سابعًا: تطور المدرسة والردود على الاعتراضات

تطوَّرت مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية بعد مؤسسيها الأوائل وتشعبت إلى جناحين رئيسيين؛ الأول: يريد المحافظة على مكتسبات المنهج الجديد مقتفيًا آثار ديبليوس وبولتمان وما أكثر ممثليه في الجماعات ومراكز البحوث والمعاهد الدينية دون إبداع جديد ولكن بإعطاء مزيد من التطبيقات والبراهين على صحة المسلَّمات. والثاني: محافظ يريد الإبقاء على المنهج مع التقليل من أخطاره بالنسبة للعقيدة والتاريخ واستعماله لحسابه الخاص. إذ أصبح من المستحيل التنكُّر لقيمة المنهج وإن كان من الممكن تغيير بعض النتائج والتخفيف من حدَّتِها أو استعمال ألفاظ ومسمَّيات أخرى حفاظًا على الإيمان في قلوب الناس والتخلِّي عن الصدق العلمي ومجافاة الشجاعة الأدبية. وقد اتجه الجناح المحافظ لإثبات عدة نتائج هي في الحقيقة مسلَّماتٌ مضادة لمسلَّمات المدرسة بدعوى نتائج البحث والدراسة، وعلى رأسها إثبات الصحة التاريخية لمرقص وللأناجيل المتقابلة بل وتاريخية النصوص، وإمكانية العودة إلى عيسى كمصدرٍ لهذه النصوص القديمة، والإقلال من تدخُّل الكنيسة في وضع التراث وخلق الأقوال وتفسير النصوص، وصياغة العقائد وربط المسيحية باليهودية أكثر منها بالتراث اليوناني تحقيقًا للاستمرار ومنعًا لآثار الوثنية، والاعتماد على بولس ويوحنا والربط بينهما وبين الأناجيل المتقابلة وعدم استبعاد العقائد نهائيًّا من نقد النصوص.

استمر بعض ممثلي هذا الجناح في استعمال «نقد المصادر» وحدها دون «نقد الأشكال» والعودة بالنقد إلى القرن الماضي والدراسات التقليدية فهي أقل خطرًا على العقيدة مما كان يُظن من قبل. واستمروا في تحليل نصوص الأناجيل الأربعة لإثبات صحتها التاريخية ضد نزعات النقد كما فعل شتريتر B. H. Streeter، وهيدلام Headlam.١ كما حاول البعض الآخر تحدي «نقد الصور»، فأنكر دود C. D. Dodd أن يكون الإطار العام للوحدات المستقلة بناءً مصطنعًا. وميَّز بين الوحدات المستقلة والمجموعات الكبرى والخطة العامة لرسالة عيسى. وجعل هذه الأخيرة من وضع عيسى نفسه وليست من وضع كاتب الإنجيل. كما حاول مانسون T. W. Manson إثبات الصحة التاريخية للأناجيل معتمدًا على نقد المصادر ورافضًا خلق الكنيسة للتراث. أما مؤسِّسا المدرسة الإسكندنافية ريزنفلد H. Riesenfeld وجرهاردسون B. Gerhardsson فقد أثبتا أن عيسى أعطى مادة ثابتة سواء في الأقوال أو في الروايات إلى تلاميذه لنقلها إلى الآخرين. فقد وجدت هذه الوحدات أولًا في صورة شفاهية ثم دوِّنت بعد ذلك، ولكن ترجع بداياتها كلها إلى عيسى ذاته، وقد حدث ذلك أيضًا في نقل التراث اليهودي. وكان بولس ذاته حاملًا لتراث الأناجيل بالإضافة إلى علمه بالتراث المسيحي.٢ وقد آثر فريق ثالث من الباحثين الإنكليز والأمريكيين الاستعمال الحذر لنقد الأشكال، وعدَّلوا من بعض تصنيفات ديبليوس وبولتمان. فالبعض منها في رأيهم لا يساعد على شيء، والبعض الآخر يخرق قاعدة التصنيف ذاتها. واعتبروا أن نقد الأشكال هو نقد تاريخي وأن الروايات والأقوال ترجع إلى عيسى نفسه. وهذه هي نتيجة دراسات إيستون B. S. Easton، أما تيلور V. TayIor فقد حاول إثبات الصحة التاريخية للأناجيل بأنها ترجع إلى شهود عيان، لم تخلق الكنيسة شيئًا منها. كما أنه لا يمكن تحليل المواد كلها ابتداءً من الأشكال. ولا يوجد تبريرٌ كافٍ عند بولتمان لتصنيف أقوال عيسى إلى حِكَم وأقوال نبوية وأخروية، وقوانين تشريعية وقواعد تنظيمية للجماعة. أما ليتفوت R. H. Lightfoot فإنه ركز أبحاثه على الكشف عن أهداف كُتَّاب الأناجيل وآرائهم وعقائدهم وأصبح مؤسس «النقد التدويني»، وتحول إلى موضوع مستقل عن «نقد الأشكال».٣ وقام فريقٌ رابع باستعمال منهجٍ لنقد الأشكال في دراسة الأمثال التي كان الناس يظنُّونها قبل النقدحكايات رمزية allegories. ولكن ابتداءً من يولشر A. Jülcher وضع الناس والحوادث والموضوعات داخل القصص ضمن الوقائع التاريخية. وأصبحت القصص والمقارنات وأوجه الشبه من عمل عيسى نفسه استقاها من الحياة اليومية لجعل رسالته أكثر حيوية ووضوحًا وفسرها بأوسع المعاني وأشملها. وتابعه دود C. H. Dodd وأنكر أن تكون حكايات رمزية، وأنه يجب تفسيرها في ظروفها الخاصة دون إطلاق للمعنى، وداخل إطار رسالة عيسى وقدوم ملكوت السموات. أما جرمياس J. Jeremias فقد نسب لها صحة تاريخية وأرجعها إلى عيسى نفسه.٤
ولقد حاول هذا الجناح المحافظ إعادة النظر في أثر نقد الأشكال على إمكانية كتابة تاريخ عيسى واستحالة مثل هذا المشروع إذ لا يوجد إلا «عيسى الإيمان»، أما «عيسى التاريخ» فلا يمكن الوصول إليه، ولكن كيزيمان E. Käsemann لا يريد استبعاد «عيسى التاريخ» وإمكانية معرفته بالرغم من تسليمه بأن الأناجيل لم تُكتب لإعطاء تاريخ حياة عيسى وبأنها تعبِّر عن عيسى الجماعة الأولى. كما حاول فوكس E. Fuchs إثبات اتصالٍ بين عيسى التاريخ والتبشير. وبالرغم من استحالة تحويل التبشير إلى تاريخ إلا أن التبشير يفترض التاريخ، وبدون التاريخ لا يكون هناك تبشير. كما حاول روبنسون I. Robinson إثبات علاقة وجودية بين عيسى التاريخ والمؤرخ، وبالرغم من أنها علاقة تتم من خلال التبشير إلا أنها تثبت إمكانية فك الحصار الذاتي والخروج إلى موضوعية التاريخ. أما بيران N. Perrin فإنه ميز بين ثلاثة أنواع من المعارف؛ الأول: المعرفة التاريخية الموضوعية بعيسى التاريخ، ولادته وحياته ومماته، وهي مستحيلة، والثاني: المعرفة التاريخية التي لها دلالة بالنسبة لنا مثل المعرفة الأخلاقية وبشارة عيسى، وهي ممكنة، والثالث: المعرفة الإيمانية التي لها دلالة بالنسبة للإيمان المسيحي وحده مثل الخلاص والفداء والخطيئة وهي أيضًا مستحيلة. ومن ثم يجد حلًّا وسطًا بين موقف نقد الأشكال الأول وبين موقف الكنيسة الثاني.٥
وقد حاول جرمياس J. Jeremias إعادة النظر في مسلَّمات المدرسة واقترح معياريْنِ للتمييز بين المواد الصحيحة والمواد غير الصحيحة تاريخيًّا؛ الأول: سمات اللغة الآرامية، وهو معيار لغوي لفظي. والثاني: سمات العالم الفلسطيني، وهو معيار جغرافي بيئي. وكلاهما يشابهان معيار التمايز عند بولتمان.٦ وقد حاول فريقٌ آخر إعطاء نماذج من تطبيق نقدِ الأشكال على تاريخ حياة عيسى. فبيَّن برونكام G. Bronkamm أنه بالرغم من أن الأناجيل المتقابلة لا تُعطي صورة لعيسى التاريخ فإنها تشير إلى التاريخ وتحتوي على تاريخ. كما حاول فولر R. H. Fuller إثبات الصحة التاريخية لبعض الأقوال والروايات بالرغم من وجود «مناظر مثالية» في الأناجيل لأن تحوُّل الواقع إلى مثال لا يخلق شيئًا بل يكون أقرب إلى تعميم الذكريات عن عيسى. وحذَّر من التشكيك في دور الكنيسة، واكتفى بدور النقد، وانتهى إلى أن عيسى قد فهم نفسه كنبي مثل أنبياء بني إسرائيل، وتلك هي نواة التاريخ. أما بيران N. Perrin فإنه بالرغم من اعترافه باستحالة كتابة تاريخ حياةٍ لعيسى إلا أنه يمكن التركيز على محاور أساسيةٍ في رسالته مثل ملكوت الله والأخرويات.٧
وقد وُجِّهت اعتراضات كثيرة إلى المدرسة من أعدائها من الخارج، يرفضون مسلَّماتها ونتائجها على حدٍّ سواء، ويدافعون عن المواقف التقليدية للكنيسة، ويتنكرون لنتائج العلم والبداهات الأولية. منها أن تحديد الأنواع الأدبية شيءٌ تقريبي، فالشكل الخالص نادر. وربما لا وجود له إلا في ذهن الباحث. وهل يمكن تصنيف الواقع بناءً على تصنيف هندسي؟ وما الدافع الذي يجعل كاتبًا يستعمل هذا الشكل دون الآخر؟ وهل يمكن الانتهاء من تشابُه أشكالٍ إلى تشابهٍ في المضمون؟ كما رفضوا قَصْر دور كُتَّاب الأناجيل على التجميع باعتبارهم كَتَبة، وطالبوا لهم بدور شهود العيان والملهمين بالروح القدس؛ وبالتالي يمكن الدخول في علاقةٍ مباشرةٍ مع عيسى ويمكن معرفة التاريخ؛ ومن ثم يجب إعادة النظر في دور الجماعة وخلقها. لأنه بعد استبعاد شهود العيان واستحالة معرفة شخص عيسى تصبح الجماعة هي الخالقة للمسيحية.٨ الحقيقة أن مثل هذه الانتقادات لا تزيد على مجرد صيحاتٍ أو طبلٍ أجوف لا تمنع من تقدُّم العلم، ولا تُوهن من عزم الباحث على الإعلان عن النتائج واستخدام كل ما لديه من مناهج البحث عن الحقيقة.
١  B. H. Streeter, The Four Gospels: A Study of Origins (London, Macmillan, 1924); A. C. HeadIam, The Life and teachings of Jesus the Christ (London, John Murray, 1927).
٢  C. D. Dodd, New Testament Studies (New York, Scribner and Sons, 1952).
T. Manson, The Teaching of Jesus (Cambridge, Cambridge University Press, 1931); H. Riesenfeld, The Gospel Tradition and its Beginnings: A Study in the Limits of “Formgeschichte” (London, A. R. Mowbray, 1957); B. Gerhardsson, Memory and Manuscript: Oral Tradition and Written Tradition in Rabbinic Judaism and Early Christianity (London, C. W. k. Gleerup, 1961).
٣  B. S. Easton. The Gospels before Gospels (New York, Scribner and Sons, 1928).
V. Taylor, The Formation of the Gospel Tradition (London, Macmillan, 1933); R. H. Lightfoot, History and Interpretation in the Gospels (London, Hodder and Stoughton, 1935); The Gospel Message of Saint Mark (Oxford, Clarendon Press, 1950).
٤  C. H. Dodd, The Parables of the Kingdom (London, Nisbet, 1935); J. Jeremias, The Parables of Jesus (New York, Scribner and Sons, 1954).
٥  G. Käseman, “the Problem of the Historical Jesus” in Essays on New Testament Themes (London, SCM Press, 1964); E. Fuchs, “The Quest of the Historical Jesus” in Studies of the Historical Jesus (London, SCM Press, 1974); N. Perrin, Rediscovering the Teaching of Jesus.
٦  Jeremias, The Parables of Jesus.
٧  G. Bronkmann. Jesus of Nazareth (New York, Harper and Row, 1960).
R. H. Fuller. Interpreting the Miracles (Philadelphia. Westminster Press 1963), the Foundation of New Testament (New York, Scribner and Sons, 1965); N. Perrin, Rediscovering the teaching of Jesus; McKnight. op. cit., pp. 57–78.
٨  A. Robert and A. Feuillet. Introductin à la Bible I, pp. 324–330 J. Dheily Dictionnaire biblique (Paris, Desclée, 1966). pp. 430-431.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤