الفصل الثاني

تاريخ مختصر للأحزاب السياسية الأمريكية

حذَّر جيمس ماديسون، الذي يُنسب إليه في أكثر الأحيان الفضل في اقتراح الإطار الرئيسي للدستور، في الورقة الفيدرالية رقم ١٠ التي كتبها سنة ١٧٨٧ لإقناع مواطني نيويورك بالتصديق على الدستور الفيدرالي الجديد، قُراءه من شرور الطوائف التي «تتعارض مع حقوق المواطنين الآخرين ومع مصالح المجتمع الدائمة والكلية»، كما حذَّر جورج واشنطن في خطبة الوداع التي وجَّهها إلى الأمة لدى رحيله عن سُدَّة الرئاسة «بكل جدية من الآثار الوبيلة للعصبية الحزبية».

ومع ذلك فإن ماديسون هو الذي حثَّ توماس جيفرسون على المشاركة في تنظيم ضد سياسات ألكسندر هاملتون، وزير خزانة واشنطن وكاتب خطبة الوداع الشهير. ومن قبيل المفارقة أن صار مؤسسو الأمة هؤلاء، الذين كانوا يخشون الطوائف وجادلوا ضد الأحزاب السياسية، زعماء أولى الأحزاب نشأة، حيث كان الحزب الديمقراطي-الجمهوري الجيفرسوني أول حزب سياسي حديث.

لم تكن المؤسسة التي خشيها المؤسسون قد تطورت فعلًا وقت تلك التحذيرات، لكن أحزابًا ونظامًا ثنائي الحزبية تطورا فعلًا في وقت مبكر من التاريخ الأمريكي واستمرا منذ ذلك الحين. وقد تناولنا في الفصل الأول بعضًا من الأسباب المؤسسية وراء وجود نظام ثنائي الحزبية في الولايات المتحدة، وسنبحث في هذا الفصل الدواعي التاريخية وتطور مؤسسة الحزب.

fig3
شكل ٢-١: كان جون آدمز وجوفرنور موريس وألكسندر هاملتون وتوماس جيفرسون، زعماء الجمهورية الأمريكية السياسيون في مستهل نشأتها، من مؤسسي أول حزبين سياسيين في أمريكا. (Washington, DC, Library of Congress)

(١) أولى الأحزاب السياسية الأمريكية

تحالف ماديسون وجيفرسون لتنظيم حزب سياسي لا رغبة في السلطة لأنفسهما بل لاعتقادهما أن هاملتون يقود البلد في الاتجاه الخاطئ؛ إذ كانت سياساته الاقتصادية تحابي مصالح نيو إنجلاند التجارية، وكان ماديسون وجيفرسون يريان الأمة كأمة ريفية يمثلها سكان مزارع فيرجينيا والمزارعون على الحدود الغربية، وكان كل معسكر يرى أنه يقرر المصلحة العامة.

وها هنا كان الجدل.١ فالحزبان اللذان شكلوهما انطبق عليهما وصف الفيلسوف السياسي الإنجليزي الأيرلندي إدموند بيرك الذي عاش في القرن الثامن عشر («مجموعة من الرجال اتحدوا بهدف أن تعزز جهودهم المشتركة المصلحة الوطنية»). كان الجيل المؤسس — بصفته مجموعة من المنظِّرين — يخشى الطوائف ويخشى انقسام الأمة الذي تقتضيه الطائفية. وقد وجد هذا الجيل — فيما بعد بصفته مجموعة من الساعين إلى الحكم — أن الأحزاب ضرورية لتشكيل الائتلافات المطلوبة لتعزيز رؤاه للمصلحة العامة.

كان ألكسندر هاملتون يؤمن بضرورة وجود حكومة مركزية قوية لبقاء الأمة الجديدة، سواء من الناحية الاقتصادية أو الجيوسياسية. وكان كوزير خزانة في السنوات الأولى من عمر الأمة ذا صوت مسموع لدى الرئيس واشنطن، وبالأخص في قضيتين حرجتين هما التمويل الكامل للدَّين المتكبَّد أثناء حرب الاستقلال، واضطلاع الحكومة الفيدرالية بالديون التي تكبدتها مختلف الولايات. وكان جون آدمز، نائب الرئيس في عهد واشنطن وخليفته في نهاية المطاف، يتفق مع الكثير من أفكار هاملتون بغض النظر عن ازدرائه إياه شخصيًّا. أما توماس جيفرسون، وزير الخارجية في عهد واشنطن، فكان يعارض برنامج هاملتون بشدة، لكنه ظل في مجلس الوزراء بدافع الولاء لواشنطن. لكن الانقسام بات جليًّا في الكونجرس بين أتباع أفكار هاملتون وأتباع تصوُّر جيفرسون لأمة ريفية متمحورة حول الولايات، فنشأ الانقسام الحزبي عن اختلافات فلسفية حول الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه الأمة.

صار الانقسام بين حزب واشنطن وآدمز وهاملتون، المعروفين بالفيدراليين، وحزب جيفرسون وماديسون، المعروفين بالديمقراطيين-الجمهوريين، انقسامًا دائمًا أثناء الجدل بشأن تبني «معاهدة جاي» المؤيدة للبريطانيين، حيث عارضها جيفرسون، وكان فرنسي الهوى، فاستقال من منصبه الوزاري وعاد إلى موطنه مونتيسيلو بولاية فرجينيا، لكن ليس لأجل طويل.

أعلن واشنطن أنه لن ينشد الانتخاب لفترة رئاسية ثالثة في ١٧٩٦، فسعى جون آدمز كنائب للرئيس إلى خلافته عازمًا على مواصلة برنامج هاملتون دون وجود هاملتون نفسه، فنظَّم معارضو أفكار هاملتون في الكونجرس حملة لمصلحة جيفرسون بالكتابة إلى الناخبين ملتمسين منهم الدعم. تغلب آدمز على جيفرسون بالكاد في الانتخابات، وبفارق ثلاثة أصوات بالمجمع الانتخابي، فأقر جيفرسون بفوز آدمز ووافق على الخدمة في منصب نائب الرئيس على النحو الذي حددته العملية الانتخابية في تلك المرحلة، وهي خطوة مهمة في طريق بناء الأمة لأنه بهذا أقر بشرعية النظام الانتخابي. كان هذا النظام الحزبي ممركَزًا على السياسات، وتشكَّل في مقر الحكومة الوطنية، ثم انتشر منه إلى أقاصي الأمة.٢
لم تحظَ سياسات آدمز بالشعبية، فنافسه جيفرسون مرة أخرى على منصب الرئاسة في ١٨٠٠. كان النظام الحزبي ناضجًا بدرجة كافية بحلول ذلك الوقت، حتى إن مؤيدي جيفرسون كافة من مندوبي المجمع الانتخابي أدلوا أيضًا بصوتهم الثاني لمن اختاره رفيقًا له في السباق الرئاسي وهو آرون بير، فتعادلا في عدد الأصوات للرئاسة، متفوقَيْن كلاهما على آدمز بثمانية أصوات. وبموجب الأحكام الدستورية المعمول بها آنذاك، ونظرًا لأن أيًّا من المتسابقِين لم يحرز أغلبية أصوات المندوبين، أُحيل الأمر إلى مجلس النواب الذي يسيطر عليه الفيدراليون ليفصل بين الثلاثة الأعلى حصولًا على الأصوات، وشهد البلد أزمة؛ حيث راجت الشائعات التي تتحدث عن صفقات سرية للحيلولة دون جيفرسون وسُدة الرئاسة. وفي نهاية المطاف انتُخب جيفرسون بعد خمس وثلاثين اقتراعًا غير حاسم في المجلس. ومع حصول الفائز على الجائزة التي يستحقها، ترسَّخت شرعية العملية الانتخابية.٣

أسهمت هذه السنوات في بناء الأمة إسهامًا مذهلًا بحق، ولعبت الأحزاب — التي حقرها المؤسسون قبل وصولهم إلى السلطة — دورًا رئيسيًّا. أولًا: تخلى رئيس شعبي — كان يمكن إعادة انتخابه بسهولة للفترات الرئاسية التي يرغبها — عن السلطة بطيب خاطر في ١٧٩٦. ثانيًا: بعد الانتخاب الذي أُجري لاختيار خليفته، وافق متسابق كان يعارض سياسات الرئيس وهُزم بفارق ضئيل، على تولي منصب نائب الرئيس؛ لأن ذلك كان هو الحكم الدستوري المعمول به آنذاك. ثالثًا: تشكَّل نظام حزبي تمكن من خلاله الزعماء الوطنيون من طرح خلافاتهم بشأن السياسات على جماهير الناخبين كي يقرروا، وكان عدد الناخبين بالطبع صغيرًا جدًّا وقتها، ومقصورًا على الذكور البيض، وفي بعض الولايات على أصحاب الأملاك.

fig4
شكل ٢-٢: انتهت المنافسة السياسية المحتدمة بين آرون بير وألكسندر هاملتون بمبارزة في ويهوكن بولاية نيوجيرسي في ١١ يوليو ١٨٠٤. (Washington, DC, Library of Congress)

رابعًا: في ١٨٠٠، خسر الرئيس الحالي الانتخاب وأقرَّ بهزيمته في النهاية على الرغم من أنه كان يمكنه البقاء في السلطة من خلال التأثير في مجلس النواب. وعندما سلَّم آدمز جيفرسون سلطة الرئاسة طواعية، تأكدت شرعية النظام السياسي للأمة الوليدة، وأثبت الدور الذي ستلعبه الأحزاب أهمية غير مسبوقة.

بُعيد انتخاب سنة ١٨٠٠، لم يعد الفيدراليون أكثر من مجرد حزب فئوي في نيو إنجلاند، حيث كانت سياساتهم محافظة أكثر مما ينبغي، فلم تستهوِ الأمة، ولم يبذل زعماؤهم من الجهد إلا قليلًا للتوصل إلى تفاهمات لكسب شعبية. ولأنهم إنجليزيو الهوى حتى النخاع، فقد عارضوا إعلان الكونجرس الحرب على بريطانيا سنة ١٨١٢، وبحلول سنة ١٨٢٠، لم يكن للحزب الديمقراطي الجمهوري أي منافسين ذوي ثقل.٤

انتهت الفترة الحزبية الأولى في التاريخ الأمريكي باختفاء الفيدراليين. اليوم، من شأن الأمريكيين أن يصابوا بالدهشة لو تلاشى حزب كبير، لكن ينبغي أن نتذكر أن تلك الأحزاب كانت أحزابًا هشة وغير ناضجة، ولم يُتح للناس وقت كي ينمو لديهم شعور بالولاء لحزب ما كمؤسسة، بل كان ولاؤهم للزعماء. ولم تكن النخبة السياسية منقسمة حيال كل القضايا، وقد قال جيفرسون في خطبته التي ألقاها يوم تنصيبه: «ليس كل خلاف في الرأي خلافًا في المبدأ … كلنا جمهوريون وكلنا فيدراليون.» وكانت ولاءات المشرعين للمنطقة الجغرافية أكثر منها للحزب. وقد اعتاد جيفرسون إبان رئاسته إقامة حفلات عشاء منظمة بعناية لتملق أعضاء الكونجرس لتأييد أفكاره. ولما أخفقت قيادات الحزب الفيدرالي في الاستجابة للسخط الشعبي على أفكارهم، ولم يكن هناك تنظيم حزبي راسخ يدعم الحزب، انزوى القادة في بيوتهم واختفى الحزب.

(٢) تطور الأحزاب الحديثة

يمكن النظر إلى تطور الأحزاب السياسية الحديثة على مدى المائتي سنة الماضية من أطر تحليلية مختلفة يضيف كل منها إلى فهمنا الدور الذي يلعبه الحزب في السياسة الأمريكية في يومنا هذا.

(٢-١) الأحزاب كانعكاس للانقسام حيال السياسات بين جمهور الناخبين

حدد انقسام الأيديولوجيات والسياسات بين الفيدراليين والديمقراطيين-الجمهوريين ملامح المشايعة الحزبية خلال السنوات الأولى من عمر الجمهورية الأمريكية. وعندما اختفى الفيدراليون عن الساحة كمصدر تهديد بالفوز بانتخاب وطني، تلاشى معهم ذلك الانقسام أيضًا، وانحصرت المنافسة الانتخابية خلال «عصر المشاعر الطيبة» الذي تلا نهاية الفيدراليين داخل الديمقراطيين-الجمهوريين.

كان المتسابقون الذين خاضوا انتخاب سنة ١٨٢٤ (جون كوينسي آدمز، وهنري كلاي، ووليم جيه كروفورد، وأندرو جاكسون) أربعتهم ديمقراطيين-جمهوريين، ولم يختر الحزب مرشحًا بعينه. ولذلك الانتخاب قصة مشوقة، لكنها أكثر تعقيدًا من أن نحكيها هنا، ويكفي أن نقول إن أندرو جاكسون فاز بأكثرية الأصوات الشعبية وأكثرية أصوات المندوبين في ذلك الانتخاب، لكنه لم يحصل على أغلبية أصوات المندوبين، فأحيل بتُّ النتيجة إلى مجلس النواب.٥ وهناك ألقى رئيس المجلس هنري كلاي، الذي حلَّ رابعًا في تصويت المجمع الانتخابي، بدعمه وراء جون كوينسي آدمز، الذي انتُخب ليكون الرئيس السادس، فعيَّن كلاي وزيرًا لخارجيته، مما أثار ادعاءات من معسكر جاكسون بوجود صفقة فاسدة.

ظلت الانتماءات والولاءات الحزبية على تقلبها خلال هذه الفترة. وفي ١٨٢٨، نازل جاكسون، الذي ترشح كديمقراطي-جمهوري، الرئيس آدمز، مرشح الجمهوريين الوطنيين، وتغلَّب عليه بسهولة، وكانت المعركة الانتخابية قائمة على الشخصية أكثر منها على القضايا. وبهذا الانتصار، حصد حزب جاكسون — الذي سرعان ما سيُعرف بالحزب الديمقراطي فقط — غنائم المعركة، مستأثرًا بالوظائف الحكومية المهمة كافة لنفسه، طاردًا أنصار آدمز منها.

غير أن قضية الرق المتأججة، على النحو الذي جسدته تسوية ميزوري، بدأت تطل برأسها من ثنايا تلك السياسة القائمة على الشخصية والمحسوبية. ويمكن فهم السياسة الحزبية في تلك الحقبة من خلال كيفية استجابة النخبة السياسية لمسألة الرق. حل حزب الويج محل حزب الجمهوريين الوطنيين بصفته المعارض الرئيسي للديمقراطيين من ١٨٣٦ وحتى ١٨٥٢، لكن كلا الحزبين كانا يراوغان في مسألة الرق. ثم برزت أحزاب أخرى، أولها حزب الحرية ومن بعده حزب الأرض الحرة، كبدائل للحزبين الكبيرين، متصديةً لأهم قضية في ذلك الحين. وفي ١٨٥٤ تشكَّل الحزب الجمهوري كبديل رئيسي للديمقراطيين، مواجهًا إياهم في قضية الرق. وبحلول سنة ١٨٥٦، كان حزب الويج قد اضمحل بشكل شبه نهائي مع حصول الرئيس السابق ميلارد فيلمور، بصفته حامل لواء الحزب، على أصوات ثمانية فقط من مندوبي المجمع الانتخابي، ليخسر بذلك الانتخابات أمام الديمقراطي جيمس بيوكانان وأول متسابق جمهوري لمنصب الرئاسة جيمس سي فيرمونت. وفي ١٨٦٠، فاز الجمهوري أبراهام لنكولن بالرئاسة، متغلبًا على حزب ديمقراطي منقسم بين معسكرين شمالي وجنوبي.

تسوية ميزوري

كانت الأمة، ومن ثم مجلس الشيوخ، منقسمة بالتساوي بين الولايات الحرة وولايات الرقيق مع بدء اكتساب حركة إلغاء الرق زخمًا في الشمال. وعندما تقدم إقليم ميزوري بطلب للحصول على وضع ولاية، أصر الشماليون في البداية على بند يحظر جلب الرقيق إلى الولاية الجديدة. رفض مجلس الشيوخ هذا في جدال آذن بالمرارة التي سيتسم بها الجدال حول الرقيق لعقود تالية. وأنهت تسوية ميزوري لسنة ١٨٢٠ أول أزمة تشهدها الأمة بشأن قضية الرقيق بقبول مين كولاية حرة مع قبول ميزوري كولاية تجيز الرقيق، لكن قضية الرقيق هيمنت على السياسة على مدى العقود الأربعة التالية.

هيمن الديمقراطيون والجمهوريون على السياسة الانتخابية الأمريكية بصفتهما الحزبين الكبيرين منذ ذلك الحين، ولم يَفُز بالرئاسة متسابق من أي حزب آخر، ولم يكسب أتباع أي حزب آخر وضع الأغلبية في الكونجرس، لكن هذا لا يعني أن السياسة الحزبية ظلت هامدة على مدى ١٥٠ سنة؛ فالقضايا التي تمايزت حيالها استجابة الحزبين وتشكيلات ائتلافاتهما الانتخابية تغيرت مرارًا وتكرارًا.

ظلت المعارك الحزبية الوطنية تشهد منافسة حامية على مدى عقود بعد الحرب الأهلية، ولا سيما بعد نهاية إعادة الإعمار في ١٨٧٦، حين شنَّ الديمقراطيون غارات خطيرة في الجنوب بسبب استمرار الشعور بالبغضاء تجاه حزب لنكولن، وشهدت الأمة معارك شديدة بين الحزبين. وفيما شهدت الأمة تحولًا سريعًا نحو التصنيع، هيمن قيادات الصناعة على كلا الحزبين، مؤيدين المتسابقين — وكثير منهم جنرالات من أيام الحرب الأهلية — الذين سيساندون برامج التطوير الاقتصادي التي ينادون بها. وانهمر المهاجرون كالسيل على سواحل الأمة، فكانوا يساندون الحزب متولي السلطة في المراكز الحضرية التي انتقلوا إليها؛ لأنه بارتباطه برجالات الصناعة في تلك المنطقة سيوفر لهم فرص العمل والأمن. ومع نمو الأمة وتحولها إلى قوة صناعية، احتلت نقاشات السياسات مرتبة متأخرة عن سياسة القوة.

حالت سلسلة من الأحداث المنفصلة ظاهريًّا دون حصول الجمهوريين على الهيمنة الكاملة خلال تلك الفترة. ففي البداية، زعزعت الفضائح والكساد الاقتصادي إدارة يوليسيس إس جرانت (١٨٦٩–١٨٧٧)، وقللا من مساندة الجمهوريين، وساعدا المتسابقين الديمقراطيين في ١٨٧٦ و١٨٨٠. وساهم التراجع في الإنتاج الزراعي سنة ١٨٨٤ والكساد في أوائل تسعينيات ذلك القرن في انتخاب الديمقراطي جروفر كليفلاند مرتين غير متتاليتين في ١٨٨٤ و١٨٩٢. وأعطى السخط الذي اعترى المزارعين في الغرب الأوسط، والذي تبدى طوال ثمانينيات ذلك القرن، ثم اعترى المزارعين في الجنوب والغرب؛ الديمقراطيين قضية يتخذون موقفًا حيالها. ولعب الحزب الشعبي، حاملًا لواء دولة أمريكا الزراعية بصفته حزبًا ثالثًا، الدور نفسه تقريبًا الذي لعبه أنصار إلغاء الرق قبل نصف قرن.

يَبرز انتخاب سنة ١٨٩٦ كنقطة تقسيم واضحة. كان الديمقراطيون قد مُنوا بخسائر فادحة في انتخاب التجديد النصفي لسنة ١٨٩٤، وذلك كرد فعل لكساد سنة ١٨٩٣ أثناء فترة حكم كليفلاند الثانية. وهاجم حاملُ لواء الديمقراطيين، صاحب الحضور الطاغي وليم جيننجز برايان، الشركات الكبرى واضطلع بنصرة قضية دولة أمريكا الريفية، داعيًا إلى تسهيل الائتمان واعتماد قاعدة الفضة. ولا ينكر أحد بلاغة برايان، لكنه شكَّل لحزبه ائتلافًا خاسرًا.

تعتمد المدن العظمى على مروجنا الفسيحة الخصيبة. أحرِقوا مدنكم واتركوا مزارعنا، وستقوم مدنكم من جديد كما لو كانت مسحورة، لكن دمروا مزارعنا وسينمو العشب في شوارع كل مدن البلد … لا تصلبوا البشرية على صليب من ذهب.

خطبة «صليب من ذهب» لوليم جيننجز برايان
المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي، يوليو ١٨٩٦
أعاد انتخاب ١٨٩٦ ترتيب جمهور الناخبين،٦ فصار الحزب الجمهوري حزب المدن والعمال ورجالات الصناعة، وظل الحزب الديمقراطي مهيمنًا في الجنوب والولايات الحدودية، لكنه ما زال حزب أقلية. والانتخابان الرئاسيان الوحيدان اللذان خسرهما الجمهوريون على مدى الانتخابات التسعة التالية هما اللذان فاز فيهما وودرو ويلسون، بدايةً في ١٩١٢ بسبب انقسام الحزب الجمهوري بفعل دخول الرئيس السابق ثيودور روزفلت سباق الرئاسة مرشحًا عن حزب ثالث، ثم في ١٩١٦ عندما فاز ويلسون بالكاد بإعادة انتخابه. وسارت سيطرة الجمهوريين على الكونجرس على نمط التصويت في الانتخابات الرئاسية؛ لأن ناخبين قلائل آنذاك كانوا يصوتون لمتسابقين من أكثر من حزب واحد.

عصف الكساد العظيم سنة ١٩٢٩، واستجابة الحزبين لتلك الأزمة، بالائتلافات الانتخابية التي حافظت على استقرارها خلال الربع الأول من القرن العشرين. ومن جديد، ظلت الانتماءات الحزبية كما هي، موزعة بين ديمقراطيين وجمهوريين، لكن من تركوا الحزب الجمهوري صاروا ديمقراطيين متحمسين، ومَن كانوا من قبل يشعرون بالقدر نفسه من الحماس الشديد تجاه الحزب الديمقراطي حولوا انتماءهم ليصبحوا جمهوريين. وقد أيَّد الجمهوري هربرت هوفر، الذي كان في سدة الرئاسة في مستهل الكساد العظيم، البقاء على المسار، بينما أيَّد منافسه الديمقراطي سنة ١٩٣٢، حاكم نيويورك فرانكلين ديلانو روزفلت، التغيير أثناء حملته واختار مسارًا مختلفًا بمجرد توليه المنصب.

اتبع مستشارو روزفلت المذهب الاقتصادي الكينزي، وأيدوا سياسات شددت على التدخل الحكومي في الاقتصاد والإنفاق بالاستدانة لتحفيز النمو الاقتصادي، أو ما سُمي خطة اقتصادية جديدة لأمريكا. صارت الحكومة رب العمل الذي يمثل الملاذ الأخير، والعائل لمن حُرموا ضروريات الحياة، والقوة الخيرية في حياة المحتاجين. ويمكن أن يجادل الخبراء الاقتصاديون فيما إذا كانت سياسات روزفلت أخرجت الأمة من حالة الكساد، أو فيما إذا كان الحافز الاقتصادي الذي استوجبته الإعدادات للحرب العالمية الثانية هو الذي أحدث ذلك الأثر، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن الإدراك العام لسياساته غيَّر السياسة الانتخابية لعقود تالية.

احتفظ الديمقراطيون بهيمنتهم في الجنوب لأسباب ثقافية بالدرجة الأولى تعود إلى الحرب الأهلية، لكن ائتلاف الخطة الاقتصادية الجديدة الذي كوَّنه روزفلت اكتسب تأييد أعضاء النقابات العمالية وصغار المزارعين، والأقليات والأمريكيين الأصليين، والفقراء والمحاربين من أجل المساواة في الحقوق، وصار الجمهوريون حزب الشركات الكبرى والأثرياء. قاد روزفلت الأمة خلال الحرب العالمية الثانية وكسب شعبية كزعيم في زمن الحرب، فخالف السابقة التي أرساها جورج واشنطن بألا يحكم الرؤساء إلا مدتين، إذْ فاز بمدة ثالثة في ١٩٤٠ ورابعة في ١٩٤٤ قبل أن يموت وهو في منصبه في أبريل ١٩٤٥، ٧ سيطر الديمقراطيون على الكونجرس وهو في سدة الحكم، واحتفظوا — باستثناء واحد طفيف — بتلك السيطرة حتى العقد الأخير من ذلك القرن.

هيمن ائتلاف الخطة الاقتصادية الجديدة على السياسة الأمريكية حتى ستينيات القرن العشرين، ولم يحطمه حدث كارثي واحد، بل تفكك تدريجيًّا مع مواجهة الناخبين قضايا جديدة، وتلاشي الذكريات التي أدت إلى ولاءات المواطنين أو ولاءات آبائهم الحزبية من عقول هؤلاء المواطنين. وفي الستينيات، شن المتسابق الرئاسي الجمهوري باري جولدووتر الغارات الأولى على الهيمنة الديمقراطية في الجنوب، واتبع ريتشارد نيكسون استراتيجية جنوبية قوامها التودد إلى الناخبين الذين يستند ولاؤهم للحزب الديمقراطي على التقاليد أكثر منه على التفضيلات السياسية. ومنذ ذلك الحين تحرك الجنوب أكثر فأكثر نحو الجمهوريين، ليس فيما يخص الانتخابات الرئاسية فحسب، بل المناصب الولاياتية والمحلية أيضًا.

وضعت حرب فيتنام أيضًا الولاءات الحزبية التقليدية موضع الشك، حيث جاءت معظم المعارضة لتلك الحرب من الديمقراطيين، وأحس كثيرون من الديمقراطيين الكادحين التقليديين أن معارضة الحرب والجنود على خط النار عملٌ غير وطني، فتحولوا إلى الحزب الجمهوري احتجاجًا على ذلك، بينما ترك آخرون الحزب الديمقراطي لإحساسهم أن الحزب صار انعزاليًّا وغير راغب في دعم سائر بلدان العالم.

وفيما يتعلق بالقضايا الداخلية، صار الناس يربطون الديمقراطيين بما اعتبره البعض مواقف اجتماعية متطرفة. ففي أثناء الحملة الرئاسية لسنة ١٩٧٢، لُقِّب الديمقراطيون بحزب «العفو [عن المتهربين من الخدمة العسكرية] والحشيش والإجهاض». وابتُلي الديمقراطيون الأكثر محافظةً اجتماعيًّا في ولائهم، وتسببت رئاسة رونالد ريجان في المزيد من حلحلة الولاءات الحزبية، إذْ كان زعيمًا ساحرًا للجماهير وصاحب فلسفة واضحة، وكان يؤيد تقوية الدفاع وتخفيض الضرائب، وتقليص برامج الرعاية الاجتماعية، ومساندة القيم الاجتماعية التقليدية، فانضم إلى أنصاره قيادات النقابات الأكثر ميلًا إلى المحافظة على الرغم من كونهم ديمقراطيين تقليديًّا. وكان الديمقراطيون الريجانيون؛ أي هؤلاء الديمقراطيون التقليديون الذين صوتوا للرئيس ريجان، والجمهوريون، جزءًا مهمًّا من هذا الائتلاف الفائز في الثمانينيات.

fig5
شكل ٢-٣: رونالد ريجان يقبل ترشيحه للرئاسة في المؤتمر الوطني الجمهوري في دالاس بولاية تكساس في ٢٣ أغسطس ١٩٨٤. وقد قال واصفًا الرؤية الحزبية للاختلافات بين الجمهوريين والديمقراطيين: «الاختيارات هذه السنة … بين طريقتَي حكمٍ مختلفتين اختلافًا جذريًّا: حكم التشاؤم والخوف والقيود الذي ينادون به، وحكم الأمل والثقة والنمو الذي ننادي به.» (Washington, DC, National Archives)

مع مشارفة القرن العشرين على نهايته، زاد صعود المسيحيين المحافظين كقوة سياسية تحليل الائتلافات السياسة تعقيدًا، حيث صوَّت كثير من المسيحيين المحافظين، الذين كان ينبغي أن يؤيدوا الديمقراطيين لأسباب اقتصادية، لمصلحة الجمهوريين، وصارت السياسة الحزبية متزايدة المرارة مع صعوبة التوصل إلى مواقف وسط لحل المشكلات الوطنية الضاغطة. ويتسم التوازن الحزبي بعدم الاستقرار على النحو الذي تجلى في تقارب النتيجة التي حققها بوش وجور في الانتخاب الرئاسي لسنة ٢٠٠٠ والانقسامات الحزبية في كلتا غرفتي الكونجرس. إن موقف كلا الحزبين واضح تجاه بعض القضايا، لكن هناك المزيد من قضايا السياسات التي تتداخل فيما يبدو. فالقضايا الاجتماعية تقسم الناخبين بطريقة ما، والقضايا الاقتصادية تقسِّمهم بطريقة أخرى، والقضايا الدولية ربما تقسِّمهم بطريقة ثالثة، ويعتمد قرار المواطنين بتأييد أي الحزبين على ماهية القضية التي تهمهم أكثر مما سواها، أو ماهية القضية المصاغة على نحو يجتذب مزيدًا من الناخبين. ويؤيد الساسة، إذ يدركون هذا الوضع، مواقف متطرفة حيال القضايا الشِّقاقية التي تزيد البلد انقسامًا على انقسام.

يتضح من هذا الاستعراض أن الانقسام بين الأحزاب في أزمنة مختلفة من التاريخ الأمريكي كان يعكس بشكل مباشر انقسامًا حيال السياسات في الأمة، وفي أزمنة أخرى كانت علاقة الارتباط هذه أقل وضوحًا. ومع ازدياد انخراط الحكومة الوطنية في المزيد من مناحي حياة المواطنين، ومع ازدياد تعقُّد تلك الحياة ذاتها وتشابكها في مجتمع دولي، يصبح مدى إمكانية أن تعكس الخلافات الحزبية وجهات نظر المواطنين الدقيقة والمتضاربة داخليًّا في أغلب الأحوال أمرًا أشدَّ صعوبة.

كانت الأحزاب في سنواتها الأولى أدوات في أيدي زعماء سياسيين ينشدون أتباعًا داخل البلد، لكنها تطورت إلى مؤسسات تلعب دورًا كبيرًا في العملية الانتخابية، ولا يمكن تصور السياسة الأمريكية من دونها. ومن ثم فإن جزءًا آخر مهمًّا من تاريخ الأحزاب هو قصة تطور مؤسسي.

(٢-٢) الأحزاب السياسية الأمريكية كمؤسسات

يبدأ تطور الأحزاب كمؤسسات بداية جدية بالإصلاحات الديمقراطية التي شهدتها الفترة الجاكسونية (١٨٢٩–١٨٣٧). كانت المشاركة الشعبية في العملية الانتخابية أهم سمات الديمقراطية الجاكسونية التي تعلمت الدرس من فوز جون كوينسي آدمز بسدة البيت الأبيض رغم خسارته التصويت الشعبي. بدأت الأحزاب — رفضًا منها طريقة الترشيح القديمة بواسطة مؤتمر أعضاء الحزب بالكونجرس (يُسمى «المؤتمر الملكي» على سبيل السخرية) قبل انتخاب ١٨٣٢ — تعقد مؤتمرات عامة يحضرها مندوبون من كل أنحاء الأمة لاختيار المتسابقين الرئاسيين، وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كانت القاعدة المتبعة أن تختار الولايات أعضاء المجمع الانتخابي الرئاسي بالانتخابات الشعبية لا بالاقتراع داخل الهيئة التشريعية الولاياتية. ومن أجل ربط النواب في واشنطن بناخبيهم، تحولت الولايات إلى نظام الدوائر بدلًا من النظام الكتلوي لانتخاب أعضاء مجلس النواب الأمريكي، وهي الممارسة التي صارت قانونًا في قانون التعداد لسنة ١٨٤٠. وصار حكام الولايات، الذين كانوا يُختارون في الغالب بواسطة الهيئات التشريعية الولاياتية في الأيام الأولى، يُنتخبون شعبيًّا، وطُلب من المواطنين التصويت لاختيار كثيرين من المسئولين الولاياتيين والمحليين.

نتيجة لذلك بدأت الأحزاب السياسية تنظم نفسها على المستوى المحلي لشغل مراكز على بطاقات الاقتراع، ومساندة المتسابقين، وحث الناخبين على الإدلاء بأصواتهم. وبحلول أربعينيات القرن التاسع عشر، كان لدى كلا الحزبين تنظيمان لامركزيان معقدان، وفي ١٨٤٨، شكَّل الديمقراطيون لجنة وطنية، وحذا الجمهوريون حذوهم بعد ذلك بأقل من عقد، لكن اللجنتين الوطنيتين كانتا بلا شك أقل نفوذًا من نظيراتهما الولاياتية والمحلية. وعلى الرغم من ذلك، فبحلول منتصف القرن، كانت هناك تنظيمات رسمية قائمة من المستوى المحلي إلى الوطني في كلا الحزبين السياسيين الرئيسيين، وظلت هكذا منذ ذلك الحين.

مع اتساع حق الانتخاب ليشمل قطاعًا أكبر من المواطنين، تبنت الأحزاب أساليب الحملات الانتخابية للوصول إلى الناخبين، فكان المتسابقون وأغلبهم جنرالات قدامى يستدعون إلى الأذهان مآثرهم العسكرية بشعارات جذابة، فكان جاكسون نفسه (بطل معركة نيو أورليانز في حرب ١٨١٢) يلقب ﺑ «شجرة الجوز العجوز» لشدته، بينما كان لقب «تيبيكانو وتايلور معًا» من نصيب وليم هنري هاريسون (الذي انتصر على طائفة من الهنود الأمريكيين في معركة تيبيكانو) ورفيقه في السباق جون تايلور، ولقب «العجوز الشديد الجاهز» من نصيب بطل الحرب زاكاري تايلور الذي انتُخب رئيسًا سنة ١٨٤٨.

تعلَّم الساسة استخدام خطاب ملتهب لإثارة حماس الناخبين، وكانت الأحزاب تسيِّر مواكب بالمشاعل لإشعال الروح التنافسية لدى أتباعها لحث الناس على التصويت وتشجيع الإنسان العادي على الخروج إلى مراكز الاقتراع، وكان الناخب العادي آنذاك — كما هو الحال اليوم — لا يتحمس للنقاشات الفلسفية، وكان نظام الغنائم (توزيع المناصب بعد الانتخابات على أنصار المتسابق الفائز) وما تنطوي عليه فعاليات الحملة من إثارة هما محور السياسة في منتصف ذلك القرن.

يُعرف النصف الأخير من القرن التاسع عشر ﺑ «عصر الأحزاب الذهبي»، حيث كانت المنافسة الحزبية حامية بشكل لا يمكن تصوره، ولذلك أعار الحزبان أهمية كبيرة للتنظيم بُغية حث أنصارهما على الإدلاء بأصواتهم، وبالأخص في الدوائر التي تشهد تقاربًا في نتائج متسابقي الحزبين، وكان من الضروري التحلي بالانضباط والتنظيم والنشاط.

ظهرت الماكينات الحزبية إلى الوجود في هذه الفترة على هيئة تنظيمات هرمية صارمة تهيمن عليها قيادات سياسية وتضم عمالًا منظمين وصولًا إلى أدنى مستوى محلي وهو اللجنة الانتخابية. وكان يعزِّز ولاء موظفي الحزب والناخبين للماكينة حوافز مادية ومكافآت ملموسة تعطَى عند الفوز بالانتخابات وتُنزع — بالتالي — إذا خُسرت الانتخابات. كان موظفو الحزب يشغلون غالبًا وظائف مجزية بالمحسوبية، ويعملون جادين لمصلحة الماكينة للحفاظ على تلك الوظائف، وكانت مهمتهم تتضمن جزءًا مهمًّا يتمثل في استقطاب أنصار جدد. كان المهاجرون الجدد أهدافًا مغرية، حيث كان الحزب متولي السلطة يقدم لهم معونات شتى، من وظائف ومسكن وهدايا إضافية في عيد الشكر وعيد الميلاد، ولعل الأهم من ذلك كله لهم إتاحة اندماجهم اجتماعيًّا في مجتمعاتهم المحلية الجديدة، وفي المقابل كانت الماكينة تحصل على الأصوات والولاء.

كانت الماكينات الحزبية التي هيمنت على المناطق الحضرية في نهاية القرن التاسع عشر قائمة على المحسوبية لا المبدأ. كانت مهمتها الفوز في الانتخابات، وكانت تستقطب متسابقين للمناصب المحلية، لكن اهتمامها بالوظائف التي يمكن لهؤلاء المسئولين توزيعها على المحاسيب بحكم مناصبهم كان أكبر من اهتمامها بالسياسات التي يمررونها. وكان معظم وظائف المحسوبية تحت سيطرة الحكومة المحلية أو حكومة المقاطعة.

أما على مستوى الولاية فكانت الماكينات الحزبية، وبالأخص ماكينات الحزب الجمهوري، تدار بشكل مختلف؛ إذ كان وقودها في تلك الحالات هو المال، الذي يوفره أصحاب المصالح التجارية، لا توفير الوظائف والمعونات للناخبين الجدد. وكانت ماكينات الولاية تدار غالبًا بمعرفة الشيوخ الأمريكيين؛ لأنهم كانوا آنذاك يُختارون من قِبل الهيئات التشريعية الولاياتية، وكان أصحاب المصالح التجارية يساندون زعيم الماكينة الذي كان يُنتخب بمعرفة الهيئة التشريعية الولاياتية فيذهب إلى واشنطن لحماية مصالح مَن ساندوا تنظيمه. كان الوقود الذي يدير الماكينة مختلفًا، لكن الطبيعة المادية للحوافز مقابل الولاء كانت سواء.

كانت السيطرة على عملية الترشيح آلية مهمة من آليات السيطرة الحزبية، فكان زعماء الماكينات الحزبية يقررون من سيكون المرشحين، ثم يطبعون بطاقات الاقتراع ويوزعونها بحيث يسيطرون على مصير أولئك المرشحين، وكانت آليات العمل الداخلية بالأحزاب غائبة عن أنظار المواطن العادي وخارج سيطرته تمامًا.

بلغت الماكينات الحزبية أوجها مع نهاية القرن التاسع عشر، وبدأ تراجعها مع الإصلاحات التي أُجريت في أوائل القرن العشرين، وتواصل هذا التراجع منذ ذلك الحين بخطى مختلفة — لكن ثابتة — من منطقة إلى أخرى، حيث انتزع استحداث الانتخاب التمهيدي المباشر، ثم انتشاره، زمام السيطرة على الترشيحات من القيادات الحزبية، ونزع نظام الخدمة المدنية الكثير من وظائف المحسوبية من أيدي القيادات الحزبية، كما اشترط التعديل السابع عشر للدستور الأمريكي الذي أُقر في ١٩١٣ الانتخاب المباشر للشيوخ الأمريكيين، منتزعًا بذلك الصلاحيات الأخيرة من الماكينات الحزبية الولاياتية. وترتَّب على إصلاحات الرعاية الاجتماعية التي أُقرت في إطار الخطة الاقتصادية الجديدة استجابةً للكساد العظيم أن صارت الحكومة الفيدرالية — لا الأحزاب — هي مصدر المعونات للمواطنين المحتاجين، فتحولت الولاءات بناء على ذلك. وعلى الرغم من أن بقايا الماكينات الحزبية ظلت قائمة في مراكز حضرية معينة لما بعد انتصاف القرن بفترة طويلة — وأبرز مثال على ذلك ماكينة مقاطعة كوك التابعة للعمدة ريتشارد جيه دالي في شيكاجو — فإن تلك التنظيمات الحزبية المهيمنة الأخيرة كانت الاستثناء لا القاعدة.

fig6
شكل ٢-٤: الرئيس ليندون جونسون يقدم فروض الولاء للزعيم السياسي العريق بشيكاجو العمدة ريتشارد دالي. (Austin, TX, LBJ Library (photo by Yoichi R. Okamoto))
لكن الأحزاب لم تختفِ. فحتى مع اضمحلال دور الأحزاب كتنظيمات معنية بالحملات الانتخابية، فقد ظلت على قوتها كوسيلة لتنظيم الحكومة وكرمز يُظهر له المواطنون الولاء،٨ وفي مستهل القرن العشرين، بدأ كلا الحزبين في كلا غرفتي الكونجرس ينتخبون زعماء رسميين سواء أكان الحزب حزب الأغلبية أم الأقلية، وكان يُنتظر من أعضاء الحزب في الهيئات التشريعية اتباع زعمائهم، وكان يُتوقع من حزب رئيس البلاد مساندة برنامج الرئيس التشريعي، وكان الرؤساء المنتخبون حديثًا يَختارون عادة أعضاء حزبهم لشغل المناصب الوزارية ودون الوزارية.
ربما فقد الناخبون الحوافز المادية لمساندة حزب أو آخر، لكن ولاءهم ظل كما هو، وكان الانقسام الحزبي إبان الخطة الاقتصادية الجديدة عميقًا للغاية، حيث كان الديمقراطيون يرون في الرئيس روزفلت مُخلِّصًا، بينما كان الجمهوريون يرون فيه شيطانًا. وتسامى ولاء الناخبين لأحزابهم فوق الخلافات وفوق الشخصيات، فيما عدا في حالة الزعماء ساحري الجماهير كالجنرال دوايت دي أيزنهاور عندما ترشح للرئاسة في ١٩٥٢، وظلت التنظيمات الحزبية قائمة، لكن قوتها زالت.٩

غير أن شائعات موت الأحزاب السياسية — إذا أعدنا صياغة مقولة مارك توين — بولغ فيها كثيرًا. ولا يكفي أن نقول إن نظام الحزبين لم يمت، بل إن الحزبين الديمقراطي والجمهوري ما زالا باقيين ويواصلان هيمنتهما. وعلى خلاف الحال في أوائل القرن الثامن عشر، حين زال الفيدراليون وانتهت المنافسة ثنائية الحزبية لفترة ما، لم يحدث ذلك في منتصف القرن العشرين؛ لأن كلا الحزبين موجود الآن كتنظيم، والتنظيمات تتكيف للحفاظ على وجودها، فهي لا تطوي خيامها وتنزوي.

اشتمل تكيُّف الأحزاب السياسية على الاستجابة لوضع لم تعد تتناسب معه أدوات الحملات الانتخابية المستخدمة، ولم يكن فيه الولاء للتنظيم في حد ذاته، وصار فيه التصويت لمتسابقين ينتمون إلى أكثر من حزب (بمعنى التصويت للديمقراطيين لشغل بعض المناصب وللجمهوريين لشغل بعضها الآخر) هو النظام المتبع، ويدير فيه المتسابقون حملاتهم بمفردهم لا في تحالف وثيق مع أعضاء آخرين بأحزابهم. ببساطة نقول إن الأحزاب تكيَّفت مع وضع جديد باضطلاعها بدور كان المتسابقون يحتاجون إلى من يتولاه؛ إذ كانت هناك حاجة إلى الأموال لإنفاقها على تكنولوجيات الحملات الانتخابية الجديدة، التي كانت أولاها الإذاعة ثم التليفزيون ثم الاستخدام الأكثر تطورًا لأجهزة الكمبيوتر في استطلاع الآراء والاتصال المباشر بالناخبين. فتولت الأحزاب وظيفة جمع الأموال للمتسابقين، على المستوى الوطني من خلال اللجان الوطنية واللجان الأربعة المستقلة المكلفة بالإشراف على حملات مجلسي النواب والشيوخ المسماة لجان هيل (لجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس النواب، ولجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس الشيوخ، واللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس النواب، واللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس الشيوخ)، ومرَّرت الأموال من المستوى الوطني إلى مستوى الولايات، ووفرت الخدمات، من قبيل استطلاعات الرأي وأبحاث المعارضة، للمتسابقين غير القادرين على ذلك، وعملت كوسيط لتسهيل اتصال متسابقي حزبها بممثلي جماعات المصالح الذين يرجح أن يساندوهم، فصارت الأحزاب في جوهرها تنظيمات خدمية لمتسابقيها على المناصب، لكنها في هذه الوظيفة تلعب دورًا مهمًّا جدًّا في الحملات الوطنية.

يقسِّم المؤرخ السياسي جويل سيلبي تاريخ الأحزاب الأمريكية إلى أربع حقب وفقًا لمدى محورية الدور الذي لعبته الأحزاب في الحياة الأمريكية. الفترة الأولى، التي استمرت حتى رئاسة جاكسون، هي «فترة ما قبل الأحزاب»، والفترة الممتدة منذ ذلك الحين وحتى عصر الأحزاب الذهبي تسمى «فترة الأحزاب»، والفترة التي ظُن فيها أن دور الحزب قد تراجع هي «فترة ما بعد الأحزاب»، أما الحقبة الحالية فيسميها «فترة اللاأحزاب». ربما يكون هذا التقسيم صحيحًا من حيث محورية الحزب بالنسبة للحياة الأمريكية، لكن الأحزاب — وبالأخص كتنظيمات تنفِّذ حملات انتخابية وكوسيلة لتنظيم الحكومة — ما زالت نابضة بالحياة والنشاط إلى يومنا هذا. صحيح أنها لا تلعب الدور الذي كانت تلعبه من قبل، لكنها تكيَّفت ووجدت دورًا جديدًا، وإذا لم يفهم المرء ذلك الدور، فلن يستطيع فهم الانتخابات الأمريكية الحديثة.

(٣) النظام الذي تعمل فيه الأحزاب السياسية الأمريكية

ناقشنا حتى هذه النقطة كيف عكست الأحزاب الأمريكية الانقسامات الحاصلة بين جمهور الناخبين بشأن السياسات، وتطوُّر الأحزاب وتكيفها كمؤسسات سياسية. لكن المؤسسات توجَد — والسياسات توضَع — ضمن نظام سياسي أوسع، وتؤدي التغيرات في هذا النظام حتمًا إلى تغيُّرات في أداء المؤسسات لوظائفها، وبالحتمية ذاتها إلى تغيُّرات في ساحة السياسات. وسوف نتناول باختصار ثلاثة مجالات شهدت تغيُّرات مهمة، وهي جمهور الناخبين، وماهية المناصب التي يجري التنافس عليها والقواعد الحاكمة لذلك، وماهية الأساليب المستخدمة للتنافس في الانتخابات، وسننظر في كل حالة إلى تبعات ذلك على الأحزاب السياسية والعملية الانتخابية.

(٣-١) توسيع جمهور الناخبين

كان التصويت في معظم الولايات وقت تأسيس الجمهورية حقًّا حصريًّا مقصورًا على البيض الذكور أصحاب الأملاك، أما اليوم فحق الانتخاب المكفول للجميع هو القاعدة، ويثور جدل حول كيفية رفع معدل المشاركة في الانتخابات بإقناع المؤهلين للتصويت بمباشرة هذا الحق. وقد جرى التوسع في جمهور الناخبين على مراحل أربعة.

كانت الخطوة الأولى إلغاء شرط حيازة الأملاك — الذي أُلغي في كل ولاية على حدة — ليحل محله شرط أن يكون الناخبون دافعي ضرائب، على هيئة ضريبة رءوس، وتُجبى ما دام المواطن يمارس حق الانتخاب، واستمر هذا الشرط حتى ألغي بموجب التعديل الرابع والعشرين للدستور الذي أُقرَّ سنة ١٩٦٤ بالنسبة للمناصب الفيدرالية وبموجب حكم المحكمة العليا في قضية هاربر ضد مجلس الانتخابات بولاية فيرجينيا لسنة ١٩٦٦ بالنسبة للانتخابات كافة.

ثم وُسَّع حق الانتخاب ليشمل السود في عملية استغرق إتمامها أكثر من قرن. فبعد الحرب الأهلية، نصَّ التعديل الخامس عشر الذي أُقرَّ سنة ١٨٧٠ على عدم جواز حرمان أي مواطن حق التصويت بسبب «العرق أو اللون أو رقٍّ سابق»، لكن الهيئات التشريعية في ولايات الرقيق السابقة استعملت وسائل عبقرية لمنع العبيد السابقين الممنوحين حق الانتخاب حديثًا من التصويت، حيث تضمنت القوانين المسماة قوانين جيم كرو اختبارات في القراءة واختبارات في تفسير الدستور وانتخابات تمهيدية «للبيض فقط» (وهو ما جعل الأحزاب جمعيات خاصة مفتوحة أمام البيض وحدهم)، واشتراطات تتعلق بالإقامة، وضرائب الرءوس. وكانت المجتمعات المحلية الجنوبية تقيم في أغلب الأحوال مراكز الاقتراع بعيدًا عن المناطق التي يسكنها الرقيق السابقون ولا تفتحها إلا لساعات محدودة، وأضيفت إلى هذه القيود القانونية وسائل غير قانونية كالترهيب والاعتداء البدني. كانت النتيجة أن أقل من ١٥ في المائة من المواطنين الأمريكيين من أصل أفريقي القاطنين ألاباما والميسيسيبي وساوث كارولينا سُجلوا للتصويت سنة ١٩٦٠، ونحو ٣٠ في المائة فقط من الأمريكيين من أصل أفريقي القاطنين عموم الجنوب سُجلوا في تلك السنة. وعالج قانون حقوق التصويت لسنة ١٩٦٥ عدم المساواة في الحقوق السياسية الذي نجم عن هذه الممارسات، فنصَّ على أنه إذا تقرر أن عدد المسجلين للتصويت من أي أقلية عرقية في أي مقاطعة أقل من ٥٠ في المائة، كان ذلك دليلًا واضحًا على التمييز، وعلى أن يحل أمناء السجلات الفيدراليون محل المسئولين المحليين مما يضمن المساواة في معاملة الأقليات العرقية فيما يتعلق بالتصويت. كان قانون حقوق التصويت واحدًا من أهم ثمرات حركة الحقوق المدنية في ستينيات ذلك القرن، وبحلول نهاية العقد، كانت النسبة المئوية للأمريكيين من أصل أفريقي المسجلين للتصويت قد تضاعفت أكثر من مرتين في عموم المنطقة وازدادت أكثر من أربع مرات في الولايات التي سجلت أدنى نسبة في وقت سابق. وعلى الرغم من أن معدل الإقبال على التصويت بين الأمريكيين من أصل أفريقي ما زال يتذيل المتوسط الوطني، فقد أزيلت أهم العقبات القانونية أمام التصويت.

وجاءت المرحلة الثالثة بتوسيع حق الانتخاب لاشتمال النساء في التصويت. وتستحق المعارك الملحمية التي شنتها المناديات بمنح المرأة حق الانتخاب — بداية من مؤتمر سينيكا فولز الذي أصدر إعلان المشاعر المعني بحقوق المرأة سنة ١٨٤٨ وحتى التصديق على التعديل الدستوري الذي منح المرأة حق الانتخاب المسمى التعديل التاسع عشر والذي أُقرَّ سنة ١٩٢٠ — عن جدارة ما كُرِّس لها من كتب. فقد سعت المناديات بمنح المرأة حق الانتخاب، اللاتي كن يحاربن في الولايات كل على حدة وعلى الصعيد الوطني في الوقت نفسه، إلى الحصول على نصيب متساوٍ من السلطة، لا من المهيمنين عليها فحسب، بل أيضًا ممن كانوا يشاركونهن البيت والفراش. ويعد نجاحهن شهادة على قوة زعيماتهن وبراعتهن، وعلى مثابرتهن، وعلى انتصار أصحاب المبادئ على أصحاب السلطة.

fig7
شكل ٢-٥: مسيرة مؤيدة لحق المرأة في الانتخاب تشق طريقها عبر شوارع واشنطن العاصمة في ٣ مارس ١٩١٣. وقد ترتب على توسيع حق الانتخاب تضاعُف عدد الناخبين. (Washington, DC, Library of Congress)

أحدثت هذه المراحل الثلاث في توسيع جمهور الناخبين كلها اختلافًا كبيرًا في العملية الانتخابية في الولايات المتحدة. ففي الأيام الأولى من عمر الجمهورية، كان حق التصويت مقصورًا على نحوِ واحدٍ فقط من أصل ثلاثين، وكانت السياسة مهنة النخبة، فلم تكن هناك حاجة تُذكر إلى أخذ وجهات نظر الإنسان العادي بعين الاعتبار، لكن توسيع حق الانتخاب ليشمل دافعي الضرائب كافة أحدث تغييرًا جوهريًّا في اللعبة، ومع تغيُّر اللاعبين، اضطر من ينشدون الانتخاب إلى تبني استراتيجيات جديدة أو الاندثار كما في حالة الفيدراليين.

كان توسيع حق الانتخاب ليشمل الأمريكيين من أصل أفريقي تقرير مبدأ في المقام الأول، لكن الحق النظري في التصويت حُوِّل إلى قوة تصويت فعلية في الستينيات، فاكتسبت قطاعات سكانية كبيرة وزنًا وأهميةً، وبالأخص في الجنوب، بين مَن كان الساسة المنتخبون يتجاهلون من قبل وجهات نظرهم ومراداتهم لأنهم يعرفون أنهم لا يصوتون.

ستروم ثيرموند

تبدت الحاجة إلى استراتيجيات سياسية جديدة في أوضح صورها في مسيرة السياسي ستروم ثيرموند ابن ولاية ساوث كارولينا، الذي استهل حياته السياسية في ساوث كارولينا كمتهجم على الجماعات العرقية وكسياسي يدعو إلى الفصل العنصري ويدافع عن النهج الحياتي الذي كان يتوق إليه بعض الجنوبيين. ثم خاض سنة ١٩٤٨ سباق الرئاسة مرشحًا عن حزب حقوق الولايات، معارضًا الأفكار الليبرالية للرئيس الحالي وابن حزبه الديمقراطي هاري إس ترومان، لكن بحلول الثمانينيات، كان ثيرموند — الذي تحول إلى الحزب الديمقراطي في الستينيات بسبب صرامة ليندون جونسون الزائدة بشأن الحقوق المدنية — لديه موظف استقبال أمريكي من أصل أفريقي في مكتبه بمجلس الشيوخ بعد أن صار من غير الممكن أن يتجاهل مَن هم في السلطة من الجنوبيين ناخبيهم الأمريكيين من أصل أفريقي.١٠

تضاعف عدد الناخبين المؤهلين عندما نالت النساء حق الانتخاب في كل ولاية على حدة قرب نهاية القرن التاسع عشر وعلى المستوى الوطني سنة ١٩٢٠. لقد عارض أصحاب السلطة، وأقصد قيادات الأحزاب وقيادات النقابات وصناعة المشروبات الكحولية والكنيسة الكاثوليكية وكبار رجال الأعمال، كلهم هذا الحق؛ خشية أن تتغير السياسات التي تعتمد عليها سلطتهم تغييرًا جذريًّا بين عشية وضحاها، وهو ما لم يحدث، لكن طبيعة السياسة تغيرت مع تبني الأحزاب برامج سياسية تستميل النساء، وتكييفها أساليب حملاتها الانتخابية واستراتيجياتها وفقًا لذلك. وقد توحَّد النساء في أوقات مختلفة في القرن العشرين حيال القضايا مثار الاهتمام الخاص لديهن، وصوَّتن في أوقات معينة بشكل يختلف اختلافًا كبيرًا عن نظرائهن من الذكور، لكن سلوك النساء التصويتي بوجه عام لم يختلف كثيرًا عن سلوك الرجال.

ثم جاءت المرحلة الرابعة والأخيرة في توسيع حق الانتخاب عندما خُفِّض سن التصويت من إحدى وعشرين سنة في معظم الولايات إلى ثماني عشرة سنة بعد أن أدرك الرئيس أيزنهاور — الذي سبق أن أَرسل كقائد أعلى لقوات الحلفاء في أوروبا إبَّان الحرب العالمية الثانية مئات الآلاف من الشباب إلى مواطن الخطر — التناقض المتأصل في قانون يحرم مَن هم بين الثامنة عشرة والحادية والعشرين من التصويت بينما يمكن تجنيدهم عسكريًّا في مثل هذه السن، فطلب من الكونجرس تخفيض سن التصويت إلى ثماني عشرة سنة في خطابه عن حالة الاتحاد الذي ألقاه سنة ١٩٥٥ وأصرَّ على أن تخفض ألاسكا وهاواي أعمار التصويت بهما كي تنضما إلى الاتحاد.

لكن القضية لم تصل إلى ذروتها على المستوى الوطني حتى سنة ١٩٧١ إبَّان حرب فيتنام، مما أدى إلى إقرار التعديل السادس والعشرين للدستور، الذي خفض الحد الأدنى لسن التصويت إلى ثماني عشرة سنة. وفي حين خشي البعض — ورجا البعض الآخر — أن يصوت الشباب الممنوحون حق الانتخاب حديثًا ككتلة ليبرالية، لم تتحقق هذه النبوءة قط، حيث يشارك الناخبون صغار السن بمعدلات أقل كثيرًا من أندادهم الأكبر منهم سنًّا، ولا يختلفون كثيرًا في كيفية تصويتهم عن الناخبين الأكبر منهم سنًّا من أصحاب الخلفيات العرقية أو الاجتماعية أو الاقتصادية المماثلة.

(٣-٢) المناصب التي يُتنافس عليها في الانتخابات الأمريكية

إذا كان توسيع حق الانتخاب غيَّر وجه المشاركة، فالتغيرات في المناصب التي يُتنافس عليها غيَّرت الهدف من العملية الانتخابية ذاتها. ويمكن ها هنا من جديد ملاحظة تقدم تدريجي، وللنتيجة تبعات واضحة على العملية الانتخابية ذاتها.

يُرى التقدم الحادث في زيادة عدد الانتخابات الشعبية التي تُجرى لشغل المناصب، ومن الممكن تبيُّن النمط العام لهذا الأمر دونما إسهاب في وصف الخطوات. ففي زمن تأسيس الدولة، كان الرئيس والشيوخ الأمريكيون ومعظم الحكام يُنتخبون بمشاركة شعبية ضئيلة أو دون مشاركة شعبية بالكلية؛ إذْ كان الرئيس يُنتخب انتخابًا غير مباشر بمعرفة المجمع الانتخابي، وقليل من أعضاء هذا المجمع كانوا يُختارون في انتخابات شعبية، وكان الحكام يُنتخبون في معظم الأحوال بمعرفة الهيئات التشريعية الولاياتية، وكان الشيوخ الأمريكيون يُختارون بمعرفة الهيئات التشريعية الولاياتية، وكان كثير من المسئولين المحليين يشغلون مناصبهم بالتعيين.

كل ذلك تغيَّر؛ ففي حين ما زال المجمع الانتخابي يختار الرئيس، فأعضاؤه الآن يُختارون شعبيًّا في كل ولاية، ويوجد لغط كبير حول إلغاء المجمع بالكلية، ويُنتخب حكام الولايات كافة شعبيًّا، ومنذ إقرار التعديل السابع عشر سنة ١٩١٣ والشيوخ الأمريكيون يُنتخبون شعبيًّا، كما يُنتخب القضاة الآن في كثير من الولايات، ويتواصل انتخاب المسئولين المحليين بأعداد تفوق نظراءهم في أي ديمقراطية أخرى. وفيما ازداد عدد المسئولين المنتخبين، انخفض عدد المعينين الذين يمكن لهؤلاء المسئولين تسميتهم لمناصب سياسية معينة انخفاضًا شديدًا.

نتيجة لذلك لم تعد السياسة الانتخابية معنية بغنائم المنصب مثلما تُعنى باجتذاب جمهور الناخبين بطرق أخرى. ويجسد رؤساء الجمهورية والمسئولون على مستوى الولايات صورة جماهيرية تروق للناخبين. ويمكن أن تُرى بدايات ذلك الاتجاه في منتصف القرن التاسع عشر حين كانت الأحزاب ترشح أبطال حرب يمكن لجماهير الناخبين التوحد معهم، وهو يظهر أشدَّ وضوحًا في عصر التليفزيون والاتصال الجماهيري، فهل كان ممكنًا لشخص في إطلالة لنكولن أن يُنتخب في العصر الحديث؟ وطور المسئولون الآخرون في المناصب الأقل بروزًا أساليب أخرى للوصول إلى الناخبين، حيث كان أعضاء الكونجرس وأعضاء الهيئات التشريعية الولاياتية يمضون قدرًا كبيرًا من وقتهم ووقت مساعديهم في خدمة ناخبيهم، قائمين على حاجات الأفراد والمجتمعات المحلية ذات الصلة بحكمهم. ولكل هذه التغيرات آثار واضحة وجلية على العملية الانتخابية.

(٣-٣) أساليب الحملات الانتخابية

تدل حملة هوارد دين التي لم تكلل بالنجاح للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي سنة ٢٠٠٤ على التغيير الثالث في النظام، وهو التغيير في أساليب الحملات الانتخابية، حيث اعتمد دين على الإنترنت للوصول إلى الناخبين وتنظيم حملته وجمع التبرعات، مستخدمًا التكنولوجيا بطرق لم يجربها أحد من قبل، لكن بصورة ما، لم تكن حملته إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من استخدام الابتكارات التكنولوجية في سياق سياسي.

فقبل مائة عام، كان الساسة يتواصلون مع المواطنين بشكل فردي، وكان الاتصال الشخصي، سواء بالبريد أو وجهًا لوجه، هو الوسيلة الوحيدة الممكنة للاتصال؛ إذْ لم يستخدم الساسة المذياع كوسيلة للتواصل أو كأحد أساليب الحملات الانتخابية حتى رئاسة فرانكلين ديلانو روزفلت.

رأينا منذ ذلك الحين ثلاث ثورات تكنولوجية منفصلة في الحملات الانتخابية. أولًا: يتواصل المتسابقون الآن بشكل مختلف مع الناخبين، حيث حل التليفزيون محل الإذاعة بوصفها الوسيلة الرئيسية للتواصل مع الناخبين المحتملين، وحل «البث المحدود» محل البث التليفزيوني، وذلك بشراء إعلانات على محطات التليفزيون المدفوع تجتذب قطاعات معينة من السكان، وتصميم الرسائل وفقًا لذلك. وتُمثل المناشدات على الإنترنت — عن طريق مواقع الويب والبريد الإلكتروني — طرقًا أخرى يوصل بها المتسابقون رسائلهم إلى ناخبيهم المرتقبين ويجمعون بها التبرعات.

ثانيًا: يتعرف المتسابقون على معلومات حول جمهور الناخبين بطرق متزايدة التعقيد والتطور. وقد أحدثت تكنولوجيا الكمبيوتر ثورة في صناعة استطلاع الآراء، فبينما كانت الحملات الوطنية أو الحملات الأعلى تكلفة على مستوى الولايات ذات يوم هي الوحيدة القادرة على تحمل تكاليف استطلاع الرأي العام، وكان إجراء استطلاع مرجعي للرأي في بداية الحملة وآخر أو اثنين لاحقين يُعتبر أحدث ما وصل إليه عالم الأبحاث، نجد الآن الحملات الوطنية، بل الحملات على مستوى الولايات، تجري استطلاعات لرأي الجماهير باستمرار، وتستخدم عينات متجددة لقياس وجهات نظر الجماهير المتغيرة من يوم إلى يوم أو من حدث إلى حدث، وصار استطلاع الرأي شيئًا معتادًا في الكثير من الانتخابات المحلية. وبينما كان منظمو الاستطلاعات ذات يوم يؤمرون بأداء مهمتهم وتقديم ما لديهم من معلومات إلى المخططين الاستراتيجيين بالحملات والتنحي جانبًا، نجدهم الآن خبراء استراتيجيين في الحملات الانتخابية يعملون عن كثب (وربما في الشركة ذاتها) مع الاستشاريين الإعلاميين واستشاريي البريد المباشر والمسئولين عن جمع التبرعات والدائرة الضيقة لحملة المتسابق، وباتت البيانات المجموعة أكثر تعقيدًا وأكثر موثوقية، ولا شك أنها باتت أكثر محورية في تحديد رسائل الحملة.

ثالثًا: تجمع الحملات البيانات وتحللها بدرجة متزايدة من التطور، حيث تتيح لها الآن تكنولوجيا الكمبيوتر الأسرع والأرخص جمع بيانات — عن الأنصار، والمتطوعين، والمتبرعين، والقضايا، والخصوم — وتخزينها وتحليلها بطرق أعظم تطورًا بكثير. وقد شهد جمع التبرعات تغيُّرًا هائلًا؛ لأن حملات جمع التبرعات تستطيع توجيه مناشداتها إلى أهداف دقيقة. كما صار بالإمكان تنظيم الحملات بدرجة أعلى من التطور في ظل القيام بأغلب عمليات التواصل على نحو فوري عبر الإنترنت، إضافة إلى تكييف خُطب المتسابقين وإعدادهم للمناظرات بما يتناسب بمزيد من الوضوح مع الجماهير، والاستشهاد بالبرامج الحكومية بمزيد من الدقة، والرد على ادعاءات الخصوم بسرعة شديدة، وكل هذا بفضل تحليل البيانات بالكمبيوتر.

حتى مع تلك التغييرات، تظل السياسة فنًّا بقدر ما هي علم، ولنَعد بأذهاننا مجددًا إلى حملة هوارد دين التمهيدية للرئاسة سنة ٢٠٠٤. لقد سخَّر دين، حاكم ولاية فيرمونت الصغيرة السابق، الإنترنت كما لم يفعل متسابق من قبل، متَّبعًا أسلوبًا استهله قبل ذلك بأربع سنوات الجمهوري جون ماكين، ومستخدمًا الإنترنت لجمع مبالغ مالية طائلة، ولم يدرك أيٌّ من المتسابقين الآخرين قوة هذه الأداة حتى أثبتت حملة دين فعاليتها، حيث استخدم اتصالات الإنترنت لبناء جيش ضخم من المتطوعين، وكلهم متصلون آنيًّا برسائل الحملة، واستهدف الناخبين الذين يستهويهم استهدافًا دقيقًا ومتطورًا، ومع ذلك فقد خسر الانتخابات. ولا شك أن من أسباب خسارته فقده سيطرته على أعصابه ذات ليلة في ولاية أيوا، فرأى الأشخاص ذواتُهم الذين كانوا يستمعون بانتباه شديد إلى رسالته وجهًا مختلفًا للرجل الذي كانوا يؤيدونه.

كان السبب الأساسي لخسارته أن آخرين في السباق فهموا اللعبة مثله جيدًا، واستعملوا براعتهم، فأخذوا عبرة من حملة دين — جمع كيري على الإنترنت تبرعات أكثر مما جمعه دين — لكنهم رسموا أيضًا صورة للناخبين تناسب صورتهم، وعملوا على تنقيحها. لقد أثبت دين في الحقيقة كيف يمكن استعمال الأدوات الجديدة، فتعلم الآخرون وسرعان ما لحقوا به، واستوعبت حملاتهم فن الوصول إلى قاعدة عريضة من الناخبين.

(٤) ملخص

هذا التاريخ المختصر للأحزاب السياسية الأمريكية مفيد لفهم العملية الانتخابية اليوم. لقد تغيَّرت الأحزاب على مر تاريخ هذه الأمة؛ إذ تغيرت كمؤسسات، وباتت قضايا الساعة تحدد النداءات التي توجهها إلى الناخبين، وتغيَّر جمهور الناخبين ذاته مثلما تغيرت المناصب المتنافَس عليها، وتغيرت الطرق التي توجَّه بها النداءات مع تقدم التكنولوجيا المهمة لتنفيذ الحملات الانتخابية.

لكن العملية الانتخابية لم تتغير في هذه الأثناء، إذْ ما زالت تُعنى بالتنافس على الدعم الجماهيري للمتسابقين استنادًا إلى ما فعله أولئك المتسابقون من وجهة نظر الناخبين وما هم فاعلوه مستقبلًا على الأرجح. وما زالت تُعنى بالفوز بأي نتيجة؛ لأن تقارب النتائج لا يهم في النظام الأمريكي. وما زالت تُعنى بالتنظيم، وفهم القواعد والناخبين، وكيف يمكن أن يجتذب المرء الناخبين على النحو الأكثر كفاءة في إطار القواعد المعمول بها. وإذ نأخذ سياق العملية الانتخابية وهذا التاريخ المختصر بعين الاعتبار، نلتفت إلى تلك القضايا في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤