سادسًا: تاريخ الأشكال الأدبية وحياة عيسى

أثرت مسلَّمات ديبليوس وبولتمان وتحليلاتهما للأناجيل المتقابلة على طريقة تناول حياة عيسى؛ وذلك لأن طبيعة المصادر الحقيقية الوحيدة لحياته، وهي الأناجيل المتقابلة، تجعل كتابة تاريخ حياته مستحيلة. لم تهتم الجماعة المسيحية الأولى التي كان لها أثرها البالغ على تكوين التراث بكتابة تاريخ حياة لعيسى من أجل التاريخ، ولم تضع إطارًا زمانيًّا أو مكانيًّا ولم تصف بيئة جغرافية أو بشرية لحياته، بل نقلت أقوالًا متفرقةً وروايات متباينة باستثناء رواية الآلام. أما الوحدات المتفرقة فإنها لا ترجع إلى عيسى، بل كونتها الكنيسة لأغراضها الخاصة. فهل يمكن حذف الإضافات هنا وهناك والرجوع إلى الأشكال الأولى لزمان عيسى التي نشأت في الكنيسة والتي من خلالها يمكن معرفة عيسى التاريخ قدر الإمكان؟ وللإجابة على هذا السؤال كتب كلٌّ من ديبليوس وبولتمان كتابًا عن عيسى. وابتداءً من مسلَّمات متشابهة ينتهيان إلى نتائج مختلفة، خاصة فيما يتعلَّق بطريقة استعمال التراث لكتابة حياة عيسى، ومقدار الصحة التاريخية التي يعزوها كلٌّ منهما للأشكال الأدبية.

ولكتابة تاريخ حياةٍ لعيسى يقترح بولتمان أولًا ثلاثة مقاييس لصحة النصوص تقوم كلها على معيار واحد هو التمييز Distinctiveness، الأول عند معارضتها للأخلاق والتقوى اليهودية، والثاني عندما تكشف عن المزاج الأخروي الذي يميز بشارة عيسى، والثالث عندما لا تكشف عن تعاليم مسيحية خاصة. ويزيد O. Cullman عليه مقياس الاتفاق أو الاختلاف مع اليهودية أو مع الكنيسة المتأخرة آخذًا في الاعتبار نشاط الكنيسة في صياغة الوحدات أو خلقها. كما يقترح جرمياس Jeremias مقياسين آخرين معتمدًا على المعيار اللغوي البيئي؛ الأول: عندما تكشف النصوص خصائص آرامية؛ صيغة شعرية، مترادفات، ألفاظًا عكسية، ترجمة من الآرامية إلى اليونانية. والثاني: عندما تكشف عن بيئة فلسطينية. ويقترح بوركت F. C. Burkitt مقياس الاتفاق بين الوحدات المختلفة في إنجيل مرقص ومتى باعتبارهما أقدم الأناجيل. ويقترح كارلستون C. E. Carlston  مقياس الاتساق Consistency أي الاتفاق مع تعاليم عيسى أو الاختلاف معها. بل ويمكن تطبيق هذه المقاييس كلها في كل مرحلةٍ من مراحل تدوين التراث. يطبقها شميت K. L. Schmidt على مرحلة التدوين ابتداءً من نقد المصادر والتعرُّف على منهج التدوين التاريخي. كما يمكن تطبيقها على المصادر الأولى وحدها كنقد للمصادر فحسب دون الانتقال إلى كيفية التدوين. ويمكن تطبيقها على مرحلة التراث الشفاهي الهليني والفلسطيني كما فعل دود C. H. Dodd ويمكن تطبيقها أخيرًا على تراث عيسى وحده خاصة مقياس التمييز. أما مقياس الاتساق فإنه يمكن تطبيقه في كل مرحلةٍ من مراحل التدوين.١
وبعد وضع هذه المقاييس نشر ديبليوس كتابه عن عيسى في ١٩٣٩م على أساس عمله السابق عن تاريخ الأشكال الأدبية ورأى أنه من الضروري التمييز بين الصدق التاريخي للوحدات المتعددة للتراث على أساس أشكال هذه الوحدات، باستثناء قصة الآلام فهي الوحيدة التي يعزو لها الصدق التاريخي. فالنماذج أكثر الأشكال اقترابًا من التاريخ لأنها مثل قصة الآلام نشأت مبكرًا بفضل شهود عيان بإمكانهم التصحيح والمراقبة للتراث، ويؤكد صدقها التاريخي مكانتها في الكنيسة فقد نشأت مع التبشير. وطبقًا للقاعدة، بقدر قرب الرواية من الوعظ تكون أقرب إلى الصدق وأقل مدعاة للشك، وأقل احتمالًا للتغيير أو المؤثرات الرومانسية أو الخيالية legendary أو الأدبية. ومع ذلك فهي صحة تاريخية نسبية لأنها تخدم غرض التبشير؛ ولهذا فإنه لا يمكن قص الروايات بطريقةٍ محايدةٍ بل لا بد من تلبية مطالب المستمعين، وتدعيم الرسالة والبرهنة عليها؛ ومن ثم فقد تمَّ تقديمها بناء على باعث موجه وتحقيقًا لغرض خاص.
أما القصص والحكايات الخيالية فإنها أقل قيمة من الناحية التاريخية من النماذج بسبب طبيعتها الخاصة. تختلف فيما بينها من حيث درجة الصدق. ولما كانت نشأتها بطرق ثلاث؛ بتطوير النماذج أو بإدخال بواعث خارجية أو بإدخال مواد خارجية، فإن الحكم التاريخي على قصة يعتمد على مصدرها. يمكن افتراض الصحة عندما تتطور القصة عن نموذج، ويمكن الشك في الصحة عندما يكون للقصة مصدرٌ غير مسيحي. ولا يجب استبعاد الحكايات الخيالية كحوامل للتاريخ لأنها في نواتها تحتوي على بعض المضامين التاريخية. يثق ديبليوس بوجه عام بالصدق التاريخي للأقوال. فقد تم نقلها بأمانة بفضل ذاكرة أتباعه وتعظيمها لأقوال المعلم. ويمكن الشك في صحتها عندما تتدخل ظروف الكنيسة القائمة ومشاكلها واستعمالها ونقلها لهذه الأقوال لحسابها الخاص. ولما كانت الأقوال تتعلق بتجربة عيسى وحياته ومصيره فإنه يجب الحذر من الأقوال تاريخيًّا لأن الجماعة لا يمكنها أن تعبِّر عن نفسها تجاه قدره ومصيره دون أن تعبِّر عما تعتقده الآن وتعرفه بعد الواقعة بفضل الإيمان بالقيامة. ومع أنه يمكن الاعتماد على الأقوال باعتبارها صحيحة تاريخيًّا إلا أن على المؤرخ أن ينظر إلى التراث ككل وليس إلى قول واحد يتفق أو يختلف مع مجمل التراث. وينتهي ديبليوس إلى أنه يمكن استعمال الروايات والأقوال بعد نقدها لكتابة تاريخ حياة عيسى. ويقوم بذلك بالفعل بعد مناقشته للخلفية التاريخية والدينية والبيئية التي نشأ فيها عيسى ويفحص السمات العامة للحركة بين الجماهير التي قادها رجلٌ مقدس ونبيٌّ من الجليل. ثم يتناول تعاليم عيسى فيما يتعلَّق بشخصه وعلاقته بالله، وبمبادئه الأساسية الخاصة بالحياة وملكوت السموات، والقوى المضادة لعيسى والتي أدت إلى موته، وشهادة الكنيسة على بعثه. يستعمل ديبليوس تاريخ الأشكال الأدبية لكتابة تاريخ حياة عيسى وهو على ثقةٍ كاملة بوجود عيسى في التاريخ.٢

أما بولتمان فقد نشر كتابه عن «عيسى» في ١٩٢٦م وأضافت الترجمة الإنكليزية له في العنوان «الكلمة» في «عيسى والكلمة» تأكيدًا على استعمال منهج تاريخ الأشكال الأدبية في كتابة تاريخ حياة عيسى دون العقيدة وابتداءً من تصنيف الأقوال. ويبدأ بولتمان بالشك في إمكانية وجود أي بحث تاريخي حول عيسى ووضع اعتراضات رئيسية وإثارة شكوك أساسية حول شرعية مثل هذا البحث؛ وبالتالي فلا يمكننا معرفة شخصية عيسى، حياته أو مماته، فلا توجد كلمة واحدة يمكن البرهنة على صحتها. إن كل ما يمكن معرفته عن شخص عيسى هو أننا لا نعلم عنه شيئًا! ومع ذلك يحاول بولتمان كتابة تاريخ حياة لعيسى ابتداءً من تحليله لمدى الصحة التاريخية للأشكال الأدبية. فنظرًا لطبيعة الرواية يشك بولتمان في صحتها التاريخية. وبطبيعة الحال فإنه لا يشك في أن عيسى قد عاش، وقام بعديد من الأعمال التي ينسبها إليه التراث، ولكنه يشك في أن تكون الرواية التي ترصد حياته صحيحة تاريخيًّا؛ لذلك لا يمكن إعطاء تاريخ حياة لعيسى أو رسم صورة لشخصه. ولا يمكن معرفة شيء عن شخص عيسى وحياته نظرًا لأن الكنيسة الأولى لم تكن تهتم بهما. وما تبقَّى لدينا مجرد شذرات أو حكايات خيالية. لا توجد مصادر أخرى لحياة عيسى؛ ومع ذلك لا يشك أحدٌ في وجود عيسى كمؤسس لحركة ظهرت أولًا في جماعة فلسطين بالرغم مما يثار من شك حول موضوعية الصورة وصدقها التي رسمتها الجماعة له في تراثها. ولا يشك بولتمان في الأقوال قدر شكه في الروايات. وبمقدار القليل الذي لدينا عن حياته وشخصه فإننا نعلم أكثر عن رسالته من خلال أقواله، وذلك يسمح لنا بعمل صورة له. ومع ذلك ترجع الأقوال والروايات إلى الجماعة المسيحية الأولى التي نقلت أقوال عيسى أو وضعتْها على لسانه، ولكن كيف يمكن التمييز بين الاثنين؟ إن العلم بأن الأناجيل المتقابلة قد تم تأليفها باليونانية في الجماعات الهلينية بينما عاش عيسى مع الجماعة المسيحية الأولى في فلسطين وتكلم الآرامية قد يساعد على الإجابة على السؤال. فكل شيء في الأناجيل المتقابلة يبدو وكأنه نشأ في المسيحية الهلينية — سواء في اللغة أو في المضمون — يجب استبعاده كمصدر لتعاليم عيسى.

إن كل ما تم نقله في التراث لا يرجع إلى عيسى لأنه كانت هناك كنيسةٌ فلسطينية تتحدث بالآرامية حتى بعد زمان عيسى. يجب إذن التمييز بين مستويات عدة من المنقول الفلسطيني. كل مادة تكشف عن مصلحة خاصة أو آراء كنيسية محددة أو ما يميز التطور المتأخر يجب استبعادها كمصدر ثانوي. وبهذه الطريقة يمكن تحديد المستوى الأول قدر الإمكان. حتى هذا المستوى قد لا يرجع إلى عيسى ذاته بل قد يكون نتيجة لعملية تاريخية معقدة تمَّت في شعور الجماعة المسيحية الأولى. إن كتاب بولتمان عن «عيسى» هو في حقيقة الأمر دراسة لرسالته. ويشير عيسى هنا إلى مجموعةٍ من الأفكار في المستوى الأول للأناجيل المتقابلة. يقول التراث إن عيسى حاملٌ لرسالة؛ ومن ثم احتمال وجوده كبير. وكل إنسان حر في أن يضع عيسى «بين قوسين» أو كاختصار لظاهرة تاريخية ارتبطت به.٣
١  McKnight. op. cit., p. 33; Critical …, pp. 94–98.
٢  Dibilius, Die Botschaft von Jesus Christus/The Message of Jesus Christ, trnas. F. C. Grant (New York, 1939); From Tradition …, pp. 287–301.
٣  R. Bultmann, Jesus and the Word (New York, Scribner and Sons. 1958); Jesus Christ and Mythology (New York, Scribner and Sons, 1958); Mcnight. op. cit., pp. 35–37.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤