الفصل الثالث عشر

لم تعُد لوسي ترى وجوه الفتيات، لكنها شعرت أن الصمت تحوَّل فجأة إلى جمود. أصبح أجوَفَ وبلا حياة. كان الأمر أشبه بالفرق بين سكون يوم صيفي يُسمع فيه بوضوح تغريدُ الطيور وحفيفُ أوراق الشجر، ويداعب فيه النسيمُ العشبَ، وبين جمود إحدى المناطق القاحلة بالقطب الشمالي المتجمد. وبعد ذلك، بدأت الطالبات يهمسن في الفراغ المفتقر للحياة، بمجرد وصول عضوات هيئة التدريس إلى الباب؛ إذ كن يُردِّدن الاسم الذي قيل التوَّة.

«راوس!» أخذن يردِّدن: «راوس!»

وعندما خرجت لوسي إلى ضوء الشمس الدافئ، سرَت في جسدها قشعريرة. لقد ذكَّرها الصوت الذي سمِعته بقِطع جليد تجرفها رياح عاصفة على سطح جليدي. حتى إنها تذكَّرت أين رأت هذه القِطع الصغيرة وسمِعت صوتها؛ كان ذلك يوم عيد الفصح الذي قضَته في سبيسايد، عندما فاتتهم الحافلة الذاهبة إلى جرانتاون، وكانوا بعيدين عن البيت واضطُروا إلى السير مسافةً طويلة تحت سماء داكنة ووسط رياح عاصفة، في عالمٍ يملؤه الجليد. عند عبورها الفِناء المشمس إلى البوابة الرباعية الأضلاع، شعرت بأنها بعيدة عن بيتها الآن، وبدت السماء لها في الأعلى داكنةً مثل السماء في هايلاند أثناء عاصفة مارس. وتمنَّت للحظة لو أنها كانت في بيتها، تجلس في غرفة المعيشة الصغيرة الهادئة الخاصة بها، مستقرةً في سلام لا ينقطع بعد ظهر يوم أحد، لا يشغل بالها أيٌّ من المشكلات الإنسانية، ولا تتأثر بأحزان غيرها. وفكَّرت في اختلاق عذرٍ لمغادرة لايز عندما تتلقى بريد الصباح في اليوم التالي، ولكنها ظلَّت تنتظر بفارغ الصبر مثل الطفلة حضورَ العرض يوم الجمعة، حتى تعلَّقت بصفة شخصية بهذا اليوم، الذي كان في البداية يمثِّل لها تجربة لم تَعْدُ في السابق كونها شيئًا جديدًا لم ترَ مثله من قبل. لقد عرفت جميع طالبات السنة النهائية بصفة شخصية، وعددًا كبيرًا من الطالبات المستجدَّات؛ تحدَّثت معهن عن العَرض، وشاركتهن شعورهن بمزيج من الخوف والترقُّب لهذا العرض، حتى إنها شاركت في تجهيز الأزياء الخاصة بالعرض. كان العرض لحظةَ بلوغ القمة، لحظة الانتصار، الفصل الأخير في حياتهن الجامعية، ولم تستطِع تحمُّل فكرة المغادرة دون أن تشهده؛ دون أن تكون جزءًا منه.

كانت قد تركت عضواتِ هيئة التدريس الأخريات، اللاتي كن متجهات نحو مقدِّمة المبنى، ولكن راج، التي تبِعتها لتثبيت إشعار على لوحة الإشعارات الخاصة بالطالبات، مسحت جبينها بارتياح كبير وقالت: «الحمد لله على ذلك، أعتقد أنه كان أصعب شيء اضطُررت إلى فعله. لم أستطِع إكمال طعام الغداء لأنني ظللت أفكِّر في الأمر.» وتذكَّرت لوسي بالفعل رؤيتها لمنظر غير معتاد لقطعة كبيرة من البودنج لم تُؤكل في طبق الآنسة راج.

هذه هي الحياة بالتأكيد. أُغلِقت بوابةُ الجنة في وجه إينيس ولم تستطِع راج إكمال البودنج!

لم يخرج أحدٌ من غرفة الطعام بعدُ — نظرًا لأن شهية الطالبات تكون مفتوحة أكثرَ من شهية عضوات هيئة التدريس، فإن الطالبات يقضين وقتًا أطولَ بما لا يقل عن ١٠ أو ١٥ دقيقة في تناول الطعام، مقارنةً بعضوات هيئة التدريس — لذا كانت الممرات لا تزال خاليةً عندما صعِدت لوسي إلى غرفتها. فقد اتخذت قرارًا بالخروج من لايز قبل أن تغمر جحافل الطالبات المناطقَ الريفية المحيطة. سوف تتجول في المناطق الريفية بألوانها الخضراء والبيضاء والصفراء، وتشم أزهار مايو وترقد على الحشائش وتتأمل دوران الأرض حول محورها، وتذكِّر نفسها باتساع العالم، وبأن أحزان الطالبات، على قسوتها ومرارتها، سرعان ما ستنتهي وأنها بلا شك أمورٌ بسيطة جدًّا بالمقياس الكبير للأشياء.

خلعت لوسي حذاءها وارتدت حذاءً آخر أكثرَ ملاءمةً للتنزه على طول المسارات في الحقول، ثم عبَرت إلى «المنزل القديم» وسارعت إلى النزول من السُّلم الأمامي، ثم خرجت من الباب الأمامي لتجنُّب رؤية الطالبات اللاتي سيخرجن تدريجيًّا من غرفة الطعام. كان «المنزل القديم» هادئًا جدًّا، مما دفعها إلى استنتاجٍ مفادُه أنه لم يجلس أحد في غرفة المعيشة بعد الغداء اليوم. مشت لوسي حول المنزل، وتوجَّهت صوب الحقل خلف صالة الألعاب الرياضية، بينما كانت تفكر في بيدلينجتون و«ذا تي بوت». امتدَّ على يمينها سياج زهور مايو على شكل رغوة كريمية، وامتدَّت على يسارها زهور الحوذان كالبحر الذهبي. ألقت أزهار الدردار، التي يغمر نصفَها ضوءُ الشمس الدافئة، بظلالها الأرجوانية، وكأن هذه الظلال هي ما يثبِّتها في الأرض، وتناثرت الأُقْحُوانات على العشب القصير تحت قدميها. كان عالَمًا بديعًا، عالَمًا متناغمًا وحسنًا، وليس يومًا مناسبًا — أوه أيتها المسكينة إينيس! أيتها المسكينة إينيس! — لإنزال البلايا على أحد.

وبينما كانت لوسي تفكِّر فيما إذا كانت ستعبُر الجسر الصغير وتتجه نحو المصبِّ إلى بيدلينجتون أو في الاتجاه المعاكس إلى المجهول، رأت بو. كانت بو واقفةً في منتصف الجسر، تشاهد المياه المتدفِّقة، لكنها امتزجت امتزاجًا كبيرًا مع ضوء الشمس والظلال تحت أشجار الصفصاف بسبب ملابسها الخضراء المصنوعة من الكتان وشعرها اللامع، حتى إن لوسي لم تدرك أن أحدًا كان يقف هناك. وعندما بلغت لوسي الظل وتسنَّت لها الرؤية بوضوح، رأت أن بو كانت تراقبها وهي آتية، لكنها لم تُلقِ عليها أيَّ تحية. وتسبَّب سلوكُ بو غير المعهود في قلق لوسي.

قالت لوسي، وهي تستند إلى السور الخشبي بجانب بو: «مرحبًا. أليست فترة ما بعد الظهيرة هذه جميلة؟» لماذا هذا التعليق السخيف؟ سألت لوسي نفسها.

لم تنبس بو ببنت شفة، ولكنها سرعان ما قالت: «هل كنتِ على دراية بأمر الوظيفة؟»

قالت لوسي: «نعم. لقد … لقد سمِعتُ عضوات هيئة التدريس يخضن في الأمر.»

«متى؟»

«أمسِ.»

«إذن كنتِ على علمٍ بالأمر عندما تحدَّثْنا هذا الصباح.»

«نعم. لماذا؟»

«كان من الأفضل لو حذَّرها أحد.»

«حذَّر مَن؟»

«إينيس. شعور صعب أن تُسحق آمالُك أمام الجميع.»

أدركت لوسي أن بو كانت تشعر بغضب شديد. لم تكن رأتها مستاءةً من قبل، أما الآن فهي غاضبة جدًّا لدرجة أنها بالكاد تستطيع التحدث.

سألت لوسي بعقلانية، وهي مستاءة من أن يُلقى اللوم عليها شخصيًّا في أمرٍ ليس لها دور فيه: «ولكن كيف لي أن أفعل ذلك؟» وأردفت: «لم يكن من الأمانة إخباركما بالأمر قبل أن تُعلن الآنسة هودج قرارَها. فكلُّ ما أعرفه هو أنه ربما تغيِّر رأيها؛ عندما تركتها كان من المحتمل أن ترى الأمور من منظور …» ثم توقَّفت، مدركةً إلى أين تتجه المحادثة. ولكن بو أيضًا أدركت الأمر. وأدارت رأسها بحدة لتنظر إلى الآنسة بيم.

«أوه. لقد جادلتِ معها بشأن هذا الموضوع. لم توافقي على اختيارها إذن؟»

«بالطبع لم أوافق.» وحدَّقت في وجه الفتاة الغاضبة القريب جدًّا من وجهها وقرَّرت أن تتحدث بصراحة. قالت: «يجب أن تعرفي يا بو أن لا أحدَ يوافق على قرارها. فرأي عضوات هيئة التدريس هو نفسه رأيكن. الآنسة هودج صديقة قديمة لي، وأنا مَدينة لها بالكثير ومعجبة بها، ولكن فيما يتعلق بهذا الأمر، فهذا قرارها هي وحدَها. لقد انزعجت منذ أن سمِعت عن قرارها أول مرة، وكنت أود فعل أي شيء لأثنيها عن هذا القرار، أو أن أستيقظ اليوم التالي وأجد أنه مجرد كابوس؛ أمَّا بخصوص تحذير أي شخص …» ورفعت يدها في إيماءة تعني أنه لا حول لها ولا قوة في هذا الأمر.

عاودت بو التحديق في المياه. وتمتمت: «كان من الممكن أن تفكِّر امرأة ذكية مثلك في حل.»

بوجهٍ ما، جعلت عبارة «امرأة ذكية» بو فجأةً تبدو أصغر سنًّا وفاتنة؛ فلم تكن بو الواثقة والراقية لتطلب المساعدة أو أن تعتبر لوسي، هذه المرأة العادية جدًّا، ذكية. في تلك اللحظة بدت وكأنها طفلة؛ طفلة غاضبة ومجروحة بسبب الظلم الذي لحِق بصديقتها. فلم تشعر لوسي بمثل هذا الإعجاب لبو من قبل.

همهمت بو وهي تنظر في المياه: «لم تُلمِّحي حتى. حتى التلميح بأنه قد يكون هناك شخص آخر يتنافس على الوظيفة. أي شيء لتحذيرها. لتخفيف حدة الصدمة. لوضعها على أهبة الاستعداد، حتى لا تُصدَم. إن كان ذلك عقابًا، فليس من الضروري أن يكون عقابًا قاسيًا. كان من الممكن أن تتخلَّي عن بعض مبادئك في سبيل هذا السبب الوجيه، أليس كذلك؟»

أدركت لوسي، متأخرةً، أنه ربما كان يمكنها فِعل ذلك.

سألت لوسي: «أين هي؟» وأردفت: «أين إينيس؟»

«لا أعرف. لقد خرجت مسرعة من الكلية قبل أن أتمكَّن من اللحاق بها. أعرف أنها اتجهت ناحية هذا الطريق، لكني لا أعرف أين ذهبت بعد ذلك.»

«هل سيؤثر عليها الأمر بشدة؟»

أجابت بو باستياءٍ شديد: «هل كنتِ تنتظرين منها أن تكون شجاعةً ونبيلة في خِضَم هذه الفوضى الرهيبة؟» ثم أضافت بسرعة: «أوه، أنا آسفة. أعتذر لكِ بشدة. أعلم أنك أيضًا آسفة لما حدث. أنا لست في حالة جيدة للتحدث إلى أي شخص الآن.»

قالت لوسي: «نعم، أنا آسفة لما حدث. لقد أُعجبتُ بإينيس في المرة الأولى التي قابلتها فيها، وأعتقد أنها كانت ستنجح للغاية في أرلينجهيرست.»

تمتمت بو: «كانت ستنجح.»

«وماذا كان ردُّ فعل الآنسة راوس تجاه هذا الخبر؟ هل تعتقدين أنها تفاجأت به؟»

أجابت بو باقتضاب: «لم أنتظر حتى أرى ردَّ فِعلها.» وبعد فترة وجيزة أضافت: «أعتقد أنني سأذهب باتجاه منبع النهر. فثمة غابة مليئة بالنباتات والأشجار الشائكة هناك، وهي مغرمة جدًّا بها؛ قد تكون هناك.»

سألت لوسي؛ وهي تشعر أنه إذا كانت نية بو هي تهدئة إينيس فقط، فإن إينيس بالتأكيد ستفضِّل الآن الجلوس بمفردها: «هل أنتِ قلقة بشأنها؟»

«لا أعتقد أنها تفكِّر حاليًّا في الانتحار، إذا كان هذا ما ترمين إليه. لكن أنا بالطبع قلقة بشأنها. فصدمة كهذه ستكون قاسية على أي شخص؛ خاصة الآن، في نهاية الفصل الدراسي ونحن جميعًا مرهقات. أمَّا بخصوص إينيس؛ فلطالما أولت ما تفعله اهتمامًا كبيرًا.» وتوقَّفت بو عن الكلام لتحدِّق في المياه مجددًا. وأردفت: «عندما كنا مستجدات، وقد اعتادت السيدة لوفيفر صبَّ تهكُّمها علينا صبًّا — أحيانًا ما تكون السيدة لوفيفر لا تطاق على الإطلاق — كنا نتحمَّل ما كانت تقوله، أما إينيس، فقد كانت تمزِّقها كلمات السيدة لوفيفر، كما لو كان جِلدها قد انسلخ، وتُركت ضعيفة من دون جلد. لم تذرف الدمع مطلقًا مثلما تفعل الأخريات عندما لا يتحملن ما يسمعنه. بل كانت ببساطة تحترق من الداخل. ليس من السهل أن تحترقي من الداخل. وذات مرة عندما …» لكنها توقَّفت عن الكلام، وبدا أنها رأت أنها صرَّحت بالكثير. ربما كانت على وشْك الإفصاح عن أمرٍ ليس من الحكمة الإفصاح عنه، أو أنها خلصت إلى أن التحدُّث عن صديقتها مع شخص غريب نسبيًّا، بغض النظر عن مدى تفهُّمه، لم يكن في النهاية الشيء الصحيح الذي يجب فعله. وخلصت بو إلى أن: «إينيس تفتقر إلى الصلابة النفسية.»

نزلت بو من الجسر وبدأت في السير على الطريق بجانب شجر الصفصاف. وقالت، متوقفة قبل أن تتوارى عن نظر لوسي: «أرجوكِ سامحيني لو شعرتِ مني بأي نوع من الوقاحة. لم أقصد أن أكون كذلك.»

واصلت لوسي التحديقَ في المياه الهادئة الساكنة، متمنيةً بشدة أن تتمكَّن من استعادة الدفتر الأحمر الصغير الذي ألقته بثقة في الجدول قبل يومين، وتفكِّر في الفتاة التي لم يكن لديها الصلابة النفسية التي تحول بينها وبين تقلُّبات الدهر. الفتاة التي لم تستطِع لا أن تذرف الدمع ولا أن تجد العزاء في الضحك؛ كانت تحترق من الداخل. كانت لوسي تأمُل إلى حدٍّ ما ألا تعثر بو على إينيس حتى تمر الفترة الأصعب، فلم تذهب إينيس إلى بو بحثًا عن التعاطف، لكنها ركضت بأسرعِ ما يمكن بعيدًا عن البشر، وبدا من العدل منحُها العزلة التي تسعى إليها.

اعتقدت لوسي أنه لن يضر بو على أي حال أن تكتشف أن العالم به نكساتٌ وخيبات أمل؛ فلطالما كانت الحياة سلسة للغاية لدى لبو. وكان من المحزن أن تتعلَّم على حساب إينيس.

سارت لوسي عبر الجسر ودخلت إلى الملعب، وأدارت وجهها لتصبح في مواجهة الريف المفتوح، ومرَّت عبر الفجوات في السياج؛ كانت تأمُل ألا تلحق بإينيس، وقرَّرت التظاهر بعدم رؤيتها إذا لمحتها. لكنها لم ترَ إينيس في أي مكان. كان المكان خاليًا تمامًا من البشر في يوم الأحد هذا. إذ كان الجميع لا يزالون مشغولين بتناول اللحم البقري المشوي. وكانت لوسي وحيدة مع أسْيِجة أزهار مايو والمراعي والسماء الزرقاء. وفي النهاية، وصلت إلى حافة منحدر حيث يمكن أن ترى واديًا ضحلًا يمتد مسافةً بعيدة، فجلست هناك وظهرها مستندٌ إلى شجرة بلوط، بينما سُمع طنين الحشرات في العشب، ومرَّت السُّحب البيضاء الكثيفة، وتحرَّك ظل الشجرة ببطء حول قدميها. كانت لوسي تتمتع بقدرة غير محدودة تقريبًا على عدم فعل أي شيء، وقد تسبَّب ذلك في إحباط معلِّميها وأصدقائها.

لم تفكِّر لوسي فيما ستفعل بعد ذلك حتى أصبحت الشمس في مستوى الأسيِجة. وكانت نتيجة التفكير هي إدراك أنها لن تستطيع حضور العشاء الليلة مع الطالبات؛ فقررت أن تمشي حتى تجد حانة، على أن تعود إلى الكلية في المساء بعد أن يرنَّ جرسُ النوم وينام الجميع. أخذت منعطفًا واسعًا، وبعد نصف ساعة، لمحت برج كنيسة مألوفًا من بعيد. وبذلك، تخلَّت عن فكرة الذهاب إلى حانةٍ، وتساءلت في نفسها عما إذا كان «ذا تي بوت» مفتوحًا أيام الأحد. وحتى لو لم يكن مفتوحًا، فربما يمكنها إقناعُ الآنسة نيفيل بإعطائها طعامًا مُعلَّبًا لتخفيف حدة الجوع لديها. كانت الساعة قد تجاوزت السابعة عندما وصلت إلى ضواحي بيدلينجتون، وعندما نظرت إلى صرح الشهيد — المبنى الوحيد القبيح في المنطقة — شعرت بالقليل من الفضول، ولكن رؤيتها لباب «ذا تي بوت» مفتوحًا أعاد إحياء معنوياتها. عزيزتي الآنسة نيفيل. عزيزتي الآنسة نيفيل الكريمة، الفطِنة، البارعة، التي هي على استعداد لمساعدة الآخرين والقيام على خدمتهم.

دخلت لوسي المقهى البديع، الذي ألقت الأكواخ المجاورة بظلالها عليه بالفعل، ووجدته فارغًا تقريبًا. جلست عائلة على الطاولة بجوار النافذة الأمامية، وجلس شابٌّ وفتاة في الزاوية البعيدة؛ على الأرجح هما مالكا السيارة الباهظة الثمن الواقفة في آخر الحديقة. أُعجبت لوسي بقدرة الآنسة نيفيل على الحفاظ على المقهى نظيفًا تفوح منه رائحة الزهور على الرغم من توافد الزبائن عليه في يوم الأحد من شهر يونيو.

وبينما كانت تنظر حولها بحثًا عن طاولة، سمِعت صوتًا ينادي باسمها: «آنسة بيم!»

أرادت لوسي أن تهرب على الفور؛ إذ لم تكن في حالة مزاجية مناسِبة للتحدث مع الطالبات في تلك اللحظة، لكنها أدركت أن مَن تناديها هي فطيرة المكسرات. كانت فطيرة المكسرات هي الفتاة التي تجلس مع الشاب في الزاوية. أما الشاب، فكان بلا شك ابن عمِّها ريك الذي وصف لوسي بالرائعة، وتطلِق عليه طالبات الكلية «الراقص المستأجَر».

نهضت ديستيرو من مقعدها واقتربت من لوسي — كانت تتمتع بأدب جمٍّ في المواقف الرسمية — وأرشدتها إلى طاولتهما. قالت ديستيرو: «هذا رائع!» وأردفت: «كنا نتحدث عنكِ، وأعرب ريك عن أمله في لقائك، وها أنت ذي تحضُرين. الأمر أشبه بالسحر. أقدِّم لكِ ابن عمي ريتشارد جيليسبي. اسمه الحقيقي هو ريكاردو، لكنه شعر أنه يشبه أسماء نجوم السينما.»

قال جيليسبي، وهو يصافح لوسي ويساعدها في الجلوس على أحد الكراسي: «أو قائد فرقة موسيقية.» كانت طريقة نطقه الخالية من أي لكنات تشبه تمامًا الإنجليز، وقد أسهمت إلى حدٍّ في التعويض عن التشابه الذي لا يمكن إنكاره بينه وبين أبطال السينما من أصولٍ لاتينية. فهمت لوسي سببَ تسميته بالراقص المستأجَر؛ فشعره السميك الأسود الناعم ورموشه الطويلة واتساع ثقبي أنفه وشاربه الرفيع الداكن سماتٌ تمثل الصورة النمطية للراقص المستأجَر، ومع ذلك، بصرف النظر عن مظهره، لا يبدو أن أي شيء آخر يتوافق مع هذه الفكرة في عيون لوسي. فشكله فقط هو ما ورِثه من أصوله اللاتينية؛ ولكن أسلوبه، وتربيته، وشخصيته هي أسلوب وتربية وشخصية طالب مدرسة حكومية عادي. قدَّرت لوسي أن عمره يقارب الثلاثين، أي أكبر بكثير من ديستيرو، وبدا شخصًا لطيفًا ومسئولًا.

يبدو أنهما أبلغا النادل بطلبهما التوة، وذهب ريتشارد إلى الجزء الخلفي من المقهى لطلبِ طبق آخر من أقراص الجبن الشهيرة في بيدلينجتون. قالت ديستيرو: «إنه طبق جبن، ولكن ليس مثل الأطباق الويلزية التي تجدينها في المقاهي بلندن. هو عبارة عن مسحوق الجبن الدَّسم فوق خبز محمَّص ناعم ومليء بالزبدة، بنكهةٍ ومكوِّنات فريدة؛ مثل جوزة الطيب — أعتقد أنها جوزة الطيب — ومكوِّنات شبيهة بذلك، ومذاقه رائع.»

قالت لوسي، التي لم تكن في حالةٍ تسمح لها بالاهتمام بمذاق الطعام، إنه يبدو لذيذًا. وقالت: «ابن عمك إنجليزي، إذن؟»

قالت ديستيرو عندما كان ريتشارد عائدًا: «أوه، نعم. لسنا مَن يسمونهم أبناء العمومة المباشرين. فأخت والد أبي تزوجت والد والدته.»

قال ريتشارد: «بعبارة أبسط، كان أجدادنا أخًا وأختًا.»

فقالت ديستيرو، وقد بدا عليها بصفتها من أصلٍ لاتيني رفضُها اعتيادَ الإنجليز عدمَ الاكتراث بالعلاقات الأسرية: «قد تكون هذه العبارة أبسط، ولكنها ليست واضحة.»

سألت لوسي ريتشارد: «هل تعيش في لاربورو؟»

«لا، أنا أعمل في فرعنا الرئيسي في لندن. لكنني أتولى حاليًّا أعمال الاتصال في لاربورو.»

ورغمًا عنها، تحوَّلت نظرة لوسي نحو ديستيرو، التي كانت مشغولة بفحص القائمة.

قال ريك بسلاسة: «إحدى الشركات التابعة لنا موجودة هنا، وأنا أتعاون معهم أسبوعًا أو أسبوعين»، ونظر إلى ديستيرو وضحِك بعينيه. وبعد ذلك، لطمأنتها تمامًا، أضاف: «جئت برسالة توصية من الآنسة هودج، تؤكد الروابطَ العائلية، واحترامي، واستقراري المادي، وحسن مظهري، والتزامي بالمعايير التقليدية …»

قاطعته ديستيرو قائلة: «أوه، اصمت يا ريك، ليس ذنبي أن والدي برازيلي وأمي فرنسية. ما هي كعكة العجين بالزعفران؟»

قال ريك: «تيريزا هي أفضل شخص يمكن دعوته لتناول الطعام. فهي تأكل مثل أسدٍ جائع. في حين تقضي صديقاتي الأخريات المساء بأكمله في هوَس بشأن عدد السعرات الحرارية وتخيُّل تأثير ذلك على محيط الخَصر لديهن.»

أجابت ديستيرو ببعض الحدة: «صديقاتك الأخريات لم يقضين ١٢ شهرًا في كلية لايز للتدريب البدني، حيث يبذلن مجهودًا بدنيًّا شاقًّا ويتناولن سلطة الخضراوات.»

تذكَّرت لوسي كمية الخبز التي تلتهمها الطالبات في كل وجبة، واعتقدت أن كلام ديستيرو مُبالغ فيه.

عندما أعود إلى البرازيل، سأعيش مثل السيدات الراقيات وآكل مثل الأشخاص المتحضرين، يمكنني وقتها التفكير في السعرات الحرارية التي أستهلكها.»

فسألتها لوسي متى تنوين العودةَ إلى البرازيل.

«سوف أُبحر في آخر يوم من شهر أغسطس. وبهذه الطريقة، يمكنني الاستمتاع قليلًا بالصيف في إنجلترا بعد انتهاء العام الدراسي وقبل الرحيل. فأنا أحبُّ الصيف في إنجلترا. إنه مليء بالخضرة، ولطيف، وممتع. أحب كل شيء في إنجلترا باستثناء الملابس والشتاء والأسنان. أين أرلينجهيرست؟»

فوجئت لوسي، التي نسيت عادةَ ديستيرو بأن تنتقل من موضوع إلى آخرَ فجأة، بسماع اسم أرلينجهيرست فلم تُجِب مباشرةً وتولَّى ريك الإجابة بدلًا منها. قال: «إنها أفضل مدرسة للبنات في إنجلترا.» ثم أردف بعد أن عرَّف المدرسة بإيجاز: «لماذا تسألين؟»

«إنها حديث الكلية في الوقت الحالي. فستذهب إحدى الطالبات إلى هناك مباشرةً من لايز. قد يُعتقد أنها حصلت على لقب سيدة على الأقل، بالنظر إلى مدى حماسة الجميع.»

قال ريك: «يبدو لي إنجازًا يستحق هذه الحماسة. فلا يحصُل الكثير من الناس على مثل هذه الفرص مباشرةً بعد التخرج.»

«حقًّا؟ إذن فأنت تعتقد أنه شرفٌ حقًّا؟»

«أراه شرفًا كبيرًا. أليس كذلك يا آنسة بيم؟»

«بلى، بلا شك.»

«أوه، حسنًا. أنا سعيدة لأجلها. إنه لأمر مؤسف أن أتخيلها تضيِّع سنوات عمرها في مدرسة للبنات، ولكن إذا كان هذا شرفًا لها، فأنا سعيدة.»

سألت لوسي: «سعيدة من أجل مَن؟»

«من أجل إينيس، بالطبع.»

سألتها لوسي في اندهاش: «ألم تتناولي الغداء اليوم معنا؟».

«لا، جاء ريك بالسيارة، وذهبنا معًا إلى سارَسينز هيد في بومينستر. لماذا؟ وما علاقة ذلك بموضوع المدرسة؟»

«إينيس ليست الشخص الذي سيذهب إلى أرلينجهيرست.»

«ليست إينيس! لكن الجميع كان يقول إنها هي مَن سيذهب. الجميع قال ذلك.»

«صحيح، هذا ما توقَّعه الجميع، لكن الأمور لم تسِر على هذا النحو.»

«لا؟ إذن مَن التي ستذهب؟»

«راوس.»

حدَّقت ديستيرو وهي مصدومة.

«أوه، لا. لا أستطيع أن أصدِّق ذلك. ببساطة لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا.»

«إنه صحيح، للأسف.»

«تقصدين أنهم فضَّلوا واحدة من الرعاع … تلك اﻟ…»

قال ريك، الذي وجد ردَّ فِعلها الانفعالي الذي يراه للمرة الأولى مسليًا، محذِّرًا: «تيريزا!».

صمتت ديستيرو هنيهة، وهي غارقة في أفكارها.

ثم بعد ذلك قالت بصوتٍ واضح: «لو لم أكن سيدة، لكنت بصقت!»

نظر أفراد العائلة الجالسة في المقهى إليهم، وكانت تعبيراتهم مزيجًا من الدهشة والقلق الطفيف. وقرروا أن الوقت قد حان للمغادرة، وبدءوا في جمع مُتعلقاتهم، وحسابِ ما سيدفعونه.

قال ريك: «انظري فيما تسببتِ فيه. لقد أزعجتِ الجالسين في المقهى.»

في هذه اللحظة، وصلت أقراص الجبن من المطبخ، تحمِلها الآنسة نيفيل الكريمة ذات المريلة القطنية المطبوعة؛ ولكن فطيرة المكسرات، التي لم يشتِّت انتباهها نهائيًّا منظرُ الطعام الشهي، تذكَّرت أن الآنسة نيفيل هي أول مَن أبلغها بالوظيفة الشاغرة في أرلينجهيرست، وفُتح الموضوع مجددًا. أنقذ ريك لوسي من النقاش غير المرغوب فيه من خلال لفت الانتباه إلى أن أقراص الجبن ستبرد سريعًا؛ وكان لدى لوسي شعورٌ قوي بأن ريك نفسه ليس لديه اهتمام حقيقي بأقراص الجبن، ولكنه لاحظ بطريقةٍ ما تعِبَها ونفورَها من الموقف، فشعرت لوسي بالدفء وبامتنانٍ تجاهه وقاومت دموعها.

قال ريك، عندما حوَّلت فطيرة المكسرات تركيزها أخيرًا إلى طعامها: «على أي حال، أنا لا أعرف الآنسة إينيس شخصيًّا، ولكن إذا كانت رائعة كما تقولون، فسوف تحصُل على فرصة جيدة جدًّا، حتى لو لم تكن هذه الفرصة في أرلينجهيرست.»

طوال فترة الظهيرة الطويلة، كانت هذه هي الحجة التي استخدمتها لوسي لتعزية نفسها. فقد كانت معقولة ومنطقية وعادلة، لكنها كانت تعمل كضمادة أخلاقية أكثرَ من كونها علاجًا حقيقيًّا. فهمت لوسي سببَ سخرية فطيرة المكسرات من ذلك.

سألت فطيرة المكسرات وهي تأكل قطعة كبيرة من أقراص الجبن: «هل تحب أن يفضلوا شخصًا كهذه عليك؟ أتحدَّث عن راوس. بماذا سيشعر المرء إذا اعتقد أنهم سيكرِّمونه علانية، ليُفاجأ بإهانتهم له أمام الجميع؟»

وصفت بو هذا الموقف بأنه مثل «ركل الأسنان». كانت ردود أفعالهما متشابهةً تشابهًا ملحوظًا. الفارق الوحيد هو أن ديستيرو أدركت الإهانةَ، بينما أدركت بو الإصابة.

تابعت ديستيرو، وعيناها الجميلتان تنظران إلى الطاولة التي جلسوا عليها: «قضينا صباحًا جميلًا ومبهجًا في هذا المكان تحديدًا مع والدَي إينيس.» كانت لوسي أيضًا تتذكَّر تلك المناسبة. وتابعت ديستيرو: «كانا مبهجَين يا ريك؛ أتمنى أن تقابلهما. لقد استمتعنا بوقتنا معًا: أنا، والآنسة بيم، ووالد إينيس، ووالدتها، قضينا وقتًا راقيًا، واستمتعنا بتناول القهوة الممتازة. كان يومًا رائعًا. والآن …»

أعادت لوسي وريك توجيهَ انتباهها بعيدًا عن الموضوع؛ ولم تتذكَّر ديستيرو الموضوع وتعاود النواح إلا عندما ركبوا السيارةَ للعودة إلى لايز. ولكن المسافة من بيدلينجتون إلى لايز قصيرة جدًّا بسيارة ريك، لدرجةِ أنه لم يكن لدى ديستيرو الوقت للتفكير في الأمر قبل الوصول إلى البوابة. تمنَّت لهما لوسي ليلةً سعيدة، وكانت على وشْك الانسحاب بلباقة، لكن فطيرة المكسرات رافقتها. وقالت بطريقة عابرة: «تصبح على خير يا ريك. ستأتي يوم الجمعة، أليس كذلك؟»

طمأنها ريك قائلًا: «لن يمنعني شيء من المجيء. في الساعة الثالثة، أليس كذلك؟»

«لا، في الثانية والنصف. الموعد مكتوب على بطاقة دعوتك. البطاقة التي أرسلتها إليك. بالنسبة لرجل أعمال، أنتَ لست دقيقًا بما يكفي.»

«أوه، حسنًا، عادةً ما أحتفظ بالأوراق الخاصة بأعمالي في ملفات.»

«وأين تحتفظ بدعوتي؟»

أجاب ريك: «في سلسلة ذهبية بين صدريتي وقلبي»، وبذلك يكون هو المنتصر في هذا النقاش.

قالت لوسي وهي تصعد الدَّرج مع ديستيرو: «ابن عمك شخص رائع.»

«هل تعتقدين ذلك؟ أنا مسرورة لسماع هذا. أنا أعتقد الشيء نفسه. إنه يمتلك كلَّ مزايا الرجل الإنجليزي، مع القليل من الصفات التي لا تُعد من مزايا الرجل الإنجليزي على الإطلاق. أنا سعيدة لأنه سيأتي لمشاهدتي أرقص يوم الجمعة. لماذا تبتسمين؟»

وسرعان ما غيَّرت لوسي الموضوع وكانت تبتسم لوجهة نظر ديستيرو المعتادة عن حضور ابن عمِّها يوم الجمعة.

«ألا يجب أن تدخلي من الباب الآخر؟»

«أوه، نعم، لكني لا أعتقد أن أحدًا سيُمانع. ففي غضون أسبوعين، سأستخدم هذا الدَّرج إن أردت — وبالمناسبة، لن أرغب في ذلك — لذا يمكنني استخدامه الآن أيضًا. فأنا لا أفضِّل استخدامَ المداخل الخلفية المخصَّصة للتجار.»

كانت لوسي تنوي توجيه التحية إلى هيئة التدريس قبل التوجُّه إلى غرفتها في الجناح، ولكن هدوء المدخل الشديد، والجو العام القاتم للمنزل ثبَّطا عزيمتها، فاختارت الحل الأيسر. قرَّرت تأجيلَ هذا اللقاء حتى صباح اليوم التالي.

على الأقل التزمت فطيرة المكسرات بقواعد الكلية التزامًا رمزيًّا، وكان من الواضح أن جرس الذهاب إلى غرفة النوم قد دقَّ، وذلك بسبب الهدوء التام في طرقة الجناح؛ لذا تمنَّيا لبعضهما ليلةً سعيدة أعلى الدَّرج، وشقَّت لوسي طريقها إلى غرفتها في آخر الطرقة. وأثناء خلع ملابسها، وجدَت أن أذنيها كانتا تنتظران سماع أي صوت من الغرفة المجاورة. ولكن لم يكن هناك أيُّ صوت؛ كما لاحظت، وهي تفتح الستائر، عدمَ وجود أي ضوء مرئي قادم من النافذة. ألم تَعُد إينيس؟

جلست لوسي هنيهة تفكِّر فيما إذا كان عليها فِعل شيء. فكَّرت أنه إذا كانت إينيس لم تَعُد، فبو بالتأكيد بحاجة إلى بعض المواساة. وإذا كانت إينيس قد عادت بالفعل، لكنها بقيت صامتة، فربما كانت هناك طريقة يمكنها من خلالها التعبير عن تعاطفها دون التطفل، عن طريق القيام بفعلٍ غير شخصي لطيف أو تقديم خدمة بسيطة؟

أطفأت لوسي النورَ وفتحت الستائر وجلست بجانب النافذة المفتوحة، وهي تنظر إلى المربعات ذات الإضاءة الزاهية المحيطة بالفناء الصغير — في هذا المجتمع، كان يُنظر إلى إغلاق الستائر على أنه أمرٌ غير معتاد — وتشاهد الأنشطة الفردية للطالبات اللائي أصبحن هادئات الآن. كانت إحداهن تمشِّط شعرها، وأخرى تخيط شيئًا، وأخرى تضع ضمادة على قدمها (كانت هذه حماقة؛ إذ إنها كانت تبحث عن مقص بدلًا من أن تكون جاهزة قبل أن تبدأ مثلما تفعل المدلِّكات الماهرات)، وأخرى ترتدي سترة، وأخرى تضرب عثَّة.

رأت لوسي انطفاء مصباحين. غدًا، سيرنُّ جرس الاستيقاظ الساعة الخامسة والنصف مرةً أخرى، ولكن الآن بعد انتهاء الاختبارات، لم تَعُد هناك حاجة لأن تظل الطالبات مستيقظات حتى وقت متأخر حتى اللحظات الأخيرة لمراجعة دفاترهن.

سمِعت لوسي خُطى أقدام في الطرقة، فوقفت، معتقدةً أن أحدًا قادم إلى غرفتها. فُتح باب غرفة إينيس بهدوء وأُغلق. وظل نور الغرفة منطفئًا، لكنها تمكَّنت من تمييز الحركات الحذِرة لشخص يستعد للنوم. ثم سمِعت صوت خُفَّين في الطرقة، أعقبه طرقٌ على باب إينيس. ولم يكن هناك رد.

قال الصوت: «إنه أنا: بو»؛ ففُتح الباب. وسمعت همهمة عند غلق الباب. ثم فاحت رائحة القهوة وسُمع رنين الخزف الصيني الخافت.

كان قرار بو بالتعامل مع الموقف بتناول الطعام صائبًا. فأيًّا كانت الصراعات الداخلية التي عانتها إينيس خلال الساعات الطويلة من الواحدة حتى الساعة العاشرة، فقد استنزفت بالتأكيد جميع مشاعرها وأصبحت مستعدة لالتهام كلِّ ما يُقدَّم لها من الطعام. استمرَّت الأصوات الخافتة حتى دقَّ الجرس الخاص بإطفاء الأنوار؛ حينها فُتح الباب وأُغلق مرة أخرى، وامتزج هدوء الغرفة المجاورة بالسكون العميق الذي يغشى لايز.

أوَت لوسي إلى فراشها، وشعرت بالإرهاق الشديد لدرجة أنها وجدت صعوبةً في سحبِ الأغطية عليها؛ كانت غاضبة من هنرييتا، وحزينة على إينيس، وتشعر بالقليل من الغبطة لأن لدى إينيس صديقةً مثل بو.

قرَّرت لوسي البقاءَ مستيقظة قليلًا والتفكير في طريقةٍ تعبِّر من خلالها عن تعاطفها الشديد تجاه إينيس المسكينة وعن استيائها العميق؛ إلا أنها استغرقت في النوم على الفور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤