الفصل الخامس

اعتداء على صحيفة «ميجافون»

بعد عودة رئيس تحرير صحيفة «ميجافون» من تناول العشاء، التقى رئيس الصحيفة على سلم الصحيفة. توقف رئيس الصحيفة، ذو الوجه الطفولي، عن التفكير في المشروع الجديد (كان مقر صحيفة «ميجافون» هو موطن المشروعات الجديدة) واستفسَر من رئيس التحرير عن مسألة رجال العدالة الأربعة.

أجاب رئيس التحرير: «إن الإثارة مستمرة. لا حديث للناس إلا عن المناقشة القادمة لمشروع قانون تسليم الأجانب، والحكومة تتخذ كل الاحتياطات لحماية رامون من الهجوم المحتمل.»

«ما الشعور العام السائد؟»

هز رئيس التحرير كتفَيه.

«لا أحد يُصدِّق حقًّا أن أي شيء سيحدُث رغم القنبلة.»

فكَّر رئيس الصحيفة لحظةً، ثم قال بسرعة:

«وما رأيك أنت؟»

ضحك رئيس التحرير.

«لا أظن أن التهديد سيُنَفَّذ؛ لقد أوقع الأربعة أنفسهم، لأول مرة، في مأزق. لو لم يُحذِّروا رامون لكان من المحتمل أن يفعلوا شيئًا، ولكن بعد الإنذار …»

قال رئيس الصحيفة: «سوف نرى.» وانصرف في طريقه إلى بيته.

تساءل رئيس التحرير في نفسه، وهو يصعد درجات السلم، إلى متى سيستمر الأربعة في ملء صفحات صحيفته بالأخبار، ومع ذلك تمنَّى أن يُقْدِموا على محاولتهم، حتى لو مُنِيَت بالفشل، وهو ما اعتبَره محتومًا.

كانت حجرته مُوصَدةً ومُظلِمة، وأخذ يتحسَّس جيبه بحثًا عن المفتاح، ووجده، وفتح الباب ودخل.

فكَّر في نفسه، وهو يمُد يده يضغط على مفتاح الإضاءة: «أتساءل عما إذا كان …»

وما إن فعل حتى انبعَث وميضٌ يُعمي الأبصار، وانطلقَت للحظةٍ دفقةٌ سريعة من اللهب، ثم عادت الحجرة إلى الظلام.

أجفلَته المفاجأة، وتراجع إلى الممر ونادى يطلب من أي أحدٍ إنارة المكان.

صاح بصوتٍ هادر: «استدعوا الكهربائي؛ لقد احترق أحد هذه المُنصهرات الكهربية اللعينة!»

كشف مصباحٌ يدوي عن امتلاء الحجرة بدخانٍ ذي رائحةٍ نفَّاذة، واكتشَف الكهربائي أن كل المصابيح انتُزِعَت من تجاويفها ووُضِعَت على الطاولة.

من أحد دعامات السقف تدلَّى سلكٌ رفيع متموج وفي نهايته صندوقٌ صغير أسود، وكان هو مصدر تلك الأدخنة الكثيفة.

أمر رئيس التحرير من حوله قائلًا: «افتحوا النوافذ.» وأحضر أحدهم دلوًا مملوءًا بالماء، وبحرصٍ أُسْقِط فيه الصندوق الصغير.

ثم كان رئيس التحرير هو من اكتشَف وجود الخطاب؛ خطابٍ رمادي مُخضر موضوع على مكتبه. التقطه، وأخذ يُقَلِّبه، ثم فتحه، ولاحظ أن الصمغ الذي كان الظرف مغلقًا به كان لا يزال رطبًا.

كان نص الرسالة:

السيد المحترم

عندما فتَحتَ مفتاح إنارة حجرتك هذا المساء ربما تكون قد تخيَّلتَ للحظةٍ أنكَ كنتَ ضحية أحد تلك «الاعتداءات» التي أنت مولعٌ بالإشارة إليها. إننا مدينون لك باعتذارٍ عن أي إزعاجٍ قد نكون تسبَّبْنا فيه لك. لقد كان سبب الارتباك الذي أصابك هو إزالة مصباحك واستبدال صمامٍ متصل بعُبوةٍ صغيرة من مسحوق الماغنسيوم به. إننا ندعوك إلى أن تُصدِّق أنه كان يمكننا بنفس البساطة أن نُوصل عُبوةً من النيتروجلسرين، وكنا بذلك سنجعلك تُنهي حياتك بنفسك. لقد أعددنا هذا ليكون دليلًا على نيتنا الأكيدة في تنفيذ وعدنا فيما يخص مشروع قانون تسليم الأجانب. لا تُوجد قوةٌ على وجه الأرض يمكنها أن تُنقذ السير فيليب رامون من الهلاك، ونطلُب منك، بصفتك القوة الموجِّهة لوسيلةٍ إعلامية عظيمة، أن تضغط بكل ما أوتيت من نفوذ وتأثير في سبيل إحقاق العدالة، وأن تدعُوَ حكومة بلدك أن تسحب مشروع القانون غير العادل، وتُنقِذ حياة الكثير من الأشخاص المسالمين الذين وجَدوا الملاذ في بلدك، وأيضًا حياة وزير التاج الذي لا نرى له جريرة إلا أنه قد أخذَتْه العِزَّة بالإثم.

توقيع
رجال العدالة الأربعة

أطلق رئيس التحرير تنهيدةَ ارتياحٍ وذهول في الوقت نفسه، وهو يمسح العرق عن جبينه وينظر إلى الصندوق المُشبع بالماء وهو يطفو في سكونٍ على سطح الماء في الدلو.

تساءل الكهربائي بجرأة: «أثَمَّةَ خطْبٌ، يا سيدي؟»

أجاب بحدَّة: «لا شيء. انتَهِ من عملِك، وأَعِد تركيب هذه المصابيح ثم انصرِفْ.»

نظر الكهربائي، بفضول وعدم رضا، إلى الصندوق الطافي والسلك المقطوع.

قال: «يا له من شيءٍ عجيب الشكل، يا سيدي. إن كنتَ تُريد رأيي …»

قاطَعَه الصحفي الكبير قائلًا: «لا أريد منك أي شيء؛ انتَهِ من عملك.»

قال الفني معتذرًا: «معذرةً، بالتأكيد.»

بعد نصف ساعة كان رئيس تحرير صحيفة «ميجافون» يُناقش الموقف مع ويلبي.

ابتسم ويلبي، الذي يُعتَبر أعظم مُحررٍ للشئون الخارجية في لندن، ابتسامةً ودية ومَطَّ شدقَيْه تعبيرًا عن ذهوله.

قال بابتهاج: «دائمًا ما كنتُ أعتقد أن هؤلاء الرجال جادُّون فيما يفعلون، وعلاوةً على ذلك، أشعر بيقينٍ تام أنهم سيُنفِّذون وعدهم. عندما كنتُ في جِنوة» كان ويلبي يستقي معلوماته من مصادرها مباشرةً «عندما كنتُ في جِنوة — أم كانت صوفيا؟ — التقيتُ رجلًا أخبرني عن واقعة اغتيال تريلوفيتش. كان أحد الرجال الذين اغتالوا ملك صربيا، كما تذكُر. حسنًا، في إحدى الليالي غادَر مسكنه ليرتاد أحد المسارح، وفي الليلة نفسها عُثِر عليه قتيلًا في ميدانٍ عام وقد أُغْمِد سيف في قلبه. كان ثَمَّةَ أمران عجيبان في المسألة.» وراح محرر الشئون الخارجية يُحْصيهِما على أصابعه «الأمر الأول، أن الجنرال كان مبارزًا شهيرًا، وكان ثَمَّةَ أدلةٌ كثيرة على أنه لم يُقْتَل غدرًا بدمٍ بارد، وإنما قُتِل في مبارزة. الأمر الثاني أنه كان يرتدي مشدًّا للصدر، مثلما يفعل كثيرٌ من هؤلاء الضباط الألمان، وأن أحد مهاجميه قد اكتشَف هذه الحقيقة، ربما بطعنةِ سيف، وجعله يخلعه؛ على أي حال عندما عُثِر عليه وُجِدَ هذا المشَد بجوار جثته.»

تساءل رئيس التحرير: «هل كان معروفًا في ذلك الحين أن هذا كان من تدبير الأربعة؟»

هَزَّ ويلبي رأسه نفيًا.

قال بامتعاض: «حتى أنا لم أكن قد سمعتُ بهم من قبلُ.» ثم سأله: «ماذا فعلتَ بشأن محاولة ترهيبك؟»

«لقد استجوبتُ البوابين والسُّعاة، وكلَّ مَن كانوا يعملون في ذلك الوقت، لكنَّني لم أجد تفسيرًا لمجيء وذَهاب صديقنا الغامض؛ فلا أظن أنهم كانوا أكثر من واحد. إن هذا الأمر عجيب حقًّا. أتعرف، يا ويلبي، إن الأمر يُثير في نفسي شعورًا غريبًا جدًّا؛ فالصمغ على الظرف كان لا يزال رطبًا، ولا بد أن الرسالة قد كُتِبَت في داخل المبنى ووُضِعَت في الظرف قبل ثوانٍ من دخولي الحجرة.»

«هل كانت النوافذ مفتوحة؟»

«لا؛ كانت النوافذ الثلاث كلها مُحكَمة الغلق، ومن المستحيل أن يكون أحدٌ قد دخل الحجرة عن طريقها.»

وأيَّد هذا الرأيَ مفتشُ المباحث الذي جاء لتلقِّي تقرير عن الملابسات.

إذ قال مستنتجًا: «لا بد أن يكون الرجل الذي كتب هذه الرسالة قد غادر حجرتك قبل وصولك بدقيقة.» واستلم الخطاب.

ولما كان مفتشًا شابًّا ومُتحمِّسًا، فقد فَتَّش الحجرة تفتيشًا دقيقًا للغاية قبل أن ينتهي من تحرياته؛ إذ أخذ يُقلِّب السجاجيد، ويدقُّ على الحوائط، ويُفتِّش في الدواليب، ويأخذ قياساتٍ مجهدةً وغير ضرورية بمسطرة طولها قدم واحدة.

قال، مفسرًا لرئيس التحرير الذي وجد ما يفعله مضحكًا: «يسخر الكثير من رفاقي من الروايات البوليسية، لكني قرأت تقريبًا كل ما كتبه جابوريو وكونان دويل، وأنا مقتنعٌ بضرورة ملاحظة التفاصيل الصغيرة.» وتساءل بلهفة: «ألم يترك ذلك المعتدي المجهول وراءه رماد سجائر أو شيئًا من هذا القبيل؟»

قال رئيس التحرير بجدية: «لا أعتقد ذلك.»

قال المفتش: «خسارة!» وبعد أن صَرَّ «الآلة الشيطانية» في حزمة مع ملحقاتها، غادر منصرفًا.

فيما بعدُ أخبر رئيس التحرير ويلبي أن تلميذ شيرلوك هولمز أمضى نصف ساعة يفحص أرضية الحجرة بعدسةٍ مُكَبِّرة.

«لقد عثر على جنيهٍ ذهبي كنتُ قد فقدتُه منذ أسابيع؛ حقًّا مصائب قوم عند قومٍ فوائد!»

طيلة ذلك المساء لم يعرف أحدٌ سوى ويلبى ورئيس التحرير بما جرى في حجرة الأخير. سرت شائعة في قسم المُحرِّرين المساعدين أن حادثًا صغيرًا قد وقع في حجرة رئيس التحرير.

قال الرجل الذي كان يتولى قوائم الشحن: «لقد أحرق رئيس التحرير قابسًا في حجرته وأُصيب برعبٍ شديد.»

قال خبير الطقس، وهو يرفع عينَيه عن الخريطة التي أمامه: «يا إلهي! أتعرف أن شيئًا من هذا القبيل حدث لي؛ فالليلة الماضية …»

كان رئيس التحرير قد وجَّه بضع عباراتٍ حازمة إلى المفتش قُبيل مغادرته.

قال رئيس التحرير: «أنا وأنت فقط مَن يعلم بهذه الواقعة؛ لذا إذا تسرب الخبر فسأعرف أن مصدره هو سكوتلاند يارد.»

أجاب مفتش المباحث: «كن متأكدًا أنْ لا شيء سيتسرب عن طريقنا؛ فنحن بالفعل في موقفٍ عسير جدًّا ولن نرغب في أن نزيد الطين بِلَّة.»

قال رئيس التحرير: «هذا جيد.» وبدت العبارة السابقة بمنزلةِ تهديد.

وهكذا احتفَظ ويلبي ورئيس التحرير بالأمر سرًّا حتى نصف ساعة من إرسال الصحيفة للمطبعة.

قد يبدو هذا للرجل العادي ظرفًا استثنائيًّا، ولكن الخبرة أثبتت لمعظم من يديرون الصحف أن الأخبار تتسرَّب بطريقةٍ غامضة قبل ظهورها مطبوعةً في الصحيفة.

عُرف عن مُنضِّدي الحُروفِ المَطْبعيَّةِ الأشرار — حتى مُنضِّدو الحروف المطبعية يمكن أن يكونوا أشرارًا — أنهم يُفسِدون نُسخًا تحوي أخبارًا مهمة وحصرية، ويُلقون بها من نافذةٍ مناسبة ليتلقَّفها رجلٌ صبور واقف في الشارع بالأسفل ويُسرِع بها على الفور إلى مكتب صحيفةٍ منافِسة ويبيعها مقابلَ أكثر من وزنها ذهبًا؛ تلك الحالات معروفة في أوساط الصحافة.

ولكن في الساعة الحادية عشرة والنصف بدأَت الهمهَمات تنتشر في مبنى صحيفة «ميجافون» كأزيزٍ في خلية نحل؛ لأنه عندئذٍ فقط عرف المحررون المساعدون لأول مرة بخبر «الاعتداء» على الصحيفة.

كانت قصةً عظيمة؛ لكنها كانت مجرد سبقٍ صحفي جديد لصحيفة «ميجافون»، فامتلأت الصفحة الأولى حتى منتصفها من جديد بعناوينَ عن «رجال العدالة الأربعة»: «اعتداء على مكتب صحيفة «ميجافون»» – «براعة شيطانية» – «رسالة تهديد جديدة» – «رجال العدالة الأربعة سينفذون وعدهم» – «وثيقة مذهلة» – «هل ستنقذ الشرطة السير فيليب رامون؟»

قال رئيس التحرير، راضيًا عن نفسه، بينما كان يقرأ تجارب الطباعة: «قصةٌ جيدة جدًّا.»

كان يستعد للمغادرة، وأخذ يتبادل الحديث مع ويلبي عند الباب.

قال ويلبي الحصيف: «لا بأس بها. ما أظنه هو أن … أهلًا!»

كانت الكلمة الأخيرة موجهةً إلى أحد السعاة الذي ظهر وبصحبته رجلٌ غريب.

قال الساعي: «هذا السيد يرغب في التحدث إلى أحد المسئولين هنا، يا سيدي، وكان يبدو منفعلًا؛ لذا جئت به؛ إنه أجنبي، ولا أستطيع أن أفهم ما يقوله، لذا جئت به إليك.» كانت الجملة الأخيرة موجَّهة إلى ويلبي.

سأل رئيس التحرير الأجنبي بلغةٍ فرنسية: «ماذا تريد؟»

هَزَّ الرجل رأسه، وقال بضع كلماتٍ بلغةٍ غريبة.

فقال ويلبي: «آه! إسباني. فيمَ ترغب؟» قالها بالإسبانية.

أخرج الرجل نسخةً متسخة من صحيفة «ميجافون»، وتساءل: «هل هذا هو مقر تلك الصحيفة؟»

«أجل.»

«أيمكنني التحدُّث إلى رئيس التحرير؟»

بدا الارتياب على رئيس التحرير.

قال: «أنا رئيس التحرير.»

نظر الرجل خلفه، ثم مال إلى الأمام.

وقال بتردُّد: «أنا أحد رجال العدالة الأربعة.» تقدَّم ويلبي خطوةً نحوه وأخذ يتفحصه بتدقيق.

سأله فجأة: «ما اسمك؟»

أجاب الرجل: «ميجيل تيري من مدينة جيريز.»

كانت الساعة العاشرة والنصف عندما مرت عربة الأجرة، التي تُقِلُّ بويكارت ومانفريد في طريق عودتهما من حفلٍ موسيقي، عبر ميدان هانوفر ومنه إلى شارع أكسفورد.

أخذ مانفريد يشرح لبويكارت: «اسأل عن رئيس التحرير، وسيصعدون بك إلى المكاتب، وأخبر أحدهم بالشأن الذي جئتَ من أجله؛ فسيقول لك إنه آسفٌ جدًّا، لكنه لن يستطيع مساعدتك، وسيكون مهذبًا جدًّا، لكن ليس لدرجة أن يُرافِقكَ إلى خارجِ مقَر الصحيفة؛ لذا، تجوَّل في المكان كأنك تبحث عن طريق الخروج، ثم تَوجَّه إلى مكتب رئيس التحرير، وإذ تعرف أنه بالخارج، تتسلَّل إلى الحجرة، وتقوم بترتيباتك، وتخرج منها، وتُغلِق الباب خلفكَ إذا لم يكن ثَمَّةَ أحد في الجوار، أما إذا شاهدَك أحدهم، فتظاهَرْ بأنك تُوجِّه بضع كلماتِ وداعٍ لشخصٍ ما في الحجرة، وأغلق الباب، وهكذا تكون قد انتهيت!»

قضم بويكارت طرف سيجاره.

قال مانفريد في هدوء: «استعمل في لصق الظرف صمغًا لا يجف إلا بعد ساعة وبذلك تزيد من الغموض.» وكان بويكارت مستمتعًا بما يقول.

«سيكون للظرف الذي لا يزال صمغه رطبًا جاذبيةٌ لا تُقَاوَم لمفتشي المباحث الإنجليز.»

كانت عربة الأجرة، التي سارت مسرعةً عَبْر شارع أكسفورد، تنحرف منه إلى طريق إدجوير، عندما رفع مانفريد يده وفتح غطاء السقف.

صاح في السائق قائلًا: «سنترجَّل هنا.» فأوقف السائق العربة بجوار الرصيف.

قال لمانفريد وهو يدفع له الأجرة: «ظننتُك قلت بمبريدج جاردنز، ألم يكن ذلك ما قلتَه؟»

قال مانفريد: «هذا ما قلتُه فعلًا. طابت ليلتك.»

وقفا على حافة الرصيف يتبادلان أطراف الحديث إلى أن اختفت عربة الأجرة عن الأنظار، ثم استدارا عائِدَين إلى مَعْلَم ماربل آرش (قوس الرخام)، وعبَراه إلى شارع بارك لين، وسارا في ذلك الشارع الذي ترتاده النخبة الثرية ومنه إلى ميدان بيكاديللي. بالقرب من السيرك وجدا مطعمًا به بارٌ طويل وكثير من المقصورات الصغيرة التي جلس فيها الرجال حول طاولاتٍ رخامية، يشربون، ويُدخِّنون، ويتسامرون. في إحدى هذه المقصورات، جلس جونزاليس، يُدخِّن سيجارةً طويلةً ويضع على وجهه الحليق، الذي يجيد التحكُّم في تعبيراته، قناع الرجل ذي النظرة التأمُّلية.

لم يُظهر أيٌّ من الرجلين أيَّ لمحةٍ من المفاجأة للقائه، إلا أن الحقيقة أن قلب مانفريد كاد أن يتوقَّف من الخوف، وتورَّدَت وجنتا بويكارت الشاحبتان.

اتخذا جلستَهما، وأتى نادل وقدَّم لهما طلباتهما، وبعدما انصرف تساءل مانفريد بصوتٍ خفيض: «أين تيري؟»

هَزَّ ليون كتفَيه هزةً خفيفة.

وأجاب بهدوء: «لقد فَرَّ تيري.»

خيَّم الصمت على الرجال لبرهة، ثم استطرد ليون:

«هذا الصباح، قبل أن تغادر، هل أعطيتَه حزمة من الصحف؟»

أومأ مانفريد برأسه إيجابًا.

قال: «كانت صحفًا إنجليزية. وتيري لا يعرف حتى كلمةً واحدة من الإنجليزية. كانت تحتوي على صور؛ فأعطيتها له ليتسلَّى بمشاهدتها.»

«هل أعطيته، من بينها، صحيفة «ميجافون»؟»

هنا تذكر مانفريد، وقال: «أجل. ها!»

«كان في الصحيفة عرضٌ بمكافأة وعفو عام، مكتوبًا باللغة الإسبانية.»

شردَت نظرات مانفريد وأخذ يُحدِّق في الفراغ.

قال ببطء: «أذكر ذلك. لقد قرأتُه لاحقًا.»

عَلَّق بويكارت، مُثنِيًا على الفكرة: «فكرةٌ عبقرية من الصحيفة.»

«لقد لاحظتُ أنه كان مضطربًا نوعًا ما، لكنني أرجعتُ ذلك إلى أننا كنا قد أخبرناه الليلة الماضية عن الطريقة التي ننوي أن ننتهجها للتخلُّص من رامون ودوره فيها.»

غَيَّر ليون الموضوع ليسمح للنادل بأن يُقدِّم المرطبات التي كانوا قد طلبوها.

تابع حديثَه بطريقةٍ مبطَّنة دون أن يغير الموضوع: «من غير المعقول ألا نرسل حصانًا، راهنَّا عليه بالكثير جدًّا من المال، إلى إنجلترا قبل شهر من السباق على الأقل.»

أضاف مانفريد بجدية: «إن فكرة أن يؤدي عبورٌ سيئ للقناة الإنجليزية إلى خدش الحصان المرجَّح فوزُه في سباقٍ كبير هي أمرٌ لم يَسمَع به أحدٌ من قبل.»

عندئذ تركهم النادل وانصرف.

فتابع ليون حديثه قائلًا: «خرجنا نتمشى اليوم عصرًا، وكنا نمر بشارع ريجينت، وأخذ يتوقف كل بضع ثوانٍ لينظر في واجهات المتاجر، وفجأة، بينما كنا نُحملِق في واجهة محل للتصوير، إذا به يختفي. كان يُوجد مئات الناس في الشارع، لكن لم يكن تيري من بينهم، وظلَلتُ أبحث عنه منذ ذلك الحين.»

ارتشف ليون رشفةً من شرابه ونظر إلى ساعته.

أما الرجلان الآخران فلم يفعلا أو يقولا أي شيء.

ربما كان بمقدور المراقب المدقق أن يلاحظ أن مانفريد وبويكارت أخذا يُمرِّران يدهما فوق الزر العلوي لمعطفَيهما.

ابتسم جونزاليس، وقال: «لعل الأمر ليس بهذا السوء.»

قطع مانفريد الصمت الذي غرق فيه جونزاليس وبويكارت.

عقَّب قائلًا: «أنا وحدي من أتحمل اللوم كله.» لكن بويكارت أسكته بإشارة من يده.

قال وهو يضحك ضحكةً قصيرة: «إن كان ثَمَّةَ من يستحق اللوم، فهو أنا وحدي. لا يا جورج، لقد فات أوان الحديث عمَّن الملوم في الأمر. لقد استهنَّا بمكر المسيو تيري، وبجرأة الصحف الإنجليزية و… و…»

أتم ليون جملته: «وفتاته التي في جيريز.»

مرَّت خمس دقائق في صمت، أخذت فيها الأفكار تتسارع في ذهن كلٍّ من الرجال الثلاثة.

أخيرًا قال ليون: «إن معي سيارةً ليست بعيدة عن هنا. كنتَ قد قلتَ لي إنك ستكون في هذا المكان في الساعة الحادية عشرة، ولدينا القارب ذو المحرك في مرفأ بورنهام أون كراوتش؛ يمكننا أن نكون في فرنسا مع الشروق.»

نظر مانفريد إليه، وسأله: «وما رأيك أنت؟»

قال ليون: «أرى أن نبقى ونُنهِي مهمتنا.»

قال بويكارت بهدوء ولكن بتصميم: «وأنا كذلك.»

نادى مانفريد على النادل.

«ألديكَ آخرُ طبعةٍ من الصحف المسائية؟»

ظنَّ النادل أن بمقدوره أن يحصل عليها، وعاد ومعه جريدتان.

تصفَّح مانفريد الصفحات بعناية، ثم ألقى بهما جانبًا.

قال: «لا يُوجد شيء في هاتَين الجريدتَين. إن كان تيري قد ذهب إلى الشرطة فيجب أن نختبئ ونستخدم طريقةً أخرى لتنفيذ ما اتفقنا عليه، أو يمكننا أن نضرب ضربتنا الآن؛ فقد أخبرنا تيري بكل ما نُريد معرفتَه على أي حال، ولكن …»

أنهى بويكارت جملته بنبرةٍ أنهت بإيجاز هذا الاحتمال: «لكن ذلك لن يكون من الإنصاف لرامون. ما زال لديه يومان، ولا يزال يتعيَّن علينا أن نرسل له إنذارًا ثانيًا وأخيرًا.»

«إذن يجب أن نعثُر على تيري.»

كان قائل العبارة الأخيرة هو مانفريد، الذي نهض واقفًا، وتبعه بويكارت وجونزاليس.

«إن لم يكن تيري قد ذهب إلى الشرطة، فإلى أين سيذهب؟»

كانت نبرةُ صوتِ ليون تحمل في طياتها الإجابة.

أجاب مانفريد: «إلى مقر الصحيفة التي نشرت الإعلان باللغة الإسبانية.» وغريزيًّا عرف الرجال الثلاثة أن هذا هو الحل الصحيح.

قال مانفريد: «إن سيارتك ستكون مفيدة.» وغادر الثلاثة البار.

في حجرة رئيس التحرير، واجه تيري الصحفيَّين الاثنَين.

كرَّر ويلبي قوله: «تيري؟ لا أعرف ذلك الاسم. من أين أنت؟ وما عنوانك؟»

«أنا من مدينة جيريز في الأندلس، من مزرعة خمور سينور.»

قاطعه ويلبي قائلًا: «ليس هذا ما أقصده؛ أقصد من أين جئت الآن؟ من أي منطقة في لندن؟»

رفع تيري يديه بيأس.

«كيف لي أن أعرف؟ يُوجد منازلُ وشوارعُ وناس والمنطقة في لندن، وكنتُ سأقتل رجلًا، وزيرًا؛ لأنه وضع قانونًا شريرًا. لم يخبروني عن ماهية …»

سأله رئيس التحرير بتلهُّف: «من هم؟»

«الثلاثة الآخرون.»

«ولكن ما أسماؤهم؟»

نظر تيري إلى مستجوبه بتشكُّك.

قال بتجهم: «ثَمَّةَ مكافأة وعفو شامل. أريد هذَين الأمرين قبل أن أخبرك.»

توجه رئيس التحرير إلى مكتبه.

«إذا كنتَ واحدًا من «الأربعة» فستحصل على مكافأتك. ستحصل على بعضٍ منها الآن.» وضغط على زر فحضر أحد السعاة إلى الباب.

«اذهب إلى غرفة تنضيد الحروف وقل لكبيرِ عمالِ الطباعة ألا يسمح لأحد بالانصراف إلا بأمري.»

بالأسفل، في القبو، كانت الماكينات تَهدرُ وهي تقذف بأول نُسخٍ من الصحيفة الصباحية.

التفَت رئيس التحرير إلى تيري، الذي كان قد وقف، وأخذ يُبدِّل رجلَيه على الأرض بينما كان رئيس التحرير يُوجِّه إليه الأمر: «والآن، أخبرني بكل ما تعرفه.»

لم يجب تيري؛ وأخذ يحملق في الأرض.

تمتم بعناد: «ثَمَّةَ مكافأة وعفو.»

صاح ويلبي: «عَجِّل! ستحصل على المكافأة وكذلك العفو. أخبرنا من هم رجال العدالة الأربعة؟ من هم الثلاثة الآخرون؟ أين يمكن أن نعثر عليهم؟»

قال صوتٌ واضحٌ من خلفه: «هنا.» وتبيَّن أن صاحب الصوت رجلٌ غريب دخل الحجرة وأغلق الباب وراءه، ووقف مواجهًا الرجال الثلاثة؛ غريب في ملابس سهرة، مُقَنَّعًا من جبينه إلى ذقنه.

وكان ممسكًا في يده المدلَّاة إلى جانبه بمسدَّسٍ ذي ساقيةٍ دوارة.

كرَّر الغريب بهدوء: «أنا أحدهم، ويُوجد اثنان آخران ينتظران خارج المبنى.»

سأله رئيس التحرير: «كيف دخلتَ إلى هنا؟ ماذا تريد؟» ومد يده إلى دُرجٍ مفتوح في مكتبه.

قال الغريب: «أبعد يدك.» وبحركة سريعة، صوَّب إليه ماسورة المسدَّس الدوار الرفيعة «أما عن كيف دخلتُ إلى هنا فسيُفسِّر لك بوابك ذلك، عندما يستعيد وعيه. وأما لماذا أنا هنا؛ فلأنني أرغب في إنقاذ حياتك، وهي رغبةٌ معقولة. إذا تكلم تيري فقد أُصبِح في عداد الموتى. أنا على وشك منعه من الكلام. لا تُوجد خصومةٌ بيني وبينكما أيها السيدان.» وأضاف ببساطة: «ولكن إن اعترضتُما سبيلي فسأقتلُكما.» كان طيلة الوقت يتكلم باللغة الإنجليزية، وتراجع تيري، بعينَين متسعتَين وفتحتَي أنف منتفختَين، منكمشًا إلى الحائط، يلتقط أنفاسًا متسارعة.

قال الرجل المُقَنَّع، ملتفتًا إلى الواشي المذعور، ومتكلمًا بالإسبانية: «أما أنت فقد كنت ستخونُ رفاقك، وتُحبط هدفًا عظيمًا؛ لذلك فقد حَقَّ عليك الموت.»

رفَع مسدسه الدوار إلى مستوى صدر تيري، وخرَّ تيري على ركبتَيه، يتمتم بصلاةٍ غير واضحة.

صاح رئيس التحرير، مندفعًا إلى الأمام: «بحق الرب، لا!»

فأدار الرجل فُوَّهة المسدَّس ناحيته.

قال الرجل المجهول بصوتٍ يكاد يكون كالهمس: «أيها السيد، أرجوك، بحق الرب لا تُجبرني على قتلك.»

صاح رئيس التحرير في أَوْج الغضب، وهو يتحرك ناحيته: «لا ترتكب جريمة قتل بدمٍ باردٍ.» لكن ويلبي أمسك به وأوقفه، وقال همسًا: «ما نفع ذلك؟ إنه مُصمِّم على أن يفعل، وليس بوسعنا أن نفعل أي شيء.»

قال الغريب: «بوُسعِكما أن تفعلا شيئًا.» وأخفَض مسدسه إلى جانبه.

قبل أن يتمكن رئيس التحرير من الرد، سمعوا صوت طرقٍ على الباب.

قال الغريب، مصوبًا مسدسه إلى تيري، الذي كان ينتحب، مُتكوِّمًا على نفسه بجوار الحائط: «قل إنك مشغول.»

صاح رئيس التحرير: «انصرف الآن. أنا مشغول.»

قال الساعي من وراء الباب: «عمال الطباعة ينتظرون.»

تساءل رئيس التحرير، بينما كان صوتُ خطواتِ الصبي يبتعد: «والآن، ماذا يمكننا أن نفعل؟»

«يمكنكما أن تنقذا حياة هذا الرجل.»

«كيف؟»

«بأن تتعهَّد بشرفك بأنك ستسمح لنا بالمغادرة، ولن تُطلِق تحذيرًا أو تغادر هذه الحجرة لمدة ربع ساعة.»

تردَّد رئيس التحرير قبل أن يُجيب.

«وأنَّى لي أن أعرف أنك لن ترتكب جريمة القتل، التي تعتزم ارتكابها، بمجرد مغادرتك؟»

ضحك الغريب من وراء قناعه.

«وأنَّى لي أن أعرف أنك لن تطلق تحذيرًا بمجرد مغادرتي للحجرة؟»

قال رئيس التحرير بصلابة: «لأنني سأكون قد تعهَّدتُ لك بشرفي، يا سيدي.»

أجابه الغريب بهدوء: «وكذلك أنا؛ ولم أخلف عهدًا قطعتُه أبدًا.»

في عقل رئيس التحرير كان يدور صراعٌ محتدم؛ فها هو بين يديه أعظم خبر في القرن، ولو أن المقنَّع كان قد تأخَّر دقيقة، لكان استخلص من تيري سر «الأربعة».

وحتى الآن، يمكن لحركةٍ جريئة أن تُنقذ كل شيء؛ وعمال المطبعة في الانتظار. لكن اليد التي كانت ممسكةً بالمسدس كانت يد رجلٍ ثابت العزم، وخضع رئيس التحرير له.

قال: «أوافق، ولكن مع احتجاج، وأُحذِّرك أن مصيركم المحتومَ هو القبضُ عليكم وعقابكم.»

قال الرجل المقنَّع وهو ينحني انحناءةً خفيفة: «يؤسفني أنني لا أستطيع أن أتفق معك؛ فلا شيء محتوم إلا الموت.» ثم قال بالإسبانية: «تعالَ يا تيري. أتعهَّد لك بشرفي بصفتي فارسًا أنني لن أُوذيَك.»

تردَّد تيري، ثم انسل إلى الأمام مَحنيَّ الرأس وعيناه مُصوَّبتان إلى الأرض.

واربَ الرجل المقنَّع الباب، وأنصت، وفي هذه اللحظة أتى رئيسَ التحرير أعظمُ إلهام في حياته.

قال فجأة، وقد تغلَّب لديه الحس الصحفي: «اسمع، عندما تعودان إلى الديار أيمكنكم أن تكتبوا لنا مقالًا عن أنفسكم؟ لستم بحاجة إلى إعطائنا أي تفصيلاتٍ محرجة؛ يمكنكم أن تكتبوا عن تطلعاتكم، وأهدافكم، والمُبرِّرات التي جعلتكم تسلكون هذا الطريق.»

قال الرجل المقنع، بلمحة إعجابٍ في صوته: «سيدي، ألمَح فيك حِسَّ فنَّان. سيُسَلَّم إليك المقال غدًا.» وبعد أن فُتِح البابُ مضى الرجلانِ عَبْر الممَر المُظلِم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤