الفصل السادس

الأدلة

في اليوم التالي أطلَّت الصحفُ الحائطية الحمراء، وانطلَق بائعو الصحف بصوتهِم الأجَش، والأغلبية الساحقة من عناوين الصحف، وعمودٌ صحفي تلو آخر، كلٌّ ينبئ العالم بأن «رجال العدالة الأربعة» أفلَتوا من الإمساك بهم بعد أن كانوا على وشك أن يُقبَض عليهم. انحنَى الرجال الجالسون في القطار إلى الأمام، وصحفُهم على رُكَبِهم، وهم يشرحون ماذا كانوا سيفعلون لو أنهم كانوا مكان رئيس تحرير صحيفة «ميجافون». توقَّف الناس عن الحديث عن الحروب والمجاعات والجفاف وحوادث الشوارع والبرلمانات وجرائم القتل اليومية العادية والإمبراطور الألماني، ليُركِّزوا ذهنهم على موضوع الساعة. هل سيُنفِّذ رجال العدالة الأربعة وعدَهم ويقتلون وزير الخارجية في الغد؟

لم يكن الحديث يدور عن أيِّ موضوع غير هذا. ها هو تهديدٌ بالقتل منذ شهرٍ مضى، وإن لم يحدث شيءٌ غير متوقع، فسيُنَفَّذ غدًا.

لا عجبَ أن الصحافة اللندنية أفردَت القسم الأكبر من مساحتها لمناقشة ظهور تيري ووقوعه في الأَسْر مرةً أخرى.

قالت صحيفة «التليجرام»: «ليس من السهل فهمُ السبب في أن صحفيَّين مُعينَين مُنتسبَين إلى صحيفةٍ مُنافِسة من صحف الإثارة الرخيصة، بعد أن كان الأوغاد في قبضتهما، سمحا بأن يُخلِّيا سبيلهم ليُنفذوا مخطَّطهم الشيطاني ضد رجلٍ عظيم من رجالات الدولة الذين لا مثيل لهم … إن صحَّ ذلك، ونقول «إنْ»؛ لأنه من سوء الطالع في هذه الأيام التي استَشْرت فيها الصحافة الرخيصة ليس ممكنًا التسليم بصحة مزاعمِ كل خبرٍ صادر عن قدس أقداس صحيفةٍ مولعة بالإثارة على عواهنها؛ لذا إن صَحَّ أنَّ هؤلاء الخارجين عن القانون قد زاروا بالفعل مقر الصحيفة المُنافِسة ليلة أمس، كما ذكرت.» وفي الظهيرة عمَّمَت سكوتلاند يارد نشرةً مطبوعة عاجلة:

مكافأة ١٠٠٠ جنيهٍ إسترليني.

مطلوبٌ، بناءً على شكوكٍ في كونه على صلةٍ بتنظيمٍ إجرامي معروفٍ باسم «رجال العدالة الأربعة»، ميجيل تيري، الشهير باسم سايمونت، والشهير كذلك باسم لي تشيكو، من مدينة جيريز، بإسبانيا، إسباني لا يتحدث الإنجليزية، طوله ٥ أقدام و٨ بوصات، بُنيُّ العينَين، أسود الشعر، وله شاربٌ أسودُ خفيف، ووجه عريض، الندوب: نُدبةٌ بيضاء في الخد، جرحُ سكينٍ قديم في الجسد، ممتلئ البنية.

سوف تُدفع الجائزة المذكورة أعلاه لأي شخصٍ أو أشخاصٍ يتقدمون بمعلوماتٍ تقود الشرطة إلى الاستدلالِ عن المذكور تيري ذي الصلة بالعصابة الآثمة المعروفة باسم «رجال العدالة الأربعة» والقبضِ عليه.

من هذه النشرة يمكن استخلاصُ أنه، بناءً على المعلومات المقدَّمة من رئيس التحرير ومساعده في الساعة الثانية صباحًا، تواصلَت سكوتلاند يارد تلغرافيًّا مع السلطات الإسبانية على نحوٍ مستمرٍّ ومباشر، وأُوقِظ أشخاصٌ مهمون من أسرتهم في مدريد، وأُعيد تشكيلُ صحيفةِ سوابقِ تيري المسجَّلة في مكتب المباحث الجنائية من السجلات الأرشيفية لتبصير رئيس الشرطة النشيط.

أما السير فيليب رامون فقد جلس في غرفة مكتبه في بورتلاند بليس، ولاقى صعوبةً في التركيز في الرسالة التي كانت أمامه.

كانت رسالةً موجهة إلى وكيله في برانفيل، حيث الضَّيْعة الضخمة المملوكة له والتي مارس فيها دور الإقطاعي، خلال السنوات التي كان فيها بعيدًا عن المنصب.

وإذ لم يكن للسير فيليب زوجة ولا خليلة ولا ولد، فقد كتب ما يلي، والذي يُمْكِن أن يُستَخْلَص منه فحوى رسالته: «إذا تصادف ونجح هؤلاء الرجال في تنفيذ غرضهم، فإنني قد تركتُ مخصصاتٍ وفيرة، ليس لك وحدك، وإنما أيضًا لكلِّ من خدموني بإخلاص.»

أثناء هذه الأسابيع القليلة الماضية، كانت مشاعر السير فيليب نحو النتيجة المحتملة لتصرُّفه قد شَهِدت تغيرًا.

كان الحنق من التجسُّس المستمر، الودِّي من جهة، والتهديدي من جهةٍ أخرى، قد وَلَّد لديه شعورًا مريرًا بالاستياء، لدرجة أن هذا الشعور الجديد طغى على كل مشاعر الخوف التي كانت لديه. كان عقله مفعمًا بتصميمٍ واحد لا يتزعزع، وهو أن يُنجِز القانون الذي كان قيد الإعداد، وأن يُحبِط مخطَّط رجال العدالة الأربعة، وأن يُثبِت نزاهة وزيرٍ من وزراء التاج. كتب في سياق مقالٍ بعنوان «النزعة الفردية وعلاقتها بالخدمة العامة»، والذي نُشِرَ بعد بضعة شهورٍ في دورية «ذا كوارترلي ريفيو»: «من السخف، بل من الشناعة، أن نظن أن النقد العابر النابع من مصدرٍ ليس له أي سلطة على الإطلاق ينبغي أن يُؤثِّر أو ينعكس بأي طريقةٍ كانت على أحد أعضاء الحكومة من ناحية تصوُّره للتشريع اللازم للملايين من الناس المُوكَل إليه رعايتهم. إنه بمثابة الوسيط، المُعَيَّن رسميًّا حسب القانون، ليضع موضع التنفيذ أماني ورغباتِ أولئك الذين بطبيعة الحال لا يعتمدون عليه في توفيرِ وسائلَ وطرق لتحسين أحوالهم فحسب، أو في تخفيف القيود المزعجة على العلاقات التجارية الدولية، وإنما أيضًا في تأمين الحماية اللازمة لهم من الأخطار العارضة الناجمة عن الالتزامات التجارية البحتة. في تلك الحالة، لا يعود وزير التاج، الذي يُقَدِّر مسئولياته التقدير الواجب، إنسانًا ويصبح مجرد إنسانٍ آلي غير بشري.»

كان للسير فيليب رامون عددٌ قليل جدًّا من الأصدقاء. لم يكن لديه أيٌّ من الصفات التي تساعد على جعل أحدهم محبوبًا. كان رجلًا شريفًا مخلصًا قوي الشخصية. كان مخلوقًا قاسيًا، ساخرًا، خلت حياته من الحب. لم يكن متحمسًا، ولا ملهِمًا لأحد. كان من شأنه أن يتبنَّى تشريعًا معينًا إذا ما اقتنع أنه أقل خطأً من غيره. وإذا ما اقتنع أن تشريعًا ما من شأنه أن يكون ذا نفعٍ فوري أو جوهري لمواطنيه، كان يثابر لوضع ذلك التشريع موضع التنفيذ. قد يَصْدُق عليه أنه بلا طموحات وإنما فقط أهداف. كان أخطر رجلٍ في الحكومة، التي سيطر عليها بطريقته البارعة؛ إذ لم يكن يعرف معنى كلمة «حل وسط».

كان إذا تمسك بآراء في أي موضوعٍ، تصبح تلك الآراء آراء زملائه أيضًا.

شَهِد التاريخ القصير للإدارة الحاكمة أربعَ مراتٍ غطَّت فيها عبارة «شائعة استقالة وزير في الحكومة» الصحف الحائط في الشوارع، وفي كل مرة يكون الوزير الذي توَثَّق استقالته هو الرجل الذي تصادمَت آراؤه مع وزير الخارجية. في الأمور الصغيرة، كما في الكبيرة، كانت له طريقته الخاصة.

رفض رفضًا قاطعًا أن يقيم في مقر الرسمي، وتحوَّل العقار رقم ٤٤ بشارع داوننج ستريت، حيث مقَر وزارة الخارجية، إلى مكتبٍ وقصرٍ في الوقت نفسه. كان المنزل الكائن في شارع بورتلاند بليس هو بيته، ومن هناك كان يستقل سيارته كل صباح، مرورًا بساعةِ مبنى هورس جاردز وهي تُنهي آخر دقَّةٍ من دقاتها معلنةً الساعة العاشرة.

كانت غرفةُ مكتبه في بورتلاند بليس تتصل بالمقر الرسمي في داوننج ستريت بخط هاتفٍ فرعي خاص، ولكن لهذا السبب انقطع السير فيليب عن مقر الوزارة في داوننج ستريت، الذي كان شَغلُه هو مطمح كبارِ رجال حزبه.

ولكن، مع اقتراب اليوم الذي كان سيتطلَّب بذل كل جهدٍ ممكن، أصرَّت الشرطة على اصطحابه إلى مقره في داوننج ستريت.

فحسب قول رجال الشرطة، ستكون مهمة حماية الوزير في مقره الرسمي أبسط فقد كانوا يعرفون مداخل ومخارج مقر الوزارة في ٤٤ داوننج ستريت. وسيكون من الممكن تأمينُ حراسةٍ أفضل للطرق المؤدية إلى المقر، وعلاوةً على ذلك، سيتجنَّب رحلة السيارة — تلك الرحلة الخطرة بالسيارة! — بين بورتلاند بليس ومقر وزارة الخارجية.

تطلَّب الأمر بذل قدْرٍ كبير من الضغط والمناشدة لحث السير فيليب على اتخاذ هذه الخطوة، ولم يذعن إلا بعد أن أوضحوا له أن الحراسة التي سيكون خاضعًا لها لن تكون ظاهرة جدًّا له.

قال له مفتش المباحث فالموث بصراحة: «لن يروق لك أن تجد رجالي واقفين على باب حمامك يحملون ماء حلاقتك. لقد اعترضتَ على وجود أحد رجالي في حمامك عندما دخلته ذاك الصباح، واشتكيتَ من أن ضابطًا بملابس مدنية كان يقود سيارتك. حسنًا، يا سير فيليب، في داوننج ستريت أعدُك أنك حتى لن تراهم.»

بهذا حُسِم الجدل.

قبل مغادرة السير فيليب لمنزله في بورتلاند بليس إلى مقره الجديد مباشرةً، جلس يكتب رسالته إلى وكيله بينما كان مفتش المباحث يقف منتظرًا على بابه.

رنَّ جَرسُ الهاتف الموضوع إلى جانبه — كان يكره صوت الأجراس — وفي الهاتف سمع صوت سكرتيره الخاص يسأله في قلقٍ كم سيستغرق للوصول إلى مقر الوزارة.

قال السكرتير المتحمس الشاب: «إن عدد أفراد الشرطة المناوبين لدينا وصل إلى ٤٤ فردًا، واليوم وغدًا سوف …» استمع السير فيليب في ضيقٍ ونفادِ صَبرٍ إلى سكرتيره وهو يتلو عليه تفاصيلَ إجراءاتِ حمايته.

قال بفظاظة: «ولماذا لم تُحضِروا خزانةً حديدية لتحبسوني فيها؟!» وأنهى المحادثة.

سمع الوزير صوت طرق على الباب وأطل فالموث برأسه إلى الداخل.

قال: «لا أريد أن أستعجلك، يا سيدي، ولكن …»

وهكذا غادر الوزير بالسيارة إلى داوننج ستريت والغضب بادٍ على وجهه.

لم يكن معتادًا أن يستعجله أحدٌ، أو يتحكَّم فيه أحد، أو يتلقَّى أوامر من هنا وهناك. وزاد من حنقه أن رأى موكب الدراجات البخارية، الذي صار معتادًا، على جانبَي عربته، وأن يلاحظ كل بضع يارداتٍ شرطيًّا في لباسٍ مدني يستمتع بالمنظر وهو واقف على رصيف الشارع، وعندما وصل إلى داوننج ستريت ووجد أن دخوله محظورٌ على كل العربات إلا عربته، وحشدٌ هائل من المتفرجين المهووسين مُتَجَمِّعٌ ليُهلِّل له أثناء دخوله، شعر لأول مرة في حياته بالمهانة.

وجد سكرتيره ينتظره في مكتبه الخاص ومعه مسودة الخطبة التي سيلقيها تمهيدًا للقراءة الثانية لمشروع قانون تسليم الأجانب.

قال السكرتير: «نحن على يقينٍ من أننا سنلقى قدْرًا كبيرًا من المعارضة، ولكن قيادة الحزب أرسلت تعليماتٍ صارمة بالحضور والتصويت لصالح مشروع القانون، ويتوقَّعون أن نحصل على أغلبيةِ ستةٍ وثلاثين صوتًا على أقل تقدير.»

قرأ رامون الملاحظات بعناية وأشعَرتْه بالاطمئنان والانتعاش.

أعادت إليه الشعور القديم بالأمان والأهمية؛ ففي نهاية الأمر، كان أحد كبار وزراء الدولة. وأخذ يقول لنفسه إنه لا شك في أن التهديدات في منتهى السخافة، وأن الشرطة هي الملومة على إحداث مثل هذه الجلبة، وبالطبع أيضًا الصحافة. أجل، تلك حقيقة الأمر؛ مجرد إثارةٍ صحفية.

كان ثَمَّةَ بشاشةٌ ولطف في أسلوبه وهو يلتفت إلى سكرتيره وعلى ثغره ابتسامةٌ خفيفة.

«ماذا عن أخبار أصدقائي المجهولين؟ ماذا يُطْلِق الأوغاد على أنفسهم؟ رجال العدالة الأربعة؟»

كان في كلامه تَصَنُّع؛ فهو لم يكن قد نسي لقبهم، بل كان في ذهنه ليلَ نهارَ.

تردَّد السكرتير قبل أن يجيب؛ فموضوع «رجال العدالة الأربعة» كان من الموضوعات المُحَرَّم عليه الحديث فيها مع رئيسه.

قال بصوتٍ واهن: «إنهم … أوه، لم نسمع شيئًا أكثر مما سمعت؛ نعرف الآن من هو تيري، ولكن لا نعرف شيئًا عن رفاقه الثلاثة.»

زَمَّ الوزير شفتَيه.

وقال: «إنهم يمهلونني حتى ليلة غدٍ لأتراجع.»

«هل وصلكَ منهم شيءٌ مجددًا؟»

قال السير فيليب باستخفاف: «أقصر تحذير.»

«وإلا؟»

تجهَّم وجه السير فيليب، وقال باقتضاب: «وإلا فسيُنفِّذون وعدهم.» فقد أثارت كلمة «وإلا»، التي تلفَّظ بها سكرتيره، في أوصاله برودةً، لم يستطع أن يفهمها جيدًا.

في الغرفة العلوية في المصنع في شارع كارنابي، جلس تيري، شاحبًا ومتجهمًا وخائفًا، في مواجهة الثلاثة. قال مانفريد: «أريدك أن تفهم جيدًا أننا لا نحمل لك ضغينةً بسببِ ما أقدمتَ عليه. وأنا والسنيور بويكارت نرى أن السنيور جونزاليس أحسن صنعًا بإبقائه على حياتك وإعادتك إلينا.»

أخفض تيري عينَيه أمام ابتسامة مانفريد الموحية ببعض السخرية.

«ليلة غدٍ، إن دعت الضرورة، فستُنفِّذ ما اتفقنا معك على فعله. بعد ذلك، سترحل …» ولم يكمل جملته الأخيرة.

تساءل تيري في غضبٍ مفاجئ: «إلى أين؟ إلى أين بحق السماء؟ لقد أخبرتُهم باسمي، وسيعرفون هُويتي. سيكتشفون ذلك بمراسلة الشرطة الإسبانية. إلى أين يُمكِنُني أن أذهب؟»

انتفض واقفًا، محملقًا بسخطٍ في الرجال الثلاثة، ويداه ترجفان غضبًا، وجسده الضخم ينتفض من فَرْط الغضب.

قال مانفريد بصوتٍ هادئ: «لقد وشَيتَ بنفسك، وذاك هو عقابك. لكننا سنجد لك مكانًا، وطنًا جديدًا تحت سماءٍ أخرى، أما فتاتك التي في جيريز فسوف تكون هناك في انتظارك.»

أخذ تيري ينقل نظراته من واحد إلى الآخر بتشكُّك، وتساءل في نفسه عما إذا كانوا يستهزئون به.

لم يكونوا يبتسمون؛ وحده جونزاليس كان ينظر إليه نظراتٍ ثاقبةً فضولية، وكأنه رأى مغزًى خفيًّا في الحديث.

تساءل تيري بصوتٍ مبحوح: «أتُقسِم على ذلك؟ أتُقسِم إنه …»

قال مانفريد: «أتعهَّد لك بذلك، وإن شئت فسأُقسِم لك على ذلك.» واستطرد، قائلًا، وقد تغيَّرت نبرةُ صوته: «والآن، أتعرف ما هو المتوقع منك ليلة غدٍ؟ ما الذي عليك أن تفعله؟»

أومأ تيري برأسه.

«لا بُد ألا يكون ثمة عوائق؛ لا تصرفات خرقاء؛ أنا وأنت وبويكارت وجونزاليس سنقتل هذا الرجل الظالم بطريقةٍ لن يتوقَّعها أي أحد في العالم. من شأن عملية قتلٍ كهذه أن تُرَوِّع البشرية. موتٌ سريع، وأكيد، وبطريقةٍ خفية، دون أن ينتبه الحراس. يا إلهي، لم يُقْدِم أحدٌ على شيءٍ كهذا من قبلُ. يا له من …» وفجأة صمَت تمامًا وقد تورَّد خداه واتقَدَت عيناه، والتقت عيناه بعيون رفيقَيه المُحدِّقة فيه. كانت ملامح بويكارت جامدة لا تشي بأي انفعالات، أما ليون فبدا عليه الاهتمام والفضول. خفَت احمرارُ وجه مانفريد.

قال الأخير بنبرةٍ شبه مُتذلِّلة: «أستميحكم عذرًا؛ فللحظةٍ نسيت القضية والغاية في غِمار غرابة الوسيلة.»

رفع يده في استنكار.

قال بويكارت بجدية: «إنه أمرٌ مفهوم.» وضغَط ليون على ذراع مانفريد.

للحظةٍ وقف الثلاثة في صمتٍ مرتبك، ثم أخذ مانفريد يضحك.

قال، وهو يَتقدَّمهم إلى المعمل المُرْتَجَل: «هيا إلى العمل!»

في الداخل خلع تيري مِعطَفه. هنا كان ميدان تخصُّصه، وتحوَّل من رجل خاضع تابع إلى الرجل الذي يتحكم في الثلاثة ويُوجههم، ويرشدهم، ويأمرهم، حتى جعل الرجال الذين كان، منذ بضع دقائق، يقف أمامهم مرتعبًا، يُهرولون من الاستوديو إلى المعمل، ومن طابق إلى آخر.

كان يوجد الكثير مما يتعين فعله، الكثير من الاختبارات، والكثير من الحسابات، والكثير من عمليات الجمع التي كان يتعيَّن إجراؤها على الورق؛ فقد كان قتل السير فيليب رامون يتطلَّب حشد كل موارد العلم الحديث في خدمة «الأربعة».

قال مانفريد فجأة: «سأُجري مسحًا للأرض.» واختفى داخل الاستوديو ثم عاد ومعه سلم نقال. فرَدَ السلمَ النقَّال ووضعه في الممر المظلم، وبعدما صعد عليه بسرعة دفع إلى أعلى بابًا سحريًّا كان يقود إلى سقف المبنى المسطح.

سحب جسده إلى أعلى بحرص، وزحف على السطح الرصاصي، وبعدما انتصَبَ واقفًا أخذ ينظر بحذر من فوق الحاجز المُنخفِض.

كان في مركز دائرةٍ قُطرها نصف ميل من الأسطُح غير المتساوية. ووراء خط الأفق لاحت لندن معتمةً عبر الدخان والضباب. بالأسفل كان الشارع مزدحمًا. أجرى مسحًا سريعًا للسطح بما عليه من أعمدة المدخنة، وعمود تِلغرافه القبيح الشكل، وسطحه الرصاصي ومزرابه؛ ثم، عبر مِنظار ميداني، أجرى مسحًا مطوَّلًا ودقيقًا للجهة الجنوبية. زحف ببطء عائدًا إلى الباب السحري، ورفعه، ونزل عبره بحذرٍ شديد حتى لمسَت قدماه قمَّة السلَّم النقال. ثم نزل بسرعة، وأغلق الباب خلفه.

تساءل تيري بشيء من الانتصار في صوته: «ماذا وجدت؟»

قال مانفريد: «أرى أنك قد وضعت عليه علامة.»

قال تيري: «إنه أفضل هكذا؛ بما أننا سنَعملُ في الظلام.»

بادره بويكارت قائلًا: «إذن هل رأيت؟»

أومأ مانفريد برأسه.

«بشكل غير واضح تمامًا؛ يُمكن للمرء أن يرى مبنى البرلمان بصعوبة، ويرى داوننج ستريت عبارة عن خليط من الأسطح.»

كان تيري قد عاد إلى العمل الذي كان يستأثر بانتباهه. أيًّا كانت صنعته فقد كان حِرَفيًّا ماهرًا. بطريقة ما شعر أنه يجب عليه أن يبذل أفضل ما في وُسعه من أجل هؤلاء الرجال. كانوا قد أجبروه في الأيام الأخيرة على أن يُدركَ أفضليتهم، وكان حينئذٍ يطمح للتأكيد على مهارته، وتفرُّده، وأن يَحظى بتقدير هؤلاء الرجال الذي جعلوه يشعر بضآلته.

تنحَّى مانفريد والرجلان الآخران جانبًا ووقفوا يراقبونه في صمت. أخذ ليون يُحدِّق، بعبوس متحيِّر، في وجه تيري وهو يَعمل. كان ليون جونزاليس، العالم، وخبير علم ملامح الوجه (حاليًّا تُعْتَبَر ترجمته لكتاب «لاهوت ملامح الوجه البشري» هي الأجود)، يسعى جاهدًا إلى التوفيق بين المُجرِم والحِرَفي.

بعد قليل انتهى تيري من عمله.

قال وعلى وجهه ابتسامة رضا: «كل شيء جاهز الآن، دعوني أعثر على وزيركم ذاك، وامنحوني دقيقة واحدة من الحديث معه، وفي الدقيقة التالية سيكون قد لقيَ حتفه.»

كان وجهُه، الذي كان يبدو قبيحًا أثناء فترات صمته، يبدو الآن شيطانيًّا. كان مثل ثور عظيم من ثيران المصارعة في بلاده وقد زادته خنفرتُه للدم من منخارَيه شناعةً.

كانت وجوهُ رؤسائه تتبايَن تباينًا غريبًا مع وَجهِه. لم تختلج عضلة واحدة في وجه أيٍّ منهم. لم يكن في تعبيرات وجوهِهم ما يدلُّ على الابتهاج ولا الندم؛ لم يبدُ على وجوههم إلا تعبير غريب كالذي يَزحف على وجه القاضي الصارم وهو يُعلن حكم القانون الرهيب. أبصر تيري ذلك التعبير، وجعل الدم يجمد في عروقِه.

رفع يدَيه إلى وجهِه وكأنَّما يتقيهم.

وصاح قائلًا: «توقَّفُوا! توقفُوا! لا تنظروا إليَّ هكذا، بحق الرب، لا تنظروا إليَّ هكذا!» وغطَّى وجهه بيديه المرتعشتين.

سأله ليون برفق: «هكذا كيف يا تيري؟»

هز تيري رأسه.

«لا أستطيع أن أقول، مثل القاضي في غرناطة وهو يقول، وهو يقول: «ليُنَفَّذ الحُكم»!»

قال مانفريد بخشونة: «إن كنَّا نبدو هكذا، فلأننا قُضاة؛ ولسنا قضاة فحسب بل أيضًا جلادين نُنفِّذ حكمَنا.»

أصدر تيري صوت نشيجٍ وهو يقول: «لقد ظننتُ أنكم ستُسرُّون.»

قال مانفريد بجدية: «لقد أحسنتُ صنعًا.»

قال الآخران: «جيد! جيد!»

أضاف مانفريد برصانة: «لِنُصَلِّ إلى الرب أن تُكَلَّل مهمتنا بالنجاح.» وحدق تيري في هذا الرجل الغريب في ذهول.

أبلغ فالموث مفوض الشرطة عصر ذلك اليوم أن كل الترتيبات لحماية السير رامون قد استُكْمِلَت.

«لقد ملأت مقرَّ وزارة الخارجية برجالنا؛ يوجد بالفعل رجل في كل غرفة. ووضعت أربعة من أفضل رجالنا على السطح، ووضعت رجالًا في القبو، وآخرين في المطابخ.»

سأله مُفَوَّض الشرطة: «ماذا عن الخدم؟»

«لقد جلب السير فيليب خدمه من الريف، والآن لا يوجد شخص في مقرِّ الوزارة من السكرتير الخاص وحتى البواب إلا وأعرف سيرة حياته من الألف إلى الياء.»

أطلق مُفَوَّض الشرطة تنهيدة مُتوتِّرة.

قال: «سأكون في غاية السعادة عندما يمرُّ يوم الغد بسلام. ما الترتيبات النهائية؟»

«لا يوجد أي تغييرات، يا سيدي؛ فقد عالجنا كل شيء صبيحة يوم مجيء السير فيليب. سوف يبقى في مقر وزارة الخارجية طوال يوم غد حتى الساعة الثامنة والنصف، ثم يذهب إلى البرلمان في الساعة التاسعة ليستهلَّ قراءة مشروع القانون، ثم يعود في الساعة الحادية عشرة.»

قال مُفَوَّض الشرطة: «لقد أصدرت الأوامر بتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المُوازي للنهر بين التاسعة إلا الربع والتاسعة والربع، وكذلك في الساعة الحادية عشرة. وستتَّجه أربع مركبات مغلقة من داوننج ستريت إلى البرلمان، وستتبعها مباشرةً عربةٌ تُقِلُّ السير فيليب.»

سُمِع طرقٌ على باب مكتب مُفَوَّض الشرطة، حيث كانت المحادثة تدور في مكتبه، ودخل شرطي. كان يَحمل بطاقة تعريف في يده، ووضعها على الطاولة.

قرأ مُفَوَّض الشرطة البطاقة: «سنيور جوزيه دي سيلفا»، ثم قال موضِّحًا لمفتش المباحث: «رئيس الشرطة الإسبانية.» ثم قال مخاطِبًا الضابط: «أدخله، من فضلِك.»

ألقى السنيور دي سيلفا، الذي كان رجلًا ضئيل الجسم رشيق القوام، التحية على الرجال الإنجليز بتأدُّب مبالغ فيه تختص به الدوائر الرسمية الإسبانية.

قال مفوض الشرطة، بعد أن صافح الضيف وقَدَّمه إلى فالموث: «أعتذر عن استدعائي لك؛ لكننا ارتأينا أنه قد يكون بوسعك مساعدتنا في بحثنا عن تيري.»

قال الإسباني: «من حسن الحظ أنني كنتُ في باريس؛ أجل، أعرف تيري، ويدهشني أن أجده ضمن هذه المجموعة المُميَّزة. هل أعرف «الأربعة»؟» ثم رفع كتفيه إلى أعلى، واستطرد: «ومن يعرفهم؟ أعلم بوجودهم؛ فقد كانت ثمة قضية في مَلَقَة، أتعلم بها؟ إن تيري ليس مجرمًا بارعًا. لقد دُهِشتُ عندما علمتُ أنه انضمَّ إلى العصابة.»

قال مفوض الشرطة، وهو يلتقط نسخة من إشعار الشرطة كانت على مكتبه، ويُلقي عليها نظرة: «بالمناسبة، لقد أغفل رجالك أن يذكروا صنعة تيري، مع أنه ليس أمرًا ذا بال.»

رفع الشرطي الإسباني حاجبَيه.

وقال: «صنعة تيري! دعني أتذكر.» أخذ يفكر لبرهة، ثم قال: «صنعة تيري؟ لا أحسبني أعرف؛ ولكن لديَّ فكرة أنها شيء له علاقة بالمطاط. أول جريمة ارتكبها كانت سرقة مطاط؛ لكن إن أردتَ أن تعرف يقينًا …»

ضحك مفوض الشرطة.

قال بلا مبالاة: «إنه حقًّا ليس بالأمر المُهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤