نظرة جديدة للقرآن

(١) القرآن بوصفه «خطابًا»

مؤخرًا، ميَّز محمد أركون وآخرون١ على نحوٍ صحيح بين ظاهرة القرآن، المتمثلة في الخطاب المتلو، وبين المصحف الذي يضم ما يعرِّفه أركون بأنه «النص المغلق» أو النص المقدَّس؛ وذلك من خلال عملية التدوين والجمع التي شرحناها فيما سبق، والتي حوَّلت الخطابَ المتلو إلى نصٍّ مقدَّس أو «نص». غير أنني أرغب اليوم في تجاوز هذه اللحظة التاريخية من التحوُّل، وهي لحظة معروفة في تاريخ جميع الأديان. فمنذ تلك اللحظة التاريخية، لم يتمكَّن قط علماء القرآن المسلمون — مع إدراكهم النظري لتأثير هذا التحوُّل وعودتهم في بعض الأحيان إلى بنية القرآن ما قبل النص — من إدراك الظاهرة الحية: القرآن بوصفه «خطابًا».

إنَّ علماء القرآن في العصر الحديث يتبنَّون مفهومَ القرآن بوصفه «نصًّا»، رغم اختلاف نموذج «المعنى» الذي يحاول كلٌّ منهم فَهْمه من القرآن واستنباطه منه. وصحيحٌ أنَّ التعامل مع القرآن بوصفه «نصًّا» فحسب يعزِّز احتمالات التفسير وإعادة التفسير، لكنه يتيح أيضًا التلاعبَ الأيديولوجي بكلٍّ من «البنية» و«المعنى»، على غِرار التفسيرات الجدلية للمتكلمين.

لقد كنت أحدَ المروِّجين لنصية القرآن متأثرًا في ذلك بالمنهج الأدبي الحديث والذي لا يزال مُقدرًا.٢ وبدأتُ أدرك مؤخرًا أنَّ التعامل مع القرآن بوصفه نصًّا فحسب يقلِّل من مكانته، ويغفِل حقيقةَ أنه لا يزال يؤدي وظيفةَ «الخطاب» في الحياة اليومية.٣ إن الكتاب الذي بعنوان «القرآن بوصفه نصًّا»، الذي يعرض وقائعَ الندوة التي عُقِدت عام ١٩٩٣ في قسم الدراسات الشرقية بجامعة بون، أُعيدت طباعته مراتٍ عديدة؛٤ لأنه يقدِّم التحوُّل الذي يشير إليه شتيفان فيلد، في الدراسة الغربية للقرآن على الأقل، من نموذج «أصل» القرآن، سواء أكان يهوديًّا أو مسيحيًّا، إلى نموذج «النص المتلقَّى» textus receptus.
لا شك أنَّ النص القرآني المتلقَّى، أي القرآن بوصفه نصًّا واردًا في المصحف، قد شكَّل — ولا يزال يشكِّل — الاعتقادات الدينية للمسلمين، وهو النص الثقافي الأساسي في كثير جدًّا من الثقافات الإسلامية.٥ غير أنَّ هذا لا ينطبق إلا إذا قصرنا تعريفنا ﻟ «الاعتقادات» و«الثقافات» على المستوى الرفيع؛ أي «الاعتقادات» و«الثقافات» بالنسبة إلى النخبة. أما على المستوى الأدنى من «الثقافات» و«الاعتقادات» متمثلًا في مستوى عامة الناس، فإنَّ القرآن المتلوَّ، أي ظاهرة القرآن بصفته خطابًا، هي التي تؤدي الدور الأهم على الإطلاق في تشكيل الوعي العام.

بالنسبة إلى الباحثين المسلمين، كان القرآن نصًّا على الدوام، منذ لحظة تدوينه وجمعه حتى الآن. وقد حان الوقت الآن لأن نوليَ عنايةً خاصة للقرآن بوصفه خطابًا أو خطابات. فلم يَعُد يكفي الآن أن نعيدَ النظر في سياق سورة أو بعض السور حين نحتاج إلى مواجهة الحَرفية أو الأصولية، أو حين نحتاج إلى أن نطرح عنا ممارساتٍ تاريخية محددة تبدو غير ملائمة في سياقنا الحديث. ولم يَعُد يكفي أيضًا أن نستدعيَ علم التأويل الحديث لتبرير تاريخية كل نمط من أنماط الفهم، ومن ثَم نسبيته، مع الزعم في الوقت نفسه أنَّ تأويلنا الحديث هو الأنسب والأكثر صلاحية. ذلك أنَّ هذه النُّهُج غير الكافية لا تنتج إلا خطابًا تأويليًّا جدليًّا أو دفاعيًّا.

من دون تبني نظرة جديدة للقرآن، ومن دون استعادة وضعه الحي بوصفه «خطابًا»، سواء أكان ذلك في النطاق الأكاديمي أم في نطاق الحياة اليومية، لن يمكن تأسيس أي تأويل ديمقراطي. لماذا ينبغي أن يكون التأويل ديمقراطيًّا؟ لأن التأويل يتعلق ﺑ «معنى الحياة»؛ فلا بد أن يكون مفتوحًا بنحو ديمقراطي. إذا كنا صادقين بشأن تحرير الفكر الديني من استغلال السلطة، سياسيةً كانت أو اجتماعية أو دينية، لكي نعيدَ صياغة «المعنى» إلى مجتمع المؤمنين، فسنحتاج إلى تأسيس تأويل إنساني ديمقراطي مفتوح.

إنَّ التنوُّع التجريبي للمعنى الديني جزءٌ من تنوُّعنا الإنساني بخصوص معنى الحياة في العموم، وهو ما يُفترَض أن يكون قيمةً إيجابية في السياق الحديث الذي نحيا فيه. ولكي نعيد تأسيس الصلة بين معنى القرآن ومعنى الحياة، صار لزامًا علينا الآن أن نشيرَ إلى حقيقة أنَّ القرآن كان نتاج حوار وجدال وحِجاج وقبول ورفض، ولم يكن ذلك موجَّهًا لمعايير فترةِ ما قبل الإسلام وممارساتها وثقافتها فحسب، بل كان موجَّهًا أيضًا إلى تقييماته وافتراضاته وتأكيداته السابقة، إلى آخر ذلك.

ربما يكون من المفاجئ الزعم بأنه — في الفترة المبكرة من الإسلام وقبل أن يُدوَّن القرآن ويُجمع بالكامل، وقبل أن يصبح الإسلام مؤسسيًّا تمامًا بالطبع — تطوَّر التمييز بين القرآن: الخطاب الذي لا يزال حيًّا، وبين المصحف، النص الصامت، على خلفية دعوة لتسييس القرآن. وتلك لحظة من المهم تذكُّرها.

(٢) القرآن في مقابل المصحف: المتحدِّث والصامت

أودُّ أن أبدأ هنا بمقولةٍ تعود إلى الخليفة الرابع، علي، ابن عم النبي محمد وصهره، وهي مقولة يصف فيها المصحف بأنه صامت لا يتكلم، وإنما يتكلم به الرجال. ثمَّة أهمية كبيرة للسياق الذي ظهرت فيه هذه المقولة؛ إذ يمكن أن يوضح كثيرًا الوضع الحالي الذي قلما يغيب فيه التلاعب السياسي بمعنى القرآن.

قيلت هذه العبارة في سياق قتال علي، الخليفة الشرعي، ضد معاوية، والي الشام الذي رفض الاعتراف بسلطة علي، في معركة صفين عام ٦٥٧. بدا أنَّ نجم معاوية قد بدأ يخفُت، حين نصحه معاونه، عمرو بن العاص، بأن يطلب من جنوده أن يرفعوا نسخًا من القرآن على أسنَّة رماحهم. لم تكن هذه الإشارة، الشهيرة في تاريخ المسلمين، دليلًا على الاستسلام؛ بل استخدمها معاوية لدعوة الطرفين المتقاتلين إلى حل المسألة بالاحتكام إلى القرآن. وضع الجيشان أسلحتهما؛ إذ أنهكهما القتال. واضطُر عليٌّ بعد ضغط من أنصاره إلى تقديم الخلاف إلى التحكيم، مثلما اقترح معاوية، على أن يكون المحكِّم الذي يختاره من جانبه واحدًا من «المحايدين». لكم كانت ثقةُ أتباعه في أنهم على صواب! وفي هذه القرارات، لعِب «القرَّاء»، وهم المرتِّلون المتمكنون الذين يحفظون القرآن بأكمله عن ظهر قلب، دورًا كبيرًا. كانت مهمة المحكِّمين هي الرجوع إلى القرآن من «أول سورة فيه إلى السورة الأخيرة» وإلى سُنة النبي فيما لم ترِد فيه إشارة واضحة في القرآن، مع استثناء ما قد يؤدي إلى الانقسام. ومع عدم وجود تعريف واضح لموضوع الشورى، احتجَّ بعضُ الأفراد على اللجوء إلى التحكيم، رافعين شعار «لا حكم إلا لله». أشارت هذه العبارة ضمنيًّا إلى أنه لا يصح على الإطلاق اللجوء إلى بشَر لاتخاذ قرار؛ إذ يوجد تشريعٌ إلهي بخصوص هذا الأمر، متمثلًا في الآيتين ٨ و٩ من سورة الحجرات: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ … رأى الخوارج أنَّ واجبَ عليٍّ هو مواصلة القتال ضد معاوية؛ إذ لم تظهر أي حقيقة جديدة لتغيِّر الموقف.٦
واستجابةً لهذا الشعار، فرَّق عليٌّ بين «المصحف» الصامت: النص، من جهة، والقرآن الذي ينطِق به الناس من جهةٍ أخرى. إنَّ مقولة عليٍّ هذه، التي يستشهد بها الباحثون المسلمون الحداثيون بكثرة للدلالة على الاحتمالات المتعدِّدة للتفسير، إضافةً إلى احتمالية الاستخدام السياسي للمعنى القرآني، تنطوي على تبِعات أكثرَ مما تحقق بالفعل. إنَّ النطق بالقرآن، سواء في الشعائر الدينية أو في الحياة اليومية أو في أي خلاف اجتماعي أو سياسي أو أخلاقي، يحمل معه نمطًا محددًا من التفسير وإعادة التفسير، عن طريق النبرة والتخصيص.٧ فالقرآن ظاهرة حية، كالموسيقى التي يعزفها الأوركسترا، بينما المصحف، النص المكتوب، فهو، كالنوتة الموسيقية، صامت. ولا بد للخطاب التأويلي الإنساني للقرآن أن يتناول الظاهرة الحية بجدية، ويكفَّ عن اختزال القرآن إلى «مجرد» نص.

تتفق الحركات الإسلامية السياسية الحديثة، سواء الأصولية أو الوسطية منها، على سلطة الله المطلَقة في تحديد قواعد السلوكيات التفصيلية للفرد وتشريعها، إضافةً إلى القواعد التي تحكم المجتمع ككلٍّ. وفي الخطاب التأويلي السياسي الحديث، يستند هذا الزعم بالمصدر الإلهي المطلَق للتشريع على دعوى مماثلة لتلك التي نادى بها المعارضون للتحكيم. فبينما صرخ معارضو القرن السابع: «لا حكم إلا لله»، مؤوِّلين الكلمة القرآنية «يحكم» بمعنى الفصل في النزاعات، فإنَّ المعارضين السياسيين في العصر الحديث يفهمون الكلمةَ نفسها بمعنى الحكم عن طريق التشريع.

يمكننا أيضًا أن نجدَ هذا التلاعب السياسي والأيديولوجي في الحِقبة الكلاسيكية للإسلام. وقد استمر هذا التلاعب بناءً على تأكيد واضح صريح على أنَّ القرآن نصٌّ فحسب.

(٣) إعادة بناء «النص» والتلاعب به

حين بدأت أدرُس — في كتابي الأول (١٩٨٢)٨ — طرق التفسير المختلفة التي طُبِّقَت على القرآن بوصفه «نصًّا» في علم الكلام الإسلامي التقليدي، بحثتُ في ظهور مفهوم «المجاز» الذي عرفته البلاغة العربية في بدايات القرن التاسع على يد مدرسة علم الكلام العقلانية التي تُعرَف بالمعتزلة، وذلك من خلال جهودهم لتفسيرِ ما يرِد في القرآن من صور للإله شبيهة بالصفات البشرية من جانب، والآيات التي يبدو أنها تؤيد عقيدةَ «الجَبر» من الجانب الآخر. استخدم المعتزلة مفهومَ «المجاز» بصفته أداةً لغوية لتفسير تلك الأنواع من الآيات التي اعتبروها «متشابهة». أدَّى هذا إلى صياغة أداة فعَّالة لتفسير النص القرآني وفقًا لمعايير المعتزلة التي تقضي بالتنزيه؛ فمتى توافق النص القرآني مع أفكارهم وصفوه بأنه «مُحكَم»؛ ومن ثَم لا يحتاج إلى تفسيره مجازيًّا، ومتى خالفها وصفوه بأنه «متشابه» وينبغي تفسيره مجازيًّا.
كانت النتيجة الأساسية التي توصلتُ إليها بعد مقارنة خطاب المعتزلة وخطاب الفرق المضادة للمعتزلة، هي أنَّ القرآن أصبح ساحةً لمعركة فكرية وسياسية ضارية. وقد تمركزت تلك المعركة عند واحد من أهم المنعطفات في بنية النص القرآني (آل عمران، الآية ٧).٩ يتفق كلٌّ من المعتزلة ومعارضوهم على المبدأ القائل بأنَّ القرآن يضم ما هو متشابه من الآيات وما هو محكَم منها، وأنَّ «المحكَم» يجب أن يضع المعايير لتفسير المتشابه. غير أنهم يختلفون بشأن التنفيذ العملي؛ ومن ثَم فإنَّ الخلاف لا يتعلق بمعنى القرآن فحسب، بل ببنيته أيضًا. فما يَعُده المعتزلة من «المحكَم» هو «متشابه» لدى معارضيهم، والعكس صحيح. وقد شكَّلت هذه الخلافات الفكرية بشأن بنية القرآن ومعناه المبدأَ التأويلي الأول، ألا وهو: ثنائية المحكَم والمتشابه.

كان معارضو المعتزلة الفكريون هم التقليديين الذين تمسَّكوا بالتفسير الحَرفي لجميع آيات القرآن لدرجة أنهم أقروا بحقيقة وجود جميع الصفات الإلهية، وجميع الصور المتعلقة بالآخرة، وحتى فكرة إمكانية رؤية الله بالعين البشرية. احتجَّ المعتزلة على فكرتهم القائلة بأنَّ التفسير الحرفي للنص المقدس واجب ديني، ورأوا أنه يمثل عائقًا أمام استكمال مسيرة البشَر. فقد رأى المعتزلة أنَّ الله فرضَ على البشر واجبَ اكتساب المعرفة الحقيقية من خلال استخدام قدراتهم العقلية.

سوف أشرح لاحقًا أنَّ هذه الفرضية القائلة بوجود «المحكم» و«المتشابه» في القرآن جزء من الخطاب الحواري في القرآن، الحوار مع مسيحيي الجزيرة العربية: النصارى. ولكي يفترض عالِم الدين وجودَ قاعدة مؤسِّسة أو مبدأ للتأويل كان ذلك يستدعي افتراض «نصية» القرآن.

بالنسبة إلى الفقهاء، فقد استند نهجُهم على مبدأ بنيوي آخر يفرِّق بين «المتقدم» من الوحي و«المتأخر» منه. ووفقًا لهذا المبدأ، ينبغي ألا يوجد أيُّ تعارض فيما يتعلق بأي أمر محلَّل أو محرَّم؛ لأنَّ «المتأخر» ينسخ دائمًا «المتقدم».

ورغم ما يبدو من توصُّل الفقهاء إلى درجة من الوعي بشأن القرآن بوصفه «خطابًا»، طرح ذلك أمامهم مشكلةً كانت تستدعي الحل. فهم لم يفهموا أنَّ الأحكام المختلفة في القرآن يمكن أن تكون ظاهرة إيجابية من التنوُّع الذي ينبغي الحفاظ عليه؛ إذ يمثل خيارات مفتوحة لمجتمع المؤمنين حتى يمكنهم تحدي النظام الاجتماعي الدائم التغيُّر، وعمدوا، بدلًا من ذلك، إلى تثبيت المعنى من خلال النظر إلى عملية الوحي التدريجية باعتبارها تطورًا تدريجيًّا لمحتوى الرسالة. ونتيجةً لنظرتهم إلى الأجزاء المتأخرة من الوحي على أنها النهائية بينما الأجزاء المتقدِّمة مرحلية، فقد قدَّموا مفهوم «النَّسخ»؛ ومن ثَم استبعدوا جميع الخيارات السابقة لصالح الصياغات اللاحقة من الوحي. ووفقًا لمفهوم النَّسخ هذا، يُقسَّم القرآن إلى أربع فئات:
  • (١)

    الآيات والسور التي حُذفَت تمامًا من «النص المغلق» الحالي؛ أي إنها كانت من القرآن فيما سبق، لكنها لم تَعُد كذلك الآن.

  • (٢)

    الآيات والسور التي عُطِّلَت تشريعاتها وأحكامها، لكنها لا تزال جزءًا من القرآن؛ لقد نُزِعَت قوَّتها التشريعية لكنها لا تزال تحتفظ بمكانتها الإلهية باعتبارها كلام الله.

  • (٣)

    الآيات والسور التي بقيت أحكامها وتشريعاتها رغم أنها حُذِفَت من القرآن؛ وتدخل ضمن هذه الفئة عقوبةُ الرجم على زنا المحصنين.

  • (٤)
    وبالطبع الآيات والسور التي لم تخضع للنَّسخ.١٠
ربما يكون التأويل الصوفي هو العنصر الذي قد يؤدي إلى خطاب تأويلي ديمقراطي مفتوح في الثقافة الإسلامية. لقد كتب محيي الدين ابن عربي، الصوفي الأندلسي العظيم الذي وُلِد في إسبانيا، رسالتَه العظمى التي أتت بعنوان «الفتوحات المكية» في مكة، ومات في سوريا (٦٣٨ / ١٢٧٩). شكَّل تأويله للقرآن موضوع كتابي الثاني (١٩٨٣)،١١ وهو ما غرس البذرة لإمكانية تأسيس خطاب تأويلي ديمقراطي مفتوح. إنَّ مشروع ابن عربي التأويلي يستند بصورة كلية على تأكيد الطبيعة الجامعة للقرآن؛ أي إنه يؤكد على معنى الجمع، في مقابل «الفرقان»، وهو اسم آخر للقرآن يعني الفصل والتمييز.١٢ ومن خلال هذا التأكيد، شكَّل محاولةً لدمج جميع المعارف القائمة حتى عصره (من أفلاطون حتى ابن رشد) في القرآن؛ فخطابه التأويلي يجعل معنى القرآن ومعنى الإسلام منفتحًا ليصبح معنًى شاملًا للغاية يضم المسيحية واليهودية وجميع الديانات الأخرى. إنَّ إسلام ابن عربي دينٌ للحب الشامل، مثلما يصفه ابن عربي في شِعره.١٣ التأويل الصوفي في العموم، والذي يتَّبعه تأويل ابن عربي في الخطوط العامة لا في التفاصيل، يعتمد بصفة أساسية على المفهوم القائل بوجود أربعة مستويات دلالية تنطبق على كل آية: الظاهر والباطن والحد والمطلع. وهذه البنية المتعددة الدلالات للقرآن قد مكَّنت الصوفيين من تجنُّب ثنائية المحكَم والمتشابه التي استخدمها علماء الكلام؛ لأنَّ كل مستوًى دلالي يؤدي إلى ما هو فوقه ويضم ما هو تحته دون تعارض أو ازدواجية. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ هذا النَّهج يجعل القرآن مفهومًا لجميع المؤمنين بصرف النظر عن تعليمهم أو قدرتهم الفكرية.
وجاء ابن رشد ليطوِّر من النظام المعتزلي تطويرًا نقديًّا لكي يجعل معنى القرآن منفتحًا على النتائج التي توصَّلت إليها الفلسفة. فيرى ابن رشد أنه لما كان القرآن معنيًّا بمخاطبة جميع البشَر، أيًّا كان لونهم أو عِرقهم أو مستوى معرفتهم، والوصول إليهم، فهو يتضمَّن ثلاثة أنماط من التعبير الدلالي. النمط الأول والأكثر شيوعًا هو «الخطابي»؛ أي الشاعري الصريح الذي يخاطب العوام؛ والنمط الثاني هو «الجدلي» الذي يهدف إلى مخاطبة علماء الكلام؛ أما النمط الثالث والأرفع، فهو النمط «البرهاني»؛ أي الفلسفي الذي يهدف إلى مخاطبة الفلاسفة.١٤ إنَّ الفَرق بين ابن رشد وعلماء الكلام، الذين يشن ضدهم هجومًا حادًّا، متهمًا إياهم بتدمير اعتقادات العوام من خلال الترويج لتأويلاتهم على أنها الفهم الصالح الوحيد، أنَّ ابن رشد لا يرى المعنى الشاعري الذي يخاطب العوام أدنى درجة من المعنى الفلسفي. ذلك أنه يؤكِّد على الاختلاف وليس على الترتيب. ولعل كونه قاضيًا وطبيبًا وفيلسوفًا يفسِّر موقفه الفريد. فبالرغم من أنه يستشهد بالآية (آل عمران، الآية ٧)، التي يستدعيها علماء الكلام على الدوام لإعادة بناء القرآن في إطار «الإحكام» و«التشابه»، فإنه لا يستخدمها إلا على سبيل التبرير، هي وغيرها من الأصول الفقهية، مثل القياس، ليعطيَ الفلاسفة الحقَّ في المشاركة في التأويل. وربما يكون السبب في أنَّ الخطاب التأويلي الذي قدَّمه ابن رشد لم يُدرَس حتى الآن هو أنَّ أطروحاته الكلامية لم تتخطَّ هذه الحدود العامة. إنَّ أي دراسة وافية للخطاب التأويلي لابن رشد سوف تستلزم النظرَ في جميع كتاباته، بما في ذلك تعليقاته؛ فقد كان منخرطًا للغاية، على أي حال، في مهمة تأويلية مكثفة.

حتى الآن، يبدو أنَّ التأويل الصوفي، الذي يؤكد على التعدُّد الدلالي بما يتفق مع اشتراك المتلقي في إنتاج المعنى، أقربُ إلى إدراك طبيعة القرآن من تأويل علماء الكلام والفلاسفة (ربما باستثناء ابن رشد) والفقهاء. لقد استطاع الصوفيون، وفقًا لمفهوم اندماج الفرد مع القرآن، تطويرَ مفهوم «السماع»، ومن ثَم تقديم الوجه الآخر من العملة، وهو القرآن بمعنى الكلام والتلاوة. إن التعامل مع القرآن بوصفه نصًّا فحسب سيؤدي بنا إلى أن يكون التأويل هو الوجه الآخر من العملة، وهو تأويل المصحف في هذه الحالة لا القرآن.

إنَّ السؤال المطروح أمامنا الآن هو: «أيمكن لأي خطاب تأويلي أن يتجاهل حقيقةَ أنَّ القرآن ليس نصًّا «فحسب»؟» يوضح لنا تاريخ التفسير حتى الآن أنَّ التعامل مع القرآن اقتصر على النظر إليه بوصفه نصًّا لا يحتاج إلا إلى التحليل البنيوي والفيلولوجي للكشف عن معناه. يتضح هذا في نهج علماء الكلام والفلاسفة، الذي يتأسَّس على افتراضِ ثنائية «المحكَم والمتشابه»، التي تمكَّنت من البقاء حتى اليوم. ومثلما رأينا بالفعل، فإنَّ مثل هذه الثنائية تسهِّل التلاعبَ الدلالي بالمعنى القرآني. غير أنَّ التعامل مع القرآن بوصفه «خطابًا» سيقدِّم نموذجًا مختلفًا قد يعزِّز من خطابنا التأويلي المقترح.

ما سأعرضه فيما يلي لا يقدِّم سوى بعض الأمثلة على خصائص الخطاب القرآني؛ فالعرض الشامل المفصَّل لذلك يستلزم كتابًا كاملًا. وأنا لا آمُل سوى أن توفِّر الأمثلة التالية عمادًا لمشروع أكبر.

(٤) تعدُّد الأصوات لا الصوت الواحد: مَن يتحدَّث ومَن يستمع؟

نظرًا لأن مفهوم القرآن بوصفه «نصًّا» فحسب هو المهيمن شرقًا وغربًا، فثمَّة صعوبة في تقديم تصنيف دقيق للبنية القرآنية. فنجد على سبيل المثال أنَّ «الموسوعة الإسلامية» تصنِّف «الشكل الأدبي» للقرآن بناءً على مزيج من تركيب «الأسلوب» ومعايير «المحتوى»؛ ومن ثَم فهي تعدِّد الأشكال الأدبية على النحو الآتي: (أ) آيات القسَم وما يرتبط به، (ب) الآيات التي تشير إلى الآيات الكونية، (ﺟ) آيات القول، (د) آيات القصص، (ﻫ) آيات الأحكام، (و) الآيات الدعائية التعبدية.١٥
بالرغم من أنَّ محمد أركون يؤكِّد على بنية القرآن بوصفه خطابًا، متَّبِعًا في ذلك تصنيف بول ريكور للكتاب المقدَّس، الذي يستند إلى التعريف الموجَّه للنص، فإنه يميز بين أنواع خمسة من الخطابات المستخدَمة في القرآن: «النبوي والتشريعي والقصصي والتقديسي والتعبُّدي (الشعري)»؛١٦ بالرغم من ذلك، فهو يقول بوجود بنية واحدة من «العلاقات النحوية» و«عالَم من الاتصالات النحوية» تتضحان في الخطاب القرآني بأكمله.١٧ وفي هذه الحالة، يُختزل تنوُّع العلاقات والاتصالات النحوية وتعدُّدها في بنية واحدة مهيمنة.

القرآن كلامُ الله؛ ولا خلاف بشأن هذه العقيدة، لكنَّ بنية الخطاب القرآني تكشف عن وجود أصوات متعددة، لا صوت واحد. فالخطاب القرآني متعددُ الأصوات، لا أحادي الصوت؛ إذ يوجد العديد من الأصوات التي لا يكون فيها المتحدِّث بأحد ضميرَي المتكلم: «أنا» و«نحن» أو كليهما، الصوت الإلهي على الدوام. وفي بعض الأحيان، يُقدَّم الصوت الإلهي في صيغة ضمير الغائب «هو»، أو في صيغة ضمير المخاطب «أنت». على سبيل المثال، نجد الظهورَ الإلهي باستخدام الضمير «هو» مسبوقًا بفعل الأمر «قُل»، الذي ينطق به صوتٌ آخر — غير معروف على نحوٍ مؤكَّد — مخاطبًا محمد، في سورة الصمد، والتي تُعَد إحدى أوائل السور التي نزلت في مكة:

قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.

وفقًا للاعتقاد الإسلامي، ينبغي أن يكون هذا الصوت غيرُ المحدَّد، هو صوت جبريل، وسيط الإله ورسوله الذي أوحى إلى محمد بالرسالة. وبصفته رسولًا، فإنه يبلِّغ الرسالة عبر صوته نيابةً عن الصوت الإلهي. وبعد ذلك، يتعيَّن إعلام الناس بما قاله هذا الصوت الإلهي المستتر الذي صار جليًّا لمحمد عبر صوت الملاك، من خلال صوت محمد البشري. وفي وجود هذه الأصوات الثلاثة المعنية، فإنَّ نمط الخطاب في هذه السورة هو النمط «الإعلامي».

في الآيات الأولى التي نزلت من القرآن (العلق، الآيات ١–٥) حيث المخاطَب هو محمد بلا شك، فإنَّ صوت المتحدِّث هو صوت الملاك الذي ظهر له في غار حراء،١٨ للمرة الأولى أو ربما الثانية، معرِّفًا محمدًا بالله. يُقدَّم الإله بصيغة الغائب. وفي هذا الخطاب الذي هو أول ما نُطِق به، لا يبدو أنَّ صوت الملاك يعبِّر عن صوت الإله، وإنما يعرِّف محمدًا بالإله؛ ومن ثَم فإنَّ نمط الخطاب «إعلامي».

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.

إنَّ الخبر الذي ورد في «سيرة النبي»، والذي نعرف منه أنَّ محمدًا كان مترددًا في الامتثال لطلب الملاك القوي والمتكرر بأن «يقرأ»، يشير إلى أنَّ محمدًا ربما كان منخرطًا بالفعل في «قراءة» محدَّدة باسم إله محدَّد؛ إذ يبدو أنَّ صوت الملاك الذي كان يطالبه بالقراءة كان يهدف إلى إقناعه بالقراءة باسم «الإله» الذي يعرِّفه به. ونحن نجد أنَّ بنية الخطاب التي تتكرَّر فيها صيغة الأمر «اقرأ» مرتين تدعم هذا الاقتراح.

إضافةً إلى ذلك، ففي الآيات التعبُّدية و/أو الدعائية، نجد أنَّ صوت المتحدِّث هو الصوت البشري، بينما صوت المخاطَب هو الإله. ولعل المثال الأفضل على ذلك هو السورة الافتتاحية في القرآن، والتي تُقرأ في الصلوات اليومية الخمس المفروضة على كل مسلم.

الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

ومن المثير للاهتمام أنه يُنظَر إلى قراءة هذه السورة باعتبارها طلبًا لاستجابة الإله، لكنَّ القراءة صريحة، والرد الإلهي ضمني. بعبارة أخرى، إنَّ قراءة هذه الآيات ينبغي أن تكون ببطء، مع توقُّف القارئ لتلقي الإجابة. يمكننا أيضًا القول إنَّ قراءة هذه السورة تتضمن كلًّا من النطق والسماع. ثمَّة خبر يرِد بصفته حديثًا قدسيًّا يقول فيه الله:

قسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي؛
فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين،
قال الله تعالى: حمدني عبدي؛
وإذا قال: الرحمن الرحيم،
قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي؛
وإذا قال: مالك يوم الدين،
قال: مجَّدني عبدي؛
فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين،
قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل؛
فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين،
قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل.١٩

إنَّ هذا النوع من الحوار الضمني بين الإنسان والله، حيث يصبح الإنسان هو المتحدِّث رغم أنه يتلو كلام الله، ويصبح الله — المتحدِّث الافتراضي في القرآن المتلوِّ — هو المتلقي، جليٌّ للغاية في بنية القرآن. وبناءً على هذا، فإنَّ «الحوار» من السِّمات الأخرى التي ينبغي تقديمها ضمن نطاق بنية الخطاب القرآني المتعددة الأصوات.

(٥) الحوار

إنَّ الإشارة إلى ما يدخل ضمن فئة «آيات القول»، حيث يرِد تركيب: «يقولون … قل»، تكفي لضرب كثير من الأمثلة على «التحاور». قد يكون «الحوار» جدليًّا أو دفاعيًّا، وقد يكون استيعابيًّا أو إقصائيًّا، وقد يكون أيضًا بناءً أو هدامًا. وسوف أقتصر هنا على ذكرِ أنواع ثلاثة من أنواع الحوار أصنِّفها وفقًا للمخاطب: الحوار مع الكفار، والحوار مع اليهود والنصارى في الجزيرة العربية، والحوار مع المؤمنين.

لقد بدأ الحوار مع الكفار، مُشركي مكة، هادئًا وناعمًا، لكنه احتد تدريجيًّا. فعندما بدأ وثنيُّو مكة في التفاوض مع محمد، مقترحين أن يُبدي محمد الاحترامَ لآلهتهم في مقابل الاعتراف بربه، يبدو في سياق الحوار الهادئ الناعم أن محمدًا تقبَّله. يقودنا هذا إلى القصة المثيرة للاهتمام المذكورة في المصادر التاريخية القديمة، والتي تحكي أنَّ محمدًا كان يتلو سورة النجم في حضور عدد من مشركي مكة، وحين أتى على ذكرِ ثلاثة من آلهتهم المفضَّلة في الآيتين ١٩ و٢٠، نطق محمد بآيتين قصيرتين هما: «تلك الغرانيقُ العُلى/وإنَّ شفاعتَهن لتُرتَجي.» وحين وصل النبي في تلاوته إلى الآية الأخيرة من هذه السورة: «فاسجدوا لله واعبدوا»، سجد المشركون مع المسلمين في إشارة إلى الصلح بين محمد وأهل مكة.

يرفض العديد من الباحثين المسلمين هذه القصة باعتبارها بدعةً متأخرة، بينما يقبلها معظم كُتاب السِّير الأوروبيين باعتبارها قصةً تاريخية. ولسنا معنيين الآن بالدخول في هذا الجدل؛ لأنَّ القرآن نفسه يشير إلى هذه القصة في الآية ٥٢ من سورة الحج؛ إذ ينفي صحةَ الآيتين ويعزوهما إلى تدخُّل شيطاني على لسان محمد، ويقول إنه سيُنسَخ.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

سواء أكان نفي القرآن لصحة الآيتين يعكس وجودَ عملية مفاوضات أم لا، تظل الحقيقة أنَّ ثَمة دليلًا قرآنيًّا على وقوع الحدث تاريخيًّا، وربما يُعَد هذا النفي الخطوة الأولى لتعيين حدٍّ فاصل مطلَق بين «التوحيد» و«الشرك». لكن كان ينبغي وضعُ هذا الحد تدريجيًّا.

وردت الخطوة الأولى للفصل المطلَق في إحدى أوائل السور، سورة الكافرون، التي يُنصَح فيها محمد، عن طريق صوت غير معروف — صوت الملاك — بألا يتفاوض مع الكافرين والمشركين بعد ذلك، وأن يميز اعتقاداته عن اعتقاداتهم.

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.

إنَّ تَكرار نفيه لعبادةِ ما يعبدونه مرتين يشير إلى وجود معارضة قوية من جانب الكفار، مصحوبة بدعوة مضادة متكررة بالقوة نفسِها لتبادل العبادة. بعبارة أخرى، إنَّ البنية الأسلوبية لهذه السورة القصيرة تكشف عن وجود حوار نقلته هذه السورة.

لكن عندما يُهاجَم محمد ويُشكك في نبوته، يدافع القرآن عن محمد. لقد شكَّك أهلُ مكة في أصالة المصدر الإلهي للقرآن؛ مما كان يعني الطعن في صدقِ محمد وأمانته وجدارته أو مصداقيته. لا يأتي الخلاف بشأن الزعم باختلاق محمد للقرآن وافترائه، والرد على هذا الخلاف، بأسلوب «يقولون»، وإنما يُفهَم الرد من سياق التفنيد. ويُعَد ذلك من أبرز سِمات بنية «الخطاب»؛ اشتراكه مع خطاب آخر ضمني أو صريح، وتفاعله معه.

حاول العرب بكل طريقة أن يفسِّروا ما للقرآن من تأثير استثنائي عليهم، وذلك من خلال تفسير هذا التأثير في سياق جميع أنواع الخطابات المعروفة لديهم، مثل «الكهانة» والشِّعر وحتى السِّحر. وقد ذكر القرآن تفسيراتهم جميعها وفنَّدها. عندما يفسِّر العرب طبيعةَ القرآن بأنها «شِعر» ويتهمون النبي بتأليفه، تأتيهم الإجابة على مثل هذا التفسير والاتهام: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (يس، الآية ٦٩). وحين يقولون إنَّ محمدًا ليس سوى كاهن، يردُّ القرآن: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (الطور، الآية ٢٩). وفي سياق هذا الجدال، زعم الكافرون أنَّ القرآن ليس سوى قصص اختلقها محمد الذي زعم أنها أُوحيت إليه من عند الله. وزعموا أنهم قادرون على الإتيان بخطابٍ مشابه. وفي مواجهة مثل هذا التحدي، أتى القرآن بتحدٍّ مقابل، طالبًا منهم أن يأتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ (هود، الآية ١٣).

وحين عجز الكفار عن مواجهة هذا التحدي القوي، خفَّف القرآن منه بتقليله من «عشر» سور إلى «سورة» واحدة (يونس، الآية ١٣) متظاهرًا بتسهيله عليهم. وكانت الخطوة الأخيرة هي الإشارة إلى فشل العرب الذريع في تحدي أصالة القرآن:

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. (البقرة، الآيتان ٢٣–٢٤)

لقد أدَّى هذا الخلاف والجدال مع مشركي العرب إلى تأسيس مبدأ الإعجاز؛ أي التفوُّق الأسلوبي والأدبي للقرآن واختلافه المنقطع النظير عن أي خطاب آخر.

ثمَّة شكل آخر من أشكال الحوار الشائعة في القرآن، وهو الحوار مع المؤمنين في صيغة: «يسألونك … قل»، وهي الصيغة التي وردت في القرآن خمس عشرة مرة. وتغطي هذه الأسئلة التي يجيب عنها القرآن عددًا مختلفًا من الجوانب المهمة. طُرِحَت الأسئلة عن الخمر والميسر (البقرة، الآية ٢١٩)، وعن اليتامى (البقرة، الآية ٢٢٠)، وعن المحيض (البقرة، الآية ٢٢٢)، وعن الأحكام المتعلِّقة بالطعام (المائدة، الآية ٤)، وعن الصدقة (البقرة، الآيتان ٢١٥ و٢١٩)، وعن تحريم القتال في الشهر الحرام (البقرة، ٢١٧)، وعن غنائم الحرب (الأنفال، الآية ١). ومن خلال تقديم الإجابات عن مثل هذه الأسئلة، صيغ الجزءُ الأكبر من الجانب التشريعي للقرآن تدريجيًّا، مما يعكس الطبيعة التفاعلية للقرآن مع الاهتمامات البشرية.

هل ستُعَد الإجابات المقدَّمة عن هذه الأسئلة في هذا السياق الحواري تشريعاتٍ نهائية؟ ماذا عن الإجابات المختلفة التي قُدمت لأسئلة تتعلق بقضية واحدة؟ لنتناول، على سبيل المثال، قضية الزواج المختلط التي تُثار دائمًا في أي نقاش يتعلق بحقوق الإنسان في الإسلام. فمع أنَّ الآية ٥ من سورة المائدة تسمح للمسلمين بالزواج من نساء غير مسلمات، يبدو أنَّ الآية ٢٢١ من سورة البقرة تلغي هذا. ويبقى السؤال: أي قاعدة هي التي ستسود؟ وثَمة سؤال آخر لم يظهر إلا في العصر الحديث، وهو يتعلق بما إذا كان هذا الإذن مكفولًا للرجال من المسلمين فحسب، أم ينبغي أن يمتد ليشمل النساء أيضًا؟

يخبرنا ابن رشد عن رأيين تبنَّاهما الفقهاء في هذه المسألة: رأي الفقهاء الذين قالوا بالجواز يَعتبر أنَّ الآية ٢٢١ من سورة البقرة هي الحُكم العام بتفضيل الزواج من امرأة مسلمة، أما الآية ٥ من سورة المائدة، فهي تخصيص للحُكم العام. وبالنسبة إلى موقف الفقهاء القائل بعدم جواز الزواج المختلط، فهو يتأسَّس على مبدأ «النَّسخ»؛ أي إنَّ الآية ٢٢١ من سورة البقرة نسخت الآية ٥ من سورة المائدة.٢٠

•••

إذا تعاملنا مع القرآن بصفته خطابًا، فسيمكننا تجاوز منظور الفقهاء الذي ينطلق من صياغة الأحكام، والذي يستلزم نمطًا معينًا من الثبات. كلٌّ من الآيتين خطاب مستقل؛ فبينما تعبِّر الآية ٢٢١ من سورة البقرة عن اتخاذ موقف لا يقبل التفاوض مع المشركين، وهو موقفٌ أشرنا إليه سابقًا، فإنَّ الآية ٥ من سورة المائدة، تعبِّر عن «التآلف» في الحياة الاجتماعية. تتحدَّث الآية عن «إباحة الطيبات»؛ فهي تبدأ بالحديث عن «الطعام»، مشيرةً إلى أنَّ «طعام الذين أوتوا الكتاب» حلالٌ للمسلمين، وليس ذلك فحسب، بل إنَّ «طعام المسلمين» هو أيضًا حلال لأهل الكتاب.

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ.

إنَّ هذا الخطاب يتحدَّث أولًا عن «إباحة الطيبات»؛ والمثال الأول على هذه «الطيبات» هو مشاركة الطعام. وبعد ذلك، يُقدَّم الزواج المختلط بصفته جزءًا لا يتجزأ من «الطيبات» مما يؤكِّد النداء الضمني ﻟ «التآلف» الاجتماعي.

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.٢١
لمناقشة المسألة الحديثة المتعلِّقة بالمساواة في الزواج المختلط، يكفي أن نؤكد هنا على أنَّ المخاطَبين في الخطاب القرآني في أمور الزواج والطلاق هم الذكور؛ فهو خطاب قد ظهر على أي حال في بيئة أبوية. ولما كان الخطاب موجَّهًا إلى الذكور، فمن المنطقي أن يصدر الإذن إلى الذكور بالزواج أو التطليق أو تزويج أقاربهم من النساء. وإذا أدركنا هذا، فإننا نصبح أقدرَ على إعلان أنَّ تحقيق المساواة فيما يتعلق بالزواج المختلط أمرٌ ممكن؛ نظرًا للتحوُّل النموذجي في المعنى، الذي تُعَد فيه المساواة عنصرًا جوهريًّا.٢٢

إنَّ التبرير الذي قدَّمه العلماء في العصر الحديث للاحتفاظ بالرأي الكلاسيكي يمكن التفاوض بشأنه بسهولة. وفي مناقشة المسألة الحديثة فيما يتعلق بالمساواة في الزواج المختلط، يكفي أن نقول إنهم لا يزالون يعتقدون بسيادة الرجل في أمور الأسرة؛ ويحاجُّون بناءً على ذلك بأنَّ إيمان غير المسلمات اللائي يتزوجن من مسلمين سيحظى بالاحترام. غير أنهم يخشون من أن الزوج غير المسلم لن يحترم إيمان زوجته المسلمة. وقد أشاروا أيضًا إلى أنَّه لما كان الإسلام آخرَ رسالة نزلت من الله فهو يحترم كلًّا من المسيحية واليهودية؛ ومن ثَم فإنَّ إيمان الزوج المسلم يحمي إيمانَ زوجته غير المسلمة. أما الموقف المعاكس فهو غير ممكن؛ لأنَّ المسيحية لا تعترف إلا باليهودية، بينما لا تعترف اليهودية بالمسيحية ولا الإسلام.

من الجلي أنَّ العلماء لا يزالون أسرى «النظرة الأبوية» للعالم من ناحية، وﻟ «النظرة الدينية» له من ناحية أخرى. إنَّ قرار الزواج هو قرارٌ فردي — أو ينبغي له أن يكون كذلك — فتحديد الظروف التي ترغب المرأة في العيش وفقًا لها مع زوجها أو التي يرغب الرجل في العيش وفقًا لها مع زوجته هو قرار فردي. المسألة التي نناقشها إذن لا تتعلق بالزواج المختلط بقدْر ما تتعلق بالحرية الفردية، التي تتضمن حريةَ الدين والاعتقاد. لا يتَّسع المجال هنا لمناقشة هذه القضية. بالرغم من ذلك، فربما سيفي بالغرض أن نذكر أنه لا توجد آية واحدة في القرآن تنصُّ على عقاب دنيوي أو شرعي للرِّدة؛ فالعلماء — حتى التقليديون منهم — كثيرًا ما يستشهدون بصيغة «لا إكراه في الدين» دليلًا على حرية الاعتقاد الديني، وإن كانوا يفعلون ذلك على نحوٍ دفاعي.

(٦) التفاوض

مثلما بينَّا بالفعل، فإنَّ موقفَ عدم التفاوض مع المشركين يجلب نمطًا إقصائيًّا من الخطاب، حيث الطريقةُ الوحيدة الممكنة للتواصل هي الخلاف والجدال والرفض. أمَّا الخطاب مع المؤمنين، فيختلف وفقًا لطريقة تعاملهم مع مشكلتهم؛ فيُمدحون على نجاحهم ويُلامون على إخفاقهم وحتى يُدانون عليه. ينطبق ذلك على النبي محمد نفسه أيضًا. إذ بينما كان مشغولًا بوعظ أغنياء قريش أملًا في أن يقوُّوا من شوكة مجتمع المؤمنين حديث التشكل، لم ينتبه لرجل فقير أعمى — قال المفسِّرون الأوائل إنه ابن أم مكتوم — كان قد جاء طلبًا للنصيحة. ينتقد القرآن موقفَ محمد بشدة، مخاطبًا إياه في البداية بضمير الغائب، وهي علامة على التقصير.

عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. (عبس، الآيات ١–١٠)

نجد أنَّ الخطاب القرآني مع أهل الكتاب، اليهود، والمسيحيين أو النصارى مثلما يطلِق عليهم القرآن، هو خطاب تفاوضي بامتياز. فمن المعروف أنَّ النبي محمدًا وزوجته خديجة طلبا النصيحة من قسٍّ عربي مسيحي، هو ورقة بن نوفل، الذي تصادف أن يكون ابن عم خديجة. كان موضوع المشورة هو اللقاء الأول مع الروح القُدس خلال الرؤية التي رآها محمد حين كان يتأمَّل على جبل حراء.٢٣
من المهم أيضًا أن نذكر أنَّ هجرة المسلمين الأولى كانت إلى الحبشة. فمن أجل الهروب من اضطهاد قريش، أمر النبي المسلمين بأن يذهبوا إلى هناك؛ حيث، وفقًا لعبارة نُسبت إلى النبي نفسه، «بها مَلِك نصراني لا يُظلَم عنده أحد». وقد نعِم المسلمون بحمايته وضيافته إلى أن عادوا بعد الهجرة إلى المدينة. خلال فترة إقامة المسلمين في الحبشة، أتى وفدٌ من قريش لزيارة الملك وإقناعه بأن يعيد المسلمين إلى مكة. قال مبعوثو مكة للنجاشي إنَّ هؤلاء الذين كانوا ينعمون بحمايته وكرمه ليسوا سوى بعض من المتمردين الذين خرجوا عن دين قومهم ودخلوا في دين جديد غير معروف، وهم أيضًا لم يعتنقوا المسيحية. ولكي يؤلبوا النجاشي على المسلمين، أخبروه أنَّهم — أي المسلمين — يقولون في المسيح قولًا عظيمًا. وحين سأل الملِك اللاجئين المسلمين عن معتقداتهم بشأن المسيح، قرءوا عليه بعض الآيات من سورة مريم.٢٤

يطلِق القرآن على المسيح ألقابًا عديدة، من أشهرها «ابن مريم»، تأكيدًا على طبيعته البشرية. بالرغم من ذلك، فهو يصفه أيضًا بأنه «روح من الله» و«كلمته ألقاها إلى مريم» عن طريق الروح القُدس. عِلاوةً على ذلك، يذكر القرآن أنَّ المسيح هو مَن تنبأ بأنَّ «أحمد» — والمقصود به محمد — هو الرسول الذي سيأتي بعده.

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. (الصف، الآية ٦)

لم يبدأ المسلمون في التواصل الفعلي مع القبائل اليهودية العربية التي كانت قد جاءت قبل فترة طويلة من اليمن واستقرت في المدينة إلا بعد هجرتهم إلى المدينة. ومن الجلي أنَّ «معاهدة أو وثيقة المدينة» المشهورة، والتي عُقِدت بين النبي من ناحية والقبائل اليهودية والوثنية من ناحية أخرى، تشير إلى وجود مساواة جوهرية بين جميع سكان المدينة. كفلت المعاهدة حريةَ ممارسة الشعائر الدينية للجميع، ما دامت الأطراف كلها ستدافع عن أمن المدينة ضد أي هجوم أو اعتداء من الخارج. وفيما يتعلق بالأنواع المختلفة من الإيمان الديني، فقد كفلت المعاهدةُ المساواة في هذا الشأن بصورة جوهرية، ما لم تُشَن حرب على المسلمين، وحينها تسري ظروف الحرب، على النحو الذي كان يجري تاريخيًّا.٢٥

في هذا السياق، فرض القرآن الصيام على المسلمين؛ وفيه أيضًا اتجه المسلمون في صلاتهم إلى حيث يتجه اليهود، إلى القدس. غير أنَّ العلاقة بين مجتمع المسلمين ومجتمع اليهود لم تستمر بهذه السلاسة التي بدأت بها. فقد اشتعلت الخلافات الجدلية التي اشترك فيها القرآن، الذي بدأ يغير مفهوم «الدين الواحد» الذي كان يتحدَّث عنه سابقًا ويسميه «الإسلام»، وهو دين جميع الأنبياء منذ آدم وحتى عيسى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. (البقرة، الآية ٦٢، وورد المعنى نفسه في المائدة، ٦٩)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (الحج، الآية ١٧)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا. (الكهف، ٢٩)
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. (المائدة، ٥٤)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. (آل عمران: ٩٠، وورد المعنى نفسه في النساء، ١٣٧)

ربما يدُل تغيير قِبلة الصلاة من القدس إلى مكة على أول علامات الفصل بين المجتمعين. يصل الخلاف الجدلي في بعض الأحيان إلى حد الإدانة الحادة. غير أنه يصبح في أحيانٍ أخرى نوعًا من التذكير الهادئ بفضل الله على بني إسرائيل. يمكن تتبُّع هذا الخلاف الجدلي بصورتَيه: الحادة والهادئة، في سورة البقرة، لأنها تضم قصةً محددة تعكس غرور بني إسرائيل في الامتثال لأوامر أنبيائهم البسيطة. ونلاحظ الاستخدام المتكرر لصيغة الأمر من الفعل «ذكر» (إذ تكررت ١٩ مرةً تقريبًا في هذه السورة وحدها)، وهي موجَّهة إلى بني إسرائيل مباشرةً في استهلال سرد أجزاء من تاريخهم في التردُّد بشأن اتباع الطريق القويم ورفضه.

إنَّ عدم القدرة على استيعاب بنية «الخطاب» سيؤدي على الأرجح إلى توسيعه ليشمل كلَّ اليهود حتى العصر الحالي. المسألة لا تتعلق بالسياقية فحسب، وإن كان ذلك أمرًا مركزيًّا في تحليل الخطاب، لكن الأهم هو ما يخبرنا به الخطاب بشأن السياق والكيفية التي يخبرنا بها بذلك. إنَّ السؤال المطروح أمامنا الآن هو: ما التاريخي وما العالمي؟ وهو سؤال يشغل جميع المسلمين الليبراليين المعاصرين من الباحثين في علوم القرآن. إنَّ التقيُّد بالقرآن بوصفه «نصًّا» يؤدي إلى انتصار المحافظين في نهاية المطاف. فحين يؤكد الليبراليون على أنَّ «التآلف» مثلًا هو المبدأ العالمي الذي يحُد من «العداء» مقيدًا معناه بالماضي السلبي، فإنَّ المحافظين سيطبِّقون مبدأ «النَّسخ» ليصبح «التآلف» بذلك هو المبدأ التاريخي المنسوخ، بينما يصبح «العِداء» هو المبدأ العالمي الناسخ. تُرى أي التأويلين أو المعنيين سيفوز في السياق الحالي المتمثل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ لا شك أنَّ المعنى الذي سيفوز هو معنى الجيتو؛ أي الانفصال والانعزال، معنى جدار السيد شارون.

ينطبق الأمر نفسه على الخلاف الجدلي مع المسيحيين، أو النصارى، فيما يتعلق بطبيعة المسيح. لقد أوضحنا بالفعل أنَّ القرآن يذكر أنَّ المسيح قد تنبأ بمجيء نبي اسمه أحمد. ورأينا أيضًا أن السورة التي تُسمَّى سورة «مريم» قد تُليَت في بلاط النجاشي وبحضور الأساقفة. إنَّ قراءةً سريعة لهذه السورة ومقارنتها مع إنجيل متَّى ستكشف لنا بسهولة عن وجود أرضية مشتركة. وبالرغم من ذلك، فثمَّة قضية لا تقبل التفاوض هي ما يبقي الحدود بين المسلمين والمسيحيين قائمةً إلى الدرجة التي تجعل مفهوم «التآلف» يكاد يكون منسيًّا.

تتمثَّل هذه القضية في الطبيعة البشرية للمسيح وفقًا للقرآن، وطبيعته الإلهية وفقًا للعقيدة المشتركة للكنائس المسيحية. إذا قيَّدنا أنفسنا بما ورد في سورة البقرة عند تناول الخطاب أو الخلاف القرآني مع اليهود، فسيجدُر بنا أيضًا أن نقيِّد تناولنا للخلاف القرآني مع النصارى، بما جاء في سورة آل عمران، التي تدافع في مستهلها في الآية ٣، عن صحة جميع الكتب المقدسة.

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ.

ومع ذلك، تطرح الآية ٤ في السورة نفسها، احتماليةَ الفهم الخاطئ فيما يتعلَّق بالحفاظ على الأرضية المشتركة متينةً قدْرَ الإمكان. غير أنه ينبغي علينا أن ندرك سياق الخلاف. فبينما يُقرُّ القرآن أنَّ المسيح «كلمة» الله (الآية ٤٥) ويقدِّم الحواريين بوصفهم مسلمين (الآية ٥٢)، فقد أشير بوضوح في الجزء الأول من سورة مريم، على لسان عيسى الطفل: إِنِّي عَبْدُ اللهِ (مريم، الآية ٣٠). ويبدو أنَّ ذلك سبَّب لبْسًا لدى نصارى نجران الذين أتَوا إلى المدينة ليتجادلوا مع محمد.٢٦ احتدَّ النقاش، وكان ذلك على الأرجح بعد أن شُرِح لهم أنَّ معجزة مولد المسيح، من عذراء لم يمسسها رجلٌ قط، لا تجعله مختلفًا عن آدم؛ فكلتا الحالتين سواء.

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. (آل عمران، الآية ٥٩)

قدَّم القرآن بعد ذلك تحديًا دينيًّا خطِرًا يبدو أنه تسبَّب في خوف الوفد. وهنا يمكننا أن ندرك «قوة» الخطاب، أو الخطاب بصفته «سلطويًّا»؛ إنَّ مثل هذا الخطاب القوي لم يكن ليظهر في مكة، ببساطة لأنَّ المسلمين كانوا مجموعةً صغيرة مستضعفة. ومثلما تخبرنا المصادر، فقد انسحب أفراد الوفد المسيحي مؤثِرين أن يدفعوا مبلغًا سنويًّا من المال يجمعونه فيما بينهم (الجزية) على أن يواجهوا لعنةً قد يجلبها القرآن.

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. (آل عمران، الآية ٦١)

إنَّ القضية التي لا تقبل التفاوضَ بالنسبة إلى القرآن هي ألوهية المسيح، سواءٌ أكان ذلك بوصفه إلهًا أم ابنًا له؛ فهي أمرٌ غير مقبول على الإطلاق، مثلما أنه لا توجد أية إمكانية للتفاوض مع المشركين؛ ولهذا فإنَّ القرآن يسمي من يؤمنون بألوهية المسيح بالمشركين أو بالكفار. وبناءً على هذا، فإنَّ الإمكانية الوحيدة للاتفاق مع المسيحيين لا تتأتَّى إلا بتخلِّيهم عن الزعم بألوهية المسيح، وهذا في حد ذاته طلبٌ مستحيل. إضافةً إلى ذلك، يذكر القرآن حجج المسيحيين الخاطئة بشأن الأمور التي لا يعرفونها؛ إذ إنَّ الحقيقة النهائية هي التي نزلت على محمد. يوضح القرآن أنَّ زعم كلٍّ من اليهود والمسيحيين بأنهم وحدَهم ورثة النبي إبراهيم زعمٌ خاطئ. يوضح القرآن خطأ هذا الزعم بدليل أنَّ إبراهيم لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا؛ إذ لم تنزل التوراة والإنجيل إلا من بعده (راجع آل عمران، الآيات ٦٤–٦٧).

النقطة التي أرغب في الإشارة إليها الآن أنَّ القرآن لم يتبرأ قط من النصوص المقدَّسة اليهودية والمسيحية؛ فهو يعترف أنها جاءت من نفس المصدر الذي نزل منه القرآن، ألا وهو: الوحي. لكنَّ محلَّ الخلاف على الدوام هو كيفية فهْم أهل الكتاب لهذه النصوص وتفسيرهم إياها؛ فالقضية إذَن هي التأويل الخاطئ، وبهذا تتضح لنا أهميةُ الآية ٧ من سورة آل عمران، التي اتخذها علماء الدين المسلمون مبدأً أساسيًّا للتأويل. والآية هي:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.٢٧

تقييمي هنا هو أنه في سياق إنكار الفهم المسيحي فإن الآيات التي يصف فيها القرآن المسيح بأنه «روح» و«كلمة» من الله عُدت «متشابهة»، في حين عُدت تلك التي تؤكد على إنسانيته باعتباره نبيًّا ورسولًا فقط «محكمات»، بحيث تمثل عماد الكتاب.

من القضايا الخلافية بين المسلمين والمسيحيين أيضًا عقيدة الصلب، التي يؤمن المسلمون بأنَّ القرآن ينكرها. لا يرى المسلمون تضاربًا بين الموت العادي والرفع؛ فالقرآن يؤكد على كليهما. ولا يرى المسلمون تضاربًا بين الموت الطبيعي للمسيح ورفعه؛ فالقرآن يؤكد على كليهما. ليس السياق الذي تُذكَر فيه قضية الصلب سياقَ الخلاف مع المسيحيين، بل الجدال مع اليهود والخلاف معهم دفاعًا عن مريم والمسيح (النساء، ١٥٣–١٥٨). في هذا السياق، ينكر القرآن افتراء اليهود على مريم واتهامهم لها بالزنا ويدينه بشدة. وفي السياق نفسه، ينكر القرآن أيضًا زعمَ اليهود بأنهم قتلوا المسيح، وهو زعمٌ ينطوي على تهديد بأنهم قد يقتلون النبي محمدًا.

َسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. (النساء، ١٥٣–١٥٨)

لو أنَّ لقضية صلبِ المسيح في القرآن أهميةً تعادل قضية طبيعته، لورد ذكرها مرارًا وفي سياقات مختلفة. وبما أنها لا توجد إلا في سياق الرد على زعم اليهود، فإنَّ بنية الخطاب تشير إلى إنكار مقدرة اليهود على أن يكونوا قد فعلوا ذلك، وإخبار محمد ضمنيًّا بأنَّ تهديدهم الضمني بقتله، كما قتلوا عيسى، غير ممكن؛ إذ لن يسمح الله بذلك. مرةً أخرى، نجد أنَّ السؤال المطروح أمامنا: أيٌّ من هذين المعنيين سيسود، التآلف أم الانعزال؟ لا شك أنَّ هذا يستدعي العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي إلى نقاشنا. فكيف تؤثِّر هذه العلاقة في كيفية تبني المسلمين لنظرة جديدة لتراثهم من أجل تحديث حياتهم دون التخلي عن قوَّتهم الروحية، لا سيما في ضوء المشروع الاستعماري الأمريكي؟

اسمحوا لي الآن أن أقدِّم لكم إمكانيةَ الإصلاح الحقيقي في مجال الشريعة، إذا كان المفهوم الذي قدَّمته للقرآن مقبولًا.

(٧) تفكيك الشريعة

هل سيساعد التعامل مع القرآن بوصفه خطابًا، منخرطًا للغاية في الحوار مع المؤمنين وغير المؤمنين أيضًا، في معالجة القضايا الشرعية الشائكة التي لم تُحَل بعدُ لأنَّ غالبية المسلمين يَعُدونها وحيًا إلهيًّا؟ ربما توجد بعض الجماعات الراديكالية التي لم تزل تصرخ وتقاتل من أجل استعادة الخلافة، لكن الدولة الوطنية الراسخة في جميع البلدان المسلمة في عصرِ ما بعد الاستعمار قد حقَّقت تحولًا باتجاه مسألة القانون. والآن، صار الالتزام بإقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة بالكامل قضيةً خلافية بين التوجهين الأساسيين في الخطاب الإسلامي الحديث. ونجد أنَّ دساتير جميع الدول الإسلامية تتضمن المادة «الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، ومبادئ الشريعة هي مصدر التشريع».

إنَّ الصراع بين الدول وبين الجماعات الراديكالية، الذي يتسم بالعنف والحِدة في بعض الأحيان، لا يرتبط كثيرًا بتطبيق الشريعة في الحياة الاجتماعية والفردية من عدمه. وإنما يتعلَّق أكثر بدرجة تطبيق الشريعة، وبما إذا كان النظام السياسي مستغرِبًا أم لا، ومن ثَم معاديًا للإسلام.

إذا كان كافيًا للفرد أن يشهد بالإسلام وأن يؤديَ الأركان الأربعة الأخرى: إقامة الصلوات اليومية الخمس، وصيام شهر رمضان، وأداء الزكاة، وأداء الحج إن توافرت لديه الاستطاعة المادية؛ فإنَّ ذلك غير كافٍ للمجتمع. ففي حالة عدم إقامة دولة إسلامية، سوف يُسأل كل فرد مسلم أمام الله عن هذا الفشل الديني؛ هذا ما يعظ به ممثلو الجماعات الإسلامية الراديكالية وممثلو ما يُسمى بالخطاب الإسلامي «الوسطي».

إنَّ المفكرين المسلمين الذين يتبنَّون وجهةَ نظر مختلفة بشأن العلاقة بين الإسلام والسياسة، يُدانون بوصفهم «مستغربين»؛ أي إنهم ليسوا بالمفكرين المسلمين الحقيقيين. ولا تشتهر آراء هؤلاء المفكرين المسلمين غير التقليديين وغير الراديكاليين خارج حدود العالم الإسلامي، لا سيما آراء مَن يفضِّلون مخاطبةَ قرائهم بلغتهم الإقليمية. أما الدعاة الراديكاليون المحرِّضون، فيحرص بشدةٍ الإعلام الغربي على تقديم أفكارهم، مما يخلق الانطباعَ لدى العقل الغربي بأنه ليس للإسلام سوى وجه واحد: وجه بن لادن.

اسمحوا لي الآن أن أطرح عليكم بإيجاز رؤيتي البحثية بشأن مفهوم الشريعة. وفقًا للمصادر التراثية، فإنَّ الآيات القرآنية التي تتضمَّن دلالات تشريعية وتُعتبر هي أساس الشريعة تبلغ حوالي ٥٠٠ آية. وبناءً على هذه الآيات، التي تمثِّل سدس القرآن أو ١٦٪ منه، بنى الفقهاء نظامًا من الاستنباط والاستدلال يُسمى ﺑ «علم أصول الفقه». ووفقًا لهذه المبادئ، أضافوا إلى القرآن مصدرًا ثانيًا، وهو «السُّنة النبوية». صنَّف الفقهاء السُّنة النبوية على أنها المصدر الثاني للتشريع، وقالوا بأنها إلهية بقدْر ما أنَّ القرآن ذاته إلهي. ولأنَّ مصدرين إلهيَّين لم يكونا كافيَين لحل المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجنائية المتزايدة، اضطُر الفقهاء إلى تبني مبدأ ثالث يستند إلى القواعد الفقهية المتَّفق عليها بالفعل يُسمَّى «الإجماع»، ويُقصَد به إجماع جيل المسلمين الأول من صحابة النبي. ظهرت بعد ذلك حاجةٌ شديدة إلى وجود مبدأ رابع هو «الاجتهاد»؛ وذلك لحل المشكلات التي لم يجدوا حلًّا لها في المصادر الثلاثة السابقة. غير أنَّ مبدأ الاجتهاد هذا كان مقتصرًا في حقيقة الأمر على تطبيق طريقة القياس، التي تتمثَّل في التوصل إلى حلٍّ لمشكلة محدَّدة من خلال مقارنة هذه المشكلة مع أخرى مماثلة قد حلَّها أحد المصادر الثلاثة.

تستند أدبيات الشريعة بأكملها، في سياق المذاهب السُّنية الأربعة الكبرى على الأقل، على المبادئ التي سبق ذكرها، مما يعني أنَّ الشريعة منتجٌ بشري، وليست إلهية على الإطلاق. من المحال أيضًا أن ندعي صلاحيتها لكل زمان ومكان.

إذا درسنا سياق بعض التشريعات القانونية التي نصَّ عليها القرآن، مثل عقوبة الزنا أو السرقة أو الحِرابة أو القتل، والتي تُسمى بالحدود، فإنَّ السؤال الذي يُطرَح أمامنا هو: أكانت هذه العقوبات من ابتكار الإسلام بالكلية، ومن ثَم فهي إسلامية؟ والإجابة هي «لا» بكل تأكيد؛ فجميع هذه العقوبات ظهرت بوجه عام قبل الإسلام؛ إذ يعود بعضها إلى الديانة اليهودية التي كانت قد تبنَّتها أصلًا من القانون الروماني، وبعضها يعود إلى نظمٍ أقدمَ بكثير. ولا يجوز في عصرنا الحديث الذي نراعي فيه احترامَ حقوق الإنسان وسلامة جسده، أن نفكِّر في بتر أعضاء من الجسد البشري أو تطبيق عقوبة الإعدام باعتبارهما من العقوبات الدينية الإلزامية التي فرضها الله.

ثمَّة جوانبُ أخرى من الشريعة، مثل الجوانب المتعلقة بحقوق الأقليات الدينية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان بصفة عامة، ينبغي مراجعتها أيضًا وتناولها بمنظور جديد. إنَّ وضع التشريعات القرآنية في سياقها، إضافةً إلى دراسة بنيتها اللغوية والأسلوبية — بوصفها خطابًا — سيوضح أنَّ وظيفة الفقهاء في الأصل كانت هي الكشف عن معنى تلك التشريعات، وإعادة توظيف هذا المعنى في سياقاتهم الاجتماعية المختلفة. فليس القرآن في حد ذاته كتابًا قانونيًّا، بل ترِد التشريعات القانونية — مثلما أثبتنا بالفعل — بأسلوب الخطاب، مما يعكس وجود سياق من التفاعل مع الاحتياجات البشرية في زمن محدَّد، مما يتيح بدوره تخصيص «المعنى» المقصود لكل نموذج من نماذج المعنى.

إنَّ التعامل مع القرآن بوصفه خطابًا يوفِّر خيارات متعددة وحلولًا متعددة ومجالًا مفتوحًا للفهم. وما نستنتجه إذَن هو أنَّ الزعم بأنَّ الشريعة ملزِمة لجميع المجتمعات المسلمة بصرف النظر عن الزمان والمكان هو ببساطة إضفاء للقداسة على الإنتاج الفكري التاريخي البشري. ولمَّا كانت الحال كذلك، فلا إلزام إذَن بإقامة دولة دينية تُدعى إسلامية. فليس هذا الطلب سوى دعوى أيديولوجية لتأسيس سلطة ثيوقراطية سياسية لا تخضع للمساءلة؛ ليس هذا الطلب سوى إعادة إحياء لأسوأ الأنظمة السياسية الديكتاتورية على حساب البُعد الروحاني والأخلاقي للإسلام.

(٨) تحدِّي الحداثة: سياق مُربِك

لم يفتأ المسلمون يعيدون التفكير في مصادر المعرفة الإسلامية ويعيدون تعريفها ويعدِّلونها. وخضعت أمورٌ مثل السُّنة والإجماع والقياس إلى مناقشات وجدالات عميقة وخلافية منذ القرن الثامن عشر. ولم يزل معنى القرآن، ومن ثَم معنى الإسلام، موضوعًا للاستقصاء والبحث والتخصيص وإعادة التخصيص والتفاوض منذ أواخر القرن التاسع عشر. كان الحافز الجوهري والأولي لهذا النوع من «النظرة الجديدة» هو السعي القوي لتطوير المجتمعات المسلمة في اتجاه الحداثة من جانب، والإبقاء على روح الإسلام وقواه من الجانب الآخر؛ فقد كانت الحداثة رغم كل شيء قوةً أجنبية فرضتها من أعلى الهيمنةُ الأوروبية الاستعمارية على العالم الإسلامي بأكمله بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية.

بنهاية القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا قد نجحت بالفعل في استعمار الجزء الأكبر من الهند. ونجحت فرنسا، تحت قيادة نابليون بونابرت، في احتلال مصر عام ١٧٩٨. وبعد ذلك، احتلت فرنسا الجزائر في عام ١٨٣٠، ثم تونس في عام ١٨٨١، وزحفت بريطانيا على مصر عام ١٨٨٢. وقبل ذلك بفترة طويلة، كانت هولندا قد احتلت إندونيسيا بالفعل. وكانت هناك كثير من الحملات الأخرى خلال الفترة التي تكشَّف فيها برنامج الغرب الاستعماري في أنحاء العالم الإسلامي.

وفي هذا السياق، يمكن للمرء أن يذكر ثلاثة على الأقل من التحديات التي حفزت المسلمين على إعادة التفكير في تراثهم، وشكَّلت أيضًا كيفيةَ قيامهم بذلك. أول هذه التحديات الثلاثة هي الاكتشافات العلمية والتكنولوجيا المتقدمة. وبالنسبة إلى التحدي الثاني، فهو مسألة العقل والعقلانية، وأما التحدي الثالث فهو التحدي السياسي. وغنيٌّ عن القول أنَّ هذه التحديات الثلاثة، التي نطرحها هنا كلًّا على حدة، كانت متشابكة على الدوام في كلٍّ من توجُّهات التفسير التي سنعرضها.

  • (١)

    عرف العالم الإسلامي العلومَ والتكنولوجيا الحديثة في شكل معدَّات عسكرية غريبة تسبَّبت في هزيمتهم أمام القوى الغربية التي تتبنَّى المنهج التجريبي، وأدَّت إلى احتلال غزاة غير مسلمين لبلادهم. فحين وصل الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية عام ١٧٩٨، كان جنود المماليك جاهزين للقتال رجلًا لرجل. غير أنهم ذُهِلوا لرؤية المدافع القوية التي قتلت عشرات الجنود بقذيفة واحدة ومن مسافة بعيدة. أحضر نابليون بونابرت مع جيشه عددًا من علماء علوم الطبيعة والاجتماع. ويخبرنا الجبرتي في عمله التاريخي عن تلك الفترة عن ردِّ فِعل علماء الأزهر حين دُعوا لمشاهدة تجارب كيميائية في المختبر الذي أنشأه الفرنسيون بالقاهرة. لقد كانوا مرعوبين حتى إنَّ بعضهم قد فرَّ هاربًا وهو يتعوَّذ؛ إذ رأوا أنَّ هذه التجارب ضربٌ من السِّحر. كان هذا هو اللقاء الأول بين المفكِّرين المصريين والتكنولوجيا الحديثة الناتجة عن البحث والاستقصاء العلمي الحديث. وكانت استجابتهم لذلك أن يتعلموا ليكتسبوا القوة التي تمكِّنهم من المقاومة. إن تعلُّم العلوم الحديثة من خلال إرسال بعثات من الطلاب لدراسة العلوم في أوروبا واستيراد التكنولوجيا الحديثة، لا سيما الأسلحة العسكرية، كانت إذَن هي الاستجابة الأساسية التي صدرت عن كلٍّ من مصر وتركيا.

  • (٢)

    وفي خِضم القوة العسكرية، كان ثمَّة سلاح فكري يعزو مسئولية ضَعف العالم الإسلامي إلى الإسلام. في هذا السياق، كانت عقلية المستعمِر تنظر إلى دول العالم الإسلامي وتتعامل معها وتخاطبها بصفتها مسلمة فقط، دون أي هوية فرعية أخرى، كالهوية الهندية أو الإندونيسية أو العربية. وازداد الأمر تعقيدًا حين قبِل المستعمَرون هذه الهويةَ التي فرضها عليهم المستعمِر دون أي مناقشة؛ ومن ثَم فقد تقمَّصوا هذه الهوية واختزلوا أنفسهم فيها، مما أدَّى إلى تشكيل أزمة هوية لديهم.

    لقد ظهرت دعاوى صريحة بأنه لا بد لهذا الجزء من العالم أن يتجاهل الإسلام ويهجره إن كان له أن يحرز أيَّ تقدُّم في اللَّحاق برَكْب الحداثة. ويكفي أن نذكر ما قاله الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان (١٨٣٢–١٨٩٢) والسياسي والمؤرخ الفرنسي جابرييل هانوتو (١٨٥٣–١٩٤٤)،٢٨ الذي شغل منصب وزير الشئون الخارجية من عام ١٨٩٤ حتى ١٨٩٨. رأى رينان أنَّ الإسلام لا يتلاءم إطلاقًا مع العلم أو الفلسفة. وزعم في رسالته للدكتوراه، التي صدرت عام ١٨٥٢ تحت عنوان «ابن رشد والرشدية» أنَّ أيًّا ما يُدعى بالعلوم الإسلامية والفلسفة الإسلامية ليس سوى ترجمة لما قاله الإغريق. ووفقًا لرينان، إن الإسلام، شأنه شأن العقائد الدينية الأخرى التي تستند إلى الوحي، يعادي المنطق والتفكير الحر. هانوتو أيضًا كان يرى أنَّ الإسلام مسئول عن تخلُّف العالم الإسلامي. وقد بنى زعمه بناءً على الاختلاف اللاهوتي بين الإسلام والمسيحية. فوفقًا لهانوتو، إنَّ عقيدة التجسُّد في المسيحية ينتج عنها بناءُ جسر بين الإنسان وبين الله، مما يحرِّر الإنسان من أي اعتقاد بالجبرية. على النقيض من ذلك، فإنَّ عقيدة التوحيد الخالص التي يتبنَّاها الإسلام قد خلقت فاصلًا واضحًا بين الإنسان والله، فلم تسمح بمجال للإرادة البشرية الحرة. وبناءً على هذا السبب اللاهوتي، فسَّر هانوتو الاستبداد السياسي الذي يميز العالم الإسلامي.٢٩
    هاجم كلٌّ من جمال الدين الأفغاني (١٨٣٨–١٨٩٧)٣٠ ومحمد عبده (١٨٤٨–١٩٠٥) هذه الادعاءات، مشيرين إلى أنَّ السبب في تخلُّف المسلمين لا يعود إلى الإسلام في حد ذاته، بل إلى سوء فهْم المسلمين المعاصرين للإسلام. وزعم كلاهما أنه إذا فُهِم الإسلام على نحو ملائم وفُسِّر على نحو صحيح، مثلما كانت الحال في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فما كانت القوة الأوروبية لتهزم المسلمين ولا أن تهيمن عليهم بسهولة.

    كان السؤال الأساسي الذي واجه المصلحين المسلمين المعاصرين الأوائل هو هل كان الإسلام متوافقًا مع الحداثة أم لا. كيف يمكن لمسلم مخلِص أن يعيش في بيئة سياسية واجتماعية حديثة دون أن يفقد هُويته الإسلامية؟ هل يتلاءم الإسلام مع العلم والفلسفة؟ بعد ذلك، ظهر السؤال المتعلِّق بمدى ملاءمة الشريعة التي تحكم المجتمع التقليدي، ومدى ملاءمة القانون الوضعي الذي يحكم الدول الوطنية الحديثة. أيقبل الإسلام الأعراف السياسية الحديثة مثل الديمقراطية والانتخابات والبرلمان، وهل من الممكن أن تُستبدَل هذه الأعراف بمؤسسة «الشورى» التقليدية وسلطة نخبة العلماء «أهل الحَل والعَقد»؟

  • (٣)

    إنَّ مناقشة مثل هذه الأسئلة تشكل جزءًا أساسيًّا من مسألة الدِّين والسياسة. لقد ظهرت مسألة الإسلام السياسي في ظل الاحتلال الاستعماري لمعظم الدول الإسلامية، وذلك منذ زمن بعيد يعود إلى عام ١٧٩٨ في مصر على سبيل المثال، حيث عرف المسلمون أنماطًا مختلفة من الحياة جلبها المستعمِرون إلى حياتهم اليومية. فهم يختلفون عنهم في الشكل وفي طريقة الملبس، وفي التصرفات، وفي اللغة التي يتحدثون بها. وهم يأكلون المحرَّم من الطعام ويشربون الخمر ويتواصلون بحرية مع نساءٍ لَسْن من محارمهم، وحتى نساؤهم يرتدين ثيابًا غير لائقة. باختصار، إنَّ وجود هؤلاء الدخلاء في إقليم إسلامي تمامًا هم وحدهم مَن يختلفون عنه كان انتهاكًا شديدًا للهوية الدينية والاجتماعية للمسلمين.

    مما يدعو إلى السخرية، أو ربما المفارقة، أنَّ بونابرت قدَّم نفسه للعلماء المصريين بصفته حامي «الإيمان» في وجه كلٍّ من البابا الكاثوليكي والسلطان العثماني الفاسد. وبعد ذلك، عزَّز زعمه بالتظاهر بالدخول في الإسلام. غير أنَّ كِلا الزعمين لم يُجدِ شيئًا. وظهرت مشكلة السياسة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى. وأدَّى قرار الحركة التركية الوطنية الجديدة بإلغاء الخلافة إلى إثارة السؤال عما إذا كانت الخلافة مؤسَّسة إسلامية أم إنها كانت شكلًا من أشكال الأنظمة السياسية يمكن الاستعاضة عنه بنظام آخر دون التخلي عن الهوية الإسلامية. وفي خِضم هذا التوتر والغموض الذي يحيط بمثل هذه الفترات الانتقالية، وجد العالم الإسلامي نفسه مجردًا فجأةً من هويته، متمثلةً في الخلافة. وقد حاولت شخصياتٌ سياسية، مثل الملك فؤاد في مصر والشريف حسين في الجزيرة العربية، استعادةَ الخلافة، وسعى كلٌّ منهما لأن يُبايَع خليفةً لجميع المسلمين.

    كان المصري علي عبد الرازق (١٨٨٨–١٩٦٦) هو مَن أيَّد إلغاء الخلافة مبرهنًا على أنه لا يوجد نظام سياسي محدَّد يوصَف بأنه إسلامي. لكنَّ استجابة محمد رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥) جاءت مختلفة. فقد دافع عن الخلافة بصفتها نظامًا إسلاميًّا أصيلًا لا بد من إقامته مجددًا، وإلا فسيعاني المسلمون العودةَ للجاهلية.٣١ وكردِّ فعلٍ سياسي على ذلك، تأسَّست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام ١٩٢٨. كان هدفها الأساسي هو إعادة تأسيس المجتمع الإسلامي في مصر باعتباره نموذجًا مثاليًّا ينبغي تطبيقه في كل مكان قبل استعادة الخلافة. ونتيجةً لهذا، أصبحت إعادة الأسلمة مضادةً للتحديث، الذي قُدِّم بصفته تغريبًا للمجتمع. إنَّ جميع الحركات الإسلامية السياسية الحديثة، التي توصَف عادةً في الخطاب العام الغربي بأنها حركات أصولية، تُعَد خلفًا لجماعة الإخوان المسلمين.

    في مثل هذا السياق التاريخي المربِك، لم يجرِ التعامُل عن قربٍ قَط مع السؤال المتعلق ﺑ «طبيعة» القرآن و«بنيته»، وكذلك خلفيته التاريخية. ولما كان القرآن هو النص التأسيسي الأسمى للإسلام، فقد ظل بعيدًا عن متناول أي دراسة نقدية؛ إذ إنه مصدر الوحي الأساسي والجوهري الأوحد الذي يمكن الاعتماد عليه؛ فهو، أولًا وأخيرًا، كلام الله. وقد نظر المسلمون إلى دراسة المستشرقين للقرآن وتاريخه وبنيته على أنها جزء من المؤامرة الأوروبية ضد الإسلام والمسلمين.

(٩) نظرة جديدة للتراث

بدايةً، أود أن أعرض بإيجاز الوجهَ الآخر من الإسلام الحديث، ذلك الوجه غير العنيف والأكثر انفتاحًا والليبرالي على الأرجح، الذي لا يعرفه سوى المخلصين من الباحثين غير المنحازين، وهو وجهٌ خفي بعض الشيء في وسائل الإعلام الغربية والشرقية على حد سواء، وصوت مكتوم فيها. وسيتضح من هذا العرض — كما أرجو — أنَّ مسألة «تبني نظرة جديدة للقرآن» ضرورية إن أراد المسلمون حقًّا تبنِّي مشروع الحداثة الأساسي والجوهري بمزيد من المشاركة البناءة.

ومن أجل تقديم سردٍ موجَز لهذه العملية، ينبغي تحديد المبادئ المعرفية للإسلام منذ بداياته إلى أن وصل إلى العصر الحديث، واستوجب الأمر تناوُله بنظرة جديدة. يجب أن أوضح أنَّ المصادر الأربعة التي سأذكرها هنا لا تمثل سوى وجهٍ واحد من الثقافة الإسلامية المتعددة الأوجه؛ وهو وجه الشريعة. هذه المبادئ هي المبادئ المعرفية التي تسمَّى أصولَ الفقه، والتي تُستخرج القواعدُ الفقهية وفقًا لها. وقد تأثَّرت كل الحركات الإحيائية إلى حد كبير بالظروف التي جرى فيها حصر الإسلام: إيمان قائم على الشريعة فقط. يعرف دارسو الإسلام أنَّ الشريعة هي وجه واحد فقط من الأوجه المتعددة للتقاليد والثقافات الإسلامية، وهو وجهٌ يمكن التفريقُ بينه وبين عدد من الأوجه المتعددة الأخرى، مثل الفلسفة وعلم الكلام والصوفية وغير ذلك.

إنَّ السبب وراء اختزال الإسلام في نموذج الشريعة هو أنَّ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي وكذلك الفلسفة الصوفية الإبداعية قد هُمِّشَت تدريجيًّا منذ القرن الخامس الهجري؛ أي القرن الثاني عشر الميلادي. فقد عانى الفلاسفة وعلماء الكلام غير الأصوليين، كالعالم الشهير ابن رشد، درجاتٍ مختلفةً من الاضطهاد. ويكفي هنا أن نذكر اثنين فقط من كبار المتصوفين الذين أُعدموا، وهما: الحلاج (الذي أُعدم عام ٩١٠) وشهاب الدين يحيى السُّهرَوَردي (الذي أُعدم عام ١١٩١). ووفقًا لمذاهب الفقه الكبرى، مصادر المعرفة مرتبةٌ ترتيبًا هرميًّا كما يأتي:

يأتي في المرتبة الأولى على الإطلاق القرآن وتفسيره اللذان يمثِّلان النبع المعرفي الرئيسي؛ فهو كلام الله الموحى به بالعربية إلى النبي محمد في القرن السابع الميلادي. ورغم أنه يخاطب العرب بصفة أساسية، فإنَّ رسالته موجَّهة إلى البشرية جمعاء أيًّا كان زمانها ومكانها. فالقرآن هو مصدر الهداية والنور، وهو الخطة الإلهية النهائية للخلاص في هذا العالم وفي الحياة الأخرى.

في المرتبة الثانية بعد القرآن، تأتي أقوال النبي محمد وأفعاله، بما في ذلك ما استحسنه من أقوال صحابته وأفعالهم وما استهجنه منها. ويُعرَف هذا بالسُّنة النبوية. وقد اعتُبرَت السُّنة النبوية إلهية بقدر القرآن نفسه؛ لأنَّ كليهما وحي من الله. ووُضِّح الاختلاف بينهما من خلال التمييز بين «المحتوى» والتعبير اللغوي أو «الشكل» في كلٍّ منهما. فالقرآن كلام الله؛ ومن ثَم فكلٌّ من محتواه وشكله إلهي. على الجانب الآخر، فإنَّ محتوى السُّنة وحي من الله، لكنه بشري الشكل؛ أي إنَّ محمدًا هو مَن صاغه في كلمات. بالرغم من ذلك، فهي ليست أقل منزلة من القرآن، بل هي مساوية له في المكانة وإن كانت تالية له في الترتيب. لقد ذهب الفقهاء أيضًا إلى حد التأكيد على أنَّ القرآن يحتاج إلى السُّنة أكثر مما تحتاج السُّنة إلى القرآن. ليست السُّنة للتفسير فحسب، بل لتوضيحِ ما ذُكر فيه ضمنيًّا أيضًا، مثل كيفية أداء الصلاة والصيام أو معرفة شروط الطهارة ومقدار الزكاة التي ينبغي دفعها، وما إلى ذلك. فمن دون السُّنة، يصبح القرآن أقلَّ وضوحًا. وحتى فهمُ سياق آيات القرآن وسوره ومعرفة الأحداث التاريخية المحيطة بالوحي، وهي عملية استمرَّت على مدار أكثر من عشرين عامًا، أمرٌ لا يتحقَّق إلا من خلال المعلومات التاريخية التي تُقدِّمها السُّنة.

المبدأ المعرفي الثالث، أو مصدر المعرفة الثالث، هو إجماع العلماء. لم يوجد اتفاق بين العلماء بشأن الشرعية المعرفية لمبدأ «الإجماع»، ولم يوجد أيضًا اتفاقٌ على تعريفه، وقد أدَّت الصياغة النهائية لهذا المبدأ إلى تضييق نطاقه وتأثيره. لقد اقتصر نطاقه على الإشارة إلى ما اتَّفق عليه الجيل الأول من المسلمين؛ أي صحابة النبي، وذلك بناءً على الافتراض القائل بأنَّ هذا الإجماع ينبغي أن يكون قد تأسَّس على سننٍ نبوية معينة لم تُنقَل إلى الجيل التالي. ونتيجةً لهذا، فقد اقتصر تأثيره على القضايا التي لم تُذكَر تصريحًا ولا تلميحًا في المصدرين السابقين.٣٢
المصدر الرابع والأخير لاكتساب المعرفة هو تطبيق القياس؛ أي استنباط قاعدة لقضية غير مذكورة في المصادر السابقة الذكر، من خلال قياسها على قاعدة مماثلة راسخة. يستند القياس إلى التشابه بين القضايا، مثل الشبه بين تناول الكحوليات وتدخين الحشيش، أو إلى الحكمة وراء القاعدة المذكورة. ويستلزم هذا النوع الثاني من القياس تبنِّي الاعتقاد الذي يقول بوجود «سبب منطقي» لجميع القواعد الإلهية، وهو اعتقاد لم تقبله جميع مذاهب الفقه. وعلى خلاف «الإجماع»، بالرغم من أنَّ القياس لم يكن بالمبدأ الذي استخدمه جميع الفقهاء، فقد حظي بتأييدٍ أكبر من الأغلبية.٣٣

(١٠) الإجماع من منظور جديد: ظهور «العلماء» الجُدد

يبدو أنَّ آلية «تبني نظرة جديدة» للتراث، التي بدأت بصفتها استجابةً لانحدار وضع المجتمعات الإسلامية، قد اتخذت خطوتها الأولى بالمبدأ الثالث، الإجماع، وكان من السهل تخطِّيه من خلال الحاجة إلى نوع جديد من العلماء. يُعَد شاه ولي الله (١٧٠٢–١٧٦٢) الأبَ الروحي للإسلام «الإحيائي» في الهند. ونظرًا للتوجُّه الخاص للإسلام في الهند، فقد جاءت صيغته الإصلاحية مزيجًا من «الصوفية» والتفكير المعني بالشريعة. على عكس الحركة الوهابية التي بدأها محمد بن عبد الوهاب (١٧٠٣–١٧٩٢) في الجزيرة العربية، والتي اتخذت اتجاه الإصلاح الأصولي، يمكن تفسير الاختلافات بين كلتا الحركتين في ضوء الخلفية التاريخية والثقافية المختلفة للإسلام، في كلتا البيئتين الاجتماعيتين. فبينما أدَّى تفاعُل الإسلام في الهند مع التراث الهندي السابق على الإسلام مثل الهندوسية والبوذية إلى إعادة تشكيله، كان الإسلام في الجزيرة العربية متجذرًا إلى حد كبير في تراثه البدوي وعاداته.

كان شاه ولي الله شديدَ التأثُّر بانهيار سلطة المغول التي أدَّت إلى ضياع سلطة المسلمين، فسعى إلى التشجيع على إحياء سلطة مركزية قوية من خلال تقديم مفهوم وجود سلطتين مكمِّلتين بعضهما بعضًا تتمثَّلان في خلافتين: إحداهما سياسية والأخرى فقهية، وكلتاهما مسئولتان عن الحفاظ على الإسلام. للسلطة السياسية، يستخدم ولي الله مصطلح «الظاهر»، وهو يعزو إلى هذه السلطة مسئولية الحفاظ على النظام الإداري والسياسي ومسئولية تطبيق الشريعة. وللسلطة الفقهية، يستخدم ولي الله مفهومَ «الباطن»، ويعزو إليها مسئولية إرشاد القادة الدينيين في المجتمع، وهو دور اضطلع به بنفسه.٣٤

ليس التشابه بين هذا النهج ونهج ابن عبد الوهاب بخفيٍّ؛ إذ يتمثَّل في الجمع بين السلطة السياسية وبين سلطة الفقيه للسعي نحو إحياء الإسلام من حالة التردي التي بلغها. بالرغم من ذلك، فلا يزال الاختلاف بين النهجين جليًّا في تلك الصبغة الصوفية التي تميز الإسلام في الهند.

في ظل هذه الصبغة الصوفية، وكي يتمكَّن من ترسيخ وضْع الفقيه بصفته شريكًا في أمور الدولة، تمكَّن شاه ولي الله من نقْد البنية الكلاسيكية للشريعة؛ فتمكَّن من رفضِ «التقليد»، الذي يعني الاتباعَ غير النقدي لآراء علماء مدارس الفقه الكلاسيكية، وإحياء الاهتمام بالاجتهاد، وذلك عن طريق القياس. ومن خلال إحياء مبدأ الاجتهاد، تمكَّن شاه ولي الله من تجاوز حالة الجمود التي سادت مجال دراسة الشريعة.

أكَّد ولي الله أنَّ روح الفقه، هي التي يمكن تطبيقها في جميع الأزمان والأماكن لا قالبه؛ إذ يتشكَّل القالب ويُصاغ بما يتفق مع ظروف الزمان والمكان. لم يُحيِ شاه ولي الله مفهومَ «المصلحة»٣٥ المأخوذ من المذهب المالكي فحسب، لكنه اعتمد، بصورة جوهرية، على التمييز الصوفي الراسخ بين «الشريعة» و«الحقيقة»؛ فالشريعة تاريخية ومحدودة بالزمان والمكان، بينما الحقيقة ما يُدرَك بالممارسة الروحانية التي تكسبك البصيرةَ بالواقع.
ولما كان ولي الله فقيهًا صوفيًّا، فقد حاول تنقية السُّنة من أي تأثير لعلم الكلام؛ لأنَّ علم الكلام يفرض التأمُّل العقلاني لأمورٍ وردت صراحةً في القرآن والسُّنة النبوية أو أمور لم تُذكَر في أيٍّ منهما. ويرى، على العكس من ذلك، أنَّ السُّنة هي الممارسات المتفَق عليها في المجتمع المسلم. ومن خلال هذا التمييز، نجح في فصل السُّنة عن علم الكلام الذي يرى أنه أدَّى إلى انقسام أهل القِبلة (المسلمين) إلى طوائفَ مختلفة وفصائل محددة تتعارض مع اتباعهم لأساسيات الدين.٣٦

وبينما شجَّع الخطاب الهندي الإحيائي المبكر الذي طرحه شاه ولي الله على مزيد من التطورات، مثلما سيتضح لنا، فإنَّ الوهابية لم تتطوَّر قط عن أفكارها الأساسية التي صاغها مؤسِّسها في البداية. ذلك أنَّ الوحدة المطلَقة بين العقيدة والنظام السياسي لم تسمح بتوفير أيِّ نطاق للمعارضة السياسية، بل أيَّدت أيديولوجيات أكثرَ راديكالية وأصولية. والآن في سياق الضغط الأمريكي لإعادة تشكيل العالم العربي بأكمله سياسيًّا وفكريًّا، يوجد كثير من الاجتماعات والمؤتمرات وغير ذلك التي تهدف في الأساس إلى تقديم الوهابية بوصفها نظامًا ديمقراطيًّا ليبراليًّا منفتحًا. إنها محاولة لتجميل الوجه القديم ذاته.

في مصر، ظهر نهجٌ إحيائي مماثل، لكنه ربما ليبرالي أكثر، وكان ذلك بعد اللقاء الأول مع أوروبا. أُرسِل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (١٨٠١–١٨٧٣) بصفته إمامًا لأول بعثة مصرية عسكرية إلى فرنسا (التي أُرسِلت لتلقي تدريبات عسكرية حديثة). كان الطهطاوي متأثرًا بشدة بأستاذه حسن العطار، الذي تولَّى منصب شيخ الأزهر لخمس سنوات (١٨٣٠–١٨٣٤)، وحاول تضمين العلوم الدنيوية في مناهجِ أقدمِ مؤسسة تعليمية إسلامية في مصر، وهي مؤسسة الأزهر. ومن عجيب المفارقات أنَّ الاعتراض جاء من المدير الفرنسي لمدرسة الطب في القاهرة، الذي رأى أنَّ الأزهر ينبغي أن يستمر بصفته مؤسسةً دينية فحسب. ولمَّا كان الشيخ حسن العطار نفسه ضليعًا في العلوم الدنيوية، بما في ذلك الفلك والطب والكيمياء والهندسة، إضافةً إلى الأدب والموسيقى، فإنه لم يرَ تعارضًا بين المعرفة الدينية والعلوم الدنيوية.٣٧
وتأثرًا بمعلِّمه، تمكَّن الطهطاوي من تعلمِ الفرنسية وقراءة بعض أعمال الفكر والأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر. وربما يكون الأهم من ذلك أنه كان لديه الوقت ليرى الحياةَ اليومية في باريس ويلاحظها، وأن يدوِّن ملاحظاته في كتابٍ نُشِر عقِب عودته إلى مصر بعنوان «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». وعند عودته، عُيِّن الطهطاوي مديرًا لمدرسة الألسن التي كانت حديثة التأسيس آنذاك. وفي عام ١٨٤١، أُلحِق بالمدرسة قلم للترجمة. ومن خلاله، تُرجِمَت كتبٌ كثيرة تغطي مجالات متنوعة مثل الجغرافيا والتاريخ والرياضيات والهندسة والقانون وغير ذلك، وكانت هذه الكتب تُنقَل من مختلف اللغات الأوروبية وإليها. وإضافةً إلى كل هذه المهام، عُيِّن الطهطاوي رئيسًا لتحرير أول صحيفة رسمية، وهي: «الوقائع المصرية».٣٨
إنَّ إسهام الطهطاوي في دراسة الإسلام و«تبني نظرة جديدة للتراث» إلى جانب ريادته في عملية الصحوة الفكرية، يكمُن في حقيقة أنه يقدِّم تصورًا جديدًا لفكرة «العلماء». فالطهطاوي لا ينظر إلى العلماء بصفتهم حراسًا لتراث ثابت وراسخ. ولما كان هو نفسه متمرسًا في الفقه على المذهب الشافعي، فقد كان يعتقد بضرورة تكييف الشريعة بما يتلاءم مع الظروف الجديدة، وأنَّ ذلك جائز. وعلى غرار شاه ولي الله، فقد دعا إلى فتح باب الاجتهاد الذي كان قد أُعلِن إغلاقه. وذهب الطهطاوي حتى إلى أبعد من ذلك، فاقترح أنه لا يوجد فرْق كبير بين مبادئ الشريعة وبين مبادئ «القانون الطبيعي»، الذي تأسَّست الأنظمة القانونية في أوروبا الحديثة بناءً عليه. كان معنى هذا الاقتراح أنه يمكن إعادة تأويل القانون الإسلامي في اتجاه التوافق مع الاحتياجات الحديثة، وقدَّم مبدأً يمكن الاستعانة به في تسويغ هذا المقترح، وهو أنه يجوز لأي مؤمن، في ظروف معينة، أن يقبل بأحد التأويلات الفقهية المستمَدة من نظام فقهي يختلف عن نظامه الخاص. وبعد تبنِّي كُتابٍ لاحقين لهذا الاقتراح، استُخدم في تشكيل نظام حديث وموحَّد للقانون الإسلامي في مصر وغيرها من البلدان.٣٩

من الجدير بالذكر أيضًا أنَّ المصلحين المسلمين تمكَّنوا من تجاوز مبدأ الإجماع بإحياء مبدأ الاجتهاد، وهو ما كان إلى حدٍّ كبير ميسورًا وناجحًا، عن طريق تأييد المبدأ الرابع المتمثل في القياس. ونتيجةً لتقويض مبدأ الإجماع، أصبحوا قادرين على مراجعة كتب الفقه، دون تقييد أنفسهم باتباع مذهب محدَّد، مما منحهم مزيدًا من الحرية في اختيار الآراء وبناء القياسات الفقهية. وقد صار لهذا النوع من الإصلاح دورٌ أساسي في مجال صياغة القانون وتقنين الشريعة في كثير من البلاد الإسلامية.

استمرَّت عمليةُ الخروج عن «الإجماع» في أن تكون مصدر التطورات المهمة على مدار القرن العشرين. وبفضل عصر الطباعة والصحافة وظهور النُّظم التعليمية الجديدة، اشتركت فئة جديدة من المفكرين في هذه العملية، مُتَحدِّين بذلك سلطةَ الفئة التقليدية من العلماء، والتي كانت السلطة المهيمنة عبْر العالم الإسلامي. وقد كان لكل هذه العناصر دورٌ جوهري في عملية بناء الدول الوطنية في فترةِ ما بعد الاستقلال. والآن، مع الاستخدام المكثَّف للإنترنت، تفكَّكت سلطة «العلماء» التقليدية، بل سلطة مفكري العصر الحديث أيضًا. إذا كان «العلماء» التقليديون هم مَن تحدَّوا مبدأ «الإجماع» وأعادوا النظر فيه، مما أدَّى إلى فتحِ مجال جديد للتفكير العقلاني في التراث، فإنَّ الفئة الجديدة من المفكرين هي التي كان عليها إحراز مزيد من التقدُّم في آلية «النظرة الجديدة».٤٠

(١١) نظرة جديدة للسُّنة ونقد الحديث: ظهور تفسير جديد

تتضمن السُّنة، مثلما شرحنا سابقًا، أقوالَ النبي محمد وأفعاله، إضافةً إلى ما استحسنه من أقوال صحابته وأفعالهم أو ما استهجنه منها. وعلى خلاف القرآن الذي دُوِّن منذ فترة مبكرة، فقد نُقِلَت السُّنة شفاهيًّا قبل وضعِ كتب التراث قُرابة نهاية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي. إنَّ حقيقة أنَّ جميع الأخبار الخاصة بالسُّنة قد نُقِلَت شفاهيًّا، مما يحمل احتمال التلفيق لمختلف من الأسباب والدوافع، جعلت علماء الحديث المبكرين الذين كانوا على دراية تامة بهذا الاحتمال يطوِّرون قواعدَ نقدية محدَّدة لتقييم أصالة النص، ومن ثمَّ تحديد ما ينبغي أن يُقبَل وتفادي دخول الأخبار الموضوعة إلى كتب الحديث.

وفي هذا السياق الحديث ﻟ «النظرة الجديدة»، استُدعي هذا النهج التقليدي في نقد الحديث وطُوِّر حتى تجاوز النموذجَ النقدي التقليدي الخاص به. ارتبطت النظرة الجديدة للسُّنة بالجهود الساعية إلى جعل معنى القرآن منفتحًا على معالجة القضايا الحديثة عن طريق محاولة تأسيس تفسير قرآني جديد لا يسرف في الاعتماد التقليدي على التراث، وهو النهج المعهود في التفاسير الكلاسيكية للقرآن. بعبارة أخرى، كان نقد السُّنة بصفة أساسية أحدَ نتائج انخراط المفكرين المسلمين في تفسير القرآن بطريقة مختلفة إلى حدٍّ ما عن طريقة التفاسير القديمة. وقد استلزمت هذه الحاجة القوية إلى نهج جديد في التعامل مع القرآن من أجل جعل معناه منفتحًا على التعامل مع الظروف الجديدة بتحدياتها، إبعادَ التفسير القرآني الجديد عن النوع التقليدي الممتلئ عن آخره بنصوص الحديث.

كان الهندي السير سيد أحمد خان (١٨١٧–١٨٩٨)،٤١ وهو عالِم غير تقليدي، أولَ حداثي هندي يطرح أفكارًا جديدة لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت في هذا التفسير. وبصفته أحدَ المدافعين عن الدين، فقد حاول تبريرَ العقائد الدينية الواردة في القرآن في ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة. والظاهر أنَّ المفهوم القائل بأنَّ القرآن هو ما ينبغي أن يشغل المكانةَ الأساسية في إرشاد سلوك المسلمين بدلًا من الدَّور المهيمن للسُّنة النبوية المقبولة بصفة عامة لدى العلماء كان يزداد قبولًا بين فئة من النخبة المثقفة المسلمة في الهند خلال أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وكان الهدف الأساسي من هذا هو خلق مجال لتفسير القرآن وفقًا للمفاهيم الحديثة، إضافةً إلى القضاء على الخرافات السائدة في المجتمعات الإسلامية. كان سيد أحمد أيضًا هو أولَ مَن أثار هذه القضية. فهو يشير إلى بعض التناقضات في تفاسير القرآن، ويشير إلى أنها تفتقر حتى إلى وجود مبادئ عامة يمكن فهْم النص المقدَّس بناءً عليها. إنَّ معظم ما قدَّمه المفسِّرون القدامى لا يتجاوز استنتاجات من القرآن فيما يتعلق بالفقه وعلم الكلام والمواعظ وما شابه. وأجزاء كثيرة من هذه التفاسير القديمة «عديمة الجدوى ومليئة بالأحاديث النبوية الضعيفة والموضوعة»، أو تضم قصصًا مقتبَسة من اليهودية لا أساس لها.
وبناءً على هذا، يرى خان ضرورةَ تحرير مجال تفسير القرآن من قبضة التراث، على أن تحلَّ محلَّه مبادئُ «العقل» و«الطبيعة». يرى خان أنَّ القرآن يقوم بذاته، وأنَّ فهْمه لا يستلزم سوى إعمال عقل مخلص ومستنير. ووفقًا لخان، لا ينبغي أن تعتمد مبادئ التفسير على الحديث، وإلا فإنَّ ذلك سيَمس صفتَي الأبدية والعالمية في القرآن. يرى خان أنَّ معجزة القرآن العظيمة هي عالميته التي تجعل من الممكن لكل جيل أن يجد فيه المعنى الملائم لوضعه، بالرغم من الزيادة المستمرة في المعرفة البشرية. غير أنَّ التفسيرات القائمة على الأحاديث غالبًا ما تحدِّد معنى القرآن بموقف تاريخي بعينه مما يؤدي إلى المساس بصفة العالمية المميزة له.٤٢
أدَّى هذا النهج بأحمد خان إلى اتخاذ موقف نقدي تجاه المصدر الثاني للمعرفة الإسلامية، ألا وهو: السُّنة. فتأثرًا بنهج نقد الكتاب المقدَّس الذي طبَّقه باحثون أوروبيون مثل كارل فاندر (١٨٠٣–١٨٦٥) وويليام موير (١٨١٩–١٩٠٥) على نقل الحديث من ناحية، واستجابةً للتوجُّه الوهابي المنغلق الذي طوَّره أهل الحديث من ناحية أخرى، «رفض في النهاية تقريبًا الحديث بالكامل؛ إذ رأى أنه لا يمكن الاعتماد عليه».٤٣ غير أنَّ تفنيده للحديث لا يعني أنه يرفض السُّنة بأكملها، وإن كان الحديث هو الناقل الأساسي للسنة.
وعلى غرار أحمد خان، يبدو أنَّ المصري محمد عبده (١٨٤٨–١٩٠٥) يتخذ موقفًا نقديًّا، وإن كان أكثر حذرًا، تجاه ما نُقل إلينا في كتب السُّنة المعتمدة. لم يضع محمد عبده أساسًا نظريًّا لإعادة تعريف الأحاديث الصحيحة؛ لكنه كان يرفض في بعض الأحيان الأحاديثَ التي تناقض المعنى الصريح لبعض الآيات القرآنية أو تناقض كلًّا من الفطرة والمنطق. ويتضح هذا جليًّا في رفض الأحاديث المتعلقة بالسحر أو المس الشيطاني، أو تلك التي تذكر نزول الملائكة للقتال إلى جانب المقاتلين المسلمين. ومثلما سنرى، فإنَّ نهجه شبه العقلاني في تفسير القرآن يستلزم نهجًا نقديًّا للسُّنة.٤٤

شهدت بداية القرن العشرين ظهورَ حركة أهل القرآن في الهند، بصفتها استجابة نقدية للتركيز الذي وضعته جماعة أهل الحديث على سلطة السُّنة، وهو تركيز أدَّى إلى الميل نحو النسخة الشعائرية من الإصلاح. لم يكن التحدي الأساسي الذي طرحته حركة أهل القرآن هو أصالة السُّنة بالشكل الذي نُقلت إلينا به من خلال الأحاديث، بل هو ما إذا كانت السُّنة تتخذ المكانة نفسها التي يتخذها القرآن باعتبارها وحيًا إلهيًّا أم لا. ثمة تحدٍّ إذَن قد واجه الرأي الكلاسيكي القائل بأنَّ السُّنة بصفتها شكلًا من أشكال الوحي تكافئ القرآن في السلطة وإن كانت تختلف عنه في القالب.

مصر أيضًا كانت تشهد جدالًا مشابهًا لنظيره الهندي لكنه أقل منه حدة. فمثلما تأثَّرت حركة أهل القرآن الهندية بتركيز سيد أحمد خان على عالمية القرآن في مقابل تاريخية السُّنة، تأثَّر نقاد السُّنة من المصريين بموقف محمد عبده الحذِر من كتب الحديث حتى بلغوا موقفًا أكثرَ راديكالية رافعين شعار: «الإسلام هو القرآن وحده»؛ وهو شعار قد ظهر في سلسلة من المقالات في مجلة «المنار» عام ١٩٠٧.٤٥ وقد أثار هذا الزعم ردةَ فعل قوية في العديد من البلاد الإسلامية، ومنها الهند.٤٦ ومن النتائج المثيرة للاهتمام التي تمخَّضت عن المناقشات بشأن أصالة الحديث ظهور محاولات لفصل مسألة سلطة السُّنة عن مسألة الأصالة التاريخية لنقد الحديث؛ أي قبول نتائج النقد المعاصر للحديث، وإن كان ذلك جزئيًّا على الأقل، مع التمسك مبدئيًّا بأصالة السُّنة.
كان هذا هو النهج العام الذي شجَّع معهد الثقافة الإسلامية الكائن في لاهور على تبنيه تجاه السُّنة.٤٧ ثمَّة محاولة أخرى مماثلة لكنها أكثر تعقيدًا لفصل سلطة السُّنة عن أصالة الحديث نجدها في أعمال الحداثي الباكستاني فضل الرحمن (١٩١٩–١٩٨٨)، الذي كان يشغل منصب مدير المعهد المركزي للبحوث الإسلامية في باكستان في ستينيات القرن العشرين.
تأسَّس هذا المعهد على يد نظام الجنرال أيوب خان، بهدف المساعدة في الترويج للتأويلات الحداثية للإسلام التي تتوافق مع احتياجات النظام. لا بد إذَن من فهْم أعمال فضل الرحمن عن السُّنة على خلفية السياسات الدينية في باكستان خلال ستينيات القرن العشرين، ولا بد من فهمها تحديدًا على خلفية الخلاف بين غلام أحمد برويز (وهو من جماعة أهل القرآن) ومعارضيه من العلماء الباكستانيين. فقد كان رفضُ برويز الجذري للسُّنة، ورؤيته الخاصة للدولة الإسلامية بصفتها وريثًا فعليًّا للسلطة النبوية،٤٨ مرتبطَين في عقول معارضيه بجهود حكومة أيوب في تخطي العلماء من أجل الترويج للإسلام الحداثي.
ظن معارضو الحكومة أنَّ أيوب كان يخطط لتجاوز المصادر التقليدية للسلطة الدينية في صياغته للسياسة، وقد صح ظنهم هذا إلى حد كبير. واستنتجوا من ذلك، خطأً على الأرجح، أنَّ أفكار برويز كانت تترك على سياسة الحكومة أثرًا لا يحق لها. ونتيجةً لهذا، ركَّز الجدال بشأن العلاقة بين الدين والدولة وما للعلماء والحكومة من دور نسبي في صياغة السياسة بشأن المسألة الدينية، على أفكار برويز، ولا سيما على قضية السُّنة. تركَّز الانتباه أيضًا على الصوت الأساسي للنظام بشأن الأمور الدينية، ألا وهو: المعهد المركزي للبحوث الإسلامية في باكستان ومديره.٤٩

يجدُر بنا أيضًا ذكرُ قصة المعهد ودوره في بنية الدولة في باكستان؛ فهي توضِّح الدور الجوهري الذي اتخذه نقد السُّنة في عملية صياغة القانون الحديث. وتوضِّح أيضًا فشل الحركة الإصلاحية عندما تكون على اتصال وثيق بالسياسة البرجماتية للأنظمة السياسية. ويتكرَّر مثال باكستان وإن كان بدرجات مختلفة في غيرها من الدول الإسلامية حيث تتمكَّن الدولة من استغلال المفكرين لصالح الأيديولوجية التي يتبناها النظام.

يبدو واضحًا أنه كان من المقرر للمعهد المركزي للبحوث الإسلامية أن يتخذ قوامًا شبه علماني. فمثلما أشار مسعود،٥٠ كان فضل الرحمن — الذي تخرَّج في جامعة أكسفورد وكان يعمل في وقتِ تأسيس المعهد أستاذًا في جامعة مكجيل بمونتريال في كندا — «قد جمع مجموعة من الباحثين الذين لا يمثلون تخصصات مختلفة فحسب، بل توجهات إسلامية مختلفة أيضًا». كانت تلك المجموعة تمثل مدارسَ فكرية إسلامية مختلفة، والتنوع الإقليمي والعِرقي في باكستان. وإضافة إلى التدريب الذي تلقَّوه في المعارف الإسلامية التقليدية، كان لا بد لهم أيضًا أن ينالوا درجةً علمية في أحد التخصصات الحديثة، مثل الاقتصاد أو علم الاجتماع أو العلوم السياسية أو غير ذلك. كان هؤلاء الباحثون أيضًا حاصلين على درجات علمية متقدمة من جامعات مرموقة في الغرب. فقد أُرسِل العديد منهم إلى الولايات المتحدة وكندا.

كان المعهد بمثابة مؤسسة فكرية استشارية للمساعدة في العمل التشريعي، فقدَّم المادة البحثية لإعداد العديد من القوانين. وكان من مهامه أيضًا مساعدة المجلس الاستشاري الإسلامي الذي كان هو بدوره هيئةً استشارية للمجلس الوطني الباكستاني. لقد كانت القوانين الأسرية الباكستانية التي وُضعَت عام ١٩٦٢ تمثل تأويلًا ليبراليًّا للقرآن والسُّنة.

عارض المحافظون هذه القوانين لأنها وضعت قيودًا على تعدُّد الزوجات، وأعطت للنساء حقوقًا لا يسمح الفقه الإسلامي التقليدي بها. ونتيجةً لهذا، وجد المعهد نفسه هدفًا للدعاية المعادية. لُقِّب فضل الرحمن ﺑ «أبي الفضل»، الوزير السيئ السمعة للإمبراطور المُغولي أكبر الذي يُزعَم أنه أسَّس دينًا جديدًا.

عِلاوةً على ذلك، فقد أثار كتاب فضل الرحمن، «الإسلام: مقدمة عامة»، الذي كُتِب في الأصل دفاعًا عن الإسلام ضد النقاد الغربيين، كثيرًا من الجدل. فخرجت حشود من شعبٍ تبلغ نسبة الأمية فيه ٢٥٪ إلى الشوارع محتجين على كتاب لم يقرأه معظمهم وما كانوا يستطيعون. واستغلت المعارضة السياسية لأيوب هذا الموقف. فأعلن العلماء أنَّ فضل الرحمن زنديق. بدأ الاضطراب في دكا، وهي الدائرة الانتخابية التابعة لمولانا احتشام الحق تهانوي، الذي كان يقود هذا الاحتجاج ضد فضل الرحمن وأيوب خان. وفي عام ١٩٦٩، أدَّت الاضطرابات التي عمَّت أنحاء البلاد إلى استقالة أيوب. وبالنسبة إلى فضل الرحمن، فقد اضطُر إلى مغادرة البلاد، فعمل أستاذًا في جامعة شيكاغو التي واصل التدريس بها حتى وفاته عام ١٩٨٨.

(١٢) نظرة جديدة للقرآن

يمكننا بإيجاز تقسيمُ توجُّه التفسير الحديث للقرآن إلى ثلاثة جوانب أساسية، يعالج كلٌّ منها واحدًا من التحديات الصعبة، التي عرضنا لها من قبل، والتي طرحتها الحداثة على عقول المسلمين: العلم والعقلانية والسياسة.

(أ) الإسلام والعلم

كان الهندي، سيد أحمد خان، الذي ناقشنا أفكاره بالفعل، هو أولَ مَن تناول مسألةَ العلم في تفسيره للقرآن. فمثلما رأينا، كان الهدف من نقد الحديث وتبني نظرة جديدة للسُّنة هو تحرير تفسير القرآن من وطأة التراث الثقيلة، لكي يصبح من الأسهل تقديمُ فهمٍ أكثر حداثة لرسالة الله. ينتقد خان الشروحات الكلاسيكية للقرآن من حيث مصادرها والموضوعات التي تركز عليها، ولا يَقبل من هذه الشروحات إلا ما يتعلَّق منها بالجانب الأدبي في القرآن. ويشير خان إلى تناقضات في تفسير القرآن، ويرى أنَّ هذه التناقضات تفتقر حتى إلى أي مبادئ عامة يمكن فهْم النص المقدس بناءً عليها.

لقد انصبَّ اهتمام سيد أحمد خان الأساسي على التوفيق بين معنى القرآن والاكتشافات الحديثة التي توصَّلت إليها العلوم الطبيعية. فهو يؤكد أهميةَ مراعاة الاكتشافات العلمية الطبيعية عند تفسيرِ ما يتصل بها من آيات القرآن؛ إذ إنها لا تتضمن أيَّ شيء يتناقض مع «قانون الطبيعة».

يرى سيد أحمد خان أنَّ الاكتشافات العلمية الحديثة تمثِّل وعود الله في الواقع، بينما يمثِّل القرآن وعودَ الله في الكلمات. وبناءً على هذا الزعم، يرى أنَّ النص المقدس لا بد أن يتوافق مع قانون الطبيعة، بما في ذلك الاكتشافات العلمية. لذا، يرفض خان المعجزات والعديد من الأوصاف القرآنية التي يعتبرها «خارقة للطبيعة» بمعناها الحرفي، ويرى أنها مجازات أو أوصاف غير مباشرة للواقع.٥١
يوضح خان أنَّ فهْم الكلمات والتعبيرات القرآنية ينبغي ألا يقتصر على معانيها الحرفية المباشرة فحسب؛ فكثيرًا ما يَستخدم القرآن المجازات والأمثال وغير ذلك من وسائل التعبير غير المباشرة. ولكي يقدِّم دعمًا تقليديًّا أصيلًا لحجَّته، يشرح خان أنَّ العلماء القدامى لم يقبلوا بالمعنى الحرفي لكثير من الكلمات القرآنية حين كان ذلك المعنى يتعارض مع المنطق السليم أو العقل البشري. وأوضح أيضًا أنَّ السبب الذي دفعهم إلى الاعتراف بالمعجزات، ومن ثَم قبولهم للأوصاف القرآنية الخارقة للطبيعة بمعناها الحرفي، أنَّ العلوم الطبيعية لم تكن قد تطوَّرت بالقدْر الكافي في تلك الفترات. ولما كنا لا نعرف عن الأدب العربي ما قبل الإسلام إلا قليلًا، يستنتج خان أنَّ ثمة احتمالية بأن يكون للكلمات والعبارات معانٍ أخرى غير تلك التي شرحها المعجميون. وبناءً على هذا، لا بد لنا أيضًا من الاعتماد على مصادرَ أخرى وقبول معاني القرآن التي تصل إلينا منها، وإن كانت غير موجودة في المعاجم.٥٢
من البديهي أنَّ سيد أحمد خان يسلِّم دون نقد بالمفهوم الواضح للقرآن بوصفه نصًّا، وهو المفهوم المترسِّخ للقرآن منذ تدوينه وجمعه. ونجد في هذا تفسيرًا لإعجابه بما يتعلق بالجانب الأدبي في القرآن في الشروحات القديمة. وبالرغم من تشكُّكه بشأن مقدار المعرفة المتوافر عن ثقافةِ ما قبل الإسلام، فإنه يؤكد بصورة منهجية على أهميتها. ويخلص خان إلى أنه لا بد من فهْم القرآن وتفسيره وتأويله من خلال القرآن نفسه، في المقام الأول؛ أي، من خلال فهْم بنيته الداخلية. ويرى خان أنَّ هذا المبدأ مأخوذ من النص المقدس.٥٣ أما المبدأ المنهجي الثاني الذي يتبنَّاه خان فهو أنَّ فهم الأدب العربي في فترةِ ما قبل الإسلام ضروري لفهم القرآن.
من الناحية المنهجية، لا يوجد ما هو جديد في الافتراضات التي ينطلق منها سيد أحمد خان. غير أنَّ الفرْق بين تفسيره والتفاسير القديمة يكمُن في نطاق المعنى — المعنى الحديث — الذي يعتبر أنَّ العلوم، ولا سيما العلوم الطبيعية، هي دين العلمانية الجديد. لقد انبهر أحمد خان بعالم العلم والاكتشافات الجديد، وكان عليه أن يجد طريقة لدمجه في النص المقدس الذي يؤمن به. وأنا أقترح هنا أنَّ جهود سيد أحمد خان في أن يجعل معنى القرآن منفتحًا على قبول الاكتشافات العلمية هو البذرة التي تفرع منها بعد ذلك اتجاهان يبدوان متناقضين، وهما التركيز على الإعجاز العلمي للقرآن٥٤ وأسلمة المعرفة والعلوم.

(ب) الإسلام والعقلانية

رغم أنَّ محمد عبده لم يكن من علماء الكلام ولا الفلاسفة، فقد كان معجبًا بالمعرفة الفلسفية والصوفية لدى جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩–١٨٧٩). لكن بينما كان الأفغاني إلى حد كبير ناشطًا ومعلمًا يستنهض الهمم،٥٥ تخلى عبده عن السياسة وركَّز جهوده في نطاق الفكر، لا سيما بعد نفيه بسبب مشاركته في ثورة عرابي التي انتهت بالاحتلال البريطاني لمصر عام ١٨٨٢. ونظرًا لتأثُّر عبده الشديد بالأفغاني الذي جلب لمصر فكرةَ التفسير الجديد الحديث للإسلام، تبنَّى عبده توليفةً من العقلانية الكلاسيكية والوعي السياسي الاجتماعي الحديث. وقد مكَّنه هذا من تبني نظرة جديدة تجاه المصدرين الأساسيين للمعرفة الإسلامية: القرآن والسُّنة، إضافةً إلى بنية علم الكلام الإسلامي، مهيئًا بذلك الأساس لما يُعرف بحركة «الإصلاح».
حين عُيَّن محمد عبده في وظيفة مفتي الديار المصرية عام ١٨٩٩،٥٦ عالج العديد من المشكلات الاجتماعية والثقافية العملية التي كانت تحتاج إلى معالجتها من منظور إسلامي عقلاني. فأعدَّ برنامجًا لإصلاح التعليم العالي الإسلامي ولإصلاح تطبيق القوانين الإسلامية. وحاول تنفيذ هذه الإصلاحات العملية؛ وقد تجلَّى ذلك أولًا حين اقترح إصلاح التعليم عمومًا والأزهر خصوصًا في عام ١٨٩٢، وثانيًا في الخطط الكثيرة التي اقترحها لإصلاح النظام القانوني. نجحت مجهودات عبده في إدخال بعض الإصلاحات على الأزهر بصفة جزئية، لكن مقاومة العلماء التقليديين كانت قوية للغاية، فوجَّه عبده تركيزه الأكبر إلى الإصلاح الفكري.

تتجلى ثقةُ عبده في «العقل» في جميع نشاطاته، على الرغم من أنه يرى أنَّ «الدين» يوفِّر الأساس الذي يحمي «العقل» من الخطأ. وأدَّت به مسألة الإسلام والمعرفة الحديثة، وهي مسألة جوهرية في جميع كتابته، إلى فحصِ التراث الإسلامي من جديد، والدفعِ أكثر باتجاه إعادة فتح «باب الاجتهاد» في جميع جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية. ولأنَّ الدين جزءٌ جوهري من الوجود البشري، فقد حاجج عبده بأنَّ السبيل الوحيد الذي يبدأ منه الإصلاح الحقيقي هو إصلاح التفكير الإسلامي.

في كتابه «تفسير المنار»، يوضِّح محمد عبده مفهومَ القرآن بصفته «نصًّا» من خلال طريقتين؛ أولًا: التأكيد ضمنيًّا على بنيته الأدبية، وثانيًا: الربط بين أسلوبه في التعبير عن رسالته في القرن السابع والمستوى الفكري للعقلية العربية في ذلك الوقت. لذا، رأى محمد عبده أنَّ أيًّا ما يبدو غير عقلاني أو متعارضًا مع العلم والمنطق في القرآن لا بد أن يُفهم على أنه يعكس رؤية العرب للعالم في ذلك الوقت. فجميع الآيات التي تشير إلى الخرافات كالسِّحر والحسد يجب أن تُفهم بأنها تعبيرٌ عما كان العرب يؤمنون به. ويستخدم «تفسير المنار» الأساليبَ البلاغية الأدبية (مثل «المجاز» و«االمَثل») باعتبارها أساسًا للتفسير العقلاني لما يرِد في القرآن من ذكرٍ لأحداث وأفعال تنطوي على المعجزات. وبناءً على هذا، يوضح عبده أنَّ الآيات التي تتحدَّث عن إرسال الملائكة من السماء لمحاربة الكفار هي تعبير عن التشجيع؛ إذ كان الهدف منها طمأنة المؤمنين، ومن ثَم تمكينهم من تحقيق النصر.٥٧

إنَّ مجهود محمد عبده هو أول مجهود صريح في دراسة القرآن في سياق الخلفية الثقافية للقرن السابع، وهي طريقة طوَّرها بعده مفكرون مسلمون آخرون من المصريين والعرب. وهذه العملية المتمثلة في دراسة القرآن في سياقه التاريخي قد قادت محمد عبده إلى نزع الطابع الأسطوري عن السرد القرآني، وكذلك الاقتراب من إزالة الغموض عن النص المقدس.

بينما كان سيد أحمد خان يحاول التوفيق بين القرآن والعلم من خلال إيجاد معادلة بينهما — المعادلة بين «الوعد الإلهي في الواقع» و«الوعد الإلهي في الكلمات» — فقد اكتفى محمد عبده بوضع القرآن في سياق القرن السابع؛ ومن ثَم استبعاد أي محاولة للمقارنة بين القرآن والعلم.

وقد تمثَّلت أهم مساهمات محمد عبده في هذا المجال في إصراره على أنَّ القرآن ليس بكتاب في التاريخ ولا بكتاب في العلوم، وإنما كتاب هداية. وبناءً على هذا، فلا يجوز البحث عن إثبات لأي نظرية علمية في القرآن. وبالنسبة إلى القصص القرآنية، رأى محمد عبده أنه لا ينبغي اعتبارها وثائقَ تاريخية. فالحوادث التاريخية المذكورة في القصص القرآنية ترِد بأسلوب أدبي وسردي لتوصِّل دروسًا من العظة والنصيحة.٥٨ كان عبده واضحًا للغاية في التفريق بين «التأريخ» والقصص القرآنية. فذكر أنَّ التأريخ مجالٌ علمي يقوم على الاستقصاء والفحص النقدي للبيانات المتوافرة (الأخبار والشهادات والذكريات والأدلة الجغرافية أو المادية، على سبيل المثال). على الجانب الآخر، أهداف القصص القرآنية أخلاقية وروحانية ودينية. ربما تكون هذه القصص مستمدَّة من أحداث تاريخية، لكنها لا تهدف إلى توفير معرفة عن التاريخ. وهذا يفسِّر السبب في أنَّ أسماء الأشخاص والأماكن والتواريخ لا ترِد في هذه القصص. وحتى إذا كانت القصة عن نبي أو عن أحد أعدائه (مثل فرعون)، فإنَّنا نجد أن كثيرًا من التفاصيل محذوفة. من الجلي إذَن أنَّ عبده يعارض طريقةَ التفاسير الكلاسيكية التي حاولت توضيح هذه «المبهمات». أكَّد محمد عبده أنَّ أهمية القصة لا تتوقف على مثل هذه المعرفة، بل على درس «الموعظة» الذي يمكن استنتاجه منها.٥٩

من المهم هنا أن نركِّز على حقيقة أنَّ خطاب محمد عبده الفكري الليبرالي يمثل الجانب الفكري من مشروع التحديث الذي بدأه محمد علي (١٧٦٠–١٨٤٩) لتأسيس دولة حديثة في مصر، وهو المشروع الذي نفَّذه حفيده، الخديوي إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩) الذي بدا واضحًا أنه كان يرغب في أن تصبح مصر مثل أي دولة أوروبية. كان لأفكار محمد عبده تأثيرٌ كبير خلال القرن العشرين على نطاق العالم الإسلامي بأكمله، وذلك بفضل مجلة «المنار» (١٨٩٨–١٩٣٦) التي أسَّسها رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥)، تلميذ محمد عبده وشريكه.

إنَّ تفسير محمد عبده الذي اتسم بالتوجُّه «العقلاني» لم يخلُ تمامًا من مناقشة قضية العلوم الحديثة؛ إذ تناولها بصورة ضمنية، مثلما أنَّ تفسير أحمد خان الذي اتسم بالتوجه «العلمي» لم يخلُ من مناقشة العقلانية. فعلى غرار محمد عبده في جهوده لتحرير مجال تفسير القرآن من التراث، وضع أحمد خان مبادئ «العقل» و«الطبيعة»، بديلًا عن الاعتماد الكلاسيكي الشديد على الاقتباسات المأخوذة من مصادر التراث. رأى خان أنَّ القرآن كِيان قائم بذاته، ولا يستلزم لفهمه سوى عقل مستنير ومخلص. فوفقًا لأحمد خان، لا ينبغي أن تعتمد مبادئ التأويل على الحديث، وإلا فسيمس صفتي الأبدية والعالمية في القرآن. يرى خان أنَّ معجزة القرآن العظمى هي عالميته التي تجعل من الممكن لكل جيل أن يجد فيه المعنى الملائم لوضعه رغم الزيادة المستمرة في المعرفة البشرية. أما التفاسير المستندة إلى الحديث، فهي غالبًا ما تحدِّد معنى القرآن بموقف تاريخي محدَّد؛ ومن ثَم تخفي شموليته.٦٠

(ﺟ) الإسلام والسياسة

لم يغِب الاهتمام بالسياسة عن تفسير عبده ولا عن تفسير أحمد خان. وليس من الملائم أيضًا أن نقترح أنَّ التفسير ذا التوجُّه «السياسي» قد بدأ على يد المؤلف والصحفي ومفسر القرآن والمنظِّر والناشط السياسي الباكستاني، أبي الأعلى المودودي (١٩٠٣–١٩٧٩). بالرغم من ذلك، فقد كان المودودي هو مَن أعطى الحركةَ الإسلامية السياسية أساسها القرآني الذي حاكاه سيد قطب. كان للمودودي النصيب الأكبر في تشكيل «الأصولية المتشددة» التي تُعرَف أيضًا باسم «الإسلام السياسي»،٦١ والتأثير في تطويرها بعد ذلك. وقد صرَّح قادة الثورة الشيعية في إيران عام ١٩٧٩ أنَّ المصادر الأساسية التي ألهمتهم تشكيلَ دولة إسلامية هي كتابات «أخويهم» السُّنيَّين المصريَّين، حسن البنا وسيد قطب، والباكستاني المودودي.

غنيٌّ عن القول أنَّ السياق الهندي تحت حكم الاحتلال البريطاني هو الذي شهد بداية تدهور العلاقة بين المسلمين والهندوس. فقد بدأ المودودي دراسته الموسَّعة لعقيدة الجهاد في منتصف عشرينيات القرن العشرين، ردًّا على اتهامات الهندوس بأنَّ الإسلام قد انتشر بحد السيف، بعد أن قام أحد المسلمين باغتيال قائد غير مسلم. وقدَّم هذا العمل، الذي نُشر في البداية على هيئة أجزاء مسلسلة ثم نُشر كاملًا تحت عنوان «الجهاد في الإسلام»، العناصر الأساسية لأفكاره اللاحقة. وفي عام ١٩٣٢، وفي المجلة الشهرية، «ترجمان القرآن»، والتي ستصبح الوسيلةَ الأساسية لنقل أفكاره لبقية حياته، بدأ المودودي في صياغة أفكاره عن الإسلام السياسي. ووضع أهدافَ مهمته الفكرية في السطور الآتية:

كانت خطتي هي أن أتمكَّن أولًا من تحرير النخبة المسلمة من القبضة التي أحكمتها حولهم الثقافة الغربية وأفكارها، وأن أغرس فيهم حقيقةَ أنَّ الإسلام له نظام حياة وثقافة ونظام سياسي واقتصادي وفلسفة ونظام تعليمي خاص به، وكلها أرقى من أي شيء تستطيع الحضارة الغربية تقديمَه. لقد أردتُ أن أحرِّرهم من المفهوم الخاطئ بأنهم يحتاجون إلى الاقتراض من الآخرين في مجال الثقافة والحضارة.٦٢

وفقًا لهذه الأيديولوجية التي يمثِّل فيها الغرب والإسلام ثنائية، فإنَّ المجتمعات الإنسانية المعقَّدة تُصنَّف إلى نوعين فحسب؛ فهي إما «إسلامية» وإما «جاهلية». وبناءً على رؤية المودودي الإسلامية، فما دام الكون «دولة منظمة» و«نظامًا شموليًّا»، تُخوَّل فيه جميع السلطات إلى الله، الحاكم الأوحد، فإنَّ دولة الإسلام، أو الدولة الإسلامية، هي ما ينبغي أن يمثل التجسيد الأرضي للكون.

إذا كان كلٌّ من محمد عبده وأحمد خان قد حاولا، كلٌّ بطريقته، وضْعَ القرآن في سياقه من أجل توسيع معناه عن طريق المجاز والمَثل، فإنَّ المودودي وسَّع من معناه الحرفي ليتعامل مع العالم الحديث. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ المودودي يتناول الآيات من ٤٢ إلى ٥٠ من سورة المائدة — التي تشتهر الآن بآيات «الحاكمية»، بمعنى أنَّ الله وحدَه هو صاحب السلطة المطلَقة، والتي كانت تخاطب الأشخاص الذين رفضوا الإسلام خلال زمن النبي — على أنها تخاطب المسلمين الآن؛ ويرى أنها لا تعني تطبيق القواعد التي شرعها الله فحسب، بل تنص أيضًا على إقامة دولة دينية.

بعد أن درس سلومب كتاب المودودي عن الجهاد بالتفصيل، يعلِّق عن وجه حق بأنَّ تأويل المودودي هو تأويل يجعل القرارات التي اتُّخذَت في لحظات تاريخية معينة قانونًا إلهيًّا أبديًّا. ونظرًا لأهمية تعليق سلومب، فمن الأفضل أن أقتبسه كاملًا.

بناءً على حجج المودودي نفسه وأمثلته، يستنتج القارئ أنَّ جميع العبارات المتعلقة بالجهاد في القرآن والحديث وتاريخ الإسلام المبكِّر قد بُنيَت على مواقفَ فعلية، وصيغَت على أساس قرارات تتعلق على سبيل المثال بالعبيد وغنائم الحرب والأسرى و«المنافقين» والخونة والتعامل مع الأعداء والأقليات، وكلُّ ذلك بصفته جزءًا من عملية تاريخية. أما إضفاء طابع التقديس على نتيجة هذه العملية مثلما يفعل المودودي، فهو يوضح أنَّ نقطة ضعف هذا النهج الإسلاموي هي طريقته في التعامل مع التاريخ. ذلك أنه يعطي جميع الأحداث في حياة النبي وصحابته السلطة نفسها التي يعطيها للوحي. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ تأويل المودودي لهذا «التاريخ المُنزَّل منزلة الوحي» يُقدَّم بصفته ملزمًا للإسلام في جميع العصور.٦٣

يمكن استنتاج أنَّ سيد أحمد خان وعبده والمودودي قد مهَّدوا الطريق للمفكرين المسلمين على مدار القرن العشرين لتوسيع نطاق معنى القرآن بطرق مختلفة؛ ومن ثَم معنى الإسلام، بما يتوافق مع الحداثة. ومثلما أوضحنا، كان سيد أحمد خان منشغلًا بصفة جوهرية بتحدي العلوم الحديثة، وكان محمد عبده منشغلًا بقضية «العقلانية» في العموم، وكانت جهود المودودي استجابة لتحدي الهيمنة الغربية، ومن ثَم تغريب العالم الإسلامي. وإذا كان نهج خان يُعَد بذرة نهج «الإعجاز العلمي» وتوجُّه أسلمة العلوم والمعرفة، فإنَّ محمد عبده قد طوَّر نهجه فيما كان يُعرَف باسم «النهج الأدبي». وبالنسبة إلى نهج المودودي، فإنه يقف وحدَه بصفته المصدرَ الحقيقي لما تلاه من تأويل سياسي وأيديولوجي للقرآن. وبصرف النظر عن الاختلافات بين أمثلتنا الثلاثة، فيما يتعلَّق بالمنهجية والنتائج، فقد اتبعوا جميعًا الافتراضَ الكلاسيكي القائل بأنَّ القرآن نص.

مرةً أخرى، نجد أنَّ السؤال المطروح أمامنا الآن هو: أيُّ المعنيين سيسود؛ التآلف أم العزلة؟ وثمة سؤال آخر وثيق الصلة بذلك وهو: هل المسلمون مستعدون لتبني نظرة جديدة للقرآن أم لا؟ هل من الممكن أن نفكِّر في الخيارات المفتوحة التي يتيحها لنا الخطاب القرآني ونعيد النظر في المعنى الثابت الذي يطرحه علينا العلماء التقليديون؟ بعبارة أخرى، إلى أيِّ مدًى سيتطور إصلاح الفكر الإسلامي؟ إنَّ هذا السؤال يستوجب أن نستدعي إلى مناقشتنا العلاقةَ بين الغرب والعالم الإسلامي. كيف تؤثِّر هذه العلاقة في الكيفية التي يعمل بها المسلمون على «تبني نظرة جديدة» تجاه تراثهم لتحديث حيواتهم دون التخلي عن قوَّتهم الروحانية، لا سيَّما في ضوء المشروع الاستعماري لأمريكا؟ يؤسفني أنَّ الإجابة ليست إيجابية، لا سيما مع المشروع الاستعماري الأمريكي الجديد. فكلٌّ من المشروع الأمريكي الاستعماري والإمبريالي الجديد، وبناء مناطق منعزلة في الشرق الأوسط، ستؤيد على الأرجح الخطابَ الأكثر إقصائية في الفكر الإسلامي المعاصر. علينا إذَن أن ننتبه، وأن نحرص على توحيد جهودنا لمكافحة هذا بجميع الطرق الممكنة.

١  See Muhammad Arkoun, Rethinking Islam, common questions, uncommon answers, translated by Robert D. Lee, Westview Press, 1994, pp. 35–40; The Unthought in Contemporary Islamic Thought, Saqi Books & The Institute of Ismaili Studies, London 2002, p. 99. وللاطلاع على آراء حسن حنفي راجع كتابي «نقد الخطاب الديني»، القاهرة، الطبعة الثانية، الصفحة ١٨٧.
٢  راجع على سبيل المثال، كتابي «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن»، بيروت وكازابلانكا، الذي نُشِر للمرة الأولى عام ١٩٩٠، وصدرت الطبعة الرابعة منه عام ١٩٩٨، إضافةً إلى الإصدارات اللاحقة. ولمزيد عن الدراسة الأدبية، راجع ورقتي البحثية: «معضلة الدراسة الأدبية للقرآن» في دورية «ألف»، «مجلة البلاغة المقارنة»، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد ٢٣، الأدب والمقدس، ٢٠٠٣، الصفحات ٨–٤٧.
٣  I owe this realization to the research for writing a long article about ‘the Qur’an in Everyday Life’ to the Encyclopedia of the Qur’an, Brill Leiden (henceforth EQ), vol. 2 (2002), pp. 80–98.
٤  Stefan Wild (ed.), E. J, Brill, Leiden, first print 1996.
٥  Ibid., p. viii in the introduction.
٦  Cf. article ‘Ali b. Abu Talib’, The Encyclopedia of Islam, E. Brill (henceforth EI), Leiden, 2ed edition, vol. I, p. 381ff.
٧  For examples of different ways of intonations and appropriations of the Qur’anic verses see the article ‘Everyday life, Qur’an in’ EQ, vol. II, op. cited.
٨  «الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، المركز الثقافي العربي، كازابلانكا وبيروت، نُشرَت الطبعة الأولى عام ١٩٨٢، ثم صدرت منه طبعات عديدة بعد ذلك.
٩  هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
١٠  For more detailed explanation see art, naskh by J. Burton in EI, vol VII, pp. 10010ff. See also the same author’s article ‘Abrogation’ in EQ, Brill Leiden vol. 1, 2001, pp. 11ff.
١١  «فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي»، المركز الثقافي العربي، كازابلانكا وبيروت، نُشرَت الطبعة الأولى عام ١٩٨٣، وتلتها طبعات كثيرة.
١٢  See article ‘Tassawuf’, in EI, vol. x, pp. 317ff.
١٣ 
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة
فمرعًى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أَدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
راجع ديوان «ترجمان الأشواق» لابن عربي.
١٤  Cf. On the Harmony of Religion and Philosophy, translation of lbn Rushd’s Fasl A-Maqal by George Hourani, E. Brill, Leiden, 1992, Chapter 3.
١٥  See article ‘Qur’an’, EI, vol. v, pp 400ff; section 7.
١٦  Rethinking Islam, op. cited. p. 38.
١٧  Ibid., pp. 38-39.
١٨  According to the report narrated and related to the prophet on the account of his wife ‘Âisha, about the first encounter between Muhammad and the Holly Spirit, Gabriel, see, The Life of Muhammad (translation of lbn lshâq’s Sîrat Rasûl Allâh) with introduction and notes by A. Guillaume, Pakistan Branch, Oxford University Press, Lahore, first published 1955, reprint 1967, p. 105.
١٩  راجع، «الموطأ»، لمالك بن أنس، كتاب النداء للصلاة، رقم ١٧٤؛ «صحيح مسلم»، كتاب الصلاة، رقم ٥٩٨. برنامج صخر للكمبيوتر، موسوعة الحديث الشريف، حقوق النسخ محفوظة لشركة صخر للبرمجيات، ١٩٩٥.
٢٠  «صار الجمهور لجواز نكاح الكتابيات الأحرار بالعقد؛ لأنَّ الأصل بناء الخصوص على العموم. أعني أنَّ قوله تعالى … (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة، الآية ٥]) هو خصوص، وقوله (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة، الآية ٢٢١]) هو عموم. ومن ذهب إلى تحريم ذلك جعل العام ناسخًا للخاص، وهو مذهب البعض.» ابن رشد، «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، الجزء الثاني، الصفحة ٥١.
٢١  الآية ٥ من سورة المائدة؛ قارنها بالآية ٢٢١ من سورة البقرة التي يتجلى فيها نمط آخر من أنماط الخطاب، يتمثل في عدم التفاوض مع المشركين: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
٢٢  الرأي الشرعي الذي قدَّمه مجلس الفتوى الأوروبي بجواز استمرار زواج المسلمة التي دخلت حديثًا إلى الإسلام من زوجها غير المسلم، والذي أثار ردَّ فعل غاضبًا في العالم الإسلامي، كان يستند إلى حالات مشابهة في التراث المبكر، وأيضًا إلى التوقُّع المرجو بأن هذه الزوجة التي هداها الله إلى الإسلام ستُلهم زوجها الدخول فيه.
٢٣  See the detailed account in The Life of Muhammad, op. cited. pp. 106-7.
٢٤  Ibid., pp. 146–152.
٢٥  Ibid., the full text of the document pp. 231–233.
٢٦  Ibid,. pp. 270ff.
٢٧  للاطلاع على مناقشة تفصيلية توضح كيفية عزل هذه الآية المحددة من سياقها، والتلاعب بها، من خلال إعرابها أو معاني كلماتها، وللمزيد أيضًا عن الخلاف الكلامي، راجع: Leah Kinberg art. ‘Ambiguous’ EQ, vol. 1, pp. 70–76. راجع أيضًا كتابيَّ: «الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في مفهوم المجاز في القرآن عند المعتزلة»، المرجع السابق الذكر، الصفحات ١٨٠–١٨٩؛ وكتاب «مفهوم النص»، المرجع السابق الذكر، صفحة ١٧٩ وما يليها.
٢٨  سياسي ودبلوماسي ومؤرخ كان مسئولًا عن جانب كبير من التوسع الفرنسي الاستعماري في أفريقيا، وكان من المناصرين لحلف فرنسي روسي ثبتت أهميته في الأحداث المؤدية إلى الحرب العالمية الأولى. وبصفته قوميًّا فرنسيًّا، كان ملتزمًا بسياسات التوسع الاستعماري. وعلى مدار فترة تَولِّيه الوزارة، ترسَّخت هيمنة فرنسا في غرب أفريقيا الفرنسي ومدغشقر وتونس، وشُنَّت غارات على الجزائر.
٢٩  راجع ترجمة مقالة هانوتو إلى العربية وتعليق محمد عبده عليها في «الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده»، تحرير محمد عمارة، ٥ مجلدات، بيروت ١٩٧٢، المجلد ٥، الصفحة ٢٠١ والصفحة التالية.
٣٠  Extensive information on Al-Afghani can be found in N. Keddie, An Islamic Response to Imperialism: Political and Religious Writings of Sayyid Jamal Ad-Din Al-Afghani (Berkeley, 1983); R. Matthew, ‘Jamal Al-Din Al-Afghani and the Egyptian National Debate’, IJMES, Vol. 21 (1989), pp. 151–169; E. Kedourie, ‘Afghani and Abduh. An Essay on Religious Unbelief and Political Activism’, Modern Islam (London, 1966).
٣١  يشير مصطلح الجاهلية إلى العُرف الثقافي والقَبلي في الجزيرة العربية في فترة ما قبل الإسلام. كان رضا مؤيدًا بشدة للمذهب الوهابي، وفقًا لكتابات محمد بن عبد الوهاب (المتُوفى ١١٣٥ هجريًّا/١٧٩٢ ميلاديًّا) الذي كان هو نفسه تابعًا لواحد من المفكرين المسلمين الأكثر أصولية، ابن تيمية (المتُوفى ٦٨٥ هجريًّا/١٣٢٨ ميلاديًّا). ولأنَّ رضا كان مفكرًا تقليديًّا، فقد ألهم حسن البنا بإمكانية إقامةِ دولة الخلافة. وقد كان المثال الناجح الذي وضعه كلٌّ من محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود في تأسيس دولة ثيوقراطية لكي تكون مملكة الإله على الأرض حيًّا بالفعل. وصار حلم كلٍّ من رجل الأيديولوجيا والأمير الطموح حقيقةً من خلال تجسد الأيديولوجيا في تشكيل تنظيم عسكري من القبائل يُسمى الإخوان أو إخوان من أطاع الله. ولقد تأسَّست جماعة الإخوان المسلمين لكي تكون بمثابة الجنين للدولة الإسلامية المستقبلية في مصر.
٣٢  See. Bernard, M., article ‘Ijmâ'’ in EI, vol. III, pp. 1023f.
٣٣  See, Bernard, M, article ‘Qiyâs’ in El, vol. v, pp. 238.
٣٤  See Brown, Daniel, Rethinking Tradition in Modern Islamic Thought, Cambridge Middle East Studies, Cambridge University Press, UK 1996, pp. 22–3.
٣٥  Hujjat Allah Al-Bâligha (The Conclusive Argument from God), translated by H. Daiber and D. Pingree, EJ. Brill 1996, p.11.
٣٦  Ibid., p. 24.
٣٧  راجع «تقرير الحالة الدينية في مصر»، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة ١٩٩٥.
٣٨  Hourani, Albert. Arabic Thought in the liberal Age (1798–1939), Cambridge University Press, London 1983, reprinted 1984, p. 71.
٣٩  Hourani, op. cited. p. 75.
٤٠  See, Dale F. Eickelman and Jon W. Anderson (eds.) New Media in the Muslim World, Indiana University Press, 1999, especially their contributions and the introduction.
٤١  On Sir Sayyad Ahmad Khân, see Christian W. Troll, Sayyid Ahmad Khân: An Interpretation of Muslim Theory (Oxford University Press, New Delhi, 1978); Hafeez Malik, Sir sayyid Ahmad Khân and Muslim Modernization in India and Pakistan (Columbia University Press, New York, 1980).
٤٢  Rethinking Tradition, cited. p. 44.
٤٣  Ibid., p. 33.
٤٤  Ibid., p.37.
٤٥  كاتب هذه المقالات هو محمد توفيق صدقي، مجلة «المنار»، المجلد ٧، الصفحات ٥١٥–٥٢٥؛ والمجلد ١٠، الصفحات ٦٨٣–٦٨٩؛ والمجلد ١١، الصفحات ٦٨٩–٦٩٧ والصفحات ٧١٧–٧٧٩.
٤٦  المرجع السابق الذكر، المجلد ١١، الصفحات ١٤١–١٤٥ والصفحات ٥٢١–٥٢٧.
٤٧  Rethinking Tradition, op. cited. pp. 100–1.
٤٨  Ibid., p. 48.
٤٩  Ibid., p. 102.
٥٠  Muhammad Khalid Masud, “Islamic Research Institute”, ISIM Newsletter 1/98, p. 43.
٥١  See Sayyed Ahmad Khân, ‘Tahrîr fî usûl Al-Tafsîr’ (writing on the principles of interpretation), in Tafsîr Al-Qur’ân wa huwa Al-Hudâ wa’l-Furqân (Interpretation of the Qur’ân Which Is the Guide and the Proof) (Khuda Bakhsh Oriental Public Library: Patna, India, 2nd ed. 1995) vol. I, pp. 1–20.
٥٢  Ibid., p. 15.
٥٣  Ibid., pp. 2 and 13–15.
٥٤  وفقًا لمقالة نُشرت في الملحق الأسبوعي لجريدة الأهرام بتاريخ ٢٧ أكتوبر ٢٠٠٠، الصفحة ٢، فإنَّ الإعجاز العلمي للقرآن لا يهدف إلى إقناع العرب بأصالة القرآن ومصدره الإلهي. فالكاتب يؤكد أنَّ العرب يكفيهم إعجاز القرآن البلاغي، لكنَّ هذا التفسير لا يكون كافيًا لغير العرب ولا مقبولًا لديهم. ذلك أنَّ العلم هو النمط الأسمى من المعرفة في الثقافة الغربية. وقد كُتبت هذه المقالة في الأصل للرد على النقد الموجَّه لمفهوم الإعجاز العلمي في القرآن. يرى هذا النقد أنَّ ربط القرآن بنظرية علمية قابلة للتغير ويمكن تحدِّيها مع تطور المعرفة البشرية يضرُّ في حقيقة الأمر بألوهية القرآن وأبديته، وهو كلام الله. ودفاعًا عن صلاحية مفهوم الإعجاز العلمي، يميز الكاتب بين الحقائق العلمية والنظريات العلمية، ويؤكد أنَّ إعجاز القرآن يتأسَّس على الأولى لا الثانية. فإذا ذُكرَت هذه الحقائق في القرآن تصريحًا أو تلميحًا، فإنها تمثل البرهان الشامل والراسخ على ألوهيته. وقد أصبح سياق التوافق هذا بين الإسلام، ولا سيما القرآن، والعلوم الحديثة، إحدى القضايا التي تشغل المفكرين المسلمين من غير رجال الدين. ويمكن الرجوع في هذا الموضوع إلى عدد من المؤلفات، نذكر منها:
  • (١)

    «كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية»، محمد بن أحمد الإسكندراني، القاهرة، ١٢٩٧ / ١٨٨٠.

  • (٢)

    «تبيان الأسرار الربانية في النباتات والمعادن والخواص الحيوانية»، سوريا، ١٣٠٠ / ١٨٨٣.

  • (٣)

    «مقارنة بعض مباحث الهيئة بالوارد في النصوص الشرعية»، عبد الله فكري (كان وزير التعليم في مصر)، القاهرة، ١٣١٥ / ١٨٩٧.

  • (٤)

    «الجواهر في تفسير القرآن»، طنطاوي جوهري (المتوفى ١٩٤٠)، ٢٦ مجلدًا، تاريخ الطبعة الأولى مجهول، الطبعة الثانية، القاهرة، ١٣٥٠ / ١٩٧١. يقع هذا التفسير في عدة أجزاء، وفيه يحاول المؤلف جاهدًا أن يجد جميعَ ما يتعلق بالعلوم الحديثة والتكنولوجيا أو حتى الاكتشافات الحديثة في القرآن. على سبيل المثال، يعالج ست آيات (الآيات ٢٧–٣٢ من سورة المائدة) في ٢٥ صفحة التي تتضمن العديد من العناوين الفرعية التي تبدأ ﺑ «التفسير اللفظي» وتنتهي ﺑ «الخزائن الحديدية في القرآن». (قارن مع «الإسلام والحداثة»، عبد المجيد الشرفي، تونس، ١٩٩٠، الصفحات ٦٩–٧٦).

٥٥  راجع «الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني مع دراسة حياته وآثاره»، تحرير محمد عمارة، القاهرة ١٩٦٨، الصفحة ٢٩.
٥٦  «الأعمال الكاملة»، محمد عبده، المرجع السابق الذكر، المجلد ٥، الصفحة ١٠٥ والصفحة التالية.
٥٧  المرجع السابق الذكر، المجلد ٥، الصفحات ٥٠٦–٥١١.
٥٨  المرجع السابق الذكر، المجلد ٥، الصفحة ٣٠ والصفحة التالية.
٥٩  للاطلاع على عرضٍ مفصل فيما يتعلق بآراء محمد عبده بخصوص القصص القرآنية، راجع «تفسير المنار»، طبعة القاهرة الثانية المعاد طباعتها، المجلد ١، الصفحات ١٩–٢١، ٢١٠–٢١١، ٢١٥، ٢٢٩–٢٣٠، ٢٣٣–٢٣٤، ٢٧١؛ المجلد ٣، الصفحات ٤٧–٤٨؛ المجلد ٤، الصفحات ٧، ٤٢، ٩٢–٩٣.
٦٠  Rethinking Tradition, op. cited. p. 44.
٦١  Azia Ahmad, Islamic Modernism in India and Pakistan 1857–1965, Karachi, 1967, pp. 208–36. See also, Bassam Tibi, The Challenge of Fundamentalism; Political Islam and the New World Disorder, Updated Edition, Berkeley, 2002, p. 42; see also Tariq Ramadan, Aux sources de renouveau musulman, d’l-Afghani à Hassan Al-Banna; un siècle de réformisme islamique, Paris, 1998. All quoted by Jan Slomp, “The ‘Political Equation’ in Al-Jihâd Fî Al-lslâm of Abul A’la Mawdudi”, in A Faithful Presence, essays for Kenneth Cragg, edited by David Thomas and Clare Amos, London 2003, p. 239.
٦٢  See F. C. R. Robinson, ‘Mawdûdî’, in EI, vol. iv, pp. 872ff.
٦٣  Jan Slomp, “The ‘Political Equation’ in AI-Jihâd Fî Al-lslâm of Abul A'la Mawdudi”, op. cited. p. 255.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤