الفصل الرابع

مَن الجمهوريون؟ ومَن الديمقراطيون؟ ومَن «الآخرون»؟

تَسهل الإجابة عن هذه الأسئلة إذا نظرنا إلى الشخصيات البارزة. فالرئيس جورج بوش جمهوري، والسناتور إدوارد كينيدي ديمقراطي، ويخوض المسئولون العموميون الانتخابات كمرشحين عن أحد الحزبين أو الآخر. لكن ماذا عن ذلك المدرس في فيرمونت، وعامل النسيج في نورث كارولينا، والمُزارع في نبراسكا، ومهندس الكمبيوتر في كاليفورنيا؟ أديمقراطيون هم أم جمهوريون؟ ومَن المستقلون، ومن يمثلهم في الحكومة؟

منذ أجيال وعلماء السياسة يرون فائدة في التمييز بين الحزب كجمهور ناخبين، والتنظيم الحزبي، والحزب كحكومة. فأما الحزب كجمهور ناخبين فهو الناخبون، أما التنظيم الحزبي فيتألف من الأفراد الذين يخوضون الانتخابات ويشغلون مناصب في اللجان الحزبية على الصعيد المحلي أو الولاياتي أو الوطني أو يعملون لدى هذه اللجان، أما الحزب كحكومة فيضم المسئولين العموميين، المنتخبين منهم والمعينين، المتعاطفين مع أحد الحزبين الكبيرين أثناء خدمتهم في مناصبهم.

وسوف نتقصى في هذا الفصل الانتماء الحزبي في كل من تلك السياقات الثلاثة، فنبين كيف أن الحزب كناخبين هدفٌ متحرك، حيث يسهل تمييز الناخبين — كيفما كان تعريفهم — الذين يتعاطفون مع الحزبين الكبيرين عمَّن يعملون لديهما أو يخوضون انتخابًا — أو يُعيَّنون — للعمل كممثلين لهما.

(١) الحزب كناخبين

كيف تعرف ما إذا كان الشخص ديمقراطيًّا أو جمهوريًّا؟ وما الذي يعنيه كونك ديمقراطيًّا أو جمهوريًّا؟ نحن نعرف أن عضوية الأحزاب في الولايات المتحدة لا تعني ما تعنيه في أوروبا، بمعنى أن الأمريكيين لا ينضمون إلى حزب سياسي بالمعنى الحقيقي، ولا تحتفظ الأحزاب بكشوف بأعضائها، كما نعرف أيضًا أن الولاء الحزبي هو أفضل مؤشر منفرد للتنبؤ بصوت المواطن، فالديمقراطيون — بافتراض بقاء العوامل الأخرى ثابتة — يصوتون للديمقراطيين، والجمهوريون للجمهوريين.

عادة ما يحلَّل الحزب كناخبين بواحدة من ثلاث طرق: أولاها تمحيص المسجلين في أحد الحزبين الكبيرين، لكنها وسيلة محدودة؛ لأن هناك ولايات كثيرة لا تحتفظ بسجلات رسمية بأعضاء الأحزاب المسجلين. فإذا قال امرؤ إنه ديمقراطي في ولاية مين مثلًا، فهذا يعني أنه مسجل في الحزب الديمقراطي هناك وأنه مؤهل للتصويت في الانتخابات التمهيدية بالحزب الديمقراطي، لكن إذا قالت أخته إنها جمهورية في ولاية ويسكونسن، فالمعنى مختلف؛ لأن ولاية ويسكونسن لا تسجل الناخبين في حزب أو آخر، وتستطيع هذه الأخت التصويت في الانتخابات التمهيدية لأي من الحزبين. ونتيجة الاختلاف القائم بين ولاية وأخرى في قانون الانتخاب، لا يُعتبر التسجيل في حزب ما مفهومًا تحليليًّا مفيدًا.

الطريقة الثانية هي تحليل من يصوتون للمرشح الجمهوري أو الديمقراطي، فتحديد الهوية الحزبية على هذا النحو هو الأعظم مغزى من بعض النواحي، وما يعنينا في نهاية المطاف هو نتائج الانتخابات. من المنطقي إذن أن نحلل أوجه الاختلاف بين من أيدوا الرئيس بوش ومن أيدوا السناتور كيري، وإذا كان هدفنا فهم نتيجة انتخاب معين، فمن المنطقي بدرجة كبيرة أن ندرس أنصار المتسابقين في ذلك الانتخاب. لكن من يصوتون لمصلحة المرشح الديمقراطي لأحد المناصب كثيرًا ما يصوتون لمصلحة المرشح الجمهوري لمنصب آخر، وفي بطاقات الاقتراع الطويلة، يتنقل الناخبون على الأرجح جيئة وذهابًا بين الحزبين. زِد على ذلك أن من يؤيدون المرشح الجمهوري لمنصب معين في سنة ما، كثيرًا ما يؤيدون المرشح الديمقراطي في الانتخاب التالي. وإذا كان ما يشغلنا هو فهم أيِّ الناخبين جمهوري وأيهم ديمقراطي، فالسلوك التصويتي لن يفيدنا كثيرًا في هذا. وكثيرًا ما نسمع أن المزيد والمزيد من المواطنين مستقلون، وفي يوم الانتخاب غالبًا ما يجد هؤلاء الناخبون أنفسَهم في مواجهة اختيارين لا ثالث لهما: ديمقراطي وجمهوري. فأنَّى لنا فهم سلوكهم إذا استبعدناهم من اعتبارنا من الأساس؟

نتيجة أوجه القصور هذه، كثيرًا ما يستخدم علماء السياسة طريقة ثالثة للتحليل، وهي مفهوم التعاطف الحزبي، لتمحيص أي الناخبين ديمقراطي وأيهم جمهوري. والتعاطف الحزبي مفهوم يقيس تقييم الناخبين الذاتي لولائهم لحزب أو آخر، وهو على هذا النحو يختلف عن عضوية حزب ما أو التصويت لمصلحة متسابقي حزب ما.١
حرصت مؤسسات استطلاع رأي عديدة على قياس التعاطف الحزبي على مر السنين، حيث تشير مؤسسات استطلاع الرأي التجارية، مثل جالوب، في تقاريرها إلى أن جمهور الناخبين ينقسم إلى ديمقراطيين ومستقلين وجمهوريين. والسؤال الذي يُطرح بسيط تمامًا: «في عالم السياسة وفي هذه اللحظة، هل تعتبر نفسك جمهوريًّا أم ديمقراطيًّا أم مستقلًّا؟» (ويسأل المستقلون: «في هذه اللحظة، هل تميل أكثر إلى الحزب الديمقراطي أم الحزب الجمهوري؟»)٢

ظل الديمقراطيون سنوات محتفظين بأفضلية كبيرة، مع وجود عدد قليل من الناخبين يعلنون استقلالهم عن الحزبين الكبيرين. وفي العقد الماضي، سد الجمهوريون الفجوة بينهم وبين الديمقراطيين، وازداد كثيرًا عدد الناخبين الذين يُدرجون أنفسهم كمستقلين. نتيجة لذلك فإن أعدادًا شبه متساوية من الناخبين يصنفون أنفسهم في كل فئة، مع وجود أعداد ضئيلة تتذبذب بين الفئات من شهر إلى آخر. وفي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة جالوب بول في فبراير ومارس ٢٠٠٦، قال ٣٥ في المائة من المستطلعة آراؤهم إنهم ديمقراطيون و٣٢ في المائة إنهم جمهوريون و٣١ في المائة إنهم مستقلون. وعندما أُخذ «الميَّالون» في الاعتبار، بمعنى ضمِّ من قالوا إنهم يميلون إلى ذلك الحزب أو الآخر إلى زمرة المؤيدين، فاق المتعاطفون الديمقراطيون الجمهوريين عددًا بنسبة ٥٠ في المائة إلى ٤١ في المائة.

ينزع علماء السياسة إلى الاعتماد بدرجة أشد على الدراسات الانتخابية الوطنية الأمريكية التي واظبت على طرح أسئلة متماثلة على الناخبين في الاستطلاعات التي تُجرى قبل كل انتخاب رئاسي وبعده منذ انتخاب ١٩٥٢. والسؤال الذي تطرحه الدراسات الانتخابية الوطنية بخصوص الانتماء الحزبي هو: «بوجه عام، هل ترى نفسك عادةً جمهوريًّا أم ديمقراطيًّا أم مستقلًّا أم ماذا؟»٣ ونظرًا لحرص الاستطلاعات التي تجريها هذه الدراسات الانتخابية على استقصاء خصائص المشمولين بالاستطلاع بشكل أعمق مما تفعله الاستطلاعات التجارية، فإنها أفيد كثيرًا في التوصل إلى فهم لجمهور الناخبين.
يفيد التعاطف الحزبي في الإجابة عن السؤال الخاص بمن هم الجمهوريون ومن هم الديمقراطيون ومن هم «الآخرون» من ناحيتين على الأقل، أولاهما النظر إلى مختلف فئات المجتمع من أجل تقرير ما إذا كان أفراد فئات معينة ينزعون إلى رؤية أنفسهم ضمن حزب أو آخر،٤ والأخرى النظر إلى الائتلافات الحزبية لتقرير مدى انتماء أتباع كل حزب إلى فئات معينة.

(١-١) تحليل الانتماءات الفئوية السياسية

كثيرًا ما تجتذب الأحزاب السياسية الناخبين استنادًا إلى انتماءاتهم الفئوية. فائتلاف الخطة الاقتصادية الجديدة — تلك التوليفة من الفئات التي ساندت الحزب الديمقراطي بعد انتخاب فرانكلين ديلانو روزفلت — كان يتألف من جنوبيين بيض، وأمريكيين حضريين من الطبقة العاملة، وخصوصًا أعضاء النقابات، وأمريكيين من أصل أفريقي ويهود وكاثوليك. أما ائتلاف الجمهوريين فكان أصعب في تحديده، لكن المؤكد أن البيض غير الفقراء ومواطني البلدات الصغيرة والمناطق الريفية قدموا مساهمات مهمة فيه. ظلت تلك الصورة أكثر من ثلاثين سنة، لكن ثمة تغيُّرات واضحة لوحظت في العقود الأخيرة من القرن العشرين واستمرت حتى القرن الحادي والعشرين.

لقد تراجع بكل تأكيد دعم بعض الفئات للديمقراطيين، وأبرز مثال لهذه الفئات الجنوبيون البيض الأصليون الذين تعاطفوا مع الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة جدًّا حتى ستينيات القرن العشرين، وعلى الرغم من معارضتهم المحتملة لسياسات الحزب الديمقراطي الليبرالية، وبالأخص في مسألة الحقوق المدنية، فإن الحزب الجمهوري لم يتنافس على مناصب مهمة في الجنوب حتى ما بعد انتخاب سنة ١٩٦٤، لذا لم يكن أمام الجنوبيين البيض من يذهبون إليه إلا الديمقراطيين. وبحلول ثمانينيات ذلك القرن، كان ولاء هذه الفئة قد تغير تغيُّرًا جذريًّا، واليوم نجد الجنوبيين البيض الأصليين أمْيل إلى التعاطف مع الجمهوريين أكثر من تعاطفهم مع الديمقراطيين.

كان الكاثوليك جزءًا مهمًّا من ائتلاف الخطة الاقتصادية الجديدة، وعزز ولاءهم للديمقراطيين ترشُّحُ جون إف كينيدي وانتخابه ليكون بذلك أول كاثوليكي يُنتخب للبيت الأبيض، أما اليوم فاحتمال تعريف الكاثوليك أنفسَهم كديمقراطيين لا يزيد إلا قليلًا عن احتمال تعريفهم أنفسَهم كجمهوريين، وقد نال الرئيس بوش من الأصوات الكاثوليكية نسبة أكبر مما ناله السناتور جون كيري. كما أن أعضاء النقابات العمالية — على نحو تقليدي — أمْيل إلى أن يكونوا ديمقراطيين، لكن العمال أعضاء النقابات العمالية أقل كثيرًا اليوم منهم فيما مضى. وقد ظل ولاء السود واليهود للحزب الديمقراطي ثابتًا تقريبًا على مدى نصف القرن المنصرم.

شهدت أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين بروز بعض الفئات مُكتسبةً أهميةً في السياسة الأمريكية لم تكن تحظى بها منذ جيل مضى أو جيلين، ويَبرز ها هنا الهسبان لأنهم سرعان ما سيؤلفون أكبر جماعة أقلية في أمريكا، ويتنافس الحزبان بقوة للفوز بأصواتهم. وبينما يفضِّل الهسبان غير الكوبيين الديمقراطيين على الجمهوريين بنسبة نحو ثلاثة إلى واحد، لوحظ تراجع هذه النسبة المئوية بعد ٢٠٠٤، مما يعكس إلى حدٍّ ما ولاءً فئويًّا منافسًا،٥ إذ إن كثيرًا من الهسبان هم أيضًا أصوليون دينيون ومن معتادي ارتياد الكنائس، وهما فئتان أخريان لم يكن لهما أهمية سياسية فيما مضى، وكلتا هاتين الفئتين تؤيدان الحزب الجمهوري بشدة، والهسبان الذين ينتمون إليهما وربما يفضلون الديمقراطيين لأسباب أخرى تجدهم ممزقين. غير أن موقف الحزب الجمهوري تجاه سياسة الهجرة الذي يعارضه معظم الهسبان عرقل جهود الحزب لتحقيق مكاسب باختراق هذه الفئة مؤخرًا.

في البداية تتناول الأسئلة المهمة التي تدور حول الولاء الفئوي الأسبابَ التي جعلت أفراد فئة معينة ينجذبون إلى حزب معين بصفتهم أفرادًا لهذه الفئة في المقام الأول، ثم تتناول الأسباب التي تجعلهم يواصلون تعاطفهم مع ذلك الحزب، أو يفقدون ولاءهم مع بقائهم محايدين، أو يتحولون إلى الحزب الآخر.

يتشكل الولاء الفئوي نتيجة أنظمة سياسية روَّج لها زعماء سياسيون من حزب سياسي معين، وقد أوضح الكاتب بصحيفة نيويورك تايمز ديفيد بروكس هذه النقطة بشكل قاطع في عمود له بعنوان «خسران آل أليتو» نُشر بالتزامن مع عقد مجلس الشيوخ جلسة استماع للتصديق على تعيين القاضي بالمحكمة العليا صمويل أليتو، ويقول فيه بروكس جازمًا إنه لو وُلد أليتو مبكرًا بعقد، لكان ديمقراطيًّا مثله مثل الأمريكيين الإثنيين (المنتمين لأقليات عرقية) المقيمين في المناطق الحضرية، لكن الديمقراطيون خسروا آل أليتو في زمننا هذا.

بذل الديمقراطيون غاية ما في وسعهم لتنفير الناخبين الإثنيين البيض الشماليين، فشن ليبراليو المدن الكبرى حملات شعواء ضد وحشية الشرطة، مصورين أفراد الشرطة الذين ينتمون إلى الطبقة العاملة كميليشيات من البلاطجة تعمل لمصلحة المؤسسة، وفي وسائل الإعلام صور الليبراليون المثقفون الجماعات الإثنية الحضرية كعمال يدويين غير متعلمين متعصبين للذكور، فالليبراليون في نظرهم حمائم، والإثنيون صقورًا. وكان الليبراليون يضعون على مؤخرات سياراتهم ملصقات تقول «عارض السلطة»، بينما تعلم الإثنيون في المدرسة احترام السلطة. كان الليبراليون يرون أن المجتمع الظالم يسبب الفقر، والإثنيون يؤمنون بالعمل الجاد للإفلات من براثن الفقر.

يمكن إبداء حجة موازية بخصوص بعض الفئات التي تؤيد الجمهوريين. فبروتستانت المؤسسة غير الأصوليين يجدون هيمنة اليمين الديني على حزبهم مقلقة، ويرون أن الأرضية المشتركة بينهم وبين مَن يسيِّرون الحزب في تناقص مستمر.

السؤال المنطقي التالي هو: لماذا تتصرف الأحزاب على هذا النحو؟ وهو ما سنعود إليه في مناقشتنا التنظيم الحزبي والحزب كحكومة.

(١-٢) الائتلافات الحزبية

تتوقف المساهمة الفئوية في الائتلاف الحزبي على الحجم الكلي لفئة معينة والنسبة المئوية لأفرادها الذين ينتمون إلى حزب سياسي. وهكذا فإن الأغلبية الساحقة من اليهود ديمقراطيون لكنهم يشكلون نسبة مئوية صغيرة جدًّا من جمهور الناخبين، ومن ثم نسبة مئوية صغيرة تبلغ نحو ٥ في المائة من الائتلاف الديمقراطي. ونحو ثلثي الديمقراطيين كافة هم من النساء، وها هنا نرى الفجوة التي يكثر الحديث عنها بين الجنسين؛ حيث إن أقل من نصف الجمهوريين إناث. ويشكل الكاثوليك نحو ربع الائتلاف الديمقراطي والنسبة نفسها تقريبًا من الائتلاف الجمهوري. وفي المقابل نجد السود يمثلون نحو ٣٠ في المائة من الديمقراطيين كافة، لكنهم لا يمثلون إلا ١ في المائة من الجمهوريين.٦

فما الذي يميز الائتلاف الجمهوري عن الديمقراطي؟ لا ريب أن العِرق أحد العوامل، فاحتمال انتماء المتعاطفين مع الحزب الديمقراطي إلى أقلية عرقية (نحو ٤٠ في المائة) أكبر بكثير منه بين المتعاطفين مع الجمهوريين (نحو ٨ في المائة). والجنس عامل آخر يتسبب في وجود فجوة تزيد عن ١٠ في المائة بين المتعاطفات مع الحزبين. كما يمكن التمييز بين الائتلافين الحزبيين حسب الدخل، فنحو ٤٠ في المائة ممن يقولون إنهم جمهوريون يقعون في الثلث الأعلى من توزيع الدخل في الولايات المتحدة، وأقل من ٣٠ في المائة من الديمقراطيين يصلون إلى ذلك المستوى. ويؤلف البيض الجنوبيون الآن ثلث الجمهوريين كافة، لكنهم لا يمثلون إلا نحو سدس الديمقراطيين. وأخيرًا، تميز المعتقدات الدينية بين الفريقين، فنسبة أعلى من الجمهوريين يعتادون ارتياد الكنيسة مقارنة بالديمقراطيين (٤٢ في المائة مقابل ٣٤ في المائة)، والأكثر إثارة للدهشة أن نحو واحد من كل ستة جمهوريين يجزم بأنه مسيحي أصولي، بينما ٧ في المائة فقط من الديمقراطيين يعلنون تلك المعتقدات. ولا ريب أن التباين بين هذه الأفكار التي يعتنقها الحزبان الآن وائتلاف الخطة الاقتصادية الجديدة واضح أشد الوضوح.

(٢) التنظيم الحزبي

الجمهوريون والديمقراطيون الذين تتألف منهم التنظيمات الحزبية هم ناشطون اختاروا المشاركة في التنظيم الحزبي بإرادتهم، وهم شبه مجهولين بالنسبة لعامة الجمهور، ويحضرون اجتماعات اللجان ويخططون الحملات الانتخابية، ويصوغون البرامج ويقومون بالعمل الأساسي في الحملات الانتخابية، وهم بوجه عام أكثر اعتناءً بالسياسة المحلية منهم بالسياسة الولاياتية أو الوطنية، وفوز الحزب مهم بالنسبة لهم.

وهم أيضًا المؤمنون بالحزب إيمانًا حقيقيًّا، وقد توصلت الدراسات المنهجية التي أجريت على هؤلاء الناشطين الحزبيين إلى استنتاجات مماثلة. فبينما كان التنظيم الحزبي يعود على المشاركين فيه من قبل بالحوافز المادية، فإن من يخوضون السباق على شغل المناصب في التنظيم الحزبي أو من يعملون لدى الحزب في سياقنا المعاصر أكثر اعتناءً بالسياسات منهم بالمحسوبية.

أية سياسيات؟ بالنسبة للديمقراطيين، الناشطون والموظفون الحزبيون أمْيل إلى الليبرالية من الديمقراطي العادي وأكثر التزامًا بالسياسات الديمقراطية الليبرالية التقليدية. وبالنسبة للجمهوريين، الناشطون الأساسيون أمْيل إلى المحافظة، التي اتسمت في السنوات الأخيرة بأنها محافظة اجتماعية أكثر منها محافظة اقتصادية، حيث بذل اليمين الديني جهدًا منسقًا وناجحًا للاستيلاء على الماكينات الحزبية في عدد من الولايات واقتحم بعضها الآخر.

إذا افترضنا أنه من الممكن النظر إلى الرأي العام تجاه القضايا السياسية على امتداد طيف يمتد من التوجه المحافظ على اليمين إلى الليبرالي على اليسار،٧ وإذا افترضنا فوق ذلك أن منحنى عاديًّا يحدد توزيع الرأي العام على ذلك الطيف، فإن الناشطين الحزبيين سيقعون في الغالب على الأطراف، بينما ينزع عامة المتعاطفين مع الحزب إلى احتلال مواقع أقرب إلى المركز، وكلما كان المرء أكثر نشاطًا في الحزب، ازداد احتمال تبنيه مواقف متطرفة، وبالأخص حيال قضايا الساعة الأشد بروزًا. وهكذا فالراجح أن يكون مسئولو الحزب الديمقراطي أكثر ليبرالية ممن يكتفون بالتصويت في الانتخابات التمهيدية، والراجح أن يكون من يصوتون في الانتخابات التمهيدية أكثر ليبرالية من المتعاطفين الديمقراطيين الذين لا يتجشمون عناء المشاركة في الانتخابات التمهيدية.

يمكن للمرء يقينًا أن يدعي وجود عدم اتساق ها هنا. فإذا كان الهدف الرئيسي هو فوز الحزب، فالناشطون الحزبيون يريدون أن يتخذ حزبهم مواقف وسطية؛ إذ إن هذا من شأنه اجتذاب المزيد من الناخبين وتحقيق النصر. لكن إذا كان المرء مؤمنًا ملتزمًا بمواقف أكثر تطرفًا تجاه السياسات، فثمة منطق آخر يَصْدُق هنا، ذلك أنه من الضروري أن تقنع الآخرين بصحة موقفك، وأن تسيطر على الماكينة الحزبية، وأن ترشح المتسابقين الذين يشتركون معك في الأفكار، وأن تعبئ الآخرين أصحاب الآراء المماثلة لمساندة أولئك المتسابقين لضمان انتشار تلك الأفكار.

تترتب على ذلك نتائج معينة بالنسبة للنظام الانتخابي. أولًا: كلما كان التنظيم الحزبي أكثر نفوذًا في العملية، قل احتمال اتخاذ مواقف وسط. ثانيًا: كلما ازدادت هيمنة حزب معين على منطقة جغرافية، كان الترشيح أعلى قيمة وازداد حرص المتسابقين المحتملين على اجتذاب قاعدة الحزب الأكثر ميلًا للتطرف، لا الوسطية. ونتيجة لذلك ينزع شاغلو المناصب الذين ينتمون إلى المناطق ذات الحزب الواحد إلى أن يكونوا أكثر تحزُّبًا وتطرفًا تجاه القضايا الجدلية ممن ينتمون إلى المناطق التنافسية. ثالثًا: تنزع المواقف الحزبية الرسمية — كالتي تُتخذ مثلًا في البرامج الحزبية التي يصوغها في أغلب الأحوال ناشطون حزبيون — إلى التأكيد على القضايا البارزة التي تختلف حيالها الأحزاب لا على القضايا التي يمكن اتخاذ مواقف وسطٍ حيالها. ومن ثم، يمكن إجمالًا النظر إلى الناشطين في التنظيمات الحزبية بوصفهم يساهمون في مشايعة حزبية متزايدة الانقسام والمرارة.

كان التنظيم الحزبي في عصر الأحزاب الذهبي منذ قرن مضى معنيًّا بكسب النفوذ وما يرافق ذلك النفوذ من غنائم، وكانت القيادات في أغلب الأحيان قامات سياسية شامخة، وكان مرءوسوهم مرتبطين بهم وبالتنظيم بسبب المحسوبية التي كانوا يسيطرون عليها، وكانت السياسة المحلية أهم من السياسة الولاياتية أو الوطنية؛ لأن المحسوبية كانت أكبر أثرًا على المستوى المحلي، وكانت المواقف الحزبية تحتل قطعًا مكانة ثانوية.

أما في القرن الحادي والعشرين، فالقيادات الحزبية شخصيات غير معروفة لأحد في الغالب إلا للناشطين الآخرين في المنطقة المحلية، وهم ما زالوا يؤدون الوظائف الحزبية التقليدية، لكن دافعهم لتأييد الحزب نابع من تفضيلات السياسات لا من المحسوبية المحتملة. لا تنبع قيمة المناصب الحزبية من المكاسب الشخصية التي قد تعود من ورائها، ونتيجة لذلك فإن المهتمين بالسياسات هم من يستطيعون اقتناص المناصب الحزبية والهيمنة على التنظيمات.

(٣) الحزب كحكومة

استُهلَّ هذا الفصل بذكر الرئيس بوش والسناتور كينيدي كمثالين واضحين للساسة المرتبطين بحزبهم السياسي. وعندما يشير المرء إلى الساسة المشهورين، يمكن لمن يتابعون السياسة ولو قليلًا استحضار بعض الصور. فالرئيس بوش يرمز للحرب على الإرهاب وتخفيض الضرائب وتقليص السيطرة الحكومية، وأما السناتور كينيدي فمرتبط بحقوق الأقليات وبالمساعدة الحكومية للمحتاجين اقتصاديًّا، وبسياسات حقوق الإنسان. ربما لا تكون الصورتان دقيقتين لكنهما مع ذلك واضحتان.

ما مدى وضوح الفوارق بين الديمقراطيين والجمهوريين في السلطة؟ يعتمد ذلك إلى حدٍّ بعيد على مستوى الدقة الذي تنشده. فمنذ جيل مضى، كان المراقبون، حتى الأشد دهاء منهم، سيواجهون صعوبة في تعريف ما يعني أن يكون المرء مسئولًا ديمقراطيًّا. كان السناتور كينيدي في منصبه آنذاك، ولعله كان أكثر ليبرالية من الآن. خاض جورج سي والاس، من ألاباما، الانتخابات الرئاسية كمرشح ديمقراطي، وكان يرمز إلى الديمقراطيين المحافظين الجنوبيين الذين كانوا كُثرًا. وكان يمثل ولاية واشنطن في مجلس الشيوخ هنري إم جاكسون، وهو ليبراليٌّ فيما يخص السياسات الداخلية ومحافظٌ حتى النخاع في المسائل الدفاعية. وخلال حرب فيتنام، قاد الديمقراطي ليندون جونسون المجهود الحربي مع حلفاء كُثر في الكونجرس من ضمنهم معظم الجمهوريين، وقاد الديمقراطيون الآخرون المعارضة للحرب بجانب بعض الجمهوريين. كان من الصعب تحديد أين يقف الحزب كحكومة.

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يبدو تعريف الحزب كحكومة نوعًا ما أسهل، على الأقل على الصعيد الوطني. فلكل دورة من دورات انعقاد الكونجرس، تقوم مؤسسة «كونجرشنال كوارترلي» بحساب نقاط الوحدة الحزبية لكل نائب وسناتور.٨ وفي أحدث دورات انعقاد الكونجرس، ازداد متوسط نقاط الوحدة لكل حزب عن ٨٥ في المائة، كما ازدادت أيضًا النسبة المئوية للأصوات التي عارضت فيها أغلبية من حزب ما أغلبية من الحزب الآخر. وفي الكونجرس يجد المرء أن الجمهوريين يؤيدون الرئيس بوش والديمقراطيين يعارضون نسبة كبيرة من مبادراته.٩

يوجد فعلًا بعض التباين إذا نظر المرء على المستوى الولاياتي أو الإقليمي. ففي الحزب الجمهوري، وكمثال واضح، ينزع المسئولون الحزبيون الذين ينتمون إلى نيو إنجلاند إلى الاعتدال تجاه القضايا الاجتماعية، أما المسئولون الذين ينتمون إلى ولايات حزام الكتاب المقدس، وهي المنطقة المحافظة دينيًّا في قلب الولايات المتحدة، فينزعون إلى أن يكونوا أشد محافظة بكثير. وعلى مدى معظم سنوات القرن العشرين، كان الجمهوريون حزبًا أكثر تجانسًا من الديمقراطيين، لكن في السنوات الأخيرة، صار الجمهوريون أكثر تصدعًا في ظل الانقسام حول القضايا الاجتماعية الواردة على أجندة اليمين الديني.

يمكن أن يُرى هذا التغير حيال قضية الإجهاض. ففي ١٩٩٢، لم يُسمح لحاكم بنسلفانيا روبرت بي كيسي بعرض أفكاره المعارضة للإجهاض في المؤتمر الوطني الديمقراطي، وفي ٢٠٠٦، جَدَّ قيادات الحزب في طلب ابنه المعارض للإجهاض روبرت بي كيسي الابن ليكون مرشحهم لعضوية مجلس الشيوخ الأمريكي. وفي الوقت نفسه، يُنظر للحزب الجمهوري كحزب معارض للإجهاض بالأساس، لكن مع السماح بقدر ضئيل من الاختلاف. أما حاكم ماساتشوستس السابق ميت رومني — الذي تفادى الإفصاح عن موقفه من حقوق الإجهاض عند ترشحه لمنصب الحاكم في تلك الولاية الليبرالية — فقد حرص على نحو صارم على الإفصاح عن معارضته القاطعة للإجهاض عندما قرر الترشح عن الحزب الجمهوري للرئاسة.

لكن حتى مع ملاحظة هذا التباين، يمكن التمييز بسهولة بين الديمقراطيين كحكومة والجمهوريين كحكومة، والحقيقة أنهما يبذلان جهودًا عظيمة لتمييز أنفسهم. وفي قضية تلو أخرى، عندما تتخذ قيادات أحد الحزبين موقفًا، تتخذ قيادات الحزب الآخر الموقف المعاكس، ونجد — على الصعيد الوطني على الأقل — أن القضايا التي يتعاون المسئولون من الحزبين لإيجاد حلول مشتركة لها نادرة. فالخلاف الحزبي أكثر تفشيًّا من التعاون الحزبي، والشقاق أكثر شيوعًا من البحث عن حلول مقبولة من الطرفين للمشكلات الضاغطة.

(٤) المستقلون

عندما بحثنا مَن الديمقراطيون ومن الجمهوريون، لم نتعرض بالحديث للفئة المتبقية وهي المستقلون. بالنسبة لعنصر الحزب كحكومة، فالإجابة ما أسهلها؛ فثمة قليل جدًّا من المستقلين في الحكومة. ففي الكونجرس رقم ١٠٩، على سبيل المثال، كان هناك سناتور واحد مستقل وهو جيمس جيفوردز من ولاية فيرمونت، وهو جمهوري سابق تخلى عن حزبه وتقاعد دون أن يخوض الانتخابات مجددًا كمستقل قط. وفي مجلس النواب، كان بيرني ساندرز، من ولاية فيرمونت أيضًا، هو الوحيد المستقل. وجميع حكام الولايات الذين كانوا في مناصبهم سنة ٢٠٠٦ كانوا إما ديمقراطيين وإما جمهوريين، وكذلك كان حال نحو ٩٩ في المائة من المشرعين الولاياتيين.

أما الحديث عن التنظيم الحزبي للمستقلين ففيه تناقض. فأنَّى يكون هناك تنظيم حزبي إذا لم يكن هناك حزب؟ غير أن المستقلين عندما يخوضون الانتخابات يشكِّلون تنظيمات، ومعظم هذه التنظيمات عرَضي يتكوَّن من أجل حملة واحدة ثم ينحل، وتضم أتباع المتسابق الذين يتبعونه في أغلب الأحوال للسبب ذاته الذي دفعه إلى خوض الانتخابات، وأقصد الاهتمام بقضية ما أو طائفة من القضايا، والاستياء من المتسابقين القائمين. ومن حين لآخر يستمر مثل هذا التنظيم كما استمر تنظيم إتش روس بيرو بعد خوضه السباق الرئاسي سنة ١٩٩٢، وربما يحاول هؤلاء الأتباع تكوين حزب جديد أو مواصلة اتباع الزعيم الذي جذبهم إلى السياسة، وهم مكرسون لقضية، مثلهم مثل من يكدحون من أجل الأحزاب الصغيرة التي ظلت قائمة على مر الزمن، لكن قلما يجلب لهم ذلك نفوذًا.

كثيرًا ما يقرر الناخبون المستقلون نتيجة الانتخاب. وهم ليسوا جماعة موحدة، فبعضهم منخرط بشدة في السياسة لكنه يؤْثِر عدم الانتماء لحزب؛ لأن أفكاره غير متسقة مع أفكار أي من الحزبين، وبعضهم الآخر كانوا ذات يوم منتمين لحزب ما وخاب ظنهم فيه لكنهم غير راغبين في الانتقال إلى الجانب الآخر. وهناك صِنف ثالث مهتمون بالسياسة لكنهم يستنكرون الساسة الذين يغلبهم تحزُّبهم فلا يحافظون على استقلالهم. وأخيرًا هناك جمهور كبير غير مهتم بالسياسة ولا بالسياسات الحكومية ولا يتعاطف مع أي من الحزبين؛ لأنه غير معني بالدرجة الكافية لمتابعة المناقشات. وهكذا فإن بعض المستقلين هم من بين المواطنين الأكثر اطلاعًا واهتمامًا، وبعضهم الآخر من بين المواطنين الأقل اطلاعًا واهتمامًا. ويجب أن يكون المتسابقون مدركين لكلا الفريقين ليقرروا كيف يوجهون نداءات فعالة ملائمة. وغالبًا ما يكون إصدار هذا الحكم فنًّا أكثر من كونه علمًا، ويستند إلى العواطف لا إلى الجوهر، وكثيرًا ما نجد أن مثل هذه الأحكام هي التي تفرق بين الفائزين والخاسرين في السباقات التنافسية القليلة نسبيًّا الموجودة.

(٥) ملخص

تقع الأحزاب السياسية في قلب الانتخابات الأمريكية، لكن عضوية الأحزاب بأي معنى رسمي للكلمة غير مألوفة بالنسبة لمعظم المواطنين. والحقيقة أن الكثيرين ليس لديهم انتماء رسمي، والكثيرين لا يتعاطفون حتى مع أحد الحزبين، ومع ذلك يظل مفهوم الحزب على أهميته. ومعظم المواطنين لديهم انطباع عن الحزبين الكبيرين، وعما يرمزان إليه، وعن أنواع المواطنين الذين يرون أنفسهم جزءًا من كل حزب. وحتى من يعتبرون أنفسهم مستقلين يصوتون في أكثر الأحوال لمتسابقين ديمقراطيين أو جمهوريين، وكثيرًا ما يفعلون ذلك لأنهم يدركون معنى أن يكون المرء مرشحًا لأحد الحزبين. ويخوض المتسابقون الانتخابات بمساندة التنظيمات الحزبية، وعلى الرغم من أنهم قد يسعون إلى الاستقلال عن تلك التنظيمات، فإن أحدًا لا ينكر أهميتها، وبالأخص في استقطاب المتسابقين وجمع التبرعات في السباقات حامية الوطيس، التي تلعب التنظيمات الحزبية أيضًا فيها أدوارًا حاسمة الأهمية في ضمان إقبال الأنصار على التصويت. وأخيرًا، فإن الساسة بمجرد انتخابهم ينتظمون في الحكم حسب الحزب السياسي. ويُميَّز المسئولون المنتخبون وفق انتمائهم الحزبي، ويُعتقد أنهم يتصرفون بطرق معينة؛ لأنهم إما ديمقراطيون أو جمهوريون. وهناك عدد كبير ومتزايد من المواطنين يدعون عدم ولائهم لأي من الحزبين ويعتزون باستقلالهم، وهو ما يعني في أغلب الأحيان أنهم يتحولون من تأييد مرشحي حزبٍ إلى مرشحي حزب آخر، لا أنهم اكتشفوا طريقًا ثالثًا عبر السياسة الأمريكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤