الفصل الثامن

أقبل عبد الرحمن بعد أيام وفي نفسه قلق لم يبلغ الجزع، فلم يكن علي قد أنبأه بأكثر من أن ابنته مريضة، ومن أنَّ من الخير أن يراها وأن تراها أمها، وكان عبد الرحمن رجلًا جلدًا صبورًا عظيم الاحتمال، قد امتحنته الأيام في ابنيه جميعًا، فلم يتخلع قلبه، ولم يخرج من وقاره المألوف، وإنما بلا مرارة الحزن إلى أقصاها واصطلى نار الألم إلى أشدها، وهو ثابت لا يضطرب، وقور لا تزدهيه الخطوب، يرحمه الناس ولكنهم يُعجبون به ويَعجبون منه. وهو ماضٍ في حياته، محتمل لأثقالها، ثابت لعواصفها، يشهد الصلوات الخمس في المسجد، ويتلو ورد السحر في آخر الليل، ويختلف إلى متجره وجه النهار وآخره، فيعمل ويرى أعوانه يعملون، قليل الكلام كثير الصمت، لا يغفل قلبه عن ذكر الله، ولا تنسى نفسه أن تستخرج من آلامه مواعظ وعبرًا، وهو يرحم امرأته ويشفق عليها، ويحيطها بشيء من عطف يُوشك أن يكون قسوة؛ فهو لا يحب البكاء كما أنه لم يكن يحب الفرح؛ وإنما يريد لامرأته أن تكون مثله هادئة، رزينة كاظمة للغيظ، صابرة على الخطب مُسلمة أمرها إلى الله، قابلة قضاءه في رضا، منتظرة قضاءه في ثقة، فلما جاءه النبأ بأن ابنته مريضة، وبأنَّ الخير أن يراها وأن تراها أمها، لم يُظهر امرأته على شيء، وإنِّما زعم لها أنه مسافر إلى الأقاليم في بعض ما كان يسافر له من التجارة.

فلما وصل إلى المدينة ولقي عليًّا وخالدًا، قال لهما في صوته الهادئ وعلى ثغره ابتسامته المطمئنة: لم أخبر أم صالح بشيء ولم أكلفها مشقة السفر، فإن تكن نفيسة قادرة على الرحلة إلى القاهرة، فالخير أن تُمَرَّض هناك وأن ترى أمها في دارها، وإن تكن غير قادرة على الرحلة مرَّضْنَاهَا هنا حتى يكون لها حظ من بُرء، فتُتِم شفاءها في القاهرة. كذلك قدَّرت ولله تقديره، وهو يقضي فينا بما يشاء. ولم يرد مع ذلك أن يستريح ولا أن يشرب القهوة، وإنما صمم في هدوء على أن يرى ابنته قبل كل شيء، قال عليٌّ: ستراها ولكن … قال عبد الرحمن: ولكن ماذا؟ أتراكما خدعتماني وأنبأتماني بمرضها بعد أن بلغ الكتاب أجله؟ قال عليٌّ: لا؛ ولكن مرضها غريب. قال عبد الرحمن: مرضها غريب! لقد كانت غريبة الأطوار في طفولتها وصباها، أفتراها قد جُنَّت؟ فأمَّا علي فلم يجب. وأمَّا خالد فأجهش بالبكاء. وأما عبد الرحمن فرفع يده إلى جبهته وظل كذلك حينًا، ثم مسح إحدى يديه بالأخرى وهو يقول: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، ثم أقام مكانه لم يظهر ميلًا إلى لقاء ابنته، وإنما قال لخالد: اطلب لنا القهوة يا بني. وأغرق بعد ذلك في صمته، حتى إذا جاءت القهوة وشرب منها كأسين قال مبتسمًا: والصبيتان ما خطبهما؟ قال عليٌّ: هُمَا بخير، رُوِّعَتَا شيئًا أول الأمر، ثم حيل بينهما وبين لقاء أمهما. قال عبد الرحمن: فأستطيع أن أراهما؟ قال خالد: نعم! ثمَّ غاب ساعة وعاد ومعه ابنتان إحداهما آية في الحسن والأخرى آية في القبح! فلمَّا رآهما عبد الرحمن ضمهما وقبلهما ومسح على رأسيهما، ثم قال لخالد: ردهما إلى لعبهما، فقد كانتا تلعبان من غير شك، ولم يكد خالد ينصرف بالصبيتين حتى انحدرت من عيني عبد الرحمن دمعتان أسرع إلى تجفيفهما وهو يقول: «اللهم عفوك ومغفرتك ورضاك؛ اللهم إنَّا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» ثم قال: ألم ترَ يا علي أني قد أحسنت حين لم أزعج أم صالح ولم أجشمها السفر؛ فحسبها ما تنتظر من هول. قال عليٌّ: هون عليك أبا صالح؛ إنما هي محنة وتزول. قال عبد الرحمن: أرجو ذلك إن شاء الله. ولكن مُر فليهيأ للسفر إذا كان الغد، أما اليوم فإني أريد أن أزور الشيخ وأن أحدث به عهدًا. ثم سكت قليلًا والتفت باسمًا إلى خالد وهو يقول: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا.

وأقبل القوم على غدائهم وحديثهم ثم على صلاتهم ودعائهم كأن لم يُلمَّ بهم خطب. فلما اصفر وجه النهار سعوا إلى شيخهم، فألْفَوْهُ بين أصحابه يعظهم ويقرأ عليهم بعض الحديث، فاستمعوا واستمعوا، وشهدوا معه صلاة العشاءين وما بينهما من دعاء، وأقاموا معه حلقة الذكر كما كانوا يصنعون من قبل، حتى إذا تفرقت الحلقة وأخذ الناس ينصرفون، تثاقل عبد الرحمن فلم ينصرف ولم يظهر ميلًا إلى الانصراف، ورأى الشيخ ذلك منه فأشار إليه أن أقم، وأشار إلى صاحبيه أن أقيما. حتى إذا خلا لهم وجهُ الشيخ همَّ عبد الرحمن أن يتكلم ولكن الشيخ قال: ما رأيت رجلًا مثلك يا عبد الرحمن؛ إنَّ إيمانك لحسن، وإن دينك لمتين، وإن أجرك عند الله لعظيم. قال عبد الرحمن: سمع الله لك يا مولاي؛ إني قد حرصت على أن أظفر منك بهذه الساعة مع صاحبيَّ هذين لأُشهدك عليَّ وعليهما. قال الشيخ: وما ذاك؟ قال عبد الرحمن: إني سأرتحل بابنتي إذا كان الغد. قال علي وخالد في صوت واحد: وسنرتحل معك. قال الشيخ: دعاه يقل. ومضى عبد الرحمن في حديثه فقال: إن ابنتي لم تعد تصلح زوجًا لخالد، ولكني لا أحب الطلاق؛ لأنَّ الله لا يحب الطلاق. وهمَّ خالد أن يتكلم، فأشار الشيخ إليه: أنْ صهٍ. قال عبد الرحمن: فأريد أن أشهدك على أنِّي سأكفل ابنتي والصبيتين ما حييت، فإذا متُّ فإني أوصي بهن وبامرأتي ومالي كله إلى خالد، يقوم في ذلك كله بأمر الله وبما ينبغي من البر بالزوج والولد والصهر وذوي المودة والقربى، ولم يبلغ عبد الرحمن ذلك من قوله حتى كان علي وابنه ينتحبان. قال الشيخ: ما رأيت كالليلة قوة، وما رأيت كالليلة ضعفًا. ثم نظر إلى علي وابنه وهو يقول: أما تستحيان؟! ثم بسط يده إلى عبد الرحمن وقال: ابسط يدك أبايعك على ما تقول وأنا وكيل خالد، وتصافح الرجلان. ثم أقبل الثلاثة على الشيخ فقبلوا يده، ثم صفق الشيخ تصفيقًا خفيفًا، فلما أقبل الخادم قال الشيخ: أرسل إلينا قهوة، وقل للشيخ مدكور يغني لنا:

سائق الأظعان يطوي البيدَ طي

وما هي إلا لحظة حتى أقبلت القهوة وأقبلت المجمرة في شيء من بخور، وارتفع صوت الشيخ مدكور في هدوء الليل يغني في شعر ابن الفارض الجميل والقوم يشربون القهوة حسوًا خفيفًا، والشيخ يضطرب في مجلسه اضطرابًا خفيفًا ويقول في صوت همس: الله! الله! ثم ينقطع الصوت وينهض الشيخ فيصلي ركعتين، ويصلي كل من الثلاثة مثله ركعتين، فإذا أتموا صلاتهم قال الشيخ للجماعة: انصرفوا راشدين، نراك قبل سفرك يا عبد الرحمن؟ قال عبد الرحمن: لا يا مولاي؛ إنه سفر يحسن الاستعجال به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤