الفصل الأول

قراصنة العالم القديم

أشرقت شمسُ القراصنة من قديم الأزَل، ويمكن أن نقول بكل شجاعة إنَّها ظهرت مع ظهور المِلَاحة البحرية. في العالَم القديم، اشتغل بها الفينيقيون أقدم وأفضل مَن ركِبَ البحر، ثم جاء بعدهم الإغريق، دخلت القرصنة حياة بعض القبائل الإغريقية الصغيرة، بل إنَّهم عدوها حرفةً رفيعة المنزلة. وبمرور الزمن وصلت القرصنة في حوض البحر الأبيض المتوسط إلى القَدْر الذي أخذت فيه تُشكل تهديدًا على أعظم دولة في العالم القديم آنذاك، وهي الإمبراطورية الرومانية.

لقد قدَّم التاريخ والأدب القديمان وصفًا شيقًا وأخَّاذًا للصراع الذي دار ضدَّ القراصنة، الذين كثيرًا ما كانوا سببًا في تكدير صفو سكان العالم القديم.

من أوديسي١ إلى بومبي

لم يكن «أخيل» بطل حرب طروادة الذي خلَّده هوميروس سوى قرصان، على أنَّهم كانوا ينظرون إلى القرصنة في ذلك العصر نظرةً تختلف تمامًا عن تلك التي ننظر بها إليها الآن. يعترف «أخيل» في الإلياذة بأنَّه احترف القرصنة، دونما إحساس بالخجل، بل يمكن القول إنَّ اعترافه يشوبه الشيء الكثير من الإحساس بالفخر. وينشد بطلٌ آخر من أبطال هوميروس، وهو أوديسي، في الفخر بمآثره في القرصنة أمام الكينوى٢ بقوله:
«حملتنا الريح من مدينة إيلون٣ إلى إيسمار٤ حيث يعيش الكيكونيون،٥ فأمَّا المدينة فقد دمرناها، وأما السكان فقد أبَدْناهم، ولكننا سبينا٦ الزوجات، وبعدها شرعنا في توزيع الكنوز الكثيرة التي نهبناها على مختلف أشكالها بالقسطاس؛ لكي يتسنى لكلٍّ أن يأخذ نصيبه كاملًا غير منقوص. لقد كنت مصممًا على الإسراع بالفرار، ولقد سَمِع الجميع الأمر، ولكن المجانين لم يستمعوا إلى نصيحتي المخلصة، فإذا بهم — وهم الذين كانوا يترنحون من السُّكْر — يقيمون على الشاطئ الرملي الولائمَ، فيذبحون أغنامًا كثيرة وثيرانًا ذات قرونٍ معقوفة. وما هي إلَّا برهة قصيرة حتى ذهب الكيكونيون، الذين أفلتوا من المدينة إلى حيث تجمعوا هم وجيرانهم من الكيكونيين في جيشٍ جرار خبير بفنون القتال على ظهور الخيل، ولا يقل رجاله شجاعةً عن رجالنا، فإذا ما دعا الداعي ترجَّلوا عنها متأهبين للقتال. لقد بدت جحافلهم فجأةً في غزارة أوراق الشجر، أو مثل زهور الربيع الأولى، عندئذٍ بات من الجلي أنَّ كرونيون،٧ قد أعدَّ لنا مصيرًا بائسًا وأهوالًا ومصائب كثيرة. لقد بدأنا المعركة قريبين بعضُنا من بعض، وقد ناءت علينا سفنهم السريعة بكلكلها،٨ ورحنا نتراشق الرماح ذات الأسنَّة النحاسية الحادة. كنا متمسِّكين نصد هجومهم ما بقي الصباح ممتدًّا وما استمر النهار صاعدًا، على الرغم من أنَّهم كانوا يفوقوننا عددًا، ولكن عندما أذن هيلوس٩ بالأفول، وحانت ساعة فك عدة الثيران عن كواهلها، اضطر الكيكونيون الآخيون١٠ للفرار بعد أن ألحقوا بهم الهزيمة، هنا فقدت من كل سفينة ستة من المدرعين١١ الشجعان. أمَّا الباقون فقد كُتبت لهم النجاة من الموت ومن القدر. بعد ذلك أبحرنا وقد جلَّلنا حزن عظيم على أحبائنا الذين قضوا نَحبهم، وإن كنا في قرارة أنفسنا فرحين بنجاتنا من الموت، على أنَّني لم أبتعد بسُفني السريعة عن الشاطئ إلَّا بعد أن ناديت رِفاقنا التعساء الذين لَقوا حتفهم في المعركة ثلاث مرات كلًّا باسمه، أولئك الذين ظلوا هناك في باطن الأرض.»
وهاكم وصفٌ آخر «لمآثر» وردت في الأوديسا:١٢
«شهر بتمامه قضَيتُه مع أطفالي وزوجتي، في منزل الأسرة أنعَمُ بها وسط ثروتي الكبيرة، ولكن في نهاية الأمر صارت بي رغبة للذهاب إلى مصر، فبعد أن اختَرت الرفاق الشجعان أعددت السفن، وكن تسعًا جديدة قد سلَّحناها جيدًا، وعندما اجتمع الرفاق في السفينة وهم يفيضون حيويةً وخفةً، ظللنا نولم جميعنا الولائم لمدة ستة أيامٍ قُبيل الرحيل، وقد ذبحت كثيرًا من الثيران والخِراف قدَّمتها قربانًا للآلهة، كما أقمت وليمةً فاخرة تكريمًا لرجالي، ولكن لما كان اليوم السابع خرجنا إلى البحر الواسع تاركين كريت١٣ وحملتنا بورييه١٤ باردة بليلة في سرعةٍ ورفق، وها نحن نبحر في خفةٍ ويُسرٍ كما لو كنا نسير مع التيار، ولم تُصَب أي من سفننا بعطبٍ، حملتنا السفن عبر البحر موفوري الصحة والنشاط مُفعَمين بالسرور، وكانت الريح والدفة توجهاننا، بعد خمسة أيامٍ وصلنا إلى تيَّار مصر١٥ الرائق الرشيق، وصلنا، وفي أحضان هذا التيار رسَتْ زوارقنا خفيفة الحركة على الشاطئ. وبعد أن قمتُ بتثبيتها إليه، أمرتُ خيرة رجالي أن يبقوا هناك عند شاطئ البحر لحراسة السفن، وفي الوقت نفسه أعطيتُ للآخرين أوامري بمراقبة المنطقة كلها من ارتفاعاتٍ قريبة، وفجأةً إذا بالرغبة الجامحة تشتعل بداخلهم فيفقدون عقولهم، ويشرعون في نهب حقول المصريين المسالمين الخصبة، ثم يندفعون ليبدءوا في خطف الزوجات والأطفال الصغار، وقتل الأزواج بصورةٍ وحشية. سرعان ما وصل الإنذار إلى سكان المدينة، ومع بزوغ خيوط الفجر الأولى، كان قد وصل إلى المنطقة جيشٌ قوي بعرَباته ومُشاته وأسلحته النحاسية البراقة، وإذا بالأرض كلها وقد لفَّها لهيب القتال. أمَّا زيوس١٦ الذي كان يلهو مسرورًا بالرعد؛ فقد دفع رجالي إلى هروبٍ مزرٍ، ولم يتمكن أحدٌ منهم من الثبات أمام قوة العدو، وها قد أحاط بنا الموت من كل جانب، لقد قتلتِ الأسلحةُ النحاسية الكثيرَ من رفاقي، ووقع كثيرٌ آخرون في الأَسْر، سِيقوا غصبًا إلى المدينة، ليعملوا هناك عبيدًا بائسين.»١٧

على أن الذي فاق كل قراصنة العالَم القديم ربما كان بوليقراط طاغية جزيرة ساموس (٥٢٧–٥٢٢ قبل الميلاد)، استطاع بوليقراط أن يبني أسطولًا ضخمًا بمقاييس عصره سيطر به دون منازعٍ على بحر إيجه.

كان بوليقراط طموحًا إلى أبعد الحدود، ماكرًا لا يعرف الرحمة، ذاع صيته كراعٍ للفنون والعلوم؛ جمَّل المدينة بمبانٍ رائعة، وجذب إلى بلاطه أبرز الشعراء والمعماريين والفنانين والأطباء، لكنه من ناحيةٍ أخرى اكتسب سوء السمعة باعتباره وحشًا ولصًّا، فبعد أن استولى على ساموس بمساعدة إخوته، شرع على الفور في قتل أخيه بانتاجنوت، بينما قام بنفي الآخر سيلوزدن، حتى يجمع السلطة كلها في يديه، ولكي يضاعف ثرواته احترف النَّهب البحري، وفرض إتاواتٍ ضخمةً على قباطنة السفن.

جديرٌ بالذكر — وإحقاقًا للحق — إنَّ مثل هذا العمل لم يكن استثناءً في عصر بوليقراط، وإنَّما دخل في ترسانة الوسائل المطبَّقة في كل مكان لإدارة السياسة والتجارة التي كانت القرصنة أحد عناصرها. على أنَّ طاغية ساموس تميَّز بالطبع عن أقرانه، ومارس القرصنة على مستويات ضخمة، إلى الحد الذي دفع ببعض المؤرخين للقول، اعترافًا بأفضاله، بأنَّ بوليقراط هو أعظم قراصنة العالم القديم.

في عام ٥٢٢ قبل الميلاد، لجأ طاغيةٌ آخر من فارس، يدفعه الخوف من جبروت جزيرة ساموس الآخذ في التعاظم إلى خيانة بوليقيراط غدرًا، في ماجنيسيا،١٨ ثم قام بصَلْبه، أدى مصرع طاغية ساموس إلى اشتداد أعمال النهب البحري في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. كان بوليقراط قويًّا إلى حدِّ أنَّ الكثيرين من أتباعه ظلوا لمدةٍ طويلة يمارسون نشاطهم بعيدًا عن مناطق نفوذه، على أن بعد موته ظهر في بحر إيجه العديد من اللصوص.

وقد قام أحد حكام جزيرة كريت بإرسال أسطوله بأكمله للقضاء على القرصنة البحرية. كان هذا الحاكم قد مارس هو نفسه القرصنة قدرًا من الزمان على غرار بوليقراط، ومن ثم فقد كان يشكل خطرًا على أعدائه؛ إذ إنَّه كان على درايةٍ تامة بعادات وحِيل القراصنة، ناهيك عن إعداده لأسطولٍ هائل من أجل هذه المهمة، تميز حاكم كريت بالعِناد الشديد والشراسة في القتال.

بعد سنواتٍ طويلة من المعارك الدامية، أصبح حاكم كريت الشجاع سيدًا للموقف، حتى إنَّ النصر الذي عُقد لواؤُه كان من الاكتمال، بحيث تسنى له أن يفرض إرادته على الإغريق، وأن يمنع وجود أكثر من خمسةٍ من القادة على ظهر كل سفينة، وقد نجَح هذا الاتفاق في الحيلولة دون تعاظم عمليات القرصنة في المياه الإغريقية، على أنَّه ما إن تُوفي الحاكم المنتصر، وأصاب الضعف القدرة العسكرية لجزيرة كريت، حتى بُعث النهب البحري من جديد.

على الرغم من تلك الثقافة الروحية الرفيعة التي كانت لدى الإغريق القدماء، فإنَّهم كانوا نسبيًّا فقراء، ولم يستطيعوا أن يجمعوا الثروات الضخمة في بلادهم، وذلك على العكس تمامًا من جيرانهم في البحر وهم الفينيقيون. عمل الفينيقيون بتسويق البضائع على مستوياتٍ ضخمة، حتى تمكنوا من تحقيق مركز احتكاري في تجارة الأحجار الكريمة. حملت مراكب تُجَّارهم الكهرمان من بحر البلطيق والقصدير من إنجلترا، وقام هؤلاء التجار بعمليات التبادل التجاري بين شمال أفريقيا وإسبانيا وفرنسا.

كان الفينيقيون من الثراء بحيث لم يكن من المستطاع إلَّا أن يثيروا مشاعر الغيرة لدى جيرانهم الأقل حظًّا، الأمر الذي دفع أبناء «إللاذا»١٩ الذين تميزوا بعلو الهمة وقوة العزيمة إلى الاشتغال بالقرصنة. وهكذا فكلما سار تطور التجارة إلى الأفضل بالنسبة للفينيقيين، وازدادت الثروات المنقولة على مراكبهم، اشتدت عملية السطو في بحر إيجه. وبفضل السخاء الذي كان الفينيقيون يدفعون به الأموال للصوص البحر في هيئة فدية وتعويضات، ازدهرت القرصنة على نحوٍ غير مباشر في الجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. لقد أصبح القراصنة في واقع الأمر شركاء للفينيقيين في تجارتهم؛ إذ يحصلون منهم على نسبةٍ محددة مما يحققونه من أرباح، لم يسعَ الفينيقيون بسبب تركيبتهم العقلية كتجارٍ إلى القضاء على النهب البحري، وإنَّما ضاعفوا اهتمامهم بزيادة ثرواتهم.

في عصر برقل أصبح القراصنة من القوة بحيث أنشئوا دويلاتٍ لهم، كانت الدول الأخرى تعقد معها الاتفاقيات.

لقد أسهم نمو القرصنة في المياه الإغريقية في تحسين الظروف الجغرافية (متاهة الجزر والخط المنكسر للشاطئ)، فضلًا عن إسهامها في ارتفاع مستوى فن الملاحة البحرية آنذاك. كان الناس قديمًا يبحرون بالأشرعة نهارًا فقط وبمحاذاة الشاطئ، حريصين على ألا تغيب عن أعيُنهم، وما إن يُرخي الليل سدوله، حتى يحتَمُوا بواحدٍ من الخلجان العديدة.

في ذلك الزمان دأب القراصنة على التربص بضحاياهم وسط الجُزر الصخرية لبحر إيجه، وكذلك في خلجان شبه جزيرة بيلوبونيسوس جنوب اليونان، ليقوموا بالهجوم المباغت عليهم ليلًا. كان القراصنة يُعملون النهب والسَّلب في المدن الواقعة على الساحل مثلما كان الفايكنج٢٠ يفعلون في العصور الوسطى. هناك كان باستطاعتهم أن يسرقوا الماشية والأدوات المنزلية ولوازم المعابد والمصنوعات والحلي الثمينة والمشغولات الفضية والذهبية، ثم يحملون في نهاية المطاف النساء والأطفال، حيث يباعون بأسعارٍ باهظة في أسواق الرقيق المنتشرة في بلدان البحر الأبيض المتوسط. كان تُجار الرقيق يفضِّلون الفتيات، ويدفعون بالفتيات لممارسة أعمال البحر الشاقة. كثيرًا ما كان نجاح الإغارة على السفن التجارية يتوقف على المصادفة، حيث كان من المحتمل أن تكون شحنتها من أحجار البناء مثلًا أو لب الأخشاب أو الفخار الرخيص، وهي بضائع لا تمثل بالنسبة للقرصان قيمة كبرى، بل إنَّ السفينة أحيانًا ما تكون خالية من البضائع بالمرَّة.
في الزمن الغابر٢١ كان قراصنة البحر الأبيض المتوسط يقومون بغاراتهم وفق خطةٍ محكمة، فكانت زوارقهم تقوم خِفْيةً تحت جُنح الليل بالمرور على الميناء، وقد لُفَّت حول مجاديفها أربطة، ثم تقوم على مدى بضع ساعات بأعمال تجسُّس دقيقة، يتم بعدها الهجوم المفاجئ على الضحية، ثم تعود إلى المراكب، بضع ساعات من السطو المشوب بالتوتر، ويعود كل لصٍّ شارك في العملية، ليصبح من أصحاب الثراء.

يمكن للمرء اليوم بعد انقضاء آلاف السنين أن يلتقي على أرض اليونان بأطلال المباني الفريدة، ومن بينها تلك القلاع الدفاعية السامقة التي شُيدت فوق التلال العالية في أعماق اليابسة، ها هنا كان سكان الجزر يبحثون عن الهاربين من هجوم القراصنة، ومن أعلى هذه الأبراج كانت تتصاعد الإشارات الدخانية تطلب العون من الجيران.

بمرور الزمن كسب الإغريق حلفاءَ لهم ذوي شأن عظيم، فبعد انقضاء الحرب البونية الثالثة لم تتعرض قرطاجة الجبارة لأية هزيمة. لقد تحالف الإغريق مع منافسي الأمس من البحَّارة الفينيقيين المهرة، عندئذٍ انتشرت حُمَّى القرصنة، لتشمل حوض البحر الأبيض المتوسط بأَسره بدءًا من هيلسبونت،٢٢ وانتهاءً بأعمدة هرقل،٢٣ كان القراصنة يحاصرون المدن ويدمرون الجزر، ويجبرون السكان على دفع الإتاوات، أمَّا الذين كانوا يقعون في الأَسر فهؤلاء لم يكن سراحهم ليطبَّق من دون فديةٍ باهظة أو يباعون كعبيد. وقد وصلت الجرأة بالقرصنة إلى حدِّ أنَّهم أقدموا على الهجوم على أوستيا ذاتها.٢٤ مارس القراصنة إبَّان رسوِّ مراكبهم على الشواطئ قطْعَ الطرق. وقد حدث ذات مرةٍ أنَّهم تمكنوا إبان وجودهم بالقرب من أبواب روما نفسها، أن يقبضوا على قاضيين من قضاة روما ومعهما مساعداهما،٢٥ أصبح السفر بحرًا أمرًا محفوفًا بالمخاطر، كما أصبحت العمليات التجارية التي يقوم بها الرومان تُدر ربحًا أقل. ارتفعت أسعار القرصنة، اضطر مجلس الشيوخ إلى توجيه بعض الحملات ضد القراصنة، غير أنَّها لم تُكلَّل بالنجاح. وصل الأمر إلى حدِّ أنَّ القراصنة استطاعوا في القرن الأول قبل الميلاد إلى تعريض روما لحصارٍ بحري، حصار بكل معنى الكلمة.
يا له من وضعٍ شاذ؛ ذلك الذي نتج عن كَوْن الرومان لم يبلغوا حتى ذلك الحين ما بلغه أعداؤهم الإغريق والفينيقيون من مستوًى رفيع في فنون الملاحة البحرية. لقد ترك الرومان مقاليد التجارة البحرية في أيدي الغرباء الذين استأجروهم من بين أبناء الشعوب التي تم لهم إخضاعها؛ إذ لم تكن لدى الإيطاليين أية تقاليد بحرية، كما أنَّ روما لم يكن بمقدورها بناء أسطول قوي في زمنٍ قصير. أضف إلى هذا تلك الخلافات الداخلية العميقة التي كانت تتنازعها في تلك الفترة. لقد أهدرت روما قُواها في الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين أنصار ماري من ناحية، وأنصار سولا من الناحية الأخرى.٢٦ وقد عمد لصوص البحر إلى استغلال هذا الضعف لدى الجمهورية الإيطالية حتى بلغ الحصار أشده؛ حين أصبح الثلث فقط من إجمالي كمية الحبوب المستوردة من مصر يصل إلى روما، بينما يقع الباقي في يد القراصنة، وهكذا أصبح شبح المجاعة يحوم فوق سكان العاصمة المتكبرة.
كانت مواقع القرصنة الرئيسية تتمركز آنذاك في كلٍّ من كيليكيا وبامفيلفيا وإيساوريا،٢٧ كانت كيليكيا الواقعة تحت وصاية القيصر البونتي ميتريدات تُمثِّل أشد أعداء دولة روما لَدادة،٢٨ وقد أخذت حالات السطو المتفرقة تتحول بالتدريج إلى حربٍ منظمة؛ إذ إنَّ ميتريدات قدَّم ملجأ للصوص البحر في موانيه، بل وقدَّم لهم سفنًا ليتمكَّنوا بها من تحقيق نجاح أكبر في حربهم ضد روما. هكذا وجدت روما نفسها وجهًا لوجه أمام خطر الموت، عندئذٍ أوقفت في النهاية كل أعمال التنكيل بالداخل، ثم شرعت في النضال الحامي ضد القرصنة.
وفقًا لاقتراح الخطيب الشعبي آفل جابيني جرى تكليف بومبي٢٩ في العام السابع والستين قبل الميلاد بمهمة إنزال هزيمة ساحقة بالقراصنة، حمل بومبي مسئولية قيادة القوات في كل أنحاء البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى سواحل يبلغ طولها خمسين ميلًا، كما حصل حق التصرف دون عوائق في موارد الدولة. كان من الضروري ألا تخضع الخطط الاستراتيجية التي وضعها القائد الأعلى لأية شكلياتٍ قانونية. أصبح لبومبي أسطول مكوَّن من «٥٠٠» سفينة، وجيش قوامه «١٢٠» ألف رجل، على أنَّه وضع في اعتباره أن مواطنيه لم يتسنَّ لهم بعدُ امتلاك ناصية فنون الملاحة البحرية، إلا أنَّه في الوقت نفسه كان واثقًا من المزايا الرفيعة التي تمتلكها قواتُ روما البرية؛ ولهذا قرَّر بومبي استعارة فنون الملاحة من البحَّارة، أصحاب الخبرة من أبناء الشعوب الخاضعة لروما. وهؤلاء كان عددهم آنذاك غير قليل، لقد بدا أنَّ الاختيار القائم أمام بومبي كبير، وها هو يلجأ إلى تزويد سفنه ببحارةٍ من الأجانب، دون أن يترك لهم في الوقت نفسه أي سلاحٍ في أيديهم. وقد ألزم بومبي هؤلاء الأجانب بتعليم المقاتلين الرومان الذين كان من الضروري أن يحملوا على كاهلهم عبءَ المعركة.

لقد جاءت حسابات بومبي في مكانها. لقد أدى اختلاط البحارة من ذوي الخبرة مع أفضل جنود ذلك الزمان، إلى خلْق قوةٍ جبَّارة خفيفة الحركة فوق مياه البحر الأبيض المتوسط.

لقد تكللت خطط بومبي الاستراتيجية بالنجاح أيضًا، أدرك بومبي — استراتيجي المستقبل الماهر — أنَّ القضاء على أوكار القرصنة المنتشرة في كل أنحاء البحر الأبيض المتوسط أمرٌ يتطلَّب عشرات السنين، في الوقت الذي يتطلَّب منه إنجاز هذه المهمة الضخمة في مدةٍ لا تتجاوز ثلاث سنوات. قرَّر بومبي مهاجمة أكبر مراكز القراصنة جميعًا في وقتٍ واحد. ولتحقيق هذا الغرض قسَّم بومبي الجزء الغربي للبحر الأبيض المتوسط إلى ثلاثين منطقة، وأفرد لكلٍّ منها قائدًا بعد أن وضع تحت إمرته عددًا من السفن. على هذا النحو وجَّه بومبي عددًا من الضربات إلى سواحل إسبانيا وفرنسا وأفريقيا وصقلية وسردينيا، على أنَّه أرجأ تصفية الحساب مع أقوى أوكار القراصنة الموجودة في بحر إيجه، وعلى سواحل آسيا الصغرى إلى وقتٍ متأخر، قاد بومبي العمليات بنفسه عند الساحل الأفريقي بعد أن وضع ثقته في مرءوسيه لقيادة الوحدات الأخرى.٣٠

فور طرد القراصنة من الجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط، أعاد بومبي إطلاق أسطوله إلى الجزء الشرقي من البحر؛ حتى لا يعطي لعدوه أيةَ فرصة لالتقاط الأنفاس. انسحب القراصنة، وقد تملَّكهم الرعب من جراء هذا البحر الفسيح المكشوف، لاجئين للاختباء في متاهات الجزر والخلجان الطويلة الضيقة وعند مخارجها، حيث بنوا استحكاماتهم، ها هي الطرق البحرية. وقد أصبحت أخيرًا حرةً أمام السفن التي راحت تحمل الحبوب من جديد، وها هم سكان روما الذين ذاقوا مرارة الجوع، وقد باتوا ضامنين وفرة المواد الغذائية. إبان ذلك ترامت إلى أسماع بومبي إشاعات مفادها أنَّ القراصنة قد أصابهم الذعر، وبدأت الانقسامات تشقُّ صفوفهم، فقرَّر انتهاز هذه الفرصة، ليوجِّه إليهم ضربته القاضية، في نفس الوقت لم يفقد بومبي بصيرته النافذة، فوعد مقدمًا بالعفو عن كل مَن يعلن استسلامه دون قتال.

سرعان ما آتت هذه الخطوة ثمارَها، فلم تجد الفيالق الرومانية مقاومة، اللهم سوى في كيليكيا، وقف ميتريدات، عدو روما اللدود، وقد أخذت بمجامعه الدهشة والخوف يرقب كيف يتلقَّى رعاياه الهزيمة تلو الأخرى، وكيف تتساقط مراكب القراصنة في أيدي أعدائه.

ثلاثة أشهر فقط بدلًا من ثلاث سنوات، استطاع فيها بومبي أن يتغلَّب على قراصنة البحر الأبيض المتوسط. كان وقْع ثمار هذا الانتصار على الرومان مُذهِلًا، لقد تم أسر عشرين ألف قرصان عدا عشرة آلاف آخرين لقوا حَتْفهم في المعارك. إنَّ هذه الأرقام لتدلُّ دلالةً واضحةً في حد ذاتها على مدى ما كان عليه القراصنة من قوةٍ. لقد تم تدمير سُفنهم وقواربهم، وتم الاستيلاء على موانئ تجمعهم، كما وقع «٤٠٠» من أفضل السفن في أيدي الرومان المنتصرين، وهو عددٌ يعادل ضعف عدد السفن التي أغرقت، أو أحرقت.

اتخذ بومبي من كيليكيا قاعدة له، بعد الانتصار الذي أحرَزه، وقام بتجربةٍ فائقة الغرابة سعيًا وراء توطيد سلطته. لقد أطلق سراح العديد من القراصنة، وأسكنهم أوروبا بعيدًا عن سواحل البحر، وعلى وجه الخصوص في كيليكيا وأخايا٣١ اللتين تم تدميرهما، مُقدمًا لهم بذلك إمكانية العودة إلى الحياة الشريفة. وعلى الرغم من عودة القراصنة بعد حوالي من عشرة إلى خمسة عشر عامًا إلى نشاطهم في أماكنَ متفرقةٍ، فإنَّهم لم يعودوا أبدًا إلى ما كانوا عليه من قوةٍ ومَنعة.

مغامرة يوليوس قيصر العجيبة

انقضى العام الواحد والثمانون قبل الميلاد، كانت روما في تلك الفترة تحت حكم الديكتاتور «سولا» الذي صعد إلى السلطة بعد معركةٍ حامية الوطيس. عاش «سولا» في رعبٍ دائم بسبب رغبته في الحفاظ على تلك السلطة، الأمر الذي دفع به إلى ملاحظة أعدائه الحقيقيين منهم والمزعومين بلا رحمة، وعلى رأس هؤلاء كان «ماري» الذي نفاه «سولا»، بعد أن دانت له الأمور خارج روما هو وأنصاره، خاصةً مَن تميَّز من بينهم بالكفاءة والثروة والنفوذ. كان من بين مَن طُردوا شابٌّ له هيئة النبلاء، ينتسب إلى واحدةٍ من عائلات روما الأرستقراطية صاحبة النفوذ الواسع، رأى فيه «سولا» خطرًا عليه على نحوٍ خاص؛ نظرًا لما كان يتمتَّع به هذا الشاب من علم وموهبة فائقة، وحبٍّ للعمل، وثقافة، ومقدرة غير عادية على جذب الأصدقاء، ناهيك عمَّا لديه من طموحٍ لخَلق مستقبلٍ سياسي.

هل يستوجب الأمر إذن الدهشة، كون «سولا» وضع هذا النبيل الروماني بالذات على رأس قائمة مَن قرَّر نفيهم؟ لم يستسلم هذا الشاب — الذي كان يُدعى يوليوس قيصر — لليأس بعد ما عرف بقرار الديكتاتور، وسرعان ما تأقَّلم على وضعه الجديد. وكان يرى أنَّ من الواجب ألا يفقد المرء وقته عبثًا في المنفى؛ ولهذا قرر أن يقوم بدراسة فن الخطابة، فالتحق بإحدى أفضل مدارس البلاغة التي كان يديرها في جزيرة رودوس آنذاك المحاضر أبولوني المعروف باسم مولون. وهكذا أبحر قيصر تحيطه حاشية تليق بنبيلٍ روماني متجهًا صوب جزيرة رودوس.

تميَّز الفتى بين المسافرين، وجذب إليه الانتباه بهيئته الأرستقراطية، فضلًا عن سلوكه الذي اتسم بالكبرياء، فلم يكن يشارك فيما كان يدور حوله من مناقشات، كان صموتًا، منغمسًا في أفكاره، دائم القراءة. استمرت الرحلة بمحاذاة ساحل شبه جزيرة بيلويونيسون دون مغامراتٍ تُذكر، على أنَّه ما إن تجاوزت السفينة جزيرة «فارماكوزا» الواقعة بالقرب من الشواطئ الصخرية لمنطقة «كاريا»، حتى شُوهد من فوق سطحها عددٌ من القوارب، تسير متتبعةً السفينة ذات الأشرعة، عندما تيقَّن قبطان السفينة الرومانية من النظرة الأولى أنَّ أصحاب هذه القوارب من القراصنة، أصدر أمره برفع الشراع الاحتياطي، ولكن هذا العمل لم يعد بالفائدة المرجوة، كانت الريح ضعيفةً، بينما اندفعت القوارب الخفيفة بسرعةٍ أكبر بكثيرٍ من السفينة الرومانية الثقيلة الخرقاء. وكانت المسافة بينهما تزداد ضِيقًا مع كل ثانية. أما عن قيصر — الذي كان على يقينٍ هو الآخر أنَّ الوقت فيه متَّسِع إلى أن تلحق بهم الزوارق — فقد اتخذ مجلسه المعتاد في سكينة، وانهمَكَ في القراءة.

عندما أدرك القبطان وضعه البائس، أمر بطَيِّ الشراع الصغير، ووقف على ظهر سفينته في انتظار ما سيسفر عنه تطور الأحداث، سرعان ما صعد القراصنة على ظهر السفينة، وعلى الرغم من الاستقبال المسالم الذي قوبلوا به فإنَّهم تصرفوا بكل صلفٍ وغطرسة، تقدَّم رئيسهم — وهكذا كان من الممكن الحكم على منزلته من نبرة صوته الآمرة — تقدَّم من قيصر، الذي لم يقطع قراءته للحظةٍ واحدة، وأخذ في الدوران حوله. كان من اليسير من مجرد المظهر الخارجي لهذا النبيل تحديد ضخامة الفِدية المنتظرة، وأخيرًا اتجه بسؤاله إليه: مَن تكون؟

(لم ينبس الشاب ببنت شفة)،٣٢وبعد أن رمق القرصان بنظرةٍ ملؤها الاحتقار، عاد ليواصل قراءته. ولما وجد أحد الركاب أنَّ الموقف يزداد توترًا، اقترب من الرئيس قائلًا: هذا النبيل يُدعى يوليوس قيصر، وهو سليل واحدة من أعرق الأُسر، وقد نفاه «سولا» من روما، وهو الآن يتجه إلى رودوس، قاطع القرصان الراكب بحدَّةٍ قائلًا: سأستولي على كل ما يمتلكه، إنَّني لم أقتله فورًا؛ لأنَّ حياته الخاصة لا تهمُّني بقدر ما تهمني الفدية.

توجه الرئيس مرةً أخرى إلى قيصر، وسأله بغضب: كم ستدفع مقابل حريتك وحرية الآخرين من رِفاقك؟ غير أنَّه لم يتلقَّ ردًّا على سؤاله، فاستشاط غضبًا، وصاح: ماذا بك؟ هل قطعوا لك لسانك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فأُقسم — صاح متوعدًا — لأقطعنَّه لك بيدي هاته، وعندئذٍ سترجع عن خصالك الأرستقراطية.

كان القرصان من الطمع، بحيث إنَّه لم يكن يودُّ أن يفقد مبلغ الفدية بسبب غرورٍ ما، فأمسك عن هجومه على الروماني، وأخذ في التشاور مع رِفاقه بشأن التوصل إلى اتفاقٍ حول ثمن إطلاق سراح الأَسرى، قال أحدهم: لو كنتُ مكانك لطلبتُ عشر طالنتات.٣٣

فقال الرئيس مقاطعًا: هذا قليل للغاية، لعلِّي مضاعف الصفقة.

في هذه اللحظة أصابت الجميعَ الدهشةُ عندما خرج قيصر عن صَمته، وانضم إلى المساومين موجِّهًا حديثه إلى القرصان ساخرًا: عشرون طالنت؟ إنَّك تمارس مهنتك على نحوٍ سيِّئ، فلو كانت لديك بعض من الخبرة أكثر، لأدركتَ ببعض الحساب المتواضع أنَّني أساوي ما لا يقل عن خمسين طالنت. عقدت الدهشة لسان القراصنة المجتمعين، والذين لم يكونوا مُستجدِّين في مهنتهم، بل لقد سمعوا وشاهدوا الكثير إبَّان ممارستهم لها، غير أنَّها المرة الأولى التي يقابلون فيها أسيرًا يضاعف فديته، على الرغم من أنَّ المبلغ المطلوب كان ضخمًا بمقاييس ذلك الزمان.

يجب أن أعترف أنَّ طريقتك في تسوية الأمر قد أعجبتني، ولكنني أحذرك، فإنَّني إذا لم أتسلَّم هذه الخمسين طالنت، فسوف أُطيح برأسك، بهذا أنهى القرصان المساومة.

غادر الركاب سفينتهم إلى الشاطئ، كان عليهم أن ينتظروا تحت الحراسة مبلغ الفدية، في الوقت الذي بعث فيه القراصنة رسلهم إلى أهالي الأَسرى. كان المخبأ الذي يعيش فيه القراصنة يتكون من مجموعةٍ من الأكواخ والأخصاص المختفِّية بين الصخور، بحيث لا يمكن رؤيتها من ناحية الخليج.

لم يجد الخوف طريقًا إلى نفس قيصر، وهو الذي اعتاد حياة الراحة والدعة، من جرَّاء تغيير ظروف الحياة، وهو أمرٌ يتفق وتركيبة شخصيته؛ فقد حاول دائمًا أن يتأقلم مع مثل هذه الظروف. سعى النبيل الشاب للاحتفاظ بقوته وهدوئه النفسي في فترة وجوده في الأَسر معرِّضًا نفسه لنظامٍ قاسٍ، دأب قيصر على الاستحمام كل صباح في مياه الخليج، والقيام بتدريباتٍ رياضية، والقراءة المستمرة في أوقات الفراغ، إلى جانب تدبيجه للخُطب ونظمه للشعر. يُحكى أنَّ هذه الأمور لم تكن تجِد أي اهتمامٍ من جانب القراصنة.

أكسبت السمات الشخصية الخارقة، والسلوك النادر لأَسير، أكسبت قيصر احترامَ ودهشة أعدائه، بينما راح هو يسعى قدر جهده للتعرف عليهم من خلال مراقبته لعاداتهم، ودراسة شخصياتهم. كان يوليوس قيصر ينصت باهتمامٍ إلى قصص مغامرات القراصنة، وكان بدوره يقوم بإلقاء الشعر والخطب البليغة عليهم. كان رد الفعل على هذه الأشعار وتلك الخطب هو الضحك والسخرية، بينما أُصيب بعضٌ من الجمهور بالسأم الذي دفعهم للتثاؤب.

استقبل قيصر كلَّ هذا بهدوءٍ حقيقي ورباطة جأش، وكان في بعض الأحيان يردُّ على تعليقات الجمهور الجارحة بأنَّهم ليسوا في حالةٍ تؤهلهم لتقدير كل ما في فنِّه الخطابي من روعة. وذات يوم ألقى ببعض كلمات دخلت التاريخ، قال القيصر: سيأتي يومٌ تقعون فيه جميعًا في قبضة يدي، كونوا على ثقةٍ بأنِّي سأقوم بصلبكم سواء جزاء ما اقترفتموه من جرائم أو لغبائكم. تذكَّروا ما قلتُه لكم، واعلموا أنِّي امرؤ أُوفي بالعهد.

كان هذا تهديدًا كفيلًا — بالطبع — لأن يثير حنق القراصنة، إلَّا أنَّهم كانوا واثقين من أنفسهم إلى الحد الذي جعلهم يعتبرونه مجرد ذريعة؛ ليضعهم قيصر موضع سخريات جديدة.

بعد مرور ثمانية وعشرين يومًا في مخبأ القراصنة عاد المبعوثون بنبأٍ مفاده أنَّ الفدية، وقدرها خمسون طالنت، قد وصلت، وهي في حياة حاكم مدينة ميليت،٣٤ على الفور قام القراصنة بنقل الأَسرى إلى ميليت، حيث استبدلوا بهم الفدية الموعودة، وما إن حصل قيصر على حريته، حتى قرَّر أن يحقق نبوءته، فتوجَّه إلى حاكم المدينة بطلبٍ منه أن يقدِّم له أربعة زوارق بحرية وخمسمائة جندي.
بعد أن تسلَّم قيصر السفن، اتجه بها نحو فارماكوزا، وكما هو متوقَّع، فقد باغت القراصنة في وكرهم أثناء إقامتهم لحفلٍ ماجنٍ أقاموه بمناسبة اقتسامهم للغنائم. لم يكن القراصنة السُّكارى في حالٍ تسمح لهم بالمقاومة، فاستسلم منهم ثلاثمائة وخمسون لصًّا طلبوا العفو من المنتصر، عددٌ قليل من الذين لم تدُرِ الخمر رءوسهم استطاعوا الفرار. أطلق قيصر سراح الأسرى الذين كانوا موجودين بسجن الجزيرة، واستعاد مبلغ الفدية مرةً أخرى، بعدها توجَّه إلى بيرجام،٣٥ حيث يوجد القاضي الروماني لآسيا الصغرى.

عرف قيصر بمجرد وصوله إلى بيرجام أن القاضي يقوم بجولةٍ يتفقَّد فيها المناطق الواقعة تحت إمرته، الأمر الذي اغتمَّ له قيصر كثيرًا؛ إذ إنَّ هذا القاضي كان هو الموظَّف الروماني الوحيد في الإقليم الذي كانت له صلاحيات إصدار أحكام الإعدام، ومن ثَمَّ أمر قيصر بحبس القراصنة وتكبيلهم بالأصفاد وإيداعهم حصن المدينة. أما هو فاتخذ طريقه بحثًا عن القاضي، حتى يتمكن من الوفاء بوعده الذي قطعه على نفسه أمام القراصنة.

في نهاية المطاف وجد قيصر القاضي، لكن الإحباط كان حليفه؛ إذ إنَّ هذا الموظف لم يكن لديه أي ميلٍ لأن ينزل بلصوص البحر عقابًا قاسيًا، عندئذٍ لم يكن أمام قيصر سوى اللجوء للحيلة في محاولةٍ لإقناعه بأن يوكل مساعده، ليقوم بإدانة القراصنة، غير أن القاضي لم يتزحزح عن رأيه قيد أنملةٍ.

ولِمَ هذه العجلة؟ ما إن أعود إلى بيرجان حتى أبحث أمر عقد محاكمةٍ لهم، ولست أرى في مثل هذه الحالة ضرورةً لاتخاذ إجراءات قاسية للعقوبة. سوف يدفع تجار إقليمي الفدية للقراصنة، وفي المقابل لن يقوم القراصنة بالإغارة على سُفنهم.

ولكن الأمر على هذا النحو يكون بمثابة صفقة مع اللصوص. هكذا صاح قيصر باستياء، بينما أجاب القاضي بهدوء: نعم، إنَّها كذلك، لكن الحرب معهم تكلِّف أكثر.

قال قيصر بإصرار: وكيف سيكون الأمر مع هيبة الدولة؟

عندها أعلن القاضي قائلًا: تستطيع الدولة من أجل حفظ السلام والرخاء، أن تسوي بعض المنازعات بالطرق الدبلوماسية، دون أن ينتقص هذا شيئًا من هيبتها.

لم يجد التفسير الذي طرَحه القاضي ترحيبًا من قيصر، الذي بدأ يشك في أنَّ القراصنة قد اشتروا هذا القاضي، وأنَّ هذا الأمر أصبح سمةً مميزة لأصحاب المقامات الرفيعة من الرومان. ودَّع يوليوس قيصر القاضي بعد أن تأكد من فشل مساعيه، وأسرع عائدًا إلى المدينة. لقد قرر أن يضع الموظف الروماني أمام الأمر الواقع عليه، أعلن قيصر أنَّه تلقى تفويضًا خاصًّا من الديكتاتور نفسه بتنفيذ حكم الإعدام، كانت خطوةً غير عادية محفوفة بالمخاطر، وكان من الممكن أن تكلِّفه حياته.

بِناءً على أمر النبيل الروماني تم إعدام جميع القراصنة الثلاثمائة والخمسين. أمَّا الثلاثون رئيسًا فقد جرى صلبهم. وقد ظهر قيصر نفسه في المكان الذي جرت فيه مراسم الإعدام، ليلقي مرةً أخرى وأخيرة خطابًا أمام جمهوره من القراصنة، بدأه بقوله: لقد قررتُ أن أكون متسامحًا معكم للمعاملة الطيبة التي أبديتموها نحوي إبَّان أَسري، لقد راودني إحساسٌ كريه بأنَّكم سوف تعتبرونني — وأنتم تفارقون الحياة — إنسانًا قاسيًا؛ ولهذا قررتُ إعدامكم قبل صلبكم.

انتهى الإعدام، وواصل قيصر رحلته إلى جزيرة رودس، وكأنَّ شيئًا لم يكن، ونجح في الالتحاق في الوقت المناسب بمدرسة البلاغة العظيمة التي أنشأها أبولوني.

بفضل ما صنعه بومبي وقيصر، تخلَّصت شعوب البحر الأبيض المتوسط بعض الوقت من شرور القراصنة، غير أنَّه — وبعد الموت المأساوي لقيصر في الخامس عشر من مارس عام (٤٤) قبل الميلاد — عاد القراصنة يطلون برءوسهم من جديد، كانوا يزدادون جرأةً وقوة، كلما تراخت قبضة الإمبراطور الجالس على عرش روما، وقد استمر هذا الوضع حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي.

١  أوديسيي (أوديسيوس)، أوليس باللاتينية: في الأسطورة الإغريقية ملك إيتاكا، اشترك في حصار طروادة، البطل الأول لملحمة الأوديسا، اشتهر بالحكمة والدهاء والشجاعة. (المترجم)
٢  الكينوى: قيصر دولة النياكتسيين الأسطورية.
٣  إيلون: أحد أسماء مدينة طروادة في شمال غرب آسيا الصغرى، وقد سُميت كذلك؛ نسبةً إلى أحد القياصرة الذين حكموها، ويدعى إيلا.
٤  إيسمار: عاصمة الكيكونيين في فراكيا، اشتهرت بجودة نبيذها.
٥  الكيكونيون: قبيلة فراكية.
٦  سبينا الزوجات: أخذناهنَّ أسيرات.
٧  ابن كرونوس أو زيوس.
٨  بكلكلها: أي بمقدمتها، والجمع: (كلاكل).
٩  إله الشمس في علم الأساطير اليونانية.
١٠  الآخيون: أحد أربعة فروع رئيسية للشعب الإغريقي، جميعهم بالنسبة لهوميروس إغريق على وجه العموم.
١١  المدرعون: تعني هنا المقاتلين الذين يرتدون الدروع.
١٢  «الأوديسا»، «الأنشودة التاسعة».
١٣  كريت: جزيرة في البحر الأبيض المتوسط تُعد قلب الحضارة الإغريقية القديمة.
١٤  بورييه: الريح الشمالية.
١٥  تيار مصر: نهر النيل.
١٦  زيوس: رب الأرباب والناس وإله السماء والرعد والبرق في الأساطير الإغريقية.
١٧  «الأوديسا»، «الأنشودة الرابعة عشرة».
١٨  ماجنيسيا: منطقةٌ تقع في الجزء الشرقي من فيساليا في اليونان القديم.
١٩  إللاذا: اسم اليونان باللغة اليونانية. (المترجم)
٢٠  الفايكنج: قراصنة البحر في إسكندنافيا القديمة.
٢١  الغابر: الماضي.
٢٢  هيلسبونت: الاسم الإغريقي القديم لمضيق الدردنيل.
٢٣  أعمدة هرقل: اسمٌ يطلق على صخرتين على شاطئ كلٍّ من أوروبا وأفريقيا عند مضيق جبل طارق، يبدوان وكأن هرقل قد حرَّكهما، وهي وفقًا للتصورات الإغريقية القديمة نهاية العالم.
٢٤  أوستيا: أكبر موانئ روما القديمة على البحر الأدرياتيكي.
٢٥  بريتور: أكبر موظف قضائي في روما القديمة، ليكتور: موظفٌ في روما القديمة، وكان من المعتاد أن يرافق الشخصيات المهمة.
٢٦  هاي ماري (١٥٦–٨٦ قبل الميلاد): قائدٌ عسكري روماني وشخصيةٌ سياسية، لوتس كورنيلي سولا (١٣٨–٧٨ قبل الميلاد): قائدٌ عسكري ورجل دولة في روما القديمة، قائد أكثر قطاعات كبار الملاك رجعية «الأوبتيمات».
٢٧  كيليكيا، بامفيلفيا، إيساوريا: مناطق قديمة في آسيا الصغرى.
٢٨  المملكة البونتية: دولةٌ تتبع نظام الرق تقع في الجزء الشمالي الشرقي من آسيا الصغرى ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد، كانت هذه المملكة بأكملها تدخل ضمن أراضي الإمبراطورية الرومانية.
٢٩  جني بومبي (١٠٦–٤٨ قبل الميلاد): قائدٌ عسكري روماني وشخصية سياسية.
٣٠  لقد فاقت نجاحات الحملة البحرية بقيادة بومبي أشجع التوقعات، ففي أقلَّ من أربعين يومًا تم القضاء على القرصنة في كل المنطقة الممتدة من المضيق المسيني، وحتى أعمدة هرقل نفسها.
٣١  أخايا: اسمٌ أُطلق في العالم القديم على منطقة شمال ببلويونيس.
٣٢  تعبيرٌ لغوي، ويُقصد به أنَّه لم يتكلم إطلاقًا.
٣٣  طالنت: أكبر وحدة نقدية في اليونان والإمبراطورية الرومانية.
٣٤  مدينةٌ إغريقية قديمة تقع على الساحل الغربي لآسيا الصغرى.
٣٥  بيرجام: مدينة عاصمة المملكة البيرجامية التي قامت في شمال غرب آسيا الصغرى في الفترة (٢٨٣–١٣٣) قبل الميلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤