الفصل السابع

ديمقراطية بعيدة عن الكمال

يظل الأمريكيون، حتى مَن هم على دراية بتفاصيل العملية الانتخابية منهم، على قناعة بأن الديمقراطية الأمريكية تجسد المثل الأعلى الذي ينبغي أن يناضل الآخرون لبلوغه، ويشيرون إلى العيوب التي تشوب الأنظمة الأخرى، إلى الانقسام بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في بلد كفرنسا يتبع نظامًا مختلطًا، وإلى الفوضى في تشكيل أغلبية فاعلة في بلد يتبع نظامًا برلمانيًّا كإسرائيل، وإلى عدم استقرار الحكومات في بلد كإيطاليا، وإلى عدم وجود صحافة حرة وعملية مفتوحة في بلدان كانت ذات يوم شمولية وتسمي نفسها الآن ديمقراطية كروسيا، وإلى الهيمنة العرقية أو الجنسانية أو الطبقية في جمع كبير من البلدان الأخرى، لكنهم نادرًا ما يسلطون ضوء النقد على نظامهم. وسنعاود في هذا الفصل النظر بإيجاز إلى خمس شواغل أثيرت من قبل، وريثما يتمكن المسئولون العموميون في الولايات المتحدة من معالجة هذه القضايا، ستظل الديمقراطية الأمريكية بعيدة كثيرًا عن المثل الأعلى.

(١) مستوى المشاركة

في الانتخاب الإسرائيلي الذي أجري في مارس ٢٠٠٦، أدلى نحو ٦٠ في المائة ممن يحق لهم التصويت بأصواتهم، وكان المسئولون الإسرائيليون منزعجين لتدني الإقبال بشدة في مثل ذلك الانتخاب عظيم الشأن. وفي نوفمبر ٢٠٠٤، حين أدلى ما يزيد عن ٦٠ في المائة بقليل من المواطنين الذين يحق لهم التصويت بأصواتهم لاختيار رئيس الولايات المتحدة، كان معدل الإقبال هو الأعلى منذ ست وثلاثين سنة، وكانت تلك رابع مرة فقط يصوت فيها ثلاثة أخماس المؤهلين للتصويت لاختيار الرئيس منذ مُنحت المرأة حق الانتخاب سنة ١٩٢٠. وفي انتخابات الكونجرس التي تُجرى في غير السنة الانتخابية، وهي التي يُنتخب فيها حكام الولايات في ست وثلاثين ولاية، لم يبلغ معدل الإقبال على المستوى الوطني ٥٠ في المائة قط، ويتراوح عادة بين ٣٥ و٤٠ في المائة. وإذا صنَّفنا الديمقراطيات حسب الإقبال على الانتخابات، نجد الولايات المتحدة تقع في الخُمس الأدنى.١

لا يقتصر الشاغل على قلة أعداد الأمريكيين الذين يصوتون مقارنة بمواطني الديمقراطيات الأخرى، بل المشكلة الأخطر هي أن من يصوتون يختلفون عمَّن لا يصوتون من نواحٍ منهجية. فالأمريكيون من أصل أفريقي والهسبان يصوتون بأعداد أقل من القوقازيين، والفقراء يصوتون بأعداد أقل من الأغنياء، والأقل تعليمًا يصوتون بأعداد أقل من الأكثر تعليمًا. خلاصة القول، جوقة الناخبين تغني بصوت مميز بعينه. وفي دولة ديمقراطية نيابية، ينبغي أن نشعر بالقلق إذا عكست السياسات رغبات من يذهبون لصندوق الاقتراع أكثر ممن لا يذهبون للانتخاب؛ إذ يصوِّت المميَّزون أكثر ممن هم دونهم، وهنا تكمن المشكلة.

فلمَ معدل إقبال الناخبين منخفض في الولايات المتحدة مقارنة بالديمقراطيات الأخرى؟ إن نظام الحكم الأمريكي وقوانين الانتخابات على حد سواء يخفضان الإقبال، ولقد عرف الباحثون منذ فترة أن النظم الانتخابية ذات التمثيل النسبي تحقق معدلات إقبال أعلى من تلك التي يحصل فيها الفائزون بالأكثرية على كل شيء، حيث تشهد الديمقراطيات التي تتبع نظام التمثيل النسبي في المتوسط إقبالًا من الناخبين يزيد بنسبة ١٥ في المائة عن التي تتبع نظام الفائزين بالأكثرية، وأما النظم المختلطة فهي في منزلة وسطى.

حتى في النظام الانتخابي الذي وضعه المؤسسون، تثني قوانين الانتخابات المواطنين عن المشاركة في الانتخابات، وما يلي يستحق النظر:
  • قوانين التسجيل: ٧٢ في المائة فقط ممن يحق لهم التصويت سُجلوا للمشاركة في انتخاب ٢٠٠٤، و٥٨ في المائة فقط من هؤلاء تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين. فهل ينبغي تخفيف قوانين التسجيل لزيادة المشاركة؟٢
  • تواتر الانتخابات: يُطلب من الأمريكيين التوجه إلى مراكز الاقتراع بمعدل أكبر من الأمم الأخرى؛ لأن كل منطقة جغرافية تضع قواعدها الخاصة وتسعى إلى إبعاد انتخاباتها عن الوقوع تحت تأثير الاتجاهات الوطنية، ونتيجة لذلك يعاني الأمريكيون من الإرهاق التصويتي. فهل ينبغي إجراء الانتخابات كلها في البلد في وقت واحد ومرة واحدة سنويًّا؟
  • يوم الانتخاب: كل ذلك التصويت يحدث خلال أسبوع العمل، حيث يتعين على المواطنين الذهاب للتصويت في خضم جداولهم المكتظة بالمهام. فهل ينبغي أن يكون يوم الانتخاب يوم عطلة كما هو الحال في أمم أخرى كثيرة؟
  • التصويت كالتزام لا حق: التصويت ليس إجباريًّا في الولايات المتحدة خلافًا لما عليه الحال في اثنتين وثلاثين ديمقراطية أخرى التصويتُ فيها إلزاميٌّ.٣ فهل إحداث تغيير في هذا العامل سيزيد الإقبال؟ وهل تزيد فوائدُه عن تكاليفه؟
  • كيفية عدِّ الأصوات: قريب من هذه الأسئلة السؤال النظري حول ما إذا كان نظام الفائز بالأكثرية يحصل على كل شيء هو الأكثر ديمقراطية، وما إذا كان يعكس وجهات نظر الناخبين بدقة. فهل سيضمن اتباع نظام تصويت الإعادة الفورية أن تعكس نتائج الانتخابات رغبات المصوتين بشكل أدق من أي نظام آخر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل سيقبل المواطنون مثل هذا التغيير؟

تُساق حجج مماثلة عند مناقشة أي من هذه التغييرات في النظام الأمريكي، حيث يزعم البعض أن من لديهم اهتمام كافٍ بالتصويت أمامهم فرصة كبيرة لذلك، ويجزم آخرون بأن معدل الإقبال المنخفض في الولايات المتحدة من أعراض الإصابة بمرض ديمقراطي. ومن وراء كل حجة، حجة سياسية: من سيكسب ومن سيخسر إذا صوَّت المزيد من المواطنين؟ فمسألة ما إذا كانت إصلاحات كهذه ستحسِّن الديمقراطية الأمريكية هي بالتأكيد تالية في الأهمية على تبعاتها السياسية في عقول مَن يتخذون القرارات.

(٢) عملية ترشيح الرئيس وانتخابه

في الانتخاب الرئاسي لسنة ٢٠٠٠، وُوجه المواطنون الأمريكيون باختيار بين متسابقين لم يكونوا يميلون إليهما كثيرًا، ويزعم البعض أن تدني إقبال الناخبين في ذلك الانتخاب كان انعكاسًا لاستجابات المواطنين للخيارين المطروحين. فالمتسابق الديمقراطي كان يُعتبر ذكيًّا بشكل لا يصدَّق، وجامدًا بشكل مزعج، ومملًّا بشكل يثبط الهمم، ومستعدًّا بشكل يخل بالثقة لأن يحوِّل نفسه إلى أي شيء كي يحبه الناخبون، بينما كان يُنظر إلى المتسابق الجمهوري كنقيض ذلك، فلا هو شديد الذكاء ولا هو يدرك الفروق الدقيقة في القضايا الكبرى التي تواجه الأمة، لكنه إنسان يُحَبُّ وودود وواثق تمامًا في نفسه كشخص. وأمام هذين الاختيارين، لزم كثير من الناخبين بيوتهم.

لا شك أن ذلك التفسير إفراط في تبسيط ديناميكيات انتخاب سنة ٢٠٠٠، لكن لا شك أيضًا أن المراقبين ظلوا يتساءلون كيف يمكن أن ينتهي الحال بأمة عظيمة تضم ٢٨٠ مليون نسمة وألبرت جور وجورج دبليو بوش هما المتسابقان للرئاسة. كان الاختيار ثمرة عملية ترشيح معيبة لا أحد يدافع عنها، وكان الانتخاب العام، وبالأخص الطريقة التي حسمت بها النتيجة، غير مُرضٍ بالقدر نفسه. وها هنا مجددًا قضايا واضحة ماثلة للعيان لدارسي الديمقراطية.
  • تأثير أيوا ونيوهامشير على الترشيحات الرئاسية: تهيمن على العملية ولايتا أيوا ونيوهامشير على الرغم من أنهما لا تمثلان أيًّا من الحزبين ولا للأمة ككل. فهل يمكن تقليص تأثير هاتين الولايتين مع الحفاظ على بعض المجال لسياسة التواصل الشخصي التي تسمحان بها؟٤
  • التركيز على بداية العملية: كذلك يتفق معظم الناس على أن العملية مركزة أكثر مما ينبغي في بدايتها من حيث مطالبة المواطنين باختيار متسابق رئاسي قبل أن تتضح الأمور، قبل أن يركزوا على الانتخاب المقبل.٥ وتفيد العملية الحالية أي متسابق صنع لنفسه اسمًا ويستطيع جمع الأموال قبل بدء الاقتراع، ويحظى بجاذبية بين قواعد حزبه، ويروج لنفسه جيدًا في مواقف الاتصال الشخصي، ويملك القدرة على تأسيس تنظيم على مستوى الأمة، وهذه ليست بالضرورة هي السمات التي تصنع المتسابق الأفضل في الانتخاب العام الذي يجب أن يجتذب المتسابقون فيه المستقلين وأنصار الحزب الآخر الضعفاء، ويحوزوا معرفة تفصيلية بقضايا الساعة ومهارة في مناقشة هذه القضايا بمختلف الصور، ويكون لديهم توجُّه يقول للناخبين: «أنا جاهز لأكون زعيمًا للعالم الحر.» فهل ثمة طريقة أكثر عقلانية لهيكلة عملية الترشيح، أو وسيلة تتمخض عن متسابقين أكثر قبولًا؟
  • العلاقة بين الترشُّح والحكم: مجموعات المهارات التي يحتاج إليها المرء للنجاح كرئيس — القدرة على العمل مع قيادات كلا الحزبين، والدراية بالأحداث العالمية والقدرة على التفاوض مع زعماء العالم، وامتلاك رؤية لمستقبل البلد ومسار لتحقيقها، والخبرة اللازمة لإدارة بيروقراطية ضخمة دون الغوص في مستنقع التفاصيل، وموهبة الحديث إلى الأمة ونيابة عنها بقدر متساوٍ من الفعالية — هي سماتٌ خيرُ من يحكم عليها هم النظراء لا الجماهير في انتخاب ما. لكن في النظام السياسي الأمريكي، لا رأي للنظراء المحترفين إلا قليلًا في من يرشَّح وأقل منه في من يُنتخب. فهل ثمة سبيل لتغيير النظام بحيث يعدِّل استعراض النظراء الاختيارات الديمقراطية؟
  • عدُّ الأصوات: تعرضت عملية الانتخاب ذاتها لنقد شديد. فالأسباب التي دعت إلى تبني نظام المجمع الانتخابي في ١٧٨٩ لا تتناسب بالكاد مع يومنا هذا، لكن النظام قاوم التغيير. فهل ينبغي إلغاء نظام المجمع الانتخابي مقابل نظام آخر ديمقراطي بشكل أكثر شفافية؟٦

(٣) ثمن الديمقراطية

كم ينبغي أن يتكلف إجراء انتخاب ما؟ ومن ينبغي أن يتحمل التكلفة؟ وهل ينبغي أن تكون القدرة على جمع الأموال أحد العوامل — أو حتى أحد العوامل الحاسمة — في تحديد من يفوز بانتخاب ما؟

في ١٩٧٦، وهي السنة التي أجري فيها أول انتخاب بعد الإصلاح الكبير للنظام الذي تموَّل من خلاله الحملات الانتخابية الفيدرالية في الولايات المتحدة، رأى أحسن التقديرات أن مجموع المبلغ المنفق على الانتخابات كافة (الفيدرالية والولاياتية والمحلية) هو ٥٠٠ مليون دولار. وفي ٢٠٠٦، قدَّر الاستشاريون السياسيون أن «تكلفة الدخول» في سباقات الحزبين للترشح للرئاسة ستكون ١٠٠ مليون دولار لكل متسابق.٧ وسينسحب كثير من المتسابقين المحتملين قبل أن يبدأ السباق لأنهم لا يستطيعون استيفاء «رسم الدخول» أو المبلغ الذي يحتاجون إليه كي يكونوا قادرين على التنافس.

وفي انتخاب ٢٠٠٤ لعضوية مجلس النواب الأمريكي، أنفق النواب الحاليون الذين ينشدون إعادة انتخابهم أكثر من منافسيهم بنسبة ١٦ إلى ١ في المتوسط؛ أي إنهم فاقوا منافسيهم في النفقات بمقدار ٨٠٠ ألف دولار إلى ٥٠ ألف دولار في المتوسط. وأنفق النواب الحاليون الذين يواجهون منافسين خطيرين أكثر من ذلك بكثير. وأنفق أقل من ٤٠ في المائة من المتنافسين ١٠٠ ألف دولار. ولم يخسر في تلك الانتخابات إلا خمس نواب حاليين. وفي كل واحدة من تلك الحالات، تمكَّن المنافس من مضارعة النائب الحالي في الإنفاق أو التفوق عليه.

لطالما كان تمويل الحملات الانتخابية أحد شواغل المصلحين السياسيين، وقد صدر أول تشريع لتمويل الحملات منذ نحو قرن من الزمان عندما نظَّم قانون تيلمان مساهمات الشركات والبنوك في الحملات الانتخابية، واستغرق إقرار أحدث تشريع إصلاحي (قانون إصلاح الحملات الانتخابية لسنة ٢٠٠٢ المعروف شعبيًّا باسم قانون ماكين-فاينجولد) سنوات؛ حيث حاربته الجهات أصحاب المصالح الراسخة بكل ما أوتيت من قوة.

هناك اتفاق في الرأي على أن نظام تمويل الحملات الانتخابية معيب، لكن لا يوجد اتفاق في الرأي على كيفية إصلاحه، وهذه مشكلة مألوفة لدى المصلحين السياسيين. والسبب بسيط، ذلك أن أي إصلاح يساعد فئة يضر أخرى، والذين يحظون بمزايا في ظل تطبيق مجموعة معينة من القواعد سيُحرمونها إذا طُبِّقت مجموعة أخرى.

ويمكننا استعراض القضايا الأساسية بإيجاز:
  • تكلفة الحملات الانتخابية: يعتقد البعض أن الحملات الانتخابية تتكلف أكثر مما ينبغي، وينوه آخرون إلى أن الأمريكيين ينفقون على الإعلانات الانتخابية أقل مما ينفقون على إعلانات السيارات. فأيهما أهم بالنسبة لأسلوب الحياة الأمريكي؟
  • من يمول الحملات الانتخابية؟ يعتقد البعض أن إعطاء الحملات الانتخابية مبالغ مالية كبيرة مجرد طريقة أخرى للتأثير على النتائج وفي النهاية على التشريع، ويؤكد آخرون أن التبرع بالمال ليس شرًّا، بل طريقة لتعبير المرء عن تفضيلاته السياسية التي ينبغي حمايتها ما دام هذا لا يحدث سرًّا، بل هناك صِنف ثالث يرى أن تكلفة الحملات الانتخابية ينبغي أن يتحملها المواطنون كافة بالتساوي. فهل هناك طريقة أكثر ديمقراطية لتمويل الدعاية الانتخابية؟ وإذا كانت هناك طريقة، فعلى أي مستوى؟
  • الإفصاح عن المساهمات في الحملات الانتخابية: يبدو أن الجميع يتفقون على ضرورة تقديم المساهمات في الحملات الانتخابية صراحة وعلانية، ويعتقد البعض أن النظام الحالي المعنيَّ بإبلاغ المسئولين الفيدراليين أو الولاياتيين عن مساهماتهم غير وافٍ، ويؤكد آخرون أن هناك ضرورة إلى المزيد من الإفصاح والمزيد من الإفصاح العاجل. فهل هناك توازن ملائم بين إلقاء الضوء على من يمولون الحملات وانتهاك حقوق الأفراد في المشاركة في العملية دون إفصاح علني؟
  • من الذين ينبغي أن يخضعوا للتنظيم القانوني؟ يتفق المنخرطون في العملية كافة على ضرورة خضوع المتسابقين على منصب ما وحملاتهم للتنظيم القانوني، كما نظم قانون إصلاح الحملات الانتخابية نفقات الأموال غير الخاضعة للرقابة، واضعًا حدودًا للمبلغ المالي الذي يمكن إعطاؤه الأحزاب للأغراض العامة غير المتعلقة بحملة معينة، لكن جماعات مثل «قدامى محاربي الزوارق السريعة من أجل الحقيقة» و«أمريكا تلتئم» وجدت سبلًا لإنفاق الأموال على الحملات على الرغم من هذه التقييدات، ويعتقد البعض أن أنواع الأنشطة التي انخرطت فيها هذه الجماعات محمية بموجب حرية التعبير، ويرى آخرون أنها وجدت طريقًا للالتفاف على القانون — من خلال فتح الثغرات — وأنه ينبغي إخضاع أنشطتها للتنظيم القانوني أيضًا. فكيف ينظَّم الخطاب السياسي دون كبت حرية التعبير عن المعتقدات السياسية؟٨

تبذل الأحزاب السياسية مقادير هائلة من الوقت والجهد في جمع الأموال لمتسابقيها ومساعدتهم في جمع الأموال لحملاتهم، ويظل السؤال الأساسي في مجال إصلاح تمويل الحملات بلا إجابة. فهل يمكن استحداث نظام يسمح بجمع ما يكفي من المال وإنفاقه بحيث تتمكن الحملات من الوصول إلى الناخبين مع الحيلولة — في الوقت نفسه — دون تمييز بعض المتسابقين على غيرهم ظلمًا ومن ثم إعاقة المنافسة؟ وهل يمكن أن يحدث هذا مع مراعاة الحريات السياسية المكفولة في التعديل الأول للدستور؟

(٤) غياب المنافسة

الفرضية الأساسية للدولة الديمقراطية هي قدرة المواطنين على طرد مَن هم في السلطة إذا لم يقروا أفعالهم. والمنافسة ضرورية هنا، لكن ما ليس واضحًا هو تعريف المنافسة.

النظام الانتخابي في الولايات المتحدة شديد التنافسية من زاوية ما، ومن الصعب أن نتصور انتخابًا متقارب النتائج كالانتخاب الرئاسي سنة ٢٠٠٠. وحتى في ٢٠٠٤، لو تحولت بضعة أصوات في أوهايو عن الرئيس بوش إلى السناتور كيري، لانتُخب كيري. وظلت السيطرة الحزبية على مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين تتحدد بتأرجح بعض السباقات المهمة في الانتخابات الأخيرة، ويمكن إلى حدٍّ بعيد قول الشيء نفسه عن كثير من الهيئات التشريعية الولاياتية. فنحن إذا نظرنا إلى النظام الانتخابي من منظور السيطرة الحزبية الكلية، نجده بالغ التنافسية.

لكن إذا نظر المرء على مستوى الولايات والدوائر، لوجد منافسة أقل كثيرًا؛ إذ كان نحو خمس عشرة ولاية فقط في الحقيقة موضع تنافس في الانتخابين الرئاسيين الأخيرين. وأما في الولايات الخمسة والثلاثين الأخرى، فكانت النتيجة شبه معروفة مسبقًا، ولم تكن أمام المواطنين في تلك الولايات فعليًّا فرصة ليكون لهم تأثير بالنسبة للمتسابقين أو للتعبير عن آرائهم.

كان انتخابا سنة ٢٠٠٢ و٢٠٠٤ لعضوية مجلس النواب، وفقًا لمعظم الآراء، الأقل تنافسية في التاريخ الحديث. وسواء أنظر المرء إلى معدلات إعادة انتخاب النواب الحاليين (أكثر من ٩٨ في المائة في كل حالة)، أم إلى السباقات التي شكَّل فيها الخاسر تهديدًا خطيرًا للفائز (نحو ١٠ في المائة في كلٍّ من هذين الانتخابين)، أم إلى المقاعد التي لم يشارك فيها أحد الحزبين بمتسابق أو شارك بمتسابق أحرز أقل من ٢٠ في المائة من الأصوات (نحو ثلاثة من عشرة)، أم إلى متوسط فارق الأصوات الذي يفوز به المتسابق (نحو ٤٠ في المائة)، فسيجد المنافسة الحقيقية شبه غائبة. وحتى في انتخاب سنة ٢٠٠٦ الأكثر تنافسية، لم تشهد الأغلبية الساحقة من الدوائر إلا قليلًا من المنافسة الحقيقية، وكانت النتائج في معظم السباقات التشريعية الولاياتية مماثلة، وكانت الانتخابات على مستوى الولايات — لاختيار الحكام أو الشيوخ الأمريكيين — تنافسية في بعض المقاعد، لكنها افتقرت في البعض الآخر أيضًا إلى وجود سباقات متقاربة النتائج.
  • أفضلية شاغل المنصب: لا شك أن شاغلي المنصب يملكون مزايا هائلة من حيث الشهرة، والقدرة على خدمة ناخبيهم وتعزيز صور إيجابية لديهم، والخبرة في الحملات الانتخابية، وسهولة جمع الأموال. لكن لعلهم استحقوا تلك المزايا، فلا ننسَ أنهم فازوا بالمنصب في أول الأمر، وهذه ليست بالمهمة السهلة. ويمكن أن يجادل المرء بأنهم يبقون في مناصبهم ويفوزون بسهولة لأنهم يُحسنون أداء وظيفتهم. فهل ينبغي تعديل النظام لتقليل ما يملكه شاغلو المنصب من مزايا أو لزيادة موارد حملات المنافسين؟
  • إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية: كثيرًا ما تحابي طرق رسم حدود الدوائر التشريعية شاغلي المناصب. فالتقسيم الانحيازي للدوائر، ونقصد ترسيم حدود الدوائر لأغراض سياسية، ممارسة قديمة قِدم الأمة ذاتها وتحدث بمزيد من التعقيد والفعالية في يومنا هذا. غير أن الإبداع في رسم الخرائط لا يفسر هيمنة حزب واحد في بعض الولايات ولا في بعض المناطق. ويزعم بعض الأكاديميين أن من يرسمون الحدود يلامون ظُلمًا على انعدام المنافسة، أو أن المواطنين يميلون إلى التجمُّع في مناطق جغرافية مع من يشتركون معهم في الأفكار، أو أن أفكار المرء تتغير لتتوافق مع أفكار جيرانه، مما يخلق مجتمعات قوامها التجانس السياسي. فهل ينبغي رسم حدود الدوائر على نحو يتجاهل مقار إقامة شاغلي المناصب أو تحزُّب الناخبين؟
  • عودة إلى تمويل الحملات الانتخابية: لا ريب أن تمويل الحملات يلعب دورًا، فمعظم المتنافسين لا يحظون بتمويل كافٍ، وتميل جماعات المصالح إلى مساندة شاغلي المناصب من كلا الحزبين لعلمها أن فرصتهم في الفوز أكبر. ويُفترض أن مساهمات هذه الجماعات تضمن، بحق أو بغير حق، الوصول إلى صناع القرار. فهل يمكن استحداث نظام يضمن للمتنافسين فرصة عادلة لجمع أموال تكفيهم للمنافسة؟
  • جودة المتسابقين: ربما ينشأ التفاوت في موارد الحملات الانتخابية في واقع الأمر عن تدني مستوى من يسعون إلى منافسة شاغلي المناصب، ولو سعى إلى الفوز بالمنصب متسابقون أفضل، لقدروا على جمع المزيد من الأموال وخوض سباقات أكثر تنافسية. ولا ننكر أن كيفية تعريفنا هذا «الأفضل» ذاتية لا موضوعية، لكن مهما كان هذا التعريف، فإن الأغلبية الساحقة ممن يسعون إلى خوض السباق لا يرقون لمستواه. وتنفق الأحزاب قدرًا لا بأس به من الوقت في استقطاب المتسابقين الذين تستشعر قدرتهم على خوض سباقات تنافسية دون أن يتحقق لها في النهاية ما تريد غالبًا. فهل يمكن استحداث وسائل لتشجيع المزيد من المتسابقين المؤهلين للسعي إلى المنصب؟ وما الحوافز التي ستقود من قرروا حاليًّا عدم خوض السباقات إلى اتخاذ القرار المعاكس؟

(٥) خطاب الحملات الانتخابية

نلتفت أخيرًا إلى نوعية الخطاب الملقى في الحملات الانتخابية. فلكي تقترب الحملات من المثل الأعلى الديمقراطي، يجب أن يعبِّر المتسابقون عن مواقف تجاه معظم قضايا الساعة البارزة، ويجب أن يسمع الناخبون هذه المواقف ويحكموا بينها.

يختلف الأكاديميون حيال إلى أي مدى يجب أن تكون مناقشة القضايا دقيقة، فيذهب البعض إلى ضرورة أن يكون المتسابقون واضحين صرحاء فيما يتعلق بوجهات نظرهم وأن يدرك الناخبون هذه الفوارق، ويفاضلوا بينها، ويصوِّتوا بناء على تلك المفاضلة التزامًا بالمبادئ الديمقراطية. ويرى آخرون أن ما نحتاج إليه أقل من ذلك، وأن المواطنين لا يحتاجون إلا إلى تكوين انطباع عام حول ما إذا كانوا يرون البلد يسير في الاتجاه الصحيح أم لا، وتنمية حسٍّ عام بمن ينسبون إليه الفضل، أو يُلقون عليه باللائمة، في الاتجاه الذي يسير فيه البلد. وفي أي من الحالتين، يجب أن يملك الناخبون معلومات كافية عن سجل شاغل المنصب وعن المنافس البديل بحيث يمكنهم تكوين انطباع والتصويت بناء عليه.
  • الدعاية الانتخابية السلبية: كثيرًا ما يعبَّر عن الفوارق من خلال دعاية انتخابية يراها الناخبون سلبية. ولكيفية تعريف المرءِ هذا المصطلح أهميةٌ حاسمة. فإذا انتقد امرؤ سلسلة من الأصوات التي أدلى بها مشرِّع ما بشأن الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، فهل هذا سلبي؟ أم أنه نقد لائق؟ وإذا انتقد المرء شاغل منصب لعدم حضوره جلسات اللجان، مما يعني ضمنًا أنه لا يُحْسِن أداء وظيفته، فهل هذا نقد سلبي أم مجرد نقد في الصميم؟ وماذا لو أعرب المرء عن هذا النقد بأسلوب فيه استهانة، متظاهرًا بإرسال فريق بحث للتنقيب عن المشرِّع الغائب؟ فهل هذه مبالغة في السلبية أم مجرد استخدام للفكاهة لطرح فكرة ما؟ وماذا لو أن أحد المشرعين فوَّت اجتماع إحدى اللجان لأنه كان في واقع الأمر يحضر اجتماعًا آخر عُقد بالتزامن مع الأول؟ أمن الضروري أن يوضح الناقد هذا الأمر أم أن من واجب الشخص الذي نوقش عدم حضوره تصحيح هذه المعلومة؟ وهل من المشروع أن تثار خلال حملة انتخابية مسألة إدانة شخص قبل خمس سنوات بالقيادة تحت تأثير الكحول إذا كانت هذه القيادة أثناء السكْر حدثت قبل أن يصير المتسابق موظفًا عموميًّا؟ وماذا لو أنها حدثت وهو في منصبه؟ وماذا لو أنها حدثت منذ ثلاثين عامًا؟ أهذه أمور شخصية محضة أم أنها تنعكس على نوع الشخص الذي نريده أن يمثلنا في المنصب؟ وإذا أُقعد المتسابقون المحتملون والمواطنون عن المشاركة في العملية بسبب الدعاية الانتخابية السلبية، فهل يمكن وضع حدود فعالة دون الحد من حرية التعبير السياسي المشروع؟
  • التغطية الإعلامية للحملات الانتخابية: يتلقى المواطنون معلومات عن الحملات السياسية من مصدرين، أولهما الوسائط المدفوعة من المتسابقين أو وكلائهم، وهذا مصدر يرتبط ارتباطًا مباشرًا بموارد الحملة المالية، وثانيهما الوسائط المجانية التي يُفترض أنها غير منحازة من وسائل الاتصال الجماهيري. ويزعم النقاد أن تغطية وسائل الاتصال الجماهيري للحملات تخفق في تزويد المواطنين بمعلومات كافية لسببين: أولهما أنها لا تغطي الحملات بشكل شامل، والآخر أنها لا تغطي القضايا الجوهرية بالعمق الكافي.

يستطيع المواطنون الذين يصممون على معرفة تفاصيل سجل المتسابق وبرنامجه العثور على ما يريدون من معلومات، لكن هذا يتطلب جهدًا كبيرًا، من زيارة لموقع على الويب وبحث عن المعلومات، وهي خطوات من غير المحتمل أن يُقدم عليها الناخب العادي، ولا توفر وسائل الإعلام الجماهيرية إلا قليلًا جدًّا من هذه المعلومات؛ لأنها لا تملك الموارد ولا الحوافز المادية لتفعل ذلك.

وحتى لو فعلت ذلك، فلا تستطيع الشبكات والمحطات المحلية والصحف المحلية تغطية الحملات كافة. فالشبكات تعير قدرًا كبيرًا من الاهتمام للحملات الرئاسية وتسلط الضوء على أهم السباقات على مقاعد مجلس الشيوخ والحكام ومجلس النواب. بل إن المحطات والصحف المحلية تواجه مشكلة أشد صعوبة، حيث تعاني نقصًا في الأيدي العاملة وأمامها الكثير من السباقات التي يلزمها تغطيتها. فهل تركز على السباقات الوطنية أم السباقات التي تُجرى على مستوى الولايات، أم على سباقات مجلس النواب المحلية التي قد تكون تنافسية وقد لا تكون كذلك، أم على سباقات الهيئات التشريعية الولاياتية، أم على السباقات المحلية؟ فكثيرًا ما تَجري هذه السباقات كلها في وقت واحد، وإذا غطتها كلها، فلن يحصل أي منها على كثير من التغطية. فهل هناك طرق مبتكرة يمكن من خلالها استغلال وسائل الإعلام الجماهيرية لإطلاع المواطنين بشكل أفضل؟ أمن واجب وسائل الإعلام أم الدولة أن تجد مثل هذه الابتكارات وتموِّلها؟

(٦) خاتمة

لا أقصد بهذا الفصل أن أغمَّ القارئ المؤمن بالديمقراطية الأمريكية والغيور عليها أو أغضبه، بل هدفي التأكيد على أن فضائل الديمقراطية الأمريكية الكثيرة لا تُرى دون اهتمام كافٍ بنقائصها.

تحرز الولايات المتحدة الدرجات النهائية على مؤشرات منظمة «فريدوم هاوس» للحقوق السياسية، وهذه المنظمة غير حكومية مستقلة تساند الديمقراطية والحرية في كل أرجاء العالم.٩ ويعتز الأمريكيون بنظامهم الذي يشجع المنافسة السياسية، وتكافؤ المشاركة بين المواطنين كافة، ورقابة المواطنين على الحكومة. ويستطيع الخصوم توجيه النقد لأصحاب السلطة علانية، وهم يفعلون. وعندما يخسر شاغلو المنصب، يتركون منصبهم ويسلمون السلطة بسلام لمن تغلبوا عليهم. وقد ازدهرت هذه العملية التمثيلية على مدى أكثر من قرنين، وهي فترة منقطعة النظير في تاريخ البشر من حُكم المواطنين.

لكن على الرغم من حق المواطنين — وسيقول البعض واجبهم — في المشاركة، فكثير منهم لا يفعلون ذلك. وبصرف النظر عن انفتاح العملية السياسية أمام أي مواطن يحق له خوض الانتخابات، فإن من لديهم فرصة حقيقية للمشاركة فيها قليلون في واقع الأمر. فعملية الترشيح غالبًا صعبة الفهم وتتمخض عن متسابقين دون المستوى الأمثل. وعلى الرغم من حق الحزبين في التنافس على المناصب كافة، فكثيرًا ما لا يفعلان، أو يديران حملات صورية لا فرصة حقيقية أمامها للفوز. وعلى الرغم من أن المواطنين سواسية في إمكانية وصولهم إلى الحكم، فإن المال عامل هائل في تحديد من سيكون في الحكومة ومن سيكون له نفوذ على من يُنتخبون. وعلى الرغم من زعمنا أننا نؤيد حكم الأغلبية، فإن نظامنا نادرًا ما يتمخض عن فائزين بالأغلبية، ولا نعرف إلا قليلًا عن الاختيارات الثانية لمن يؤيدون الخاسرين. وأخيرًا، فعلى الرغم من امتلاكنا حرية التعبير السياسي دون قيد، فنادرًا ما يسمع المواطنون المتسابقين يناقشون قضايا الساعة بتفصيل كافٍ يسمح بإصدار حكم مطَّلع بحق.

كل هذه النقائص التي تشوب النظام نوَّه إليها المصلحون وتصدوا لها، لكن الوصول إلى حلول ليس سهلًا حتى لو كانت لدينا الإرادة لفعل ذلك. فأسهل كثيرًا أن نشير إلى النقائص التي تشوب نظامًا من أن نقترح حلولًا تعالج هذه النقائص دون أن تخلق نقائص جديدة. وفي نظامنا هذا، يتطلب تغيير قواعد اللعبة موافقة من وصلوا إلى مناصبهم في ظل هذه القواعد؛ أي أن يُطلب من الثعالب — بمعنى ما — أن تحرس حظيرة الدجاج. وعندما يبلغ استياء المواطنين من النظام مستوى كافيًا، يحدث التغيير، وتفضي هذه التغييرات إلى دورة أخرى من التقييم والتكييف وربما تغيير آخر.

العملية الانتخابية الأمريكية — نظام ثنائي الحزبية يقوم على الفصل بين السلطات في ظل نظام حكم فيدرالي — ليست نظامًا صالحًا لكل الأمم، فلا يمكن تصدير الثقافة والتقاليد، وينبغي ألا يدعي المرء الكمال لنظام تشوبه نقائص واضحة حتى في السياق الحاضر. وعند تمجيد فضائل النظام الانتخابي في الولايات المتحدة، ينبغي أن يكون المرء مدركًا لعيوبه مثلما كان ونستون تشرشل مدركًا لعيوب الديمقراطية البريطانية حين قال: «قيل إن الديمقراطية أسوأ أشكال الحكم عدا كل الأشكال التي جُرِّبت منها.» وينبغي أن يكون أشد الناس دفاعًا عن الديمقراطية الأمريكية في طليعة الجهود المبذولة لتحسينها. لكن في محاولة بعد محاولة للانتقال بالديمقراطية الأمريكية إلى ما هو مثالي، نجد قيادات سياسية قليلة نحَّت مصالحها السياسية الخاصة جانبًا وركزت على العملية التي ستخدم الأمة كأحسن ما يكون. والواقع أن هذا هو اختبار القيادة الحقيقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤