه بالمجتمع، وتغمسه في الطبيعة، وتزيد وجدانه، وتبعده عن الذهول الحيواني.

ولكن بالطبع هذه الحال محال، ولذلك يضطر الأديب إلى أن يستبدل باختبارات الحياة دراسة أحوال البشر والمجتمعات من الكتب والصحف ومن الناس، يسألهم ويتعلم من إجاباتهم واختباراتهم.

•••

بعض الأزمنة يحفل بالكوارث، فيزداد الوجدان عند الناس عامة، وعند الأديب خاصة.

كان جيته الأديب الألماني يشكر الأقدار على أنه رأى في حياته حرب السنين السبع، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، وحروب نابليون، وكان يقول: إن هذه الكوارث قد زادته حكمة وبصيرة؛ لأنها زادته وجدانًا؛ إذ هي أبعاده التاريخية والجغرافية والروحية.

وزماننا هذا يحفل أيضًا بالكوارث والحروب، وقد نبه لذلك كثيرًا من الذاهلين، إلا أولئك الذين يعيشون في نعاس الموت أو يفصلون بينهم وبين اختبارات الدنيا بفواصل من التقاليد والعادات المتحجرة.

وهذه هي الكوارث والاختبارات العامة، ولكن الأقدار تحابي أحيانًا بعض الأدباء بكوارث خاصة، فيتنبهون، ويحسنون بذلك تأدية رسالتهم.

ذلك أن الكارثة الخاصة تحدث لنا توترًا قد لا تحدثه الكارثة العامة، فإذا كنا على شيء من الذكاء فإن هذا التوتر يبعث فينا غضبًا أو حزنًا، نجعل منه مادة فنية جديدة للقراء؛ لأن مشكلتنا الشخصية تعود مشكلة عامة للبشر، ومأساتنا الفردية مأساة المجتمع كله.

وكاتب بلا توتر، وبلا قلق، وبلا جنون، لا يساوي ثمن الحبر الذي يكتب به، فنحن نقلق ونسخط، ثم نتوتر، إذا كنا نجد في الوسط الذي نعيش فيه من الأخطاء والعلل ما يستحق غضبنا وتوترنا، ولكن نوبة القلق، نوبة التوتر، نوبة الجنون، لا تلائم الكتابة.

ولذلك يحتاج الكاتب المتوتر إلى فترة من الحضانة أو الاختمار، يبدأ عقبهما فيكتب، كما لو كان شخصًا آخر غريبًا، أي: يكتب في وجدان وتعقل.

إن الأديب يحتاج إلى البر العاجي، ولكن لا ليعيش فيه، وإنما ليعتكف فيه، ويلجأ إلى خلوته بعض الوقت، كي يتأمل الحوادث ويفكر فيها ويتدبرها، وإذا كانت السوق هي ميدان الصحفي التي يدرس فيها تتابع الحوادث، فإن ميدان الأديب يجب أن يشمل السوق والبرج العاجي معًا، الأولى للاتصال بالمجتمع ودراسة الأشخاص والأشياء، والثاني للتأمل والاستنتاج.

والصحفي ينقل إلينا الحوادث فور وقوعها، ولكن الأديب ينقلها إلينا بعد الاختمار والتدبر اللذين يحتاجان إلى أيام أو إلى سنوات.

وعالمنا في ارتباط أفكاره واشتباك أممه، يتطلب من الأديب أن يكون صحفيًّا، يرتبط بالمجتمع، ويدرس المذاهب السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية التي تفشو فيه، ثم ينقلها، في برجه العاجي، إلى الشعر أو النثر، إلى الأدب.

•••

الأسلوب الحسن هو ثمرة الرجل الحسن، ذلك لأننا نكتب في الكتاب أو الجريدة كما نخاطب أصدقاءنا في الشارع أو الغرفة، فإذا كنا على أخلاق حسنة فإننا لا نغش أصدقاءنا، بل هم يجدون منا الصراحة والأمانة والكلمة المكشوفة التي لا تضمر خبيئة، وكذلك الشأن في الكتابة؛ لأن أسلوبنا هو أخلاقنا.

هذا هو الأساس في الأسلوب، ولكن كما يكون المشي رقصًا، وكما يكون الكلام غناء، كذلك يمكن، بل يجب أن نعمد إلى الجمال في التعبير ونهدف إلى شيء من الإيقاع حتى في النثر.

والأسلوب هو الشخص، هو الشخصية، وأعظم ما يرفع من شأن الشخصية هو هذا الغلو الذي يلازم العظيم في عظمته، الغلو في بيرون الشاعر، في سعد زغلول، الغلو في فولتير، والأسلوب العالي هو ذلك الذي ينطوي على غلو، ولكننا لا نستطيع أن نفتعل الغلو، ولو فعلنا لما زدنا على التهريج.

وإذن يجب أن يكون الغلو أصيلًا في الكاتب، وهو لن يكون أصيلًا إلا إذا كان الكاتب يتوتر من المساوئ والكوارث، ثم يحضن بالتأمل هذه المساوئ والكوارث، كما تحضن الدجاجة بيضها، أي: يتعقل ويكتب عن روية وتدبر.

والكاتب الحسن هو الذي تكثر توتراته إزاء حي بولاق، وإزاء الإمبراطورية البريطانية، وإزاء عشرات بل مئات المظالم والمذابح التي تملأ عصرنا في وطننا وفي غير وطننا.

والكاتب الحسن لا يختار أسلوبه، بل هو لا يختار موضوعه، ثم إن الموضوع يعين الأسلوب؛ لآن الكاتب إذا كان مشغولًا بهموم عصره، فإنه لا يكتب عنها فقط بل يكتب الأسلوب الذي تمليه عليه التوترات التي أحسها منها، ولذلك نحن نعرف أسلوب الكاتب من الحال النفسية التي نحسها حين نقرأ الكتاب أو عقب قراءته.

والكاتب العظيم لا يبالي بأي أسلوب يكتب؛ لأنه قانع بتوتراته التي تملي عليه الكلمات والعبارات، وهذا بالطبع بعد تدريب طويل وتربية ذاتية، قد تأصل كلاهما في نفسه وذهنه، فتعين له منهما مزاج ومنطق، وبعد اختبارات حدت من ذهنه، وفتحت بصيرته وأكسبته فلسفة ورسمت له أهدافًا.

وبعد هذا الذي ذكرنا عن الأسلوب يجب أن نصل بالقارئ إلى شيء أصيل في بحثنا هذا، وهو أننا كي نتعمق الأسلوب، يجب أن نعرف الكاتب، وأن نتعمق حياته وأخلاقه.

لقد قلنا: إن الكاتب العظيم يحتاج إلى توترات تحمله على الغلو، وأن الأسلوب العظيم، مثل الشخصية العظيمة، يحتاج إلى الغلو، وهذا الغلو هو ثمرة التوترات، غلو في الحزن أو الفرح، طرب الحزن وطرب الفرح. وغلو في الحب أو الغضب، وغلو في الإحساس بالجمال أو القبح وغلو في نشدان الحق أو مكافحة الباطل.

وأكثر الناس توترات هم مرضاهم، وليسوا أصحاءهم؛ لأن السليم يستطيع أن يتحمل من المكاره والمقابح أكثر مما يتحمل المريض، وخاصة إذا كان مرضه نفسيًّا؛ إذ هو يشمئز أكثر، وينفر مما ينفر منه السليم، وهو لذلك مرهف الإحساس، كأن أطراف أعصابه مكشوفة جريحة، ولذلك كثيرًا ما تجد المؤلف المفكر يشكو لونا من النيوروز، ولكن هذا النيوروز هو في الأغلب نتيجة ذكائه وليس سببه، أي: إنه لذكائه استطاع أن يرى أكثر مما رأى غيره، فأحس وتألم أكثر، وفاض الألم حتى صار نيوروزًا أو كاد، فكثرت توتراته ودفعته إلى إدمان التفكير ثم الاختراع، ولا أكاد أعرف مؤلفًا عظيمًا قد خلا من توترات المرض النفسي الذي كان يعانيه، حتى جيته أديب ألمانيا العظيم، الذي يبدو سليمًا من كل نواحيه، لم يخل منه، وكذلك جون روسكين، أما دستوفسكي، ونيتشه، وتولستوي، وأندريه جيد، وبرناردشو، وولز، فأمراضهم واضحة، وهي ترتفع أحيانًا إلى درجة الجنون المطلق، وتنخفض أحيانًا إلى درجة الشذوذ، ولكنها تكسبهم في كل حال توترًا وغلواء.

ونعود إلى موضوعنا، وهو أننا كي نتعمق الأسلوب، يجب أن نعرف الكاتب، نتعمق حياته، نوقف على تفاصيلها التي كونت أخلاقه، وعينت أهدافه، وخصته بتوتراته، والمؤلف كما يؤلف الكتب التي تباع للجمهور، يؤلف أيضًا حياته، وربما تكون حياته هي خير مؤلفاته.

ومن حق الجمهور القارئ لهذا السبب أن يعرف الحياة التي عاشها المؤلف، كما أن دراسة الأسلوب تحتاج إلى دراسة هذه الحياة، وصحيح أن المؤلف الفنان يعود إلى اختباراته الخاصة ويكتب عفو إحساسه العاطفي أو وجدانه التعقلي منها، وهذا حين يخلص وحين يحس أن له رسالة، ولكنه قد يخون أحيانًا، فيكذب اختباراته وينكر إحساسه ووجدانه معًا، ولذلك يجب أن يعرف الجمهور حياته بتفاصيلها، وإذا كان من حق الجمهور أن يعرف مصدر المال الذي يحصل عليه موظف كبير في الدولة، خشية الاختلاس أو الارتشاء، فكذلك من حق هذا الجمهور أيضًا أن يعرف مصدر الآراء والعقائد والميول التي يتجه نحوها المؤلف خشية الارتشاء أيضًا؛ لأن المؤلف الذي يرتشي كي يترك مبادئه هو كالموظف الذي يرتشي كي يترك واجباته، وكثيرًا ما رأينا في حياتنا القصيرة كتابًا ارتشوا، وتركوا مبادئهم، وكفروا بالحق، وبصقوا على الإنسانية.

•••

للكاتب أسلوب وموضوع، وكلاهما يعودان إلى شخصيته، فمن حقنا أن نعرف المعدن الذي صهرت منه هذه الشخصية، كما نعرف العوامل التي كونتها وعدلتها وغيرتها، وعندئذ فقط نستطيع أن نعلل الأسلوب ونقف على ميزاته ونربطها بأصولها، ومما يتصل بهذا الموضوع أن المؤلفين القصصيين اليابانيين قد نشأوا على عادة قد صارت تقليدًا، هي أن المؤلف يروي قصة حياته أو قصص حياته، فهو بطل القصة، يدون اختباراته وينقحها، ويتسامى بها، ويستخرج منها العبرة، ولكنه في كل ذلك يجعل من نفسه البؤرة أو المركز.

•••

حياة المؤلف أكبر من فنه، هي الكل وهو الجزء، هي الشجرة وهو الثمرة، ولذلك فقصة هذه الحياة هي أعظم ما يستطيع أن يكتبه المؤلف؛ لأنها بجلالها وتفاهتها، وبمشكلاتها وانتصاراتها، وبواقعها وخيالاتها، وبكفاحها وضعفها، تبسط للقارئ جيلًا، بل ربما أجيالًا، وتشرح له تقلبات العصر الذي عاش فيه المؤلف.

و«الترجمة الذاتية» مألوفة لهذا السبب في أوروبا وأمريكا، بل إن دراسات برنارد شو، وكذلك قصص ولز، وجميع مؤلفات أندريه جيد، هي جميعها تراجم ذاتية موزعة.

ولكن هناك المئات من المؤلفين الغربيين الذين كتبوا قصص حياتهم كي يبرزوا للقراء عبرتها، كتبوها في غير مداورة دون أن يتحملوا صيغة القصة الخيالية لإبرازها، وأحسوا أنهم يؤدون بهذا واجبًا روحيًّا.

ولكن لا تزال «الترجمة الذاتية» بعيدة عن الوجدان الأدبي في مصر، ولم يحاولها غير طه حسين وأحمد أمين، والإقدام على الترجمة الذاتية برهان على أن الكاتب على وجدان بعصره، وعلى تفطن لمشكلاته، وعلى تبصر بالمستقبل في ضوء الحاضر، وعلى احترام للفن الذي يعالجه، وأخيرًا هي برهان على أنه يجد ارتباطًا وثيقًا وتفاعلًا حيًّا بين فنه وحياته وبين شخصه ومجتمعه، وعلى أنه ينظر إليهما نظرة الجد والخطورة وليس نظرة المجانة والاستهتار.

وإننا لنحس حين نعرض لحياة طه حسين، منذ نشأته طفلًا ضريرًا في قرية في الصعيد إلى أن صار وزيرًا، أن حياته هي خير مؤلفاته، كما نحس حين نقرأ عن كفاح فولتير لإنقاذ المضطهدين، وحرصه على أن يدخر حياته لهذا الكفاح باختيار بقعة تمكنه من الفرار بين فرنسا وسويسرا، وزيارته لإنجلترا ودراسته الدستور البريطاني ونظرية نيوتن، نحس أن هذه الحياة هي الكتاب الأول، كتاب الشرف والشهامة والتعقل، الذي كتبه فولتير.

وهذا هو الشأن في برنارد شو الذي عاش أربعًا وتسعين سنة، يعالج فيها حياته، ويعيد تأليفها من وقت إلى آخر، كي يتجدد وينمو.

حياة الكاتب العظيم هي خير مؤلفاته، ومن حق الجمهور أن يطالبه بوصفها وشرحها وتعليلها؛ لأنها تزيده استنارة وتفطنا لموضوعاته وأسلوبه، ومن واجب الكاتب أن يلبي هذا الطلب.

•••

كثيرًا ما نستدل على أسلوب الكاتب بحياته، فإنه إذا كان اشتراكيًّا مثلا، فإنه يتجه نحو الوضوح والصراحة والمجابهة، لا يوارب ولا يداور؛ لأنه يحس حبًّا للجمهور الذي يكتب له كما يحس حقًّا في الاهتمامات التي يهتم بها، وهو سوائي النزعة، إخائي الهدف، إنساني الدين، ولذلك كله تجده يجانب التبختر، ولا يحاول التفوق، حتى ليبدو أسلوبه ساذجًا، ولكنها سذاجة الكوب أو الكأس من الذهب لا تحتاج لأي زخرف.

ولكن الكاتب الذي يهدف إلى الامتياز الاجتماعي، وينشد التفوق المالي، ويعيش فوق الجماهير وينفصل عنها في حي بعيد عن حي بولاق أو السيدة أو السبتية، هذا الكاتب يختار أسلوبًا يتفق وأسلوب حياته، فهو لا يخاطب الجماهير بلغتهم؛ إذ هو لا يفكر فيهم إذا فكر، إلا وهو ناء بارد، ومن هنا نزوعه إلى التقاليد الكتابية؛ لأن مركزه الاجتماعي تؤيده التقاليد، ولقد تعالى عليهم في أسلوب العيش فتعالى عليهم في أسلوب الأدب.

ونستطيع أن نقيس الأدب العربي القديم ونقده بهذا المقياس، فإن فيه كما في الأدب الحديث عيبًا أصيلًا، هو أن الأدباء كانوا يكتبون للأدباء وليس للشعب، وهذا واضح لمن يقرأ صفحة أو صفحات من المتنبي أو ابن الرومي أو المعري، فإن جمهور الشعب لم يكن على دراية باللغة العربية تجعله قادرًا على فهم ما كان يكتبه هؤلاء.

وذلك لأن الوجدان الشعبي، أي الإحساس بأن هناك شعبًا عربيًّا له آمال وأهداف، هذا الوجدان لم يكن قط ميزة هؤلاء الأدباء.

ولو كان هناك وجدان شعبي لكتب أدباء العرب للشعوب العربية، عندئذ كانوا يكتبون بلغة هذه الشعوب التي يتحدث بها أفرادها.

وعندما نقرأ أشعار شوقي نحس أنه أديب يكتب للأدباء، وكل من يعرف حياة شوقي والوسط العالي الذي كان يعيش فيه ليدرك الأسباب التي جعلته يكتب بأسلوبه المتعالي، فإن هموم الشعب في حي بولاق، لم تدخل قط في وجدانه الأدبي، وقد كان هو يتعالى في عيشه فتعالى في أسلوبه، ومن هنا نحن نؤثر حافظ عليه؛ لأنه أقرب إلى الشعب منه، ولكن حتى حافظ لا يزيد على أن يكون في أكثر حالاته، أديبًا يكتب للأدباء.

ولهذا الحال أسباب واضحة بل فاضحة، هي أن هناك هوة كبيرة تفصل بين الأدباء وبين عامة الشعب، ولذلك لم ترتفع هموم هؤلاء إلى أقلام أولئك، كما أن هؤلاء الأدباء لم يصلوا إلى وجدان بحالتهم تنبههم إلى واجبهم نحو الشعب.

•••

رسالة الكاتب المصري في وقتنا هذا أن يرشد وأن يكافح، فأما الإرشاد فهو من حيث توجيه القارئ العربي الذي انقطعت جذوره في الشرق ولما تصل إلى الغرب، وعلينا نحن الأدباء أن نواجه أولئك الذين لا يزالون شرقيين، أولئك المرددين بأن في الشرق روحية وفي الغرب مادية، علينا أن نوجههم جميعًا نحو الغرب، أي نحو الحضارة العصرية، بأن ننقل إليهم المثل والقيم البشرية كما هي في أوروبا.

وهذا التوجيه هو في صميمه كفاح، كفاح من أجل تحرير المرأة بالعمل، وتحرير الشعب من الفقر والجهل والمرض، كفاح ضد القرون المظلمة التي لا تزال تخيم على عقول كثيرين منا، وأخيرًا كفاح الدول الاستعمارية التي تفسق بالعقول وتقتل البشرية،

ما هو هذا الذي نكافحه نحن الكتاب المصريين؟ نكافح حي بولاق، ونكافح مصر المجسمة في حي بولاق.

عندما أجول في هذا الحي أحس كأننا قد هيأنا منازله وأزقته وناسه كي نعرضها على الأديب الناشئ حتى يعرف رسالته المستقبلة، وهي أن ينقل مصر من هذا الخراب الوعر إلى الحضارة المهذبة، وإني لأقف بين أزقة هذا الحي، وأتلبث فيها، كي أملأ حواسي بما تحوي من قبح، وإني لأتأمل رطوبة الجدران، وكأنها غنغرين قد تمدد وفسد، وإني لأحس أن الجهل والفقر والمرض لتكمن جميعها في هؤلاء السكان الذين تجردوا من كل مميزات المتمدنين، وإني لأسير على أرض هي براز وبصاق وذباب قد عممت في الهواء عفنًا وخمولًا يملآن النفس كربًا وهمًّا، وإني لأتأمل وأتشمم وأتحسس هذه الأزقة، ناسًا وجدرانًا، فأحترق، وأحس رسالة الأديب في مصر.

هذه هي الحال المصرية التي يجب علينا أن نغيرها، فإذا لم نفعل فنحن لسنا مقصرين فقط بل خونة، وحين يفر أحدنا من حي بولاق إلى التاريخ الماضي، فيكتب عن زوجة الرشيد أو عدل المأمون أو حرب علي ومعاوية، فإنه بفراره هذا، إنما يخون أدبه، وهو بمثابة الجندي الذي فر من الميدان؛ لأن ميداننا جميعًا، الميدان الأول، هو حي بولاق ورمزيته لوطننا.

هذه هي خيانة الكتاب، وإني لأستطيع أن أذكر الأسماء لعدد غير صغير من كتابنا بدأوا ملهمين، يحدثون قراءهم عن تلك الحالات الحميمة للقلب والعقل في دراسة الإنسان والطبيعة، ثم طمسوا هذا الإلهام وعادوا يكتبون عن الماضي.

•••

لقد تأملت كثيرًا، في حسرة وألم هذا التخلف أو القصور في الأدب المصري الحديث، بحيث لا نجد نابغًا أو عبقريًّا يقاس بأولئك النبغاء أو العبقريين في أوروبا أو في الهند، وبعد إنعام التأمل أجد أن أكبر الأسباب لحالنا هو هذا التردد بين الثقافتين: ثقافة الشرق والتقاليد، وثقافة الغرب والابتداع. وقليل من التفكير السيكولوجي هنا ينيرنا.

ذلك أن الشاب حين يقف مترددًا بين فتاتين يريد اختيار إحداهما للزواج يحس عنة، أي: عجزًا جنسيًّا، فإذا ما استقر رأيه على إحداهما زالت عنه هذه العنة.

والاشتهاء الجنسي هو في ذاته اشتهاء ذهني، والقوة الجنسية هي نتيجة هذا الاشتهاء، فإذا تردد الشاب في اشتهائه فقد هذه القوة، وإذا زال التردد عادت القوة.

والأديب الذي يتردد بين الحق والباطل، أو بين الانضواء إلى القوى الرجعية والانضواء إلى القوى التجديدية، يحس احتباسا ذهنيًّا، عنة ذهنية، تصده عن الانطلاق الحر في التفكير، وهو لذلك لا يحسن الكتابة والتأليف حتى حين يختار هذا الشرق بتقاليده ورجعيته وهو على وجدان باختياره؛ لأنه يبقى في أعماق نفسه كارهًا لاختياره، كأنه قد رفض الزواج من فتاته الجميلة إيثارًا لفتاة دميمة لا يحبها ولكنه يطمع في مالها.

وأدباؤنا الذين مالوا إلى الشرق بتقاليده ورجعيته يحسون هذه العنة الذهنية، بل يحسها القراء منهم، ويصدون عنهم، وفي مصر ألوان عديدة من الإغراء تجر الكاتب الملهم نحو الشرق، فتفقده إلهامه ويحتبس ذهنه، وهو عندئذ لا يحسن حتى الكتابة عن الشرق، ولكنه يحمل نفسه، مع عنته، على الدفاع عن التقاليد والرجعية؛ لأنه يجد في هذا الدفاع ثراء وطمأنينة ومقامًا، وضميره يهمس إليه بأنه خائن.

وقد سبق أن قلنا: إن التوتر هو الشرط الأول للغلو، ولا يستطيع كاتب متردد أن يتوتر ويغلو، ولذلك لا يستطيع أن يحقق النبوغ فضلًا عن العبقرية.

ثم هناك خيانة أخرى هي تلك القوانين التي سنها دعاة الاستعمار والاستبداد لتقييد الأقلام وأحيانا لقصفها، وذلك لأنهم يعرفون أن أعلى الأصوات هذه الأيام هو هذا الصوت الخافت الذي يصدر عن صرير الأقلام؛ إذ هو يزعجهم إزعاج قنابل المدافع، وخاصة في يد الكاتب الذي لا يتعب من الحديث عن حي بولاق وما يعانيه الإنسان المصري فيه من قبح وشقاء.

وإن الكاتب الذكي ليحتاج في مصر أحيانا أن يخفي ذكاءه، وأن يزعم أنه جاهل خشية الاستبداد الذي يحيق به ويرتب له ألوانًا من عذاب الفقر والسجن والاضطهاد، ولكني مع ذلك أعتقد أن الكاتب الذي يخون أدبه، ويفر ذهنيًّا ونفسيًّا من حي بولاق، وينتكس إلى مغارة التاريخ الماضي، هو أخطر علينا من أية قيود تفرضها حكومة مستبدة وتمنع بها الكتب أو تقصف بها الأقلام.

•••

إن للكاتب المصري مشكلات عديدة، ومشكلة اللغة قد تعد في مقدمة المشاكل الماثلة، ذلك أننا نعالج موضوعات عصرية بلغة غير عصرية، وإنك لتجد من كتابنا من يحاولون الكتابة بلغة الجاحظ مع أنه بالرغم من براعته في عصره لم يعد يلائمنا؛ إذ هو كان يختار الكلمة التي تجري على ألسنة الفقهاء، والتي تشير إلى الصحراء، وكان يخاطب الأمراء والوزراء، ولم يرسم في ذهنه جمهورًا من هذه الجماهير التي نخاطبها، ولم يعالج موضوعًا من هذه الموضوعات التي نعالجها.

ونحن إذ نخاطب جمهورًا ديموقراطيًّا يجب علينا أن نتخذ اللغة الديموقراطية، وإذا كانت كتب البلاغة لم تذكر شيئًا عن اللغة الديمقراطية، فلأن مؤلفيها لم يعيشوا قط في نظام ديمقراطي، وهي، أي: كتب البلاغة، لم تذكر أيضًا شيئًا عن اللغة الصحفية؛ لأنها ألفت قبل ظهور الصحافة، كما أنها تجهل السينمائية.

إن كتب البلاغة في حاجة إلى تصفية وإلى تجديد، بل يحق لنا أن نتساءل: هل نحن في حاجة إلى قواعد البيان والبلاغة؟ ألا نستطيع الاستغناء عنها ونعترف بالواقع، وهو أن الكاتب لا يحتاج إليها؟

إن قواعد البلاغة تحليلية، والكاتب المبتدئ يؤذيه التحليل أكثر مما ينفعه؛ إذ هو يربكه ويعرقل حركته، وهو يحتاج إلى ما يؤلف ذهنه وليس إلى ما يحلله.

وقد نجد نحن الكتاب من المشاق ما هو أشق علينا من الملاءمة بين لغتنا العصرية ولغتنا القديمة؛ ذلك لأن هذه المشكلة تسير إلى اليسر، إما بمصالحة بين اللغتين، وإما بابتداعات جديدة لا تبالي القديم، كما نرى أحيانًا في بعض مجلاتنا الأسبوعية حيث يأخذ الكاتب من العامة الكلمة أو العبارة التي لا تؤدي معناها عبارتنا وكلماتنا العربية الصميمة، وهذا كسب كبير بل كبير جدًّا.

نجد في لغتنا العربية عيوبًا عديدة تعود إلى تاريخها الاجتماعي، ولغة الأدب العربي هي قبل شيء لغة الفقه الإسلامي، ثم هي لغة الفروسية، وأخيرًا هي لغة المترفين من الأمراء والأثرياء، وما عدا هذه الموضوعات الثلاثة قليل.

وذلك لأن المجتمع العربي كان مجتمعًا أميريًّا إقطاعيًّا، وكانت اللغة في خدمة هذا المجتمع بجميع ملابساته تؤدي كلماتها أفكاره الاجتماعية، وفي الأحيان القليلة حين كان المجتمع تجاريًّا كانت اللغة تتغير، ولكن لأن الوسط التجاري لم يسد قط الوسط الديني أو الحربي أو الإقطاعي كانت العناية اللغوية الأوروبية بهذا الوسط قليلة، فإن الجاحظ يمثل الوسط الديني الحربي، وقد برع وتفوق، ولكن ابن بطوطة، كان من حيث لا يدري، يمثل الوسط التجاري ولم يبرع.

وفي لغتنا لذلك تبذخ الأمراء والأثرياء والمترفين، ولكنها خالية من كلمات التفطن لمأساة الفقر أو عيش الفلاحين أو الوجدانات الجديدة التي أثمرتها النظم والمجتمعات الديمقراطية، فهي لغة يقنع بها رجل مثل الشيخ محمود أبو العيون؛ لأنه يجد في كلماتها كل ما يحتاج إليه من المعاني الشرقية التي في ذهنه، ولكن رجلًا مثلي، يحفل ذهنه بالمعاني الأوربية والمشكلات العصرية، وينبعث بوجدان ديمقراطي عالمي، لا يجد فيها حاجاته التعبيرية والفنية، ولذلك اضطررت أنا إلى تأليف عشرات من الكلمات التي جرت على أقلام الكتاب، في حين لم يحتج هو قط إلى تأليف كلمة واحدة جديدة.

والكاتب المصري في ظروفنا الحاضرة محتاج إلى أن يذكر أن ما سميناه «نهضة» في ١٩١٩ إنما كان نهضة سياسية تهدف إلى الاستقلال فقط، ومع أن النهضة السياسية لابستها حوافز من التحرير الاجتماعي، مثل سفور المرأة وتعليمها، والاتجاه نحو الصناعة، مع كل ذلك يجب أن نعترف أننا أفسدنا معنى النهضة كما يفهمها الأوروبي الذي عرف النهضة الأوروبية منذ القرن الرابع عشر إلى القرن العشرين، إنها تحرير الشخصية البشرية من التقاليد والغيبيات، وإنها إقبال على العلم التجريبي، وإنها فصل الدين عن الدولة، وإنها دعوة للإنسان كي يأخذ مصيره في يده ويتسلط على القدر بدلًا من أن يخضع للقدر، وإنها انتزاع الخير من الطبيعة وإخضاعها، وليس الانتظار كي تسدي إليه الطبيعة فضلها وبزها.

هذه المعاني التي لم نفهمها من النهضة في سنة ١٩١٩، ومن هنا هذه الانتكاسات الأدبية والرجعية والسياسية والاجتماعية التي بلوناها في الثلاثين سنة الماضية.

وقد فهم الهنود معنى النهضة بأوسع وأعمق مما فهمنا، كما يتضح ذلك من إلغاء النجاسة، والمساواة في الميراث بين الجنسين، ومنح المرأة حقوقًا دستورية لا تقل عن حقوق الرجل، وفصل الدين عن الدولة، والأديب المصري محتاج إلى أن يصحح هذا النقص في نهضة ١٩١٩.

•••

لا يزال رجل الأدب أو الفن العصري هو رجل النهضة، فقد وصف نشاط الناهضين فيما بين ١٤٥٠ و١٥٥٠ بأنه «بشري»، أي: إن الهموم والاهتمامات البشرية قد شرعت تأخذ مكان الهموم والاهتمامات الغيبية التي كانت تسود القرون المظلمة حين كانت الكنيسة بؤرة الثقافة، فنقل الناهضون هذه البؤرة من الكنيسة وغيبياتها إلى الإنسان وارتقائه المادي، وبهذا الاتجاه ظهر العلم كما ظهر المجتمع المدني.

وما زلنا إلى الآن نجد الكتاب الذين يفصلون بين الروحيات والماديات، أو بين النفس والجسم، أو بين العلم والأدب، أو بين الدين والفلسفة، كما كان يفعل كتاب القرون المظلمة، مع أن رجال النهضة ألغوا هذه الفروق؛ إذ جعلوا كل هذا النشاط «بشريًّا»، وكان فنانهم دافنشي يمارس الرسم والنحت كما يدرس علوم الطيران والحرب والطبيعيات.

لأنه ما دامت بؤرة الثقافة البشرية هي الإنسان فإن جميع نشاطه الثقافي يجب أن يكون احتوائيًّا استعابيًّا يتناول كل ما يزيد الإنسان كرامة ورفاهية وفهما، ورجل العلم، إذا لم يكن فنانًا فيلسوفًا، قد يكون عرضة لأن يوجه نشاطه العلمي وجهة الشر. كما أن رجل الأدب عندما يجهل العلم، قد يكون عرضة للانتكاس الرجعي وللرهبنة في البرج العاجي.

وفي كلمة موجزة نقول: إن الأديب يجب أن يجعل مشكلات المجتمع موضوع أدبه، وهو حين يفعل ذلك يجد أنه يهتم بالموسيقى والرسم كما يهتم بنقابات العمال والمساكن الصحية، وهو يدرس الطبيعيات الذرية كما يدرس شعر المعري، وهو يشتبك في الحركات السياسية والاجتماعية يوليها من وقته وجهده مثلما يولي الأسلوب أو النقد الفني سواء بسواء.

إنه، أي: الأديب، بشري يدرس شئون البشر، فهو لا يترفع عن درس الغذاء البروتيني في الفول المدمس، وبحث الظروف الاجتماعية والزراعية التي تزيد هذا الغذاء أو تنقصه، كما يدرس فلسفة أرسطو طاليس، بل هو لا يفهم كيف يترفع عن ذلك، ثم هو بعد كل هذا يفهم القوة الروحية في الإنسان لا ينصرف معناها إلا إلى الارتقاء الاجتماعي والثقافي والشخصي، وإن معانينا الروحية هي معاني الأدب والفن والفلسفة والعلم لا أكثر.

وأخيرًا رسالة الكاتب في مصر عامة وخاصة:
  • فأما العامة فهي أن يجعل الأدب وفق المبادئ البشرية، بحيث يغرس الكاتب في القارئ حب البشرية والطبيعة والفن والعلم والثقافة؛ لأن الأديب الحق هو صديق الإنسان لا يعرف التعصب أو العنصرية، ولا يقول بالقسوة أو الحرب، والأديب الحق هو الذي يعرف أن مهمة الأدب، مثل مهمة الفلسفة، تغيير المجتمع، بحيث يحمل القارئ على السخط ثم الرغبة في التغيير، والأديب الحق هو الذي يطلب المزيد من الحرية، فهو لذلك لا يمكن أن يكون فاشيًا أو يرضى بالحكم العسكري الذي يقيد أو ينقص الحريات، والأديب الحق هو الذي يتأنق ويعين لنا مأربًا فنيًّا في جميع نشاطنا.

  • وأما رسالته الخاصة، فهي خاصة لأنها تعالج شأنًا من شئون مجتمعنا المصري الحاضر، مثل تعجيل التطور الاقتصادي نحو الصناعة، ومثل المساواة بين الجنسين، ومثل التعليم المجاني العام، ومثل التأميم.

وأخيرًا، على الأديب أن يذكر أن في العالم العصري فريقين:
  • فريق الآراء أو العقائد الآفلة: التي تقول بعجز الإنسان عن محو الفقر وعن التسلط على مستقبله، وهذا الفريق بتشاؤمه يؤمن بأن الطبيعة البشرية سيئة في أصولها وأنها تحتاج إلى القيود والحدود، ولذلك كثيرًا ما ينساق إلى الفاشية وإلى القسوة حتى في تربية الصغار أو معاملة المجرمين، وإلى سوء الظن بالمرأة والحد من حريتها، وهذا الفريق يؤمن بالوراثة، وأنها هي العامل الأول في تكوين الإنسان، وفى تغيير كفاياته، وأنها جامدة لا تتغير، وكثيرًا ما يرفض التغيير ويخشى المستقبل وينكفئ إلى الماضي لانغماسه في التشاؤم والخوف.
  • وفريق الآراء أو العقائد البازغة: التي تقول بالإيمان بالمستقبل والجرأة على إخراج التطور البشري، فضلًا عن التطور الحيواني والنباتي من يد الطبيعة إلى يد الإنسان، وهذا الفريق يؤمن بأن الطبيعة البشرية حسنة لا تحتاج إلى القسوة، وهي لدنة تتغير بالوسط الحسن، وأن تراثنا من الطبيعة ليس من الجمود بحيث يمنع التغيير والتطور، وأن موقفنا السياسي هو موقف الحرية والمساواة للمرأة ومحاربة التفريق العنصري، أو الديني، أو الأممي، وتعجيل الاشتراكية البارة.

والأديب المصري البصير يجب أن يقف في صف هذه الآراء البازغة، ويستعجل المستقبل بدلًا من أن يتعلق بالماضي، ويدرس المشكلات العصرية باعتقاد القدرة على حلها وليس باعتبار العجز عن فهمها أو أنها ليست من اختصاصه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤