اللغة والنهضة

كانت أوروبا مدة القرون الوسطى تحت سيطرة الكنيسة، وكانت هذه السيطرة على أشدها في النواحي الثقافية، فلم يكن أرسطوطاليس يقرأ أو يدرس إلَّا لخدمة الكنيسة، ولم تكن الكتب تؤلف، أو الأطفال يعلمون في المدارس، إلَّا لهذه الغاية، وكان للكنيسة لغة واحدة تعم أوروبا كلها هي اللغة اللاتينية، وهي لغة لم يكن يتكلم بها الناس وإنما يكتبونها فقط.

ولكن نزعة الاستقلال التي فشت في النهضة، وجعلت ميكافيلي يستقل بالسياسة ويفصلها من الكنيسة، وجعلت جاليل يستقل بالفلك ويفصله من الكنيسة، جعلت لوثر يفصل الدين نفسه من الكنيسة.

ومن لوثر هذا نشأت القوميات الأوروبية، فإنه حين ترجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية جعل الدين المسيحي «قوميًّا» ورفع بذلك من شأن اللغات القومية التي لم تكن تكتب أو تدرس، ونزلت اللغة اللاتينية عن مكانتها وظهرت اللغات الوطنية، وأصبحت كل منهة لغة الدين والعلم والأدب، وهي الظاهرة، المدروسة، في حين صارت اللاتينية مغمورة مهملة.

ولا يظن القارئ أن هذه المعركة بين اللغات القومية وبين لغة الدين اللاتينية كانت من المعارك الخفيفة، فإن بقاء هذه اللغة في الجامعات الأوروبية، وإلزام طلبة المدارس الثانوية على تعلمها في فرنسا وألمانيا وغيرهما، بل بقاء التعابير والمصطلحات القانونية بألفاظها القديمة، يدل على إنها كانت قوة كبيرة جدًّا، وأن الأمم الأوروبية عندما تحدت الكنيسة ولغتها كانت تكافح أوعر المشاق في حياتها الاجتماعية والدينية والثقافية، وإلى قبل مئة سنة كانت اللاتينية لغة التخاطب في البرلمان الهنغاري.

وقد يقال إن أوروبا لم تكتسب بترك اللاتينية التي كانت لغة الكتابة عند جميع المثقفين، واعتماد كل منها على نفسها واتخاذها لغتها بدلًا منها، فإن اللاتينية كانت تربط بينها، وتجعلها أمة واحدة دينًا ولغة، ولكن المتأمل لتاريخ الحروب يجد أن هذا الاعتبار لا قيمة له، فإن الإنجليز حاربوا الأمريكيين وكلاهما ينتمي إلى لغة واحدة ودين واحد، ولم تكن الحروب في القرون الوسطى حين كانت اللاتينية عامة أقل مما كانت عقب النهضة.

ونحن في أيامنا قد اصطبغت أذهاننا بصبغة عالمية، فصرنا ننظر نظرة الرجاء لمنظماتنا الدولية ونفكر في إيجاد لغة عالمية؛ ولذلك لا نستطيع إلا الأسف على ضياع اللاتينية أو انحدارها إلى زوايا الجامعات والديورة والكنائس، ولكن الشعور بالنهضة هو نفسه شعور بالاستقلال، والناهضون الذين دعوا إلى العلم والأدب والتجديد في الأخلاق والسياسة شعروا بكرامة قومية تبعثهم على الإكبار من شأن اللغة القومية، واتجه نظرهم إلى المستقبل دون المبالاة للروابط التاريخية في الماضي، ولو أن الأوروبيين وضعوا الدين ولغة الدين فوق القومية لكانت أوروبا الآن دولة واحدة عاصمتها روما.

وقد لقيت أوروبا صعوبات كبيرة في كل دولة بلغتها استقلال، وبقيت أكثر من مئة سنة عقب النهضة، وهي تؤلف مؤلفاتها باللاتينية وتنقل إليها المؤلفات العربية والإغريقية القديمة، ولكن رويدًا رويدًا تغلبت الشخصية القومية حتى أصبحت لكل أمة كرامتها وكيانها، واستقلالها ولغتها.

ثم أخذ هذا الانفصال من الكنيسة الأوروبية، كنيسة روما، يتفشى، وأخذت النفس الإنسانية في الاستقلال حتى فصلت الدولة من الدين، وأصبح الدين بعد أن كان يسيطر مدة القرون الوسطى على كل شيء مفصولًا من كل شيء.

وقد يسوء هذا بعض القراء، ولكننا هنا نحاول أن نقرر الحقائق التي تبدو لنا كما نقرأها في تاريخ النهضة الأوروبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤