الفصل السادس

تردَّد صدى صوت احتكاك الكراسي بالأرضية الخشبية عندما نهضت الطالبات من وضع الركوع، واستدرن انتظارًا لخروج هيئة التدريس بعد أن فرغن من أداء الصلاة الصباحية. حضرت لوسي، التي كانت عضوةً مؤقتة، هذه الصلاة الصباحية في الساعة التاسعة إلا ربعًا عوضًا عن تناولها وجبةَ الإفطار في الفراش، وهو سلوك غير معتاد لهيئة التدريس؛ وقد أمضت الدقائق القليلة الماضية في التفكير في أرجل الفتيات الراكعات أمامها، وفي التعجُّب من فردانية كل رِجل. في هذه الساعة من الصباح، كان الجميع يرتدي ملابسَ موحدة، وكان الجميع في وضعية الصلاة، رءوسهن منحنية في أيديهن المطيعة، ولكن لوسي لاحظت أنه من السهل التعرُّف على شخص من أرجله، كما هي الحال من خلال وجهه. كانت هناك مجموعة متنوعة من الأرجل: أرجل عنيدة، وأرجل تافهة، وأرجل أنيقة، وأرجل مملة، وأرجل مثيرة للريبة … بمجرد إلقاء نظرة خاطفة على رَبْلة الساق أو الكاحل، تمكَّنت بالفعل من معرفة إلى مَن تنتمي الرِّجل: ديكرز أم إينيس أم راوس أم بو، أم أي فتاة أخرى. هذه الأرجل الأنيقة في نهاية الصف هما رِجلا فطيرة المكسرات. ألم تعترض الراهبات على استماع ربيبتهن للصلاة الأنجليكانية؟ وهذه الأرجل التي تشبه العصا هما رِجلا كامبل، وهذه …

قالت هنرييتا بخشوع: «آمين.»

غمغمت طالبات لايز: «آمين»، ووقفن بينما كانت الكراسي تحتكُّ بالأرض. وخرجت لوسي مع هيئة التدريس.

قالت هنرييتا: «تعالي وانتظري حتى أفرغ من فرز بريد هذا الصباح، وبعد ذلك سأرافقك إلى صالة الألعاب الرياضية»، وشرعت في دخول غرفة الجلوس الخاصة بها؛ حيث وجدت بالفعل سكرتيرة وديعة تعمل بدوام جزئي، على استعداد لتلقي التعليمات. جلست لوسي على المقعد بجانب النافذة تقرأ صحيفة «التليجراف»، وتستمع في اهتمام جزئي إلى المحادثة الخاصة بالعمل التي أعقبت ذلك. كتبت إحدى السيدات لسؤالها عن تاريخ العرض؛ وأرادت سيدة أخرى معرفةَ ما إذا كان هناك فندق قريب يمكن أن تقيم فيه هي وزوجها عندما يأتيان لرؤية ابنتهما في العرض، ويجب العثور على فاتورة الجزار وتقديمها له؛ والمُحاضر الخاص بيوم الجمعة الأخيرة من الفصل الدراسي اعتذر عن عدم الحضور؛ ويطلب ثلاثةُ آباء لطالباتٍ محتملاتٍ معلوماتٍ عن الكلية.

قالت هنرييتا: «كل الخطابات بسيطة على ما أعتقد.»

قالت السكرتيرة الصغيرة الخجول: «نعم. سأتواصل معهم في الحال. كانت هناك رسالة من أرلينجهيرست. لا يبدو أنها هنا.»

قالت هنرييتا: «لا. يمكن الرد عليها في نهاية هذا الأسبوع.»

حدَّثت لوسي نفسها، قائلة أرلينجهيرست. أرلينجهيرست. إنها مدرسة الفتيات بالطبع. مدرسة مشابهة لإيتون ولكن للإناث. يقولون «كنت أدرس في أرلينجهيرست»، وهذا من شأنه أن يحسم الأمر. لقد صرف الاسم انتباهها مدة قصيرة عن المقال الرئيسي بصحيفة «التليجراف»، وفكَّرت في أنه إذا كانت هنرييتا تقصد أرلينجهيرست بالفرصة العظيمة التي تنتظرها، فإن مثل هذه الأخبار من شأنها أن تولِّد مستوًى استثنائيًّا من الإثارة والاهتمام بين طالبات السنة النهائية المهتمات بالأمر. وكانت على وشْك التساؤل عما إذا كانت أرلينجهيرست هي في الواقع الفرصة العظيمة، ولكنها توقَّفت بسبب، من بين أسباب أخرى، وجود السكرتيرة الصغيرة الوديعة، ولكن السبب الأهم هو التعبير على وجه هنرييتا. هنرييتا — لم يكن هناك مَن ينكر ذلك — ظهر على وجهها تعبيرٌ بالحذرِ وشبه شعور بالذنب. نظرة شخص يخطط لشيءٍ ما.

أوه، حسنًا، فكَّرت لوسي، إذا كانت هنرييتا ببساطة تحاول التكتُّم على سرِّها الرائع، فلأدعها تفعل ذلك. لن أفسد عليها الأمر. وسارت خلف صديقتها في الممر الطويل الممتد على طول الجناح، وخرجت إلى الممشى المُغطى الذي يمتد من الممر إلى صالة الألعاب الرياضية. كانت صالة الألعاب الرياضية تقع بموازاة المبنى الرئيس والجناح الأيمن، بحيث تُكَوِّن المباني شكل حرف E كاملًا عند النظر إليها من الأعلى؛ تمثِّل الخطوط الأفقية الثلاثة «المبنى القديم» والجناح الأيمن وصالة الألعاب الرياضية، وتُمثِّل الخطوط العمودية الجناح المتصل والممشى المُغطى.

كان الباب الذي يؤدي إليه الطريق المغطى مفتوحًا، ومن داخل صالة الألعاب الرياضية، يمكن سماع أصوات الفتيات وهن يقُمن بنشاطات مختلفة؛ ملأت الأصوات، والضحكات، وضربات الأقدام الأجواء. وتوقَّفت هنرييتا عند الباب المفتوح وأشارت نحو الباب المغلق حينئذٍ على الجانب الآخر. قالت: «هذه هي جريمة الكلية. عبور صالة الألعاب الرياضية إلى مسار الحقل بدلًا من استخدام الممشى المُغطى المخصَّص لذلك حول المبنى؛ لهذا السبب اضطُررنا إلى إغلاقه. لن يظن أحدٌ أن بضع خطوات إضافية قد تهم الطالبات اللاتي يبذلن مجهودًا كبيرًا على مدار اليوم، ولكن لم يكن هناك سببٌ أو خطر يمنعهن من استخدام الطريق المختصر. لذا أزلنا الإغراء تمامًا.»

ابتعدت هنرييتا عن الباب المفتوح ووجَّهت لوسي إلى الجانب الآخر من المبنى؛ حيث توجد منطقة مغطاة صغيرة بها دَرَج يؤدي إلى المعرض. وبينما كانتا تصعدان الدَّرج، توقَّفت هنرييتا وأشارت إلى أداة غريبة على عربة صغيرة موضوعة في بئر السُّلم. وقالت: «هذه هي أكثر الشخصيات شهرةً في الكلية. إنها المكنسة الكهربائية الخاصة بنا، والمعروفة على طول الطريق من هنا إلى نيوزيلندا باسم «البغيضة»».

سألت لوسي: «لماذا هذا الاسم؟»

«كانت تُعرف في البداية باسم بغضاء الطبيعة، وتحوَّلت في النهاية إلى البغيضة. أتذكرين هذا القول المأثور في المدرسة: «الطبيعة تُبغِض المساحات الفارغة». وحدقت في الشيء الهائل لحظة، وتأمَّلته بحنان بعينيها. وأردفت: «هذه البغيضة كلَّفتنا مبلغًا ضخمًا، لكنه أُنفق في محله. فأيًّا كانت جودة تنظيف صالة الألعاب الرياضية سابقًا، فهناك دائمًا طبقة باقية من الغبار تتطاير في الهواء من أقدام الطالبات، وبطبيعة الحال، تُستنشق، ومن ثَم تسبِّب التهابًا في القنوات التنفسية. على الرغم من أنها لم تكن مشكلة تؤثِّر على كل الطالبات بالطبع، فإنها كانت تحدث باستمرار على مدار العام، سواء كان ذلك في الصيف أو الشتاء؛ حيث تعاني طالبة واحدة على الأقل نوبةً من نوبات التهاب القنوات التنفسية. كانت مَن سبقت الدكتورة نايت هي مَن اقترحت فكرة أن الغبار غير المرئي قد يكون السبب في ذلك، واتضح أنها كانت على صواب. فمنذ أن أنفقنا هذا المبلغ الهائل على البغيضة لم يحدث أيُّ نزلات زكام أخرى. وأضافت بسعادة: «بطبيعة الحال، اتضح أنه إجراء موفِّر للتكلفة في النهاية؛ لأن جيدي البستاني هو المسئول الآن عن كنس صالة الألعاب الرياضية، ولم يعُد يتعيَّن علينا دفع المال لعمال النظافة المحترفين.»

توقَّفت لوسي عندما وصلتا إلى أعلى الدَّرج، ونظرت من فوق الدرابزين إلى بئر السُّلم مرة أخرى. وقالت: «لا أعتقد أنها تروق لي. يبدو لي أنها اسمٌ على مسمًّى. يوجد شيء كريه بها.»

قالت هنرييتا: «إنها قوية جدًّا. وهي سهلة الاستخدام. يقضي جيدي نحو عشرين دقيقة فقط كل صباح في التنظيف، وبمجرد الانتهاء من ذلك، لا يتبقى شيء لإزالته، باستثناء الإنشاءات والمعدَّات، على حد قوله. إنه فخور جدًّا بالبغيضة. وهو يعتني بها كما لو كانت حيوانه الأليف.» فتحت هنرييتا الباب في أعلى الدَّرج ودخلتا المعرض.

لا يرتكز مبنى صالة الألعاب الرياضية على الجماليات المعمارية. فتصميمه عمليٌّ تمامًا. إنه يشبه صندوقًا مستطيلًا، مضاءً بنوافذَ في السقف أو أعلى الجدران. إن صالة الألعاب الرياضية في لايز بها نوافذُ عند ملتقى الجدران بالسقف، وهو ما لم يكن منظرًا مناسبًا من الناحية الجمالية؛ ولكن، الألواح الزجاجية البعيدة تضمن عدم دخول ضوء الشمس المباشر في أي ساعة من أي يوم، الأمر الذي قد يؤثِّر على رؤية الطالبات، ومن ثمَّ وقوع الحوادث. امتلأ المبنى الذي يأخذ شكل مستطيل كبير بإشعاع منعكس لصباح صيفي؛ ذهبي وناعم. وانتشرت طالبات السنة النهائية في جميع أنحاء الصالة؛ إذ شاركن في أنشطةٍ مختلفة؛ مثل الإحماء، والتدريب، والانتقاد، وفي بعض الحالات المبهجة، الانغماس في أفعال مرِحة.

سألت لوسي بينما كانتا تجلسان: «هل تمانع الفتيات في وجود متفرجين؟»

«لقد اعتَدْن على ذلك. فلا يكاد يمر يوم من دون أن يأتي زائر لأي سبب.»

«ماذا يوجد أسفل المعرض؟ ما الذي تنظرن إليه طوال الوقت؟»

أجابت هنرييتا بإيجاز: «أنفسهن. الجدار بأكمله أسفل المعرض عبارة عن مرآة واحدة طويلة.»

أُعجبت لوسي بتعبيرات الفتيات الموضوعية أثناء متابعتهن لأدائهن في المرآة. إن امتلاك القدرة على تقييم أداء جسدك بموضوعية هو شيء جيد بالتأكيد.

قالت جيدج التي تشبه الدمية الخشبية وهي تتفحص ذراعيها الممتدتين لأعلى: «من أكثر الأشياء التي تزعجني في حياتي هو هذا الانحناء في ذراعيَّ عند المرفقين.»

قالت ستيوارت، وهي تواصل تمارين ليِّ جسدها دون توقُّف: «لو اتبعتِ نصيحةَ صديقنا الذي جاء يوم الجمعة واستخدمت قوة إرادتك، لكانت ذراعاك مستقيمتين الآن.»

قالت بو ناش ساخرة، وجسدها محنيٌّ إلى الأمام على قضبان الجدار: «من المحتمل أن ينحنيا في الاتجاه الآخر.»

خلصت لوسي إلى أن هذا الصديق هو المُحاضر الضيف الذي حضر أمسيات يوم الجمعة، وتساءلت بفتور عما إذا كان قد ناقش موضوعاتٍ مثل «الإيمان» أو «العقل فوق المسألة»، وهل تحدَّث عن لورد أم عن إيميل كوي؟

حملت هاسيلت، الجنوب أفريقية ذات الوجه البدائي البسيط، كاحلَي إينيس في الهواء، بينما وقفت إينيس على يديها. قالت هاسيلت: «اعتمدي على ذراعيك يا آنسة إينيس»، محاولة الكلام بلهجة سويدية تبدو بوضوح وكأنها اقتباس من فروكن؛ وضحكت إينيس وسقطت على الأرض. فبملاحظتهما وهما مبتهجتان ومبتسمتان (اعتقدت لوسي أن هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها ماري إينيس تبتسم)، شعرت لوسي مرةً أخرى كيف أن هذين الوجهين ليسا في المكان المناسب لهما. بدا وجه هاسيلت مناسبًا لرداءٍ أزرق، مع وجود رسم صغير للتلال والقلاع والطرق في مكانٍ ما بجانب أذنها اليسرى. وبدا وجه إينيس كما لو كان ينتمي إلى صورة معلَّقة على دَرَج من العهد القديم، ربما من القرن السابع عشر! لا، إنه وجهٌ مرح للغاية، ومرن للغاية، مع حاجبَين مقوَّسين تمامًا. من القرن السادس عشر، بالأحرى. بدت منعزلة وعنيدة ولا ترحم؛ ولا تقبل الحلول الوسطى.

كانت راوس تجلس في ركنٍ بعيد بمفردها، تبذل جهدًا كبيرًا في مد أوتار ركبتها عن طريق تحريك راحتيها نحو قدميها. بدا من غير المحتمل أنها لا تزال بحاجة إلى شد أوتار الركبة، خاصة بعد سنوات من ممارسة تمارين الاستطالة باستمرار؛ لذلك ربما كانت مجرد عادة محلية في الشمال لضمان الاستفاضة واليقين. كانت الآنسة راوس جادة ومتفانية، ولم تخصِّص وقتًا للأمور التافهة؛ فالحياة عندها جادة وذات مغزًى؛ كان الأمر يتعلَّق بالعمل الجاد على أوتار الركبة وتأمين وظيفة واعدة في المستقبل. تمنَّت لوسي لو أنها أحببت الآنسة راوس أكثر، وتفحَّصت المكان بحثًا عن ديكرز ترياقًا لها. لكن لم تكن هناك فتاة بشعر أشقرَ فاتح ووجه مبتهج يشبه وجه المُهر وسط المجموعة.

وبعد ذلك، فجأةً تلاشى الضجيج المتقطع والثرثرة تدريجيًّا.

لم يدخل أحدٌ من الباب المفتوح في آخر الصالة، لكن لا يمكن إنكار أنه يمكن الشعور بدخول أحد إلى المكان. إذ شعرت لوسي بدخول أحد من أسفل أرضية الشرفة تحت قدميها. وتذكَّرت أن هناك بابًا في أسفل الدَّرج، حيث توجد البغيضة. وقد دخل شخصٌ ما من هذا الباب.

لم ينطِق أحدٌ بشيء مسموع، لكن الطالبات اللاتي كن قبل لحظة مبعثراتٍ على الأرض مثل خرزٍ من عِقْد منقطع، أصبحن الآن، كما لو كان سحرًا، يقفن في طابور في سكون منتظرات.

خرجت فروكن جوستافسِن من أسفل الشرفة وألقت نظرةً شاملة على الفتيات.

سألت بصوتٍ هادئ وبارد: «أين الآنسة ديكرز؟» وبمجرد أن قالت ذلك، اندفعت ديكرز مرتبكةً عبْر الباب المفتوح وتوقَّفت فجأة عندما رأت المشهد الذي ينتظرها.

صرخت: «أوه، مصيبة!» وأخذت على عَجَل مكانها في الفجوة التي تركتها لها إحدى الزميلات. وأردفت: «أوه، أنا آسفة يا فروكن. آسفة جدًّا. كلُّ ما هنالك أن …»

سألت فروكن باهتمام يشبه اهتمام العلماء: «هل تنوين التأخُّر على العرض؟»

«أوه، لا، بالطبع لا يا فروكن. كلُّ ما هنالك هو أن …»

«نعلم ذلك. نعلم ذلك. لقد ضاع منك شيء أو كُسر. إذا كان من الممكن القدوم إلى هذا المكان عارية، فستظل الآنسة ديكرز تجد شيئًا تضيِّعه أو تكسره. انتباه!»

وقفت الفتيات متيقظات، بلا حَراك باستثناء تنفسهن السريع.

قالت فروكن: «أعتقد أنه إذا شدَّت الآنسة توماس بطنها، فسيتحسن الصف.»

امتثلت توماس على الفور.

«والآنسة أَبِليارد تُظهِر ذقنها أكثرَ من اللازم.»

أدخلت الفتاة الممتلئة ذات الخدين الأحمرين ذقنها في رقبتها. «جيد جدًّا!»

انعطفت الفتيات إلى اليمين، واصطففن في صف واحد، وسرن بصمتٍ في صالة الألعاب الرياضية؛ كانت خطواتهن خفيفة للغاية على الأرضية الخشبية الصلبة لدرجةِ أنهن كن بالكاد مسموعات.

«أهدأ، أهدأ. أخف، أخف!»

هل هذا ممكن؟

لكن على ما يبدو، كان ذلك ممكنًا. ضربت تلك الأقدام المدرَّبة مدةً طويلة الأرضَ بهدوءٍ أكثر، حتى إنه كان من الصعب تصديقُ أن مجموعة من الشابات القويات، تزن كلٌّ منهن ما يصل إلى ٦٣٫٥ كيلوجرامًا، يسِرن بصمت في أرجاء القاعة.

ألقت لوسي نظرةً خاطفة على هنرييتا، ثم أشاحت ببصرها عنها على الفور. كان مزيج الحب والفخر الذي ظهر على وجه هنرييتا الضخم الشاحب مؤثرًا للغاية، لدرجةِ أنه يكاد يكون مزعجًا للناظرين؛ وللحظة، تحوَّل انتباه لوسي بعيدًا عن الطالبات بالأسفل، وبدأت تفكر في هنرييتا. هنرييتا ذات الجسم الذي يفتقر إلى المنحنيات، وطبيعتها الدءوبة والمسئولة. هنرييتا التي كان لديها أبوان مسنان وليس لديها أخوات، ولديها مَيل طبيعي نحو الأمومة. لم يسبق لأحد أن ظل مستيقظًا في الليل يفكر في هنرييتا، أو كان يسير ذهابًا وإيابًا خارج منزلها في الظلام، أو ربما أرسل إليها الزهور. (جعل هذا لوسي تتذكر آلان وتتساءل أين هو الآن؛ كانت هناك أسابيع قليلة في الماضي خلال فصل الربيع، عندما كانت لوسي تفكر بجدية في قبول آلان حبيبًا، على الرغم من تفاحة آدم البارزة. لقد اعتقدت أنه سيكون من الجيد أن يعتنيَ رجل بها على سبيل التغيير. ومع ذلك، فإن ما جعلها تغيِّر رأيها هو إدراك أن هذا الاهتمام حريٌّ به أن يكون متبادلًا. كان يعني أنها ستُضطر في النهاية، على سبيل المثال، إلى إصلاح جواربه. وفكرة التعامل مع القدمين لم ترُق لها. حتى وإن كانتا قدمَي آلان). بدا أن هنرييتا مقدَّر لها أن تعيش حياة رتيبة، لكنها ذات أهمية كبيرة. ومع ذلك، لم تسِر الأمور على هذا النحو. فإذا كان على المرء أن يحكم من خلال تعبيرات وجهها التي تخفي مشاعرها، فيبدو أن هنرييتا قد أوجدت حياةً ثرية ومُرضية ومجزية. خلال محادثتها مع لوسي عند أول لقاء جمع بينهما، قالت هنرييتا للوسي إنه قبل ١٠ سنوات، عندما تولَّت إدارة كلية لايز، كانت مؤسسة متواضعة وغير معروفة نسبيًّا، ومع ذلك، فقد شهدت هي والكلية نموًّا ونجاحًا كبيرًا منذ ذلك الحين؛ أعلنت هنرييتا بفخر أنها لم تكن فقط مديرة الكلية، بل كانت أيضًا شريكةً في ازدهارها. فقد ازدهرت هي ولايز معًا، وأصبحت هنرييتا جزءًا لا يتجزأ من إنجازات الكلية. لكن لوسي لم تدرك عمقَ ارتباط صديقتها القديمة بعملها قبل تلك اللحظة التي شاهدت فيها هذه التعبيرات على وجه هنرييتا. لقد تمحور عالم هنرييتا حول الكلية، وكانت لوسي تدرك ذلك جيدًا؛ نادرًا ما تحدَّثت هنرييتا عن أي شيء آخر. ومع ذلك، فإن الانغماس العميق في عمل الفرد شيء، والعاطفة الشديدة التي تنعكس على وجه هنرييتا شيء آخر.

قطع حبل أفكارها صوتُ المعدَّات وهي تُسحب للخارج. كانت الطالبات قد توقفن عن ثَنْي أجسادهن كالأقواس على الهياكل؛ إذ كن يشبهن التماثيل في مقدمة السفينة، وكن حينئذٍ يُخرجن الرافعات. فشعرت لوسي بألمٍ في قصبة ساقها؛ إذ تذكَّرت بوضوح المرات التي لا تُعد ولا تُحصى التي اصطدمت فيها عظامها بجسم خشبي صلب؛ لا شك أن إحدى مزايا بلوغ منتصف العمر أنها لن تُضطر إلى أداء أنشطة غير مريحة.

في منتصف القاعة، وُضع العمود الخشبي منتصبًا، وأُدخلت العارضتان الطويلتان في الأخاديد الموجودة على جانبي العمود، ورُفعتا عاليًا بحيث تصلان إلى أبعدِ ما يمكن أن تصل إليه أيدي الطالبات. لتثبيت العارضتين في مكانهما، أُدخلت مساميرُ حديدية بمقابضَ خشبية في فتحات على العمود، وهذا من شأنه أن يخلق هيكلًا يبدو مهيبًا تمامًا، مثل أداة التعذيب. لم يكن هذا وقت الاصطدام المؤلم مع قصبة الساق؛ سيحدث ذلك لاحقًا. في الوقت الحالي، سيؤدين تمرينًا مختلفًا يُعرف باسم «السفر». في هذا التمرين تتناوب الطالبات في أزواج، مع وجود طالبة واحدة في نهاية كل عمود، ويمسكن العمودَ بأيديهن، يشبهن في ذلك تأرجحَ القرود من الفروع. تتحرَّك الفتيات أولًا حركةً جانبية على طول العمود، ثم يتَّجهن للخلف، وأخيرًا يقمن بحركة دوَّارة، مثل الخُذْرُوف. استمرَّت الحركات بسلاسة حتى حان دورُ الآنسة راوس لأداء حركة الدوران. كانت راوس قد ثنَت ركبتَيها للقفز على العمود، ثم أنزلت يديها ونظرت إلى مدرِّبتها في ذعرٍ يعتري القلقُ وجهَها المنمَّش.

قالت: «أوه، فروكن، لن أتمكن من فعل ذلك.»

قالت فروكن، مشجِّعة، ولكن دون أن تبدو متفاجئة (من الواضح أن هذا الموقف قد حدَث من قبل): «هذا هراء يا آنسة راوس، لقد أديتِها بإتقان في السنوات الأولى. وبالطبع يمكنك أداؤها الآن.»

في صمتٍ يشوبه التوتُّر، قفزت راوس على العارضة وبدأت تتحرَّك على طولها. بمهارةٍ ملحوظة، نفَّذت الحركات على العارضة حتى وصلت إلى منتصفها، ثم، لسببٍ غير واضح، انزلقت يدها من العارضة وهي تستدير، مما تسبَّب في تأرجح جسدها بعيدًا، ممسكة بيدها الأخرى فقط. حاولت استعادة توازنها من خلال سَحب نفسها بيدها الداعمة، لكن الاضطراب أعاق إيقاعها، وانتهى بها الأمر بالهبوط على قدميها.

قالت: «كنت أعرف أن ذلك سيحدث. سوف أصبح مثل كينيون يا فروكن. تمامًا مثل كينيون.»

«آنسة راوس؛ لن تصبحي مثل أي شخص آخر. إنها مسألةُ مهارة، كما ترين. لقد فقدتِ ببساطة مهارتك للحظة، هذا كل شيء. فلتحاولي مرة أخرى.»

قفزت راوس مرةً أخرى إلى العارضة التي فوق رأسها.

قالت السويدية بحزم: «لا!» فنزلت راوس على الأرض وعلى وجهها تعبيرٌ استفهامي.

«لا تقولي: أوه، لا يمكنني فِعل ذلك. لكن قولي: أفعل هذا كثيرًا وبسهولة، والآن أيضًا يمكنني فعل ذلك. ابدئي!»

حاولت راوس مرتين أُخرَيَين، لكنها فشلت.

«حسنًا يا آنسة راوس. هذا يكفي الآن. سيُثَبَّت نصف ذراع العارضة في وقت متأخر من الليل، كما هو الآن، وستأتي مبكرًا في الصباح من أجل التدريب حتى تستعيدي مهارتك.»

قالت لوسي: «مسكينة راوس»، بينما كانت الدعامات تنقلب من أجل تمارين التوازن، مع توجيه الجانب المسطَّح لأعلى بدلًا من الجانب الدائري.

قالت هنرييتا: «صحيح، إنه أمر مؤسف. إنها واحدة من أكثر الطالبات نبوغًا هنا.»

سألت لوسي في تعجُّب: «نبوغ؟» لم تكن لتنسب هذه الصفة لراوس.

«في العمل البدني، على الأقل. موهوبة للغاية. ولكنها تجد صعوبةً في المهام الكتابية، لكنها تعوِّضها بالاجتهاد. إنها طالبة مثالية وإضافة عظيمة للايز. إنه لأمر مؤسف بشأن هذه المشكلة العصبية البسيطة. بسبب القلق المفرط بالطبع. يحدث هذا في بعض الأحيان. والمثير للدهشة أنه غالبًا ما يكون مرتبطًا بسبب بسيط إلى حدٍّ ما.»

«وماذا كانت تقصد بقولها: «سأصبح مثل كينيون»؟ هذه هي الفتاة التي أخذت تيريزا ديستيرو مكانها، أليس كذلك؟»

«نعم. كم أنتِ ذكية لتذكرك ذلك. فهذا مثال مناسب. فقد أصبح عند كينيون فجأةً اعتقاد بأنها لا تستطيع الحفاظ على توازنها. كانت تتمتع دائمًا بتوازن جيد جدًّا؛ لذلك لم يكن ثمة تفسير منطقي لفشلها المفاجئ. لكنها بدأت تصبح غير مستقرة، وتتوقَّف فجأةً في منتصف الطريق خلال التمرين، ووصلت في النهاية إلى نقطةٍ لم تستطِع حتى الوقوف فيها من وضعية الجلوس على ذراع العارضة. جلست هناك، ممسكةً بالعارضة بإحكام، مثل الطفلة الخائفة. وظلت تبكي.»

«إنه قصور داخلي.»

«بالتأكيد. لم يكن التوازن هو ما كانت تخاف منه. لكن كان علينا أن نعيدها إلى منزلها. نأمُل أن تعود لإنهاء تدريبها بعد راحةٍ طويلة. لقد كانت سعيدة جدًّا هنا.»

دار في خَلَد لوسي، هل كانت سعيدة حقًّا؟ كانت سعيدة لدرجة أنها انهارت. ما الذي جعل الفتاة، التي كانت ذات يوم ماهرة في التوازن، تبكي وترتجف وهي تتشبث تشبثًا شديدًا بالعارضة؟

أخذت لوسي تشاهد باهتمام جديد المحاولات الجارية لتحقيق التوازن الذي كان عقبةً صعبة لم تتمكن كينيون المسكينة من تخطيها. أدَّت الطالبات تمرين الشقلبة في أزواج، صعودًا إلى العارضة العالية، بمجرد وصولهن إلى العارضة، استدرن بأجسادهن للاضطجاع على جُنُوبهن، ثم نهضن بحذر من أجل الوقوف على الحافة الضيقة. رفعن ساقًا واحدة ببطء، وتموَّجت العضلات في الضوء، بينما نفَّذت الذراعان حركتهما المحدَّدة. بدت على وجوه الفتيات تعبيراتٌ هادئة وثابتة العزم. وطاوعتهن أجسامهن بثقة وأُلفة. عند الانتهاء من التمرين، أنزلت الفتيات أنفسهن في وضع الجلوس على أعقابهن، وحافظن على وضع مستقيم ومريح، مع مد الأيدي للإمساك بذراع العارضة التي لا يرونها، وعُدن إلى وضع الجلوس الجانبي قبل أداء شقلبة أمامية، والعودة إلى الأرض.

لم تخطئ أيٌّ منهن أو تخفق. ظلت الأوضاع على أفضل حال. حتى فروكن لم تجد ما تعلِّق عليه. أدركت لوسي أنها كانت تحبس أنفاسها. وانحنت إلى الوراء، واسترخت، وأخذت نفسًا عميقًا.

قالت: «كان هذا رائعًا. في المدرسة، كان مستوى تمارين التوازن أقلَّ صعوبة، مما جعلها أقل إثارة.»

بدت هنرييتا سعيدة. وقالت: «أحيانًا آتي إلى هنا لمجرد مشاهدة تمارين التوازن لا غير. ينجذب الكثير من الناس إلى التمارين الأكثر إثارة. تمارين مثل القفز وما إلى ذلك. لكن أنا شخصيًّا أجد أن التحكم الهادئ والدقيق، الذي ينطوي عليه تحقيق التوازن، رائع للغاية.»

عندما بدأت الفتيات في تمارين القفز، ثبت أنها مذهلة للغاية. بالنسبة إلى لوسي، بدت العقبات مروعة؛ وتابعت، بتعجب مَن لا يفهم، ما يُحدث تعبيرات الطالبات المبتهجات. كن مستمتعات. كن يدفعن أنفسهن إلى الفراغ، محلقات في الهواء نحو أماكن غير معلومة، ويؤدين حركات الشقلبة. بدا أن الشعور السابق بضبط النفس الذي حدَّد سلوكهن اختفى تمامًا؛ وحل محله وفرةٌ من الطاقة والحيوية واضحة في كل حركاتهن، مصحوبة بإحساس مُعدٍ بالبهجة؛ كان الأمر كما لو أنهن اكتشفن البهجة المطلقة لكونهن على قيد الحياة، ووجدت هذه الوفرة مظاهرها الجسدية في أفعالهن. وفي حالة من الذهول، لاحظت راوس، التي عانت سابقًا وتعثَّرت خلال تمرين العارضة البسيط، وهي الآن تنفِّذ حركات مذهلة بدقة لا تشوبها شائبة، تطلَّبت هذه العروض المذهلة شجاعةً هائلة وتحكمًا استثنائيًّا وموهبة طبيعية رائعة. (كانت براعة راوس الجسدية رائعة بلا شك، كما أشارت هنرييتا. فقد امتلكت مهاراتٍ استثنائية في مختلف الرياضات، وأظهرت دقة فائقة في التوقيت والتنسيق. ومع ذلك، لم تستطِع لوسي إلا أن تشعر بعدم الارتياح تجاه مصطلح «نابغة». فبالنسبة لها، «المذهل» يشمل أكثرَ من مجرد القدرات الجسدية؛ إنه ينطوي على مزيج متناغم من التميز في الجسد والعقل والروح، مثل بو، التي جسَّدت العظمة الشاملة.)

«آنسة ديكرز! حرِّري يدك اليسرى حالًا. هل تتسلقين جبلًا؟»

«لم أقصد تركها كلَّ هذه المدة يا فروكن. حقًّا لم أقصد.»

«أنا أفهم ذلك. لكن هذا ليس عذرًا. حاولي مرةً أخرى بعد الآنسة ماثيوز.»

أقدمت ديكرز على محاولة أخرى، وهذه المرة نجحت في جعل يدها العنيدة تحرِّر قبضتها في الوقت المناسب.

قالت: «لقد أحسنت!» وهي سعيدة بنجاحها.

قالت فروكن: «بالتأكيد أحسنت»، وهي تبتسم. وأردفت: «التنسيق. أهم ما في الأمر هو التنسيق.»

قالت لوسي لهنرييتا، بينما كانت الطالبات يرتبن المعدَّات التي يستخدمنها في تدريبهن: «إنهن يُحبِبن فروكن، أليس كذلك؟».

أجابت هنرييتا، بنبرةٍ تشبه إلى حدٍّ ما نبرتَها حينما كانت رئيسة للطالبات: «الطالبات يُحبِبن جميعَ هيئة التدريس.» وأردفت: «ليس مستحسنًا أن يكون لديكِ عضوة غير محبوبة بهيئة التدريس، مهما بلغت مهارتها. ومن ناحية أخرى، يجدُر بالطالبات احترام هيئة التدريس.» وابتسمت ابتسامةً أقرب إلى ابتسامة كبار رجال الدين عندما يُلقون نكتة؛ فهنرييتا لا تلقي النكات بسهولة. وتابعت: «إن فروكن والآنسة لوكس والسيدة لوفِيفْر جميعهن يُثِرن رهبة صحية بطرقهن المختلفة.»

قالت لوسي: «السيدة لوفيفر؟ لو كنت طالبة، لا أعتقد أنني سأشعر بالرهبة؛ سأكون مرعوبة.»

أوضحت هنرييتا: «أوه، ماري تصبح إنسانية تمامًا بمجرد التعرُّف عليها. إنها تستمتع بكونها إحدى الشخصيات الأسطورية في الكلية.»

ماري والبغيضة، فكَّرت لوسي؛ الشخصيتان الأسطوريتان في الكلية. كلتاهما تمتلكان صفاتٍ متشابهة: كلتاهما مرعبتان وآسرتان.

وقفت الطالبات في صف، يأخذن أنفاسهن عميقةً وهن يرفعن ويخفضن أذرعهن. انتهت ٥٠ دقيقة من النشاط المركَّز، ووقفن هناك: متوهجات، ومنتصرات، وراضيات.

وقفت هنرييتا مشيرةً إلى أنها تنوي المغادرة، وعندما استدارت لوسي لتتبعها، لاحظت أن والدة فروكن كانت جالسة خلفهما في المعرض. كانت امرأة صغيرة الحجم ممتلئة الجسم، وشعرها مصفَّف على هيئة كعكة خلف رأسها، وقد ذكَّرت لوسي بامرأة نوح، كما صوَّرها صانعو لعبة «آرك» (سفينة نوح). حَنَت لوسي رأسها وابتسمت الابتسامة المُبالغ فيها التي يظهرها المرء للغرباء من أجل كسر حاجز الصمت، وبعد ذلك، أدركت أنه على الرغم من أن هذه المرأة الصغيرة لا تتحدَّث الإنجليزية، فإنها قد تفهم اللغة الألمانية، وجرَّبت إحدى العبارات، وتهلل وجه المرأة الضئيلة الحجم.

قالت المرأة: «إن الحديث معك يا آنسة شيء ممتع حتى إنني سأتحدث الألمانية كي تتسنى لي محاورتك. تقول لي ابنتي إنك شخصية مميزة جدًّا.»

قالت لوسي إنها حقَّقت بعض النجاح، وهو أمرٌ يختلف عن التميز للأسف؛ وأعربت عن إعجابها بما شاهدته لتوها. هنرييتا، التي درست الكلاسيكيات بدلًا من اللغات الحديثة في المدرسة، نأت بنفسها عن تبادل المجاملات هذا، وسبقتهما إلى أسفل الدَّرج. عندما خرجت لوسي والسيدة جوستافسِن إلى ضوء الشمس، كانت الطالبات يخرجن من الباب في الجهة المقابلة، كن يركضن أو يتسكعن عبر الممر المغطَّى باتجاه المبنى. وكانت راوس آخر مَن خرج، ولم تستطِع لوسي إلا أن تشتبه في أن توقيت خروجها كان مقصودًا، ليتزامن مع مرور هنرييتا. لم يكن هناك سبب يجعلها تتخلف بضع خطوات عن الآخرين بهذه الطريقة؛ فهي بالتأكيد لاحظت أن هنرييتا كانت تقترب منها. لو كانت لوسي مكان راوس، لكانت أسرعت بعيدًا، لكن راوس كان مُتباطئة. فزاد عدم إعجاب لوسي بالآنسة راوس أكثر من المعتاد.

لحِقت هنرييتا بالفتاة وتوقَّفت للحديث معها؛ وعندما مرَّت لوسي والسيدة جوستافسِن بهما، لاحظت لوسي التعبير الذي بدا على وجه الآنسة راوس المتوتر والمنمَّش، وقد نظرت لأعلى لتستمع إلى نصائح مديرة الكلية، وتذكَّرت المصطلح الذي كانوا يستخدمونه لوصف مثل هذا السلوك في المدرسة. التملُّق. وشعرت لوسي بشيء من الابتذال حيال مشاهدة راوس تفعل ذلك بطريقة صريحة ومبالغ فيها.

قالت بحزن: «لطالما أحببت النمش أيضًا.»

«عفوًا ماذا؟»

ولكن هذا لم يكن موضوعًا يمكن التحدُّث فيه بإطناب باللغة الألمانية. دلالة النمش. يمكنها تخيُّل ذلك: مجلد ضخم مليء بالمصطلحات المعقدة والجادة. لا، الأمر يتطلب استخدام اللغة الفرنسية. كتاب صغير مليء بالسخرية الودودة. وبعض العبارات الموجزة البارعة التي تحمل معانيَ مؤثرة.

سألت لوسي: «هل هذه زيارتك الأولى لإنجلترا؟» وبدلًا من الانضمام إلى الأخريات داخل المبنى، تسكَّعن عبر الحديقة باتجاه واجهة المبنى.

نعم، كانت هذه هي الزيارة الأولى للسيدة جوستافسِن إلى إنجلترا، وقد أدهشها أن الأمة التي زرعت حدائق مثل هذه لا بد أنها هي نفسها التي بنَت هذه المباني الموجودة فيها. قالت «لا أقصد هذا المبنى بالطبع؛ فهذا المبنى القديم رائع للغاية. وهو ينتمي إلى حقبة جيدة، أليس كذلك؟ لكن ما يراه المرء من القطار وسيارة الأجرة؛ يبدو الأمر مروعًا بعد أن كنت في السويد. من فضلك لا تعتقدي أنني انتقادية. إنها …»

«انتقادية؟»

«نعم. ساذجة، وجاهلة، ومقتنعة بأنه لا يمكن لأحد أن يفعل أي شيء مثل ما تستطيع دولتي فعله. لقد اعتدت فقط المنازلَ الحديثة التي يروق لي النظر إليها.»

قالت لوسي إنه يمكنهما أيضًا الحديث عن المطبخ الإنجليزي بهذه المناسبة.

قالت المرأة الضئيلة الجسم في تعجُّب: «أوه، لا. الأمر ليس كذلك. قد أخبرتني ابنتي. ففي الكلية هن يتَّبعن حِميةً غذائية» — اعتقدت لوسي أن «يتَّبعن حمية غذائية» هي عبارة مهذَّبة من شخص لبِق — «ولهذا فالطعام في الكلية لا يمثل المطبخ الإنجليزي. تقول ابنتي إن الأكل في الفنادق لا يمثل المطبخ الإنجليزي هو الآخر. لكنها أقامت في منازل خاصة وقت الإجازات، وتقول إن الأطباق الإنجليزية شهية. لم تحب كل الأطباق. ففي النهاية، لا يحب جميع الناس الرِّنجة النيئة التي نتناولها في بلدنا. ولكن اللحم المشوي في الفرن، وفطيرة التفاح بالكريمة، ولحم الخنزير البارد الوردي الطَّري جميعها أطباق شهية. شهية جدًّا.»

بينما كانت لوسي تتجوَّل في الحديقة المشمسة، بدأت تسهب في الحديث عن أنواع مختلفة من الأطعمة؛ مثل سمك الرنجة المقلي مع دقيق الشوفان، وفطيرة الشعير والزنجبيل والعسل الأسود، وكعك ديفونشاير الحلو، وحساء اللحم والخضراوات، وشرائح اللحم، والعديد من الأطباق المحلية الأخرى. ولكنها لم تذكر فطيرة لحم الخنزير، التي اعتقدت في داخلها أن أكلَه يُعد وحشية.

وعندما انعطفتا عند زاوية المبنى واقتربتا من الباب الأمامي، مرَّتا بنوافذ غرفة المحاضرات حيث تجلس طالبات السنة النهائية منشغلاتٍ بالاستماع إلى محاضرة الآنسة لوكس. كانت النوافذ مفتوحة بالكامل من الأسفل لتظهر الغرفة بأكملها بكل تفاصيلها، وألقت لوسي نظرةً فاترة على وجوه الطالبات أثناء جلوسهن في الداخل.

صرفت بصرها عنهن، ثم أدركت أن هذه لم تكن نفس الوجوه التي رأتها قبل ١٠ دقائق فقط. فنظرت إليهن مرةً أخرى وهي تشعر بالذهول. لقد اختفت الحماسة والوجه الذي يصيبه الاحمرار من أثر التمرين وشعور الرضا بسبب الإنجاز. وحتى مظهرهن الشبابي اختفى. وبدت وجوههن مرهقة وتفتقر إلى الطاقة.

ليس جميعهن بالطبع. فلا تزال هاسيلت تتمتع بمظهر هادئ. ولا يزال وجه بو ناش جميلًا ومشرقًا. ولكن بدا معظمهن مرهقات ومتعبات إلى حدٍّ لا يُصدق. فماري إينيس، التي كانت تجلس بالقرب من النافذة، كان لديها تجعُّد ملحوظ من أنفها إلى ذقنها؛ تجعُّد لا يُفترض أن يظهر على وجهها قبل ٣٠ عامًا.

شعرت لوسي بشيء من الحزن وعدم الارتياح، كما هي الحال عندما يحدث شيء محزن خلال وقت سعيد، فصرفت بصرها عنهن. وكان آخر شخص رأته أثناء مرورها هو وجه الآنسة راوس. ذكَّرتها النظرة على وجه الآنسة راوس بقرية والبرسويك.

لكن لماذا والبرسويك؟

لم يكن لوجه الآنسة راوس الحذِر المنمش أيُّ علاقة بعمة لوسي القوية.

بالطبع لا.

إذن لماذا … مهلًا! لم تكن تشبه عمَّتها. كانت قطة عمَّتها. كان التعبير الذي ظهر على وجه فتاة المقاطعة الشمالية تلك في غرفة المحاضرات هو التعبير نفسه الذي كان لدى فيلادلفيا عندما وضعت لها الكريمة بدلًا من الحليب في طبقها. وهناك كلمة واحدة فقط تصف ذلك التعبير. هذه الكلمة هي: «متعجرفة».

شعرت لوسي، وهو شعور ليس مستغربًا، أن الفتاة التي فشلت لتوها في أداء تمرين عاديٍّ لا يحق لها أن تبدو متعجرفة. واختفى تمامًا أيُّ ميل متبقٍّ للشعور بالأسى على الآنسة راوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤