حلم العمر

أنسى كل شيء؛ أنسى وجودي وكياني، وأنسى الأمس القريب واللحظة الماضية ووعد اللقاء والصلاة، أنسى حتى المكان الذي أريد أن أذهب إليه، أنسى لحظات الخوف، ولحظات الأمل، أنسى لحظات السعادة ولحظات اليأس، أنسى كل ما تعرضت له في حياتي الطويلة هذه. طويلة هي طويلة، قضيت على سطح هذه الأرض ثلاثة وعشرين عامًا لم أشعر فيها جميعًا بهذا الذي يسمونه الملل، ومن أين يأتي الملل؟! أما وأنا طفل رضيع فلم أكن أشعر بشيء على الإطلاق، ولم أكن أعلن أنني لم أشعر بشيء على الإطلاق، ووعيت ووعيت، وما زلت أذكر ما وعته مني الذاكرة وأنا طفل، كانت جدتي سيدة عجوز، وكانت تعطيني نقودًا، ولا أذكر ما المصير الذي كانت تنتهي إليه هذه النقود، فما كنت أريد شيئًا؛ فقد كنت آكل وألعب وأنام، كنت أعيش في قرية تقع في أعماق الريف، لا تصل إليها إلا الركائب الحية من حمير وجِمال وخيل، ولقد قدَّمت الحمير في الحديث لأنها كانت تمثل الغالبية العظمي من وسائل المواصلات في القرية، أما الجِمال فقد كانت في أغلب أمرها وسيلة نقل البضائع، أما الخيل فإن قصتي كلها مع الخيل؛ إنه حصان واحد رأيته أول ما رأيته أمام منزلنا، نسيت أن أخبرك أن بيتنا يقع هو الآخر في أعماق القرية التي تقع في أعماق الريف، وهكذا كان من العجيب أن رأيت هذا الحصان واقفًا أمام باب بيتنا. حصانًا فارهًا طويلًا عليه رجل عظيم مكتمل، رأيت رأسه في السماء، ما هذه الهالة التي كانت تحيط به، كيف استطاع هذا الرجل أن يكون جليلًا إلى هذا الحد، عظيمًا إلى هذا المدى؟ جرى إليه كل المحيطين بي.

– تفضل يا دكتور، تفضل يا دكتور.

كانت جدته مريضة وقد استدعى لها الدكتور من البندر، لم يتمالك أحمد نفسه أن يسارع إلى داخل الدار يبحث عن أبيه، كان أبوه مشغولًا بالطبيب الذي يعود أمه، ولم يستطع أحمد أن يصبر فسارع إلى أمه.

– أمه يا أمه.

– مالك يا ولد؟

– أريد أن أكون مثل هذا الدكتور.

– ومن أين لنا المال يا أحمد؟

– ولماذا المال؟

– لتصبح مثل هذا الدكتور.

– لا بد أن أصبح مثل هذا الدكتور.

– احفظ أنت اللوح، وربنا يقدرنا.

اللوح، أليس بيني وبينه أن أصبح شاهقًا أركب الحصان ويسعى الناس إليَّ، يوسعون الخُطى ويُخلون الطريق، ويقدمون الاحترام والتبجيل، ليس بيني وبين هذا جميعه إلا أن أحفظ اللوح؟ حفظت اللوح، واللوح الذي يليه، وكل الألواح التي أُعطيت لي.

– ربنا يحفظك يا أحمد، خسارة يا ابني ألا تكمل تعليمك؟ وقصد الشيخ عبد العظيم إلى شحاتة الحجار.

– جئتك من أجل أحمد يا سي شحاتة.

– ماله يا عم الشيخ، هل قصَّر في شيء؟

أحمد يقصر؟! أحمد في غاية الذكاء يا شحاتة، ولا بد أن نجعله يكمل تعليمه.

– العين بصيرة واليد قصيرة يا عم الشيخ عبد العظيم.

– إنه ثروة عمرك يا شحاتة، مهما تترك فلن تترك له خيرًا من الشهادة.

– وكيف أستطيع أن أعلِّمه؟

– دبِّر حالك.

– كله على الله يا عم الشيخ عبد العظيم.

كنت أستمع إلى هذا الحديث، وما زلت أذكر كيف سارعت إلى الجامع ورحت أبتهل إلى الله أن يجعل أبي يوافق على تعليمي، حتى تأكدت أن الله استجاب دعائي فسارعت إلى أمي.

– أمه، سأصبح دكتورًا.

– كيف عرفت؟

– أبي قال: كله على الله، وذهبت إلى الجامع فتأكدت أن الله قبل رجائي.

– لهذه الدرجة تريد أن تكون دكتورًا؟

– أموت يا أمه وأكون دكتورًا.

– بعد الشر يا ابني، إنما قل لي، ما السر في رغبتك الشديدة هذه؟

– لا أعرف، كل الذي أعرفه أنني أريد أن أكون دكتورًا.

– هذا كل ما تعرف؟

– دكتور يا أمه دكتور، أريد أن أكون دكتورًا.

– إن شاء الله يا أحمد ستكون دكتورًا.

كانت لبيبة تملك سوارين من الذهب وقرطًا وحلية برقع، ذهبت إلى البندر فباعتها جميعًا وعادت لتقول لزوجها: اسمع يا شحاتة، أحمد لا بد أن يذهب إلى المدرسة.

– أجننتِ؟! أنت تعرفين البير وغطاه، من أين لنا بالفلوس؟

– لا شأن لك.

– ماذا تقصدين؟

– لا شأن لك.

– هل بعت الذهب؟

– ماذا يفيد الذهب؟

– كنا نجعله أمانًا لنا من الخوف؛ من يضمن نفسه؟! قد نمرض أو نحتاج لشيء.

– شهادة الولد أهم.

– يا لبيبة الطريق طويل وصعب.

– الذي خلقنا لن ينسانا.

– توكلنا على الله.

قالت لي أمي: أحمد، كيف ستذهب إلى المدرسة؟

– ماشيًا.

– الطريق طويل.

– أمشيه.

– لا يا بني، حرام، سأشتري لك حمارًا.

– الله يطوِّل عمرك يا أمه.

– ولكن يا ابني المسافة طويلة بيننا وبين البندر.

– أقطعها في غمضة عين.

– قد تحتاج إلى ساعتين حتى تصل.

– وما له؟!

– والمدرسة تفتح الساعة الثامنة.

– وإن كانت تفتح في الساعة الخامسة.

– على بركة الله.

أنسى الأيام الطويلة التي قضيتها على ظهر الحمار، حين كنت أصحو والليل أسود داكن، من يراه يكاد يوقن أن لا صباح بعده، أسود كان الليل حين كنت أستيقظ لأجد أمي قد وضعت لي رغيفًا وقطعة من الجبن القريش، أضعها في حقيبتي، ثم ألبس ملابسي، ثم أغسل وجهي، ثم أركب الحمار، والشيخ عبد العظيم يؤذن لصلاة الفجر، وما هي إلا دقائق قليلة حتي تشرق الشمس وأستطيع أن أقرأ، أظل أذاكر حتى أصل إلى المدرسة، وحين ينتهي اليوم الدراسي أركب الحمار وأظل أذاكر حتى أصل إلى البيت، ما هي إلا لقيمات أُلقي بها في جوفي ثم أنام … أنسى الأيام الكالحة، بلا لعب مع الأطفال حين أنا طفل، ولا سمر مع الرفاق حين أنا صبي يشارف مطالع الشباب، ولا لهو من الشباب حين أنا فتى في زهوة العمر وربق السن … أنسى الجليد، أحس به يسري في دمائي نافذًا من وجهي ويدي، من كل مكان في جسمي سواء كان هذا المكان كاسيًا أو عاريًا؛ فما كان الكساء يختلف كثيرًا عن العري … أنسى اللحظات الموحشة أقطعها وحيدًا في الطريق، لا صوت ولا حياة، كأنما أنا نبتة وحيدة ظهرت في قفر موحش في أقطار الأرض … أنسى الإنهاك ينساب إليَّ عند عودتي بعد أن أكون قد ركبت الحمار أكثر من أربع ساعات … أنسى الشباب الذي بلغته وأحلامه وأمانيه؛ فقد كانت لي أمنية واحدة … أنسى أيام الإجازة التي كنت أقضيها مذاكرًا للسنة التي تليها … أنسى ارتمائي على زملاء المدرسة الذين أعرف أن لهم إخوة في كلية الطب أستجدي منهم الكتب، وأثمرت سنوات الاستجداء مكتبة في الطب وأنا بعدُ في المرحلة الثانوية … أنسى الإجازة التي كنت أنتظر فيها نتيجة الثانوية والتي قطعتها لأقرأ كتب الطب وأنا مبهور الأنفاس ألهث، وأنا لا أكاد أصدق أنني سأقرأ هذا الكلام بصفة رسمية … أنسى اليوم السابق لظهور النتيجة … ركبت الحمار من العصر وذهبت إلى محطة السكة الحديد في البندر أنتظر وصول النتيجة إلى المدرسة.

قال شحاتة: مبروك يا أحمد.

– الله يبارك فيك يابا.

– ألا يكفيك ما نلته؟

– أريد أن أكون دكتورًا يابا.

– يا ابني تعبنا.

– أكون دكتورًا وأموت يابا.

– يا ابني لا قدر الله.

وقال شحاتة: يا عم إسماعيل.

– نعم يا سي شحاتة.

– القراريط الأربعة التي بجوار أرضك.

– ما لها؟

– ألا تريد أن تشتريها؟

– أنت تريد الثمن دفعة واحدة.

– لا يا سيدي.

– ماذا تريد إذن؟

– تعطي أحمد ابني ما يحتاج حتى يكمل تعليمه.

– تعليمه، أين؟

– في الطب.

– تريد أن تعلم ابنك الطب بأربعة قراريط؟

– حتى تسدد ثمنها يعين الذي لا ينسى عبده.

– إنك لا تملك غير فدان ونصف فدان.

– الله هو المعين.

– أنسى أيام الجوع في القاهرة، وأنسى … نعم وأنسى حين تبدت على السطوح الذي أسكن فيه جميلة كالأمل مشرقة كالرجاء، ابتسمت.

– صباح الخير.

تلجلج أحمد كثيرًا وهو يقول: صباح الخير.

– وحدك؟

وتلجلج ثانية كثيرًا وهو يقول: وحدي.

– أتريد شيئًا؟

– لا شكرًا.

– أي خدمة؟

– شكرًا.

– أنت خجلان؟

– لا، لا أبدًا.

– اسمك؟

– أحمد.

– أحمد فقط؟

– أحمد شحاتة.

– وأنا سميحة.

– سميحة؟

– سميحة إبراهيم، جارتك.

– في البيت المجاور؟

– لا، في هذا البيت نفسه.

– أهلًا وسهلًا.

وأنسى، أنسى حين حاولت سميحة أن تقيم بيني وبينها صلة، تركت الحجرة والسطوح إلى حجرة أخرى على سطوح آخر.

وأنسى أن أبي باع الفدان ونصف الفدان جميعه، وباع الجاموسة وباع العجلة التي اشتراها بعد الجاموسة، وباع البيت الذي ورثه عن أبيه واستأجر بيتًا آخر، أنسى كل هذا ولا أنسى أنني أعيش فقط لأسمع الخبر الذي ينتظرني الآن، الذي أنتظره أنا؛ الخبر الذي قامت من أجله حياتي جميعًا، نعم أنا هنا أمام الكلية منذ الرابعة من الصباح، ولولا خجلي من الفراشين والدكاترة لبت ليلتي هذه أمام باب الكلية، أنا هنا منذ الرابعة لا أجد ما أفعله في ليلتي هذه أمام باب الكلية إلا أن ظل رانيًا إلى الباب الذي سأعرف منه الخبر، الساعة الآن جاوزت الواحدة من الظهر.

– مبروك يا أحمد، مبروك يا دكتور أحمد، مبروك يا أحمد.

ولم يجب أحمد أحدًا من زملائه، وإنما خرج من باب الكلية صامتًا جامدًا، وظل سائرًا وكأنه حجر يتحرك، ووجد نفسه على كوبري قصر النيل، وفي هدوء ألقى بنفسه إلى الماء، وكان يعلم أنه نسي في حياته التي كرسها لأمله أن يتعلم العوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤