القرون الوسطى

تطلق عبارة «القرون الوسطى» على فترة من الزمن تبلغ نحو ألف سنة، تبتدئ من سقوط الدولة الرومانية الغربية سنة ٤٧٦ على يد الجرمان، وتنتهي بسقوط الدولة الرومانية الشرقية سنة ١٤٥٣ على يد الأتراك، وبدهي أن هذا التحديد بالسنوات هو اصطلاح تاريخي فقط، وإلا فإن الواقع يثبت أن بذور القرون الوسطى ظهرت في الدولة الرومانية منذ القرن الأول للمسيح، كما أن هذه القرون لم تنته بسقوط القسطنطينية.

ولكي ندرك مدى الرقي الذي يتمثل في النهضة أو النهضات الأوروبية يجب أن نعرف عمق الانحطاط الذي سبق هذا الرقي.

أي: يجب أن نعرف الهاوية التى هوى إليها الفكر البشري في القرون الوسطى.

والقرون الوسطى غير «القرون المظلمة» وإن كان كثيرون يطابقون بينهما، والمعول عليه الآن أن تطلق صفة الظلام على السنين الخمسمائة الأولى، أي: من سنة ٤٧٦ إلى سنة ٩٧٦؛ لأن هذه الفترة كانت في أوروبا فترة الركود الفكري، أما بعد ذلك فإننا نجد بوادر النهضة وبواكيرها.

وقد قلنا: إن بذور القرون الوسطى ترجع إلى الدولة الرومانية، وهذه الدولة التي بقيت متماسكة خمسة قرون متوالية كانت قوتها تنحصر في هذا التماسك، ولكن منذ القرن الأول بدأت عوامل التفكك تعمل فيها حتى إذا كان القرن الثالث والرابع استفاضت الفوضى، وأغار الجرمان على جسم الدولة.

ولكن يجب هنا أن يذكر القارئ أن الغارة لم تكن أجنبية؛ لأن هؤلاء الجرمان كانوا منذ القرن الأول للميلاد يتسربون إلى الدولة ويسرون في عروقها، تؤلف منهم الجيوش الجرمانية المحضة لرد غارة الجرمان، ويعين منهم القواد، حتى إذا كانت الغارة الأخيرة لم يكن الجيش المغير أجنبيًّا؛ لأنه كان يجد أينما حل أناسًا من الشعب الذي ينتمي هو إليه.

وكان يربط الدولة أيام عزها جميعها إمبراطور يعبده جميع السكان ويضعونه في مصاف الآلهة، وكان لهم جميعهم قانون واحد تجري أحكامه عليهم هو القانون الروماني، وكانت الدولة مع ترامي أطرافها تتصل بالدروب الرومانية، فتنتقل أخبارها وجيوشها ومديروها بسرعة فائقة.

أما أيام الضعف والتضعضع فقد طرأ الفساد إلى مكامن القوة ومراكز الاتحاد، وأول ذلك أن استنت سنة في انتخاب الإمبراطور جعلت للجيش سلطانًا على الانتخاب، فصار هو الذي يولي ويعزل، وصارت الحروب الأهلية تنشب بين جيوش الدولة؛ لأن بعضها يناصر إمبراطور دون الآخر.

ثم دخلت المسيحية فمحت عبارة الإمبراطور ومحت بذلك وحدة الدولة ووحدة الولاء، وتفشى الترف في القصر أو القصور الإمبراطورية، وكثرت تكاليفها، وأصبحت تكاليف الجيش عبئًا كبيرًا على المنتجين في الأمة، وهم جمهور المزارعين، فزادت بذلك الضرائب وصارت جبايتها التزامًا لا يعرف المزارع كم يجب عليه أن يؤدي، وإنما على الملتزم أن يؤدي للدولة مبلغًا معينًا من المال من ناحيته، وله لقاء ذلك حق الاستعانة بالجيش في هذه الجباية الظالمة التي كانت تقع بأشدها على المزارعين النشيطين، واستوى بهذه الضرائب المجد والمتراخي؛ لأن الملتزم صار يأخذ كل ما يجده من الغلات، وصار الفلاحون يهجرون القرى إلى المدن حتى اضطر الإمبراطور إلى منعهم من هجرة قراهم.

ومن هذا المنع نجد البذرة الأولى للعهد الإقطاعي، حين أصبح الفلاحون عبيدًا لمواليهم، وقد بقيت العبودية في فرنسا إلى سنة ١٧٨٩ حين هبت الثورة الكبرى، ففي مدة القرون الوسطى نجد أنه كان لا يجوز للعامل في الضيعة أن يتركها إلا بإذن مولاه.

ثم كان تفشي الرق سببًا آخر للضعف والسقوط، وامتلأت الدول بالأسرى الذين بيعوا رقيقًا، ووجد أصحاب الضياع أن استخدام العبيد خير من استخدام العامل المأجور وأوفر عليهم وأبلغ ربحًا، فاستكثروا من العبيد، وعمت الفاقة طائفة العمال الرومانيين.

وساءت الزراعة وقلت الحاصلات، فاضطرت المدن الكبرى إلى أن تتجر وتتبادل سلعها مع الأقطار البعيدة دون الريف الروماني، فانتقلت النقود من رومية إلى هذه الأقطار، وقلت بين الرومانيين، حتى كان الأباطرة ينزلون عيار الذهب في الدينار من وقت لآخر، أي: أن النقد «تضخم» فنقصت قيمته وزادت أثمان السلع، وعمت الفاقة، وتناقص السكان، وكان هذا التناقص مغريًّا لقبائل الجرمان بالتسرب والانسلال رويدًا ثم الغارة الأخيرة.

وقد ذكرنا المسيحية من حيث إنها محت الوحدة الرومانية التي كانت تتجسم في عبادة الإمبراطور، ولكن دخول هذه الديانة الجديدة على ما نرى فيها من سمو المبادئ ونبالة الحياة التي تنشدها، كان سببًا كبيرًا في هدم الدولة، فقد حدث شقاق بين أبناء الأمة قطع اتحادها، وحسب القارئ أن يعرف أن «قسطنطين» أول الأباطرة الذين آمنوا بالمسيحية ترك رومية، وأسس هذه العاصمة الجديدة في شرق الدولة لكي لا يرى المعابد الوثنية، وهو في ذلك مثل «إخناتون» حين هجر طيبة ورحل إلى تل العمارنة يؤسس عاصمة جديدة لا يرى فيها صنم آمون، وإنما يرى رع.

وظهرت الكنيسة منذ أول ظهورها بمظهرها الذي عرفت به أيام القرون الوسطى، فأحرقت الكتب وهدمت الأصنام والمعابد؛ ولذلك يجب أن نرد «محكمة التفتيش» التي استطار شرها مدة القرون الوسطى إلى هذه البذرة الأولى التي ألقتها الكنيسة أيام تضعضع الدولة الرومانية.

والقارئ لتاريخ الدولة الرومانية لا يسعه إلا أن يقابل بين تضعضعها ثم سقوطها وبين ما جرى للدولة العباسية في بغداد.

فالجرمان وانسلالهم إلى جسم الدولة، ثم غارتهم الأخيرة، يشبهون الأتراك وانسلالهم إلى جسم الدولة العربية في بغداد ثم طغيانهم ثم محو الدولة على أيدى المغول، وجباية الضرائب وانحطاط الزراعة في العراق لا يختلفان كثيرًا عما كانت عليه الحال في إيطاليا، حتى المقابلة في الآداب لتجوز هنا أيضًا.

فإن الأدب العربي في القرنين الأول والثاني لا يعرف التزاويق والألاعيب البلاغية، وهو في ذلك مثل الأدب الروماني في القرنين السابق والتالي للميلاد المسيحي، ثم يشترك في التزاويق السخيفة ويذهب اللباب، وينحط التفكير وتبقى القشور والبهارج، وينسى الرومانيون لغتهم اللاتينية، وينسى العرب لغتهم العربية.. ويأخذ أمراء الجرمان في تأسيس الإمارات المستقلة عن رومية، ويأخذ أمراء الأتراك والمماليك في تأسيس إماراتهم المستقلة عن الخلافة.

وكما أعقب الدولة الرومانية قرون من الظلام ساد فيه التنطع الديني، كذلك أعقب الدولة العباسية قرون من الظلام ساد فيه هذا التنطع نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤