الفصل الثاني عشر

الخاتمة

جلس فالموث على الجهة المقابلة من مكتب كبير مفوضي الشرطة، ويداه مَعقودتان أمامه. على النشافة استقرَّت ورقة رسائل رمادية رفيعة. التقطها المفوض مجددًا وأعاد قراءتها.

كان نصها:

عندما تتلقَّى هذه الرسالة، سنكون نحن الذين نُفضِّل أن نلقب أنفسنا باسم «رجال العدالة الأربعة» قد تفرقنا في أنحاء أوروبا، واحتمال أن تستطيعوا اقتفاء أثرنا ضعيف جدًّا. دون تفاخُر نقول: لقد أنجزنا ما وضعنا نصب أعيننا أن نُنجزه. وبلا نفاق نكرر أسفنا على أن الخطوة التي اتخذناها كانت ضرورية.

سيبدو مقتل السير فيليب رامون وكأنه كان حادثًا. ونحن نعترف بهذا. لقد أخطأ تيري خطأً شنيعًا؛ ولقيَ عقوبة خطئه. لقد اعتمدنا أكثر من اللازم على معرفته التقنية. لعلَّكم ببحث دءوب ستَحلُّون لغز مقتل السير فيليب رامون؛ وعندما يؤتي هذا البحث ثماره ستدركون صدق هذا القول. وداعًا.

قال المفوض: «إنها لا تُوضح شيئًا.» هز فالموث رأسه في قنوط. قال بمرارة: «بحث! لقد فتَّشنا مقرَّ وزارة الخارجية في داوننج ستريت وقلبناه رأسًا على عقب؛ أين يمكننا أن نبحث أيضًا؟»

«ألا تُوجَد أي ورقة ضمن أوراق ومستندات السير فيليب يمكن أن تدلكم على الطريق الصحيح؟»

«لم نجد أي ورقة مما رأينا يُمكن أن تفيد في ذلك.»

عض مفوض الشرطة طرف قلمه مفكرًا.

«هل فتشتم منزله الريفي؟»

قطَّب فالموث جبينه عابسًا.

«لم أتصوَّر أن ذلك كان ضروريًّا.»

«ولا بيته في بورتلاند بليس؟»

«لا؛ فقد أُغلِق قبيل مقتله.»

نهض مفوض الشرطة.

قال له ناصحًا: «حاول أن تبحث في منزل بورتلاند بليس. إنه حاليًّا في حوزة منفذي وصية السير فيليب.»

أوقف المفتِّش عربة أجرة تجرها الخيول، وفي خلال ربع ساعة كان يدق الأبواب الكئيبة لمنزل وزير الخارجية الراحل في المدينة. فتح الباب خادم متجهِّم؛ كان رئيس خدم السير فيليب، وكان فالموث يعرفه، وحيَّاه بإيماءة من رأسه.

قال فالموث: «أريد أن أُجري تفتيشًا للمنزل، يا بيركس. هل لمس أحدٌ أي شيء؟»

هز الرجل رأسه نفيًا.

أجاب: «لا، يا سيد فالموث، كل شيء كما تركه السير فيليب بالضبط. بل إن السادة المحامين لم يُجرُوا جردًا للموجودات بعد.»

سار فالموث عبر الردهة الباردة إلى الغرفة الصغيرة المريحة التي خُصِّصَت لرئيس الخدم.

قال: «أود أن أبدأ بغرفة المكتب.»

قال بيركس باحترام: «أخشى أنه ستكون ثمة صعوبة في تنفيذ ذلك، يا سيدي.»

تساءل فالموث بحدة: «لماذا؟»

«إنها الغرفة الوحيدة في المنزل التي ليس لها مفتاح. كان السير فيليب يملك مفتاحًا خاصًّا لغرفة مكتبه وكان يحمل هذا المفتاح معه. كما ترى، كونه أحد وزراء الحكومة، ورجلًا في غاية الحرص، كان دقيقًا جدًّا بشأن الأشخاص الذين يدخلون غرفة مكتبه.»

فكر فالموث قليلًا.

كان عدد من مفاتيح السير فالموث الخاصة مودعًا في سكوتلاند يارد.

كتب رسالة قصيرة إلى رئيسه وأرسلها مع أحد الخدم في عربة أجرة إلى سكوتلاند يارد.

بينما كان يَنتظِر استدعى رئيس الخدم.

سأله: «أين كنت وقت ارتكاب الجريمة، يا بيركس؟»

«في الضيعة؛ فقد بعث السير فيليب جميع الخدم إلى هناك، أظنُّك ستذكر ذلك.»

«وماذا عن المنزل؟»

«كان خاليًا. خاليًا تمامًا.»

«عند عودتك هل وجدت أي شيء يدل على أن أحدًا حاول دخول المنزل؟»

«لا، يا سيدي؛ من رابع المستحيلات السطو على هذا المنزل. توجد أسلاك إنذار مثبتة ومتصلة بقسم الشرطة، والنوافذ تُغلَق آليًّا.»

«لم تجد أي علامات على الأبواب أو النوافذ يمكن أن تقودك إلى الاعتقاد بأن أحدًا حاول دخول المنزل؟»

هز رئيس الخدم رأسه بحزم.

«لا، لم أجد أي شيء؛ في أثناء عملي اليومي أُجري فحصًا دقيقًا جدًّا للطلاء، ولا بد أنني كنت سألاحظ أي علامات من هذا القبيل.»

بعد نصف ساعة عاد الخادم، وبرفقته أحد المحققين، وأخذ فالموث من الشرطي ذي الملابس المدنية مجموعة من المفاتيح.

أرشدهم رئيس الخدم إلى الطابق الأول.

أشار إلى باب غرفة المكتب، وكان بابًا ضخمًا من خشب السنديان، وله قفل صغير جدًّا.

بحرص شديد تخيَّر فالموث المفاتيح. وحاول مرتين دون نجاح، ولكن في المحاولة الثالثة فُتِح القفل محدثًا صوت تكة، وانفتح الباب دون ضوضاء.

وقف لحظة عند المدخل؛ لأن الغرفة كانت مظلمة.

قال بيركس: «لقد نسيت، إن الدرفات مُغلَقة؛ هل أفتحها؟»

قال المفتش: «من فضلك.»

في غضون بضع دقائق كان النور يغمر الغرفة.

كانت غرفة مؤثثة بأثاث بسيط، تُشبه في مظهرها الغرفة التي لقيَ فيها وزير الخارجية حتفه. كانت تفوح منها رائحة مُتعفِّنة لجلد قديم، وكانت جدران الغرفة مُغطَّاة بأرفف الكتب. وفي المنتصَف استقر مكتب ضخم من خشب الماهوجني، وعليه حزم من الأوراق المرتَّبة بعناية.

ألقى فالموث نظرة سريعة ومدقَّقة على هذا المكتب. كان مكسوًّا بتراب كثيف متراكم. وعلى جانب منه، على مقربة من كرسي فارغ، كانت تُوجَد طاولة هاتف عادية.

قال فالموث: «لا توجد أجراس.»

أجاب رئيس الخدم: «لا يا سيدي، فالسير فيليب لم يكن يحبُّ صوت الطنين.»

تذكر فالموث ذلك.

قال بسرعة: «بالطبع، أتذكر. ما هذا؟!»

انحنى للأمام بتلهُّف.

«عجبًا، ما الذي حدث للهاتف؟»

كان من حقه أن يسأل؛ فقد كان حديده ملويًّا ومعوجًا. وبالأسفل، حيث كان المسماع، كانت توجد كومة من رماد أسود، ولم يبقَ من السلك المرن الذي كان يصله بالعالم الخارجي إلا قطعة مَبرومة من سلك عديم اللون.

أما الطاولة، التي كان الهاتف موضوعًا عليها، فكانت محترقة فيما يبدو بفعل حرارة شديدة.

التقط المفتِّش نفسًا طويلًا.

واستدار إلى معاونه.

«اذهب بسرعة إلى محل الكهربائي ميلر في شارع ريجينت، واطلب منه أن يأتي على الفور.»

كان لا يزال واقفًا يحدق في ذهول في الهاتف عندما وصل الكهربائي.

قال فالموث ببطء: «سيد ميلر، ماذا حدث لهذا الهاتف؟»

ضبط الكهربائي نظارته الأنفية وتفحَّص الدمار الذي حدث للهاتف.

قال: «يبدو إلى حدٍّ كبير كما لو أن عامل توصيلات هاتفية قد ارتكب جريمة من جرائم الإهمال.»

تساءل فالموث: «عامل توصيلات هاتفية؟ ماذا تعني؟»

«أعني العامل الذي يُصلح أسلاك الهاتف.» ثم كرَّر عملية الفحص.

«ألا ترى؟»

أشار إلى العدة الخربة.

«أرى أن عدة الهاتف مُدَمَّرةٌ تمامًا؛ ولكن لماذا؟»

انحنى الكهربائي والتقط السلك المُحترِق من فوق الأرض.

قال: «ما أعنيه هو هذا. لقد وَصَّل شخص ما سلكًا ينقل فولطية كهربائية عالية، ربما سلك إضاءة كهربية، بخط الهاتف هذا؛ وإذا تصادف وكان أي أحد على …» توقَّف فجأة عن الكلام، وشحب وجهه.

همس قائلًا: «يا إلهي الرحيم! لقد مات السير فيليب رامون صعقًا بالتيار الكهربي!»

لبعض الوقت خيم الصمت على الحاضرين. ثم اندفعت يد فالموث إلى جيبه وأخرج المفكرة الصغيرة التي كان بيلي ماركس قد سرَقَها.

صاح: «ذلك هو الحل؛ ها هو الاتجاه الذي سلكتْه الأسلاك، ولكن كيف لم يُدَمَّر الهاتف الذي في داوننج ستريت على نحو مماثل؟»

هز الكهربائي رأسه في نفاد صبر وهو لا يزال شاحب الوجه.

قال: «لقد يَئستُ من محاولة تفسير تقلبات الكهرباء؛ أضف إلى ذلك، ربما يكون التيار، القوة الكاملة للتيار، قد انعكس. ربما تكون دائرة كهربية قصيرة قد تأثرت. أي شيء ربما يكون قد حدث.»

قال فالموث: «مهلًا! افترض أن الرجل الذي كان يُجري التوصيل قد أخطأ خطأ شنيعًا. أصابته القوة الكاملة للتيار. هل كان ذلك سيؤدي إلى هذه النتيجة؟»

«ربما يؤدِّي إلى …»

قال فالموث ببطء، مقتبسًا العبارة التي وردت في رسالة الأربعة: «لقد أخطأ تيري خطأً شنيعًا؛ ولقيَ عقوبة خطئه.» واستطرد قائلًا: «لقد أصيب رامون بصدمة خفيفة، كافية لأن تُخيفَه. كان يعاني من ضعف في القلب. الحرق الذي في يده، والعصفوران النافقان! بحق السماء! إن الأمر واضح وضوح الشمس!»

لاحقًا، داهمت قوة كبيرة من الشرطة المبنى الكائن في شارع كارنابي، لكنها لم تجد شيئًا، عدا بقايا سيجارة تحمل اسم تاجر تبغ لندني، وكعب تذكرة باخرة مبحرة إلى نيويورك.

كان مكتوبًا عليها «بواسطة آر إم إس «لوكانيا».» وكانت لثلاثة ركاب في الدرجة الأولى.

عندما وصلت الباخرة «لوكانيا» إلى نيويورك، فتَّشها رجال الشرطة من أولها إلى آخرها، لكنَّهم لم يَعثُروا على رجال العدالة الأربعة.

كان جونزاليس هو من ترك «الدليل» عمدًا من أجل أن تجده الشرطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤