خامسًا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الطب

في القسم الثالث والأخير يتناول موضوع الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الطب، فيُعالج فيه القضية المشهورة؛ علاقة النفس بالبدن، وضرورة سيطرة الأولى على الثاني، تعبيرًا عن قوة الإرادة وقدرتها على السيطرة، ليس فقط على الانفعالات كما هو الحال عند ديكارت واسبينوزا، بل أيضًا على الوظائف الحيوية للبدن، وهو أضعف الأقسام الثلاثة في الكتاب. كما أنه يعتمد على تجارب كانط الشخصية وعاداته في الطعام والشراب والنوم والاستيقاظ، ولا يقدم بناءً نظريًّا موضوعيًّا لمظاهر هذا الصراع، كما فعل في القسم الأول، في الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت.

وقد كتب كانط هذا الجزء بمناسبة إهداء الأستاذ هوفلاند Hufland كتابه «فن إطالة الحياة الإنسانية» إلى كانط، وقراءة كانط هذا الكتاب، ثم الرد عليه والتعليق على الأفكار التي وَرَدَت فيه؛ لذلك يصدِّر كانط هذا الجزء بخطاب شكر للمؤلف يبيِّن فيه قيمة هذا الكتاب، وهو أنه يعالج جسم الإنسان خلقيًّا كعضو متجه نحو الأخلاق مثبتًا بذلك أن الحياة الخلقية تكمِّل الحياة البدنية. وقد وصل المؤلف إلى هذه النتيجة عن طريق البحث العلمي استقراء، وليس عن طريق المبادئ الخلقية استنباطًا. ويبين أنه يمكن الوصول إلى هذه الغاية عن طريق علم التغذية Diététique أي سلبيًّا عن طريق الوقاية من الأمراض قبل وقوعها. وذلك يتطلَّب مَلَكة فلسفية أو قدرات إرادية في مقابل فن العلاج Thérapeutique الذي يعالج الأمراض بعد وقوعها.

يؤيد كانط الاتجاه العام في الكتاب، ويعتمد على تجاربه الشخصية لبيان قوة النفس الإنسانية وقدرتها على أن تصبح سيِّدة انفعالاتها المميتة وعواطفها القاتلة، بفضل إرادتها القوية وعزيمتها الراسخة. ويشدِّد كانط على الطابع التجريبي الذاتي لأفكاره، وينفي عنها الطابع النظري الموضوعي الشامل، مما يجعل هذه الأفكار لا تتفق كثيرًا مع منهج الفلسفة النقدية الذي يتضح في القسمين الأولين من الكتاب.

يهدف هذا الفن إذن «فن إطالة الحياة» إلى غايتين: أن يعيش الإنسان عمرًا طويلًا، وأن يتمتع بصحة جيدة. والهدف الأول ليس شرطًا للثاني؛ فقد يعيش الإنسان مدةً طويلة عليلًا، كما أن الثاني ليس شرطًا للأول؛ فقد يتمتَّع الإنسان بصحة جيدة، ومع ذلك يقصر عمره. وقد يضع الإنسان نهايةً لحياته بيده، وينتحر إذا يئس من الشفاء، ولكن طبقًا للعقل يرغب الإنسان في تحقيق الهدف الأول، وهو طول العمر أولًا، وهنا يُثني كانط على الشيخوخة وكبر السن، ويوصي بإظهار الاحترام الواجب لهما، ويحظر التهكُّم على ضعف المسنين بالمقارنة مع قوة الشباب. كبر السن يستحق الثناء والتقدير؛ ففيه تظهر حكمة الشيوخ. ويكفيه فخرًا أنه استطاع أن يهزم الموت حتى الآن. أما الهدف الثاني، وهو الصحة الجيدة، فإنه يتحقَّق عن طريق مبادئ علم التغذية، أن يتغذَّى الإنسان بطريقة ملائمة ومعتدلة. وهنا تظهر الأخلاق الرواقية، فهي ليست فقط جزءًا من الفلسفة العملية أي نظرية الفضيلة، بل أيضًا تضم علم الطب. وينصح كانط باتِّباع وسائل للوقاية تعتمد على التدفئة والنوم والعناية المركزة، ويوصي بحفظ الأقدام والرأس والبطن دافئةً (ويضيف «الروس» الصدر)، وبكثرة النوم لمدة طويلة وخاصة غفوة بعد الظهر، وبالاعتناء بالنفس، أو اعتناء الآخرين بالإنسان وهو ما يتيسَّر للمتزوجين. ومع أن كانط يرى أن الزواج يقصر العمر ولا يحبِّذه، إلا أن ميزته الوحيدة هي التمريض عند كبر السن الذي تقوم به الزوجة للزوج! وطول العمر أحيانًا يكون صفة وراثية في بعض العائلات، ويصف كانط أعمال المسنين، مثل: إصلاح الساعات، وتربية العصافير، مما تجعلهم يقضون وقتًا ممتعًا، ولكن يستطيع الفلاسفة تعويض ضعف البدن عن طريق التفلسف والتأمُّل، مما يكسب الروح قوةً لتغذية البدن.

ويفصِّل كانط في عادات النوم، والطعام، والشراب، والتنفس، فيوصي بالنوم والاستيقاظ في مواعيد مضبوطة. ويمكن استدعاء النوم عن طريق طرد الأفكار، كما ينصح الأطباء، أو بالتفكير في موضوع لا أهمية له كما يوصي كانط، فالأرق داء قاتل، ويمكن للإنسان السيطرة عليه. ويتهكَّم كانط على الأتراك (أي المسلمين) الذين يغطُّون في نومٍ عميق بسبب الإيمان بالقَدَر المسبق، وبأن لكل أجلٍ كتابًا، فلا يأرقون، ويغرفون من النوم ومن الحياة قدر الطاقة والوسع. أما فيما يتعلَّق بالطعام والشراب فيرى كانط أن الشهية والعادة هما المفتاحان لكل شيء؛ فعلى الإنسان ألَّا يأكل إلا إذا كانت لديه شهية، وألَّا يغيِّر عاداته في الطعام والشراب. ومن العادة أن يتناول المسنُّون ماءً أقل، وخمرًا أكثر، لتنشيط الأعمار. أما عادة شرب الماء بسرعة فهي عادة مضرة، كذلك العشاء الثقيل بعد الغداء الثقيل رغبة مميتة، ومع ذلك يجب على الإنسان ألَّا يقاوم تناول الغداء لانتظار عشاء أفضل. وينصح كانط باتِّباع عادة التنفُّس من الأنف والفم مغلق، وبهذه الطريقة يمكن القضاء على الكحة وعلى الأرق، والاستيقاظ أثناء النوم! ثم يقدم كانط نصائح أخرى فيما يتعلق بمرض الوهم، كداء قاتل، وذلك عن طريق العمل العقلي الذي يخفِّف من شدة الانتباه إلى البدن. كما ينصح كانط بعدم التفكير في لحظة غير مواتية، كالتفكير أثناء الطعام حتى لا يوزَّع الجهد بين العقل والبدن. والتفكير لا غنى عنه للعالِم سواء أثناء اليقظة أم أثناء الوحدة، ويكون إما بالقراءة للتعلُّم، أو بالتفكير للتأمُّل والإبداع.

ويختم كانط كتابه بسخرية من الرقيب، وينصح عمال الطباعة أن يطبعوا كتابه هذا بالحبر الرصاصي، وليس بالحبر الأسود، وبحروف لاتينية دقيقة، وبُنط صغير، لكيلا يراه الرقيب، أو يتمكَّن من فحصه، أو يتعب منه، فلا يصدر منه قرار المنع والحرمان؛ فالرقباء كثيرًا ما كانوا عمشًا ضعاف النظر، مما يدل أيضًا على ضعف العقل، وقلة الحيلة، وأنهم لا يستطيعون منع حرية الفكر، أو ذيوع أفكار التنوير.١
١  Ibid., p. 113-114.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤