الفصل الثاني

الْعُصْفُورُ النَّاطِقُ

(١) عَوْدٌ إِلَى بَيْتِ «أَبِي الْفَضْلِ»

قالَ «أَبُو الْغُصْنِ: عَبْدُ اللهِ جُحا»: «عُدْتُ إِلَى بَيْتِ «أَبِي الْفَضْلِ» بَعْدَ أُسْبُوع، فَتَذاكَرْنا فِي مَجْلِسِهِ شَأْنَ أُولٰئِكَ الَّذِينَ لا يَحْتَفِظُونَ بِالسِّرِّ، وَشَأْنَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ كُلَّ شائِعَةٍ، كَأَنَّهُمُ الْبَبْغاواتُ، تُرَدِّدُ كُلَّ ما تَسْمَعُ دُونَ فَهْمٍ.»

(٢) تَجْرِبَةٌ وَاخْتِبارٌ

فَقالَ أَحَدُ الْجُلَساءِ: عِنْدِي قِصَّةٌ طَرِيفَةٌ سَمِعْتُها، وَسَأَقُصُّها عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ فِيها عِبْرَةً وَتَذْكِرَةً.

عاشَ فِي مَدِينَةِ «واسِطٍ» رَجُلٌ اسْمُهُ «الضَّاحِكُ».

كانَ شَدِيدَ الْوُثُوقِ بِصاحِبٍ لَهُ، يُدْعَى: «الصَّامِتَ».

كانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ أَوْفَى النَّاسِ وَأَقْدَرِهِمْ عَلَى الاِحْتِفاظِ بِالسِّرِّ.

دَبَّ إِلَى قَلْبِهِ الشَّكُّ فِيما كانَ يَعْتَقِدُهُ.

قالَ لِنَفْسِهِ: «ماذا عَلَيَّ إِذا خَبَرْتُ أَخْلاقَ «الصَّامِتِ»، لِأَتَعَرَّفَ مَدَى قُدْرَتِهِ عَلَى الاِحْتِفاظِ بالسِّرِّ؟»

(٣) بَيْنَ «الضَّاحِكِ» و«الصَّامِتِ»

رَأَى أَلَّا يُضِيعَ الْفُرْصَةَ. ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ «الصَّامِتِ». طَرَقَ بابَهُ.

زِيارَةٌ مُفاجِئَةٌ فِي مُنْتَصَفِ الَّليْلِ، لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُها صاحِبُهُ.

اِسْتَيْقَظَ «الصَّامِتُ» — مِنْ نَوْمِهِ — مُتَعَجِّبًا.

سَأَلَ زائِرَهُ الصَّدِيقَ عَمَّا أَهَمَّهُ فِي تِلْكَ الَّليْلَةِ.

تَظاهَرَ «الضَّاحِكُ» بِالْجِدِّ والاِهْتِمامِ بِما حَضَرَ مِنْ أَجْلِهِ. «لَدَيَّ سِرٌّ خَطِيرٌ. أَطْمَعَنِي خُلُقُكَ الْكَرِيمُ — يا أَخِي — فِي أَنْ أُفْضِيَ بِهِ إِلَيْكَ. أَنا عَلَى ثِقَةٍ أَنَّكَ لَنْ تُخْبِرَ بِهِ كائِنًا مَنْ كانَ.»

أَجابَهُ «الصَّامِتُ»: «ما أَجْدَرَنِي بِثِقَتِكَ، يا «ضاحِكُ»! لَيْسَ أَكْتَمَ لِلسِّرِّ مِنِّي، وَلا أَصْوَنَ لَهُ. قُلْ، فَأَنا أَسْمَعُ.»

قالَ «الضاَّحِكُ»: «لَسْتُ أَرْتابُ فِي وَفائِكَ، وَلا أَشُكُّ فِي إِخائِكَ. ذٰلِكَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ. كُلُّ ما أَخْشاهُ أَنْ تَدْفَعَكَ غَرابَةُ ما تَسْمَعُ إِلَى الْإِفْضاءِ بِهِ لِأَحَدٍ مِمَّنْ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، مِنْ خُلَصائِكَ وَأَصْفِيائِكَ. إِذَنْ يَذِيعَ بَيْنَ النَّاسِ الْأَمْرُ، وَيَفْتَضِحَ عَنْدَهُمُ السِّرُّ.»

قالَ «الصَّامِتُ»: «لا تَخْشَ شَيْئًا مِنْ ذٰلِكَ. لَنْ يَنْتَقِلَ سِرُّكَ مِنْ صَدْرِي إِلَى كائِنٍ كانَ، مِنَ الْإِنْسِ أَوْ مِنَ الْجانِّ. اِعْتَمِدْ — يا «ضاحِكُ» — عَلَيَّ، وَأَفْضِ بِهِ إِلَيَّ.»

قالَ «الضَّاحِكُ»: «ما كانَ أَعْجَبَها مُفاجَأَةً!

مُنْذُ لَحَظاتٍ: وَضَعَتْ زَوْجَتِي … ماذا أَقُولُ، يا أَخِي؟ أَيُّ دَاهِيَةٍ دَهِمَتْنِي؟ أَيُّ خَيْبَةِ أَمَلٍ أَصابَتْنِي؟ أَتُراكَ مُصَدِّقِي، إِذا قُلْتُ لَكَ: إِنَّ زَوْجَتِي وَلَدَتْ عُصْفُورًا! نَعَمْ. وَلَدَتْ عُصْفُورًا. عُصْفُورًا وَلَدَتْهُ زَوْجَتِي مُنْذُ لَحَظاتٍ! لَمْ يَعْرِفْ حقِيقَةَ بَلْوانا أَحَدٌ مِمَّنْ يُقِيمُونَ حَوْلَنا. حَمِدْنا اللهَ عَلَى أَنَّنا لَمْ نَدْعُ قابِلَةً لِتَتَوَلَّى تَوْلِيدَ زَوْجَتِي. بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ، كما يقُولُ الْمَثَلُ. حَرَصْنَا عَلَى أَنْ نَكْتُمَ الْخَبَرَ عَنِ النَّاسِ جَمِيعًا، حَتَّى الْأَقْرِباءُ. لَوْ ذَاعَ النَّبأُ لَأصْبَحْنا هَدَفًا لِسُخْرِيَةِ السَّاخِرِينَ، وَشَماتَةِ الشَّامِتِينَ. لا تَسَلْ — يا «صامِتُ» — عَنْ دَهْشَتِي وَحَيْرَتِي تُجاهَ الْمُفاجَأَةِ. كادَ يُذْهِلُنِي الْمُصَابُ الْفادِحُ الَّذِي لا أَعْلَمُ لَهُ مَثِيلًا. تَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِي. ضاقَ بِالسِّرِّ الْمُزْعِجِ صَدْرِي. لَمْ أَجِدْ أَحَدًا سِواكَ يُسَرِّي عَنِّي، وَيُفَرِّجُ كُرْبَتِي. أَتُرَانِي أَخْطَأْتُ حِينَ قَرَّرْتُ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِهٰذا السِّرِّ الْخَطِيرِ، لِتُشارِكَنِي فِي حَمْلِهِ وَالاِحْتِفاظِ بِهِ؟»

أَقْبَلَ «الصَّامِتُ» عَلَى «الضَّاحِكِ» يُعَزِّيهِ وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ مُصابَهُ وَيُسَلِّيهِ.

لَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى آنَسَ وَحْشَتَهُ، وَفَرَّجَ كُرْبَتَهُ.

تَظَاهَرَ «الضَّاحِكُ» بِشُكْرِ صاحِبِهِ عَلَى وَفائِهِ وَإِخْلاصِهِ.

عاَدَ «الضَّاحِكُ» إِلَى بَيْتِهِ، يَتَرَقَّبُ فِي صَباحِ لَيْلَتِهِ، نَتِيجَةَ مُحاوَلَتِهِ.

(٤) بَيْنَ «الصَّامِتِ» وَزَوْجَتِهِ

أَتَدْرُونَ ماذا صَنَعَ «الصَّامِتُ» بَعْدَ خُرُوجِ صاحِبِهِ؟

لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى فِرَاشِهِ، لِيَنْعَمَ بِالنَّوْمِ.

جَلَسَ يَسْتَعِيدُ ما قالَهُ «الضَّاحِكُ»، حَرْفًا حَرْفًا.

اِشْتَدَّ بِهِ الْعَجَبُ. ساوَرَهُ الْقَلَقُ مِمَّا سَمِعَ.

ضاقَ صَدْرُهُ أَيَّما ضِيقٍ بِسِرِّ صاحِبِهِ «الضَّاحِكِ».

طارَ النَّوْمُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَطالَ بِهِ الْأَرَقُ وَالْقَلَقُ.

ظَلَّ يَتَقَلَّبُ عَلَى فِراشِهِ، لا يَقَرُّ لَهُ قَرارٌ.

لَمَحَتْ زَوْجَةُ «الصَّامِتِ» دَلائِلَ الْحَيْرَةِ وَالْهَمِّ عَلَى وَجْهِهِ.

دَفَعَها الْفُضُولُ إِلَى تَعَرُّفِ سِرِّهِ الَّذِي أَقْلَقَهُ وَأَرَّقَهُ.

أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ مُتَوَدِّدَةَ، تَسْأَلُهُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَيْها بِما أَهَمَّهُ وَأَضْجَرَهُ، وَشَغَلَ بالَهُ وَأَسْهَرَهُ.

أَبَى «الصَّامِتُ» أَنْ يَنْطِقَ بِحَرْفٍ. لاذَ بِالسُّكاتِ.

زادَ الصَّمْتُ مِنْ فُضُولِ الزَّوْجَةِ الْحَيْرَى.

ضاعَفَ مِنْ شَوْقِها إِلَى تَعَرُّفِ السِّرِّ الْكَمِينِ.

رَجا «الصَّامِتُ» زَوْجَتَهُ أَنْ تَتْرُكَهُ، لا تَسْأَلُهُ فِي أَمْرِهِ.

زادَ رَجاؤُهُ لَها مِنْ فُضُولِها: ضاعَفَتْ مِنْ إِلْحافِها.

ضَيَّقَتْ عَلَيْهِ مَسالِكَ الْهَرَبِ مِنْ سُؤالِها الْمُتَوَاصِلِ.

ضاقَ «الصَّامِتُ» بِإِلْحَاحِها، فَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يَقُولُ: «يا لَهُ مِنْ سِرٍّ خَطِيرٍ، اسْتَوْدَعَنِيهِ صاحِبِي، وَاسْتَأْمَنَنِي عَلَيْهِ! ماذا أَنا صانِعٌ؟! كَيْفَ أَخُونُ وُدَّهُ، وَأَنْقُضُ عَهْدَهُ؟ كَلَّا: لا سَبِيلَ إِلَى إِذاعَةِ سِرِّهِ: هَيْهاتَ ذٰلِك هَيْهاتَ!!»

كانَتْ زَوْجَتُهُ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ، عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُ، لَمْ تَفُتْها كَلِمَةٌ مِمَّا كانَ يُناجِي بِهِ نَفْسَهُ، فاعْتَزَمَتْ أَنْ تُصَارِحَهُ بِما سَمِعَتْ.

أَقْبَلَتْ عَلَى زَوْجِها باسِمَةً. قالَتْ لَهُ مُتَوَدِّدَةً: «مَا أَكْرَمَ نَفْسَكَ، وَأَنْبَلَ خُلُقَكَ، وَأَعْظَمَ وَفاءَكَ! أَنْتَ عَلَى حَقٍّ فِيما تَقُولُ، يا زَوْجِيَ الْعَزِيزَ. ما أَبْعَدَكَ عَنِ الْغَدْرِ! ما أَجْدَرَكَ بِكِتْمانِ السِّرِّ! سَمِعْتُ ما تُناجِي بِهِ نَفْسَكَ فِي خَلْوَتِكَ. إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبُوحَ بِسِرِّكَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ وَاجِبَ الْإِنْسانِ الْعاقِلِ الْحازِمِ أَنْ يَحْتَفِظَ بِسِرِّهِ لِنَفْسِهِ، وَلا يَبُوحَ بِهِ إِلَّا لِمَنْ يَخافُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَخافُ عَلَى نَفْسِهِ.»

قالَ «الصَّامِتُ»: «لَسْتُ أَفْهَمُ ما تَقُولِينَ، فَأَفْصِحِي!»

قالَتِ الزَّوْجَةُ: «إِنَّ شَرِيكَةَ الرَّجُلِ فِي الْحَياةِ، تَرْعَى سِرَّهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْعاهُ. فَإِنَّ كُلَّ مَضَرَّةٍ تُصِيبُهُ تَعُودُ عَلَيْها شَرًّا. لِلزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهِا — كَما تَعْلَمُ — شَأْنٌ مُخْتَلِفٌ عَنْ غَيْرِها. لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْوَفاءِ أَنْ يَحْجُبَ عَنْها زَوْجُها سِرًّا، مَهْما يَكُنْ فِي ذٰلِكَ السِّرِّ مِنْ خَطَرٍ. وَاجِبُ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجَتِهِ عَلَى ثِقَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ.»

تَأَثَّرَ «الصَّامِتُ» بِمَنْطِقِ زَوْجَتِهِ. أَقْبَلَ عَلَيْها قائِلًا: «ما شَكَكْتُ فِي إِخْلاصِكِ — يا عَزِيزَتِي — لَحْظَةً واحِدَةً. أَنْتِ — حَقًّا — مِثالُ الزَّوْجَةِ الْكامِلَةِ، الرَّشِيدَةِ الْعاقِلَةِ. كُلُّ ما أَخْشاهُ: أَنْ تَدْفَعَكِ غَرابَةُ السِّرِّ إِلَى الْإِفْضاءِ بِهِ إِلَى بَعْضِ مَنْ تَثِقِينَ بِعُقُولِهِنَّ، مَنْ صَواحِبِكِ وَجاراتِكِ. إِذَنْ يَذِيعَ فِيمَنْ حَوْلَنا الْأَمْرُ، وَيَفْتَضِحَ السِّرُّ.»

قالَتِ الزَّوْجَةُ: «هٰذا وَهْمٌ باطِلٌ، لا مَجالَ لاِفْتِرَاضِهِ. لَيْسَ لَكَ عُذْرٌ — فِي تَرَدُّدِكَ — بَعْدَ أَنْ خَبَرْتَ ما فِي أَخْلاقِي مُنْذُ عَرَفْتَنِي إِلَى الْيَوْمِ — مِنْ تَمَسُّكٍ بِالْوَعْدِ، وَحِفاظٍ عَلَى الْعَهْدِ. كُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ وَفائِي لَكَ، وَإِخْلاصِي نَحْوَكَ!»

(٥) اِنْتِقالُ السِّرِّ

فَكَّرَ «الصَّامِتُ» فِي الْأَمْرِ، وَقالَ لِنَفْسِهِ: «لَيْسَ مِنْ حَقِّي أَنْ أَرْتابَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَقُولُهُ زَوْجَتِي.»

اِقْتَنَعَ «الصَّامِتُ». لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي الْإِفْضاءِ بِسِرِّهِ إِلَى زَوْجَتِهِ.

أَرَاحَ صَدْرَهُ مِمَّا أَثْقَلَهُ مِنْ سِرٍّ خَطِيرٍ، فَأَشْركَ فِيهِ زَوْجَتَهُ.

زالَتْ أَسْبابُ السَّهَرِ وَالْقَلَقِ، بَعْدَ أَنْ فَرَّجَ هَمَّهُ، وَخَلَّصَ نَفْسَهُ.

اِسْتَسْلَمَ «الصَّامِتُ» لِلْمَنامِ، وَهامَ فِي عَالَمِ الْأَحْلامِ.

(٦) جارَةُ «الصَّامِتِ»

لَمْ تَهْدَأْ زَوْجَةُ «الصَّامِتِ». حالَفَها السَّهَرُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ.

جَثَمَ عَلَى صَدْرِها السِّرُّ. ضاقَ صَدْرُها بِحَمْلِهِ، كَما ضاقَ صَدْرُ «الصَّامِتِ» مِنْ قَبْلُ. عَبَثًا حاوَلتْ أَنْ تَجِدَ إِلَى النَّوْمِ سَبِيلًا.

لَمْ تَرَ بُدًّا مِنْ تَفْرِيجِ كَرْبِها، وَالْإِفْضاءِ لِجارَتِها بِسِرِّها.

لَمْ تُطِقْ أَنْ تَصْبِرَ إِلَى الصَّباحِ. أَسْرَعَتْ إِلَى بَيْتِ جارَتِها.

طَرَقَتْ بابَها. أَيْقَظَتْها مِنْ لَذِيذِ رُقادِها.

صَحَتِ الْجارَةُ مِنْ نَوْمِها مُفَزَّعَةً. سَأَلَتْ زَوْجَةَ «الصَّامِتِ»: «ماذَا أَتَى بِكَ فِي هٰذا الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ مِنَ اللَّيْلِ؟!»

دارَ بَيْنَ الْجارَتَيْنِ حِوارٌ طَوِيلٌ، حَوْلَ السِّرِّ الْخَطِيرِ.

أَقْسَمَتِ الْجارَةُ لَتَكْتُمَنّ سِرَّ جارَتِها، وَلَتَحْتَفِظَنَّ بِحِكايَتِها.

اِطْمَأَنَّتْ زَوْجَةُ «الصَّامِتِ». أَفْضَتْ إِلَى جارَتِها بِما سَمِعَتْهُ، بَعْدَ أَنْ زَادَتْ فِيهِ: أَنَّ الضَّاحِكَ سَمَّى وَلَدَهُ: «غَنْدُورًا».

(٧) جارَةُ الْجارَةِ

رَجَعَتْ زَوْجَةُ «الصَّامِتِ» إِلَى بَيْتِها، ناعِمَةَ الْبالِ.

هَدَأَتْ ثائِرَتُها، بَعْدَ أَنْ أَفْضَتْ بِالسِّرِّ إِلَى جارَتِها.

أَسْرَعَتْ إِلَى فِراشِها، وَاسْتَسْلَمتْ لِلنَّوْمِ عَيْناها …

لَمْ تَنَمْ جارَةُ «الصَّامِتِ». اِشْتَدَّ بِها الْقَلَقُ. أَثْقَلَ صَدْرَها حَمْلُ السِّرِّ. لَمْ تُطِقْ صَبْرًا إِلَى الصَّباحِ. أَسْرَعَتْ إِلَى جارَتِها، تَطْرُقُ بابَها وَتُوقِظُها، وَتُفْضِي إِلَيْها بِما سَمِعَتْ مِنْ زَوْجَةِ «الصَّامِتِ» بَعْدَ أَنِ اسْتَوْثَقَتْ مِنِ احْتِفاظِها بِالسِّرِّ.

لَمْ تَرْوِ الْخَبَرَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي سَمِعَتْهُ مِنْ جارَتِها الْأُولَى. أَضافَتْ جارَةُ «الصَّامِتِ» إِلَى ما سَمِعَتْهُ مِنْها وَتَزَيَّدَتْ. زَعَمَتْ أَنَّ «الضَّاحِكَ» أَلْبَسَ وَلِيدَهُ طُرْطُورًا.

(٨) مِنْ جارَةٍ إِلَى جارَةٍ

ذَهَبَتِ الْجارَةُ الثَّالِثَةُ إِلَى الْجارَةِ الرَّابِعَةِ.

لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُبْقِيَ السِّرَّ فِي صَدْرِها كمِينًا.

لَمْ يَخْتَلِفْ شَأْنُها عَنْ شَأْنِ الْجارَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ.

أَضافَتِ الثَّالِثَةُ إِلَى ما سَمِعَتْ. تَزَيَّدَتْ فِيما رَوَتْ. زَعَمَتْ أَنَّها رَأَتِ «الضَّاحِكَ» يَطُوفُ بِمَوْلُودِهِ وَيَدُورُ.

(٩) ذيُوعُ الْخَبَرِ

اِسْتَيْقَظَ «الضَّاحِكُ» مِنْ نَوْمِهِ، فِي صَباحِ يَوْمِهِ.

خَرَجَ لِبَعْضِ شَأْنِهِ. أَفْزَعَهُ ما سَمِعَ مِنْ أَفْوَاهِ جِيرانِهِ.

السِّرُّ يَتَناقَلُهُ رُوَاتُهُ مُتَنادِرِينَ، وَيَتَقَبَّلُهُ سامِعُوهُ مُصَدِّقِينَ.

يَقُولُ مَنْ عَرَفَ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ: «أَلَمْ تَسْمَعْ نَبَأَ الضَّاحِكِ؟» يَسْأَلُهُ الآخَرُ مُتَلَهِّفَا، تَوَّاقًا إِلَى الْخَبَرِ مُتَشَوِّقًا: «ماذَا حَدَثَ لَهُ؟»

يُجِيبُهُ الْأَوَّلُ: «أَلا تَعْرِفُ أَنَّ زَوْجَةَ «الضَّاحِكِ» وَلَدَتْ عُصْفُورًا، وَسَمَّتْهُ «غَنْدُورًا»؟ أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ أَباهُ أَلْبَسَهُ طُرْطُورًا؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ أَقامَ لَهُ حَفْلًا مَشْهُورًا؟ أَلَمْ تَرَهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِهِ فِي الطُّرُقاتِ مُبْتَهِجًا مَسْرَورًا؟»

(١٠) غابَ عَنِ الرُّوَاةِ

الآنَ عَرَفَ «الضَّاحِكُ» كَيْفَ عَجَزَ «الصَّامِتُ» عَنِ الْوَفاءِ بِوَعْدِهِ، وَالاِحْتِفاظِ بِسِرِّهِ، عَلَى غَيْرِ الْمُنْتَظَرِ مِنْهُ!

كَذٰلِكَ عَرَفَ «الضَّاحِكُ» كَيْفَ انْتَشَرَ الْخَبَرُ، مَعَ اسْتِحالَةِ وُقُوعِهِ؟

كَيْفَ غابَ عَنِ «الصَّامِتِ» — كَما غابَ عَنِ الرُّواةِ — أَنَّ الآدَمِيَّةَ لا تَلِدُ عُصْفُورًا، وَأَنَّ «الضَّاحِكَ» عَزَبٌ، لَمْ يَتَزَوَّجْ بَعْدُ؟

•••

اِنْفَضَّ الْجَمْعُ شاكِرِينَ لِرَبِّ الدَّارِ، ما أَتاحَ لَهُمْ سَماعَهُ مِنْ عَجَائِبِ الطُّرَفِ وَالْأَخْبارِ، وَبَدائِعِ الْمُلَحِ وَالْأَسْمارِ.

يُجاب مِمَّا في هذه الحِكاية عن الأسئلة الآتية

(س١) ما هي الشَّائِعَةُ الَّتِي انْتَشرت في شَأْنِ الرَّجُلِ وزوْجَتِه وموْلُودِه؟
(س٢) ماذا قال «فُلانٌ الأوَّلُ»، حين سُئِل عن هٰذه الشَّائعة؟
(س٣) ماذا قال «فلانٌ الثاني» حين سأله «جُحا» عنْ حقيقةِ الخَبَرِ؟
(س٤) لماذا لم يُصدِّق «جُحا» ما سمِعَه من «فُلانٍ» و«فُلانٍ»؟
(س٥) كَمْ عدَدُ الذين حاول «جُحا» أن يتعرَّفَ الحقيقةَ مِن أقْوالهم؟
(س٦) ما هِيَ الأقْوالُ المُتَضارِبَةُ في شَأْنِ وِلادَةِ الغُراب وحَياتِه؟
(س٧) كَيْفَ توَصَّل «جُحا» إِلَى معْرِفة مصْدرِ الشَّائِعة؟
(س٨) بماذا سَمَّى «أبو الفَضْلِ» ولدَه الجديدَ؟
(س٩) كَيْفَ نشأت إشاعةُ: أنَّ المولودَ غُرابٌ؟
(س١٠) لماذا حارَ «أبو الفضلِ»: أيُّ الفريقَيْن أدْعَى إلى التعجُّب؟
(س١١) ماذا كان يعتقِدُ «الضَّاحِكُ» في صاحِبِه «الصَّامِت»؟
(س١٢) ما السِّرُّ الذي أفْضَى به «الضَّاحِكُ» إلى صاحِبِه «الصَّامِت»؟
(س١٣) ماذا صنع «الصَّامِتُ» بَعْدَ خُروجِ صاحبِه «الضَّاحِك»؟
(س١٤) ماذا كان بيْن «الصَّامِتِ» وزوْجتِه بعد خُروجِ صاحِبِه؟
(س١٥) بماذا نصَحَت الزَّوْجةُ لـ«الصَّامِتِ»؟
(س١٦) ماذا دار بيْنَ زوْجَةِ «الصَّامِتِ» وجارَتِها؟
(س١٧) ما هي الزِّياداتُ التي أضافَتْها الجاراتُ إلى وِلادَةِ العُصْفُورِ؟
(س١٨) كَيْفَ عرف «الضَّاحِكُ» أن السِّرَّ قدْ ذاعَ وشاعَ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤